أحتار كيف أبدأ اليوم، فأنا أشعر بمزيج من الخجل والحيرة.
خجلي وحيرتي لا يعودان فقط إلى شعوري بأنّ الروائي والكاتب الذي تكلّمتم عنه يشبهني، بل لأنّ هذا الكاتب صار ظلاً لشخصيّاتٍ احتلّت الروايات، وامتزجتْ بصورته، إلى درجة أنّه يحار بين الصورة وظلالها، فصارتْ ظلالُ الصورة كأنّها هي الصورة الأصليّة. الكاتب، لا يدري حين يكتب إلى أين ستقوده الكلمات. والأهمّ من ذلك، لا يعلم إلى أين ستمضي الكلمات، وكيف سيعيد الزمن تأليفها.
رواية صارت قرية
والحقّ يقال، إنّ إحدى أصعب لحظات حياتي وأكثرها جمالاً، كانت في كانون الثاني / يناير 2014، حين قامتْ مجموعة من الشابّات والشبّان الفلسطينيّين بالسيطرة على أرض قرب القدس، خصّصها الاحتلال للاستيطان، فأقاموا عليها قريةً مصنوعة من الخيام والإرادة أطلقوا عليها اسم باب الشمس، في إشارةٍ معلنة إلى الرواية التي تحمل العنوان نفسه. طبعاً قام جيش الاحتلال بتدمير هذه القرية بعد ثلاثة أيّام، مُلحقينها بمئات القرى الفلسطينيّة التي جرى تدميرها وجرف بيوتها وأشجارها.
كانت تلك اللحظات بالغة الصعوبة لأنّني، أنا المقيم هنا في بيروت، لم يكن في استطاعتي الالتحاق بالقرية التي طلبت من مؤسّسيها اعتباري مواطناًفيها، وانتابني الخوف على مصير أبناء القرية وهم يواجهون قمع جيش الاحتلال وقراره بهدمها. لكنّ تلك اللحظات كانت في المقابل ساحرةً تتلألأ بجماليّات الحرّية، ولعلّ أجمل ما فيها هو أن مؤسّسي القرية، أسّسوا بعد طردهم منها، قريةً جديدة أطلقوا عليها اسم «أحفاد يونس»، تيمّناً ببطل رواية «باب الشمس» يونس الأسدي.
لقد قام القرّاء بإعادة تأليف الرواية وتسمَّوا باسم أحد أبطالها، ونسوا المؤلف، بل أنسوني إيّاه. فطموح المؤلّف هو أن يمّحي كي يتألّق أبطال الرواية، ويُنسى كي يحيا هؤلاء الأبطال حيواتهم الخاصّة في ذاكرة النّاس.
قلت إنّني أحتار كيف أبدأ، لأنّني أجد أنّ البداية هي اللحظة الأصعب، وربّما الأكثر جمالاً. لذا كان يونس يصرخ «من الأوّل»، حين يواجه منعطفات فلسطين الملأى بالمآسي، ولذا لم يكتب محمود درويش عن الحبّ إلّا ليتغنّى بأوّل الحبّ.
في عملي الروائيّ الذي احتلّ العمر كلّه، كانت مسألة كيف وأين تبدأ الحكاية هي السؤال. ففي مدرسة «ألف ليلة وليلة» لا وجود لنهاية القصّة، أو لنقل إنّ القصّة لا تنتهي، فهي قادرةٌ على التوالد الدائم والاستعادة وإعادة التكوين إلى ما لا نهاية. هذا ما علّمَنا إيّاه بورخيس وهو يقرأ هذا الكتاب بعينيه المغمضتين.
بداية الحكاية هي المسألة، وهذا ما يسمّيه نقّاد «ألف ليلة وليلة» «الحكاية الإطار»، أي الحكاية التي أدّتْ دور نقطة الانطلاق للتوالد العجائبي للحكايات. وعلى الرغم من اقتناع النقّاد بأنّ الحكاية الإطار، أي حكاية الملكَين الشقيقين شهريار وشاه زمان والأختين شهرزاد ودنيا زاد، وُضعتْ من خارج سياق الحكايات وبعد تأليفها، فإنّني أعتقد أنّ هذا الإطار كان ضرورة شكليّة كي يكتمل السرد ويتّخذ شكلَه الأخير محوّلاً الحكايات إلى مرايا.
قلت إنّ الحكايات لا نهاية لها، وهذا يعني أيضاً أنّه لا بداية لها، لذا يصير السؤال عن البداية هو سؤالٌ عن إطارٍ للحكاية يسمح لها بأن تأخذ مساراتها.
السؤال عن البداية لا معنى له إلّا بصفته سؤالاً عن هذا الإطار.
الرواية ابنة الحرب الأهليّة
ماذا يعني إطار الحكاية، وكيف نبحث عنه وأين نجده؟
صحيح أنّ الرواية كفنّ أدبيٍّ جديد، يمكن أن تُقرأ بصفتها قطيعةً مع التراث الحكائيّ، لكنّها كانت في حاجة دائمةٍ إلى إطار. الإطار الروائيّ يختلف عن الحكاية الإطاريّة في الأدب الحكائيّ الشعبيّ، لكنّه يشترك معه في رسم الأسس التي ينبني عليها السرد. هكذا شهدنا تحوّلات شكليّةً جذريّة من الروايتين الطبيعيّة والواقعيّة، إلى الرواية الرمزيّة وبروز تيّار الوعي، وصولاً إلى الواقعيّة السحريّة.
لا أريد الدخول هنا في بحثٍ نظريٍّ عن تطوّر المدارس الروائيّة المتعدّدة، لكنّني أريد أن أشير إلى أنّ هذه التحوّلات ليست نتاج المختبرات الأدبيّة وحدها، بل هي أيضاً استكمال لمبانٍ معرفيّة وأيديولوجيّة وسياسيّة في المجتمع. فالمدارس الأدبيّة التي تعاقبت على البحث عن شكلٍ روائيٍّ ملائم، من سرفانتس إلى بروست، ومن الشدياق والمويلحي إلى نجيب محفوظ، كانت جزءاً من مركّبٍ اجتماعيٍّ ومعرفيّ عرف تحوّلاتٍ شتّى أفضتْ إلى تغيّراتٍ كبرى في البنى السرديّة ومآلاتها.
لكنّ السؤال الذي يواجهنا الآن هو كيف نبدأ حين تتفكّك الأطر الاجتماعيّة والثقافيّة والأيديولوجيّة من حولنا؟ سبق أن قدّمت في محاضرة في الجامعة الأميركيّة في بيروت (أيار / مايو ٢٠٠٤) ونُشرت في العدد ٥٢ - ٥٣ من مجلّة الأبحاث ٢٠٠٤ - ٢٠٠٥، بعنوان «الرواية، الروائي والحرب» افتراضاً نظريّاً عن نشوء الرواية اللبنانيّة كحركة أدبيّة، وربطت بين هذا النشوء وبين انفجار الحرب الأهليّة.
كان افتراضي ينطلق من قراءةٍ لمعنى انهيار المحرّمات اللبنانيّة وطقوس القرية التي جعلتْ من المبنى الثقافي اللبناني أسيراً لشعريّة الحكاية الرومانسيّة كما صاغها الأخوان رحباني في مسرحيّاتهما الفيروزيّة، وهي صيغةٌ قائمة على رؤية افتراضيّة مسكونة بهاجس حجب التناقضات الاجتماعيّة والطائفيّة، أو تحويلها إلى لعبةٍ شكليّة تتمثّل في الكذبة التي تصير حقيقةً على طريقة راجح، أو في الحقيقة التي تصير كذبةً كما في المسرحيّات التاريخيّة.
هذا الحجب المتعمّد هو نتاج تاريخٍ ثقافيٍّ صنعه روّاد النهضة وهم يقومون بشكلٍ واعٍ بمحو الحرب الأهليّة التي نشبت في القرن التاسع عشر من الذاكرة، وهي الحرب التي أسّست للكيانيّة اللبنانيّة في المتصرفيّة التي بُنيت على تجربتها دولة لبنان الكبير الانتدابيّة، ثمّ تطوّرتْ إلى الميثاق الوطنيّ الاستقلاليّ في سنة ١٩٤٣.
هذا هو أحد الأسباب الرئيسيّة التي جعلتْ من الشعر هو النتاج الأدبيّ المهيمن، من الرومانسيّين إلى سعيد عقل وصولاً إلى الحداثيّين الرمزيّين ودعاة الانبعاث.
كان سؤالي الدائم عندما انفجرَت الحرب الأهليّة، هو كيف قرأ أجدادي حربهم السابقة على حربنا، ولماذا كانت حربنا، على ما فيها من تعقيداتٍ مرتبطة بالصراعات الاجتماعيّة والطبقيّة وبالحرب الباردة وبالصراع العربيّ - الإسرائيليّ، تقدّم في بعض أوجهها تكراراً لبعض الملامح التي شهدتْها حرب لبنان في القرن التاسع عشر؟ في ظلّ ضعف الدراسات الاجتماعيّة والتاريخيّة، يقدّم الأدب معرفةً جزئيّة هي شهادته الحيّة على زمنه، وكتابته الحاضرَ في تناقضاته وبلغة الحاضر التي تمزج الواقعيّة بالخرافات الاجتماعيّة السائدة.
اكتشفتُ أنّ أجدادي من روّاد عصر النهضة قرأوا حربهم عبر محوها خجلاً من أنفسهم، ربّما، وأنّ إحدى مهمّات الكتابة، بالنسبة إليهم، كانت الدعوة إلى النسيان، عبر الفكرة القوميّة التي كانت أداة صهر اجتماعيّ يتعالى عن البنى الطائفيّة والعشائريّة.
غير أنّ الحرب الأهليّة المعاصرة التي بدأت في سنة ١٩٧٥، بدتْ في منعطفاتها ومراحلها التي أعقبت حرب السنتين، كأنّها انتقامٌ من النسيان، فسقطت الثقافة اللبنانيّة المسيطِرة تحت أقدام الوقائع الفجّة، وبرزتْ لغة جديدة لا تعير التابوهات اللبنانيّة أيّ أهميّة، وكان هذا إيذاناً بولادة رواية لبنانيّة قادرةٍ على بناء مرايا للتجارب الفرديّة والجماعيّة.
لا أزال أعتقد بصحّة هذا الافتراض النظريّ، فجيل الروائيّات والروائيّين الذين أنتمي إليه، كان واعياً بضرورة أن نكتب الحاضر ونسمّي الأشياء، ونبني أعمالنا الروائيّة من قلب التناقضات الاجتماعيّة والسياسيّة التي عصفتْ بلبنان والمشرق العربيّ. لقد قادنا الحاضر إلى دروبٍ متنوّعة، وخيارات فنّيّة متعدّدة، لكنّه صنع تجربةً روائيّة ساهمتْ في بناء مرايا جديدة لحاضرنا، تستطيع أن تشكّل مرجعاً لمَن يريد أن يقرأ تاريخ الحرب اللبنانيّة وأثرها في تشكيل الوعي، وطبعاً من دون أن نهمل أهمّيّتها الفنّية واللغويّة.
لكنّ ما يجب أن نضيفه إلى هذا الافتراض هو أنّ هذه الولادة كانت ممكنة لأنّها أيضاً وريثة مبنى روائيٍّ عربيّ افتتحه جيل الستينيّات المصريّبتجريبيّته، ووجد روافده في أعمال جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وهاني الراهب وغالب هلسا وصنع الله إبراهيم وإميل حبيبي ويوسف حبشي الأشقر وآخرين.
لقد استطاعت الرواية العربيّة ما بعد المحفوظيّة، بحسب إدوارد سعيد، أن تخرج عن الترسيمة التي كانت سائدة في الفنّ الروائيّ انطلاقاً من رواية «زينب» لهيكل، ونجحت في كسر القالب الرومانسيّ ثمّ الواقعيّ عبر إعادة وصل السرد باحتمالاته المفتوحة التي تأخذه من الشدياق إلى المقامات و«ألف ليلة وليلة»، أو ترمي به في أتون الواقع اليوميّ العاري.
جاء ذلك ضمن وعيٍ نقديٍّ للتجربة الناصريّة وخطابها القومي اليساري، فوُلِد النقد على أطراف هذا الخطاب، كمراجعةٍ جذريّة للواقع العربي المهزوم الذي كشف عن انسداد أفقه في هزيمة الخامس من حزيران / يونيو ١٩٦٥٧.
ولدت الرواية اللبنانيّة الجديدة في رحم هذا النقد، وكانت قادرةً على أخذه إلى مطارح جديدة وأكثر جذريّة في خياراتها الفكريّة والشكليّة، لأنّ الحرب الأهليّة سمحتْ للروائيّات والروائيّين بالغوص في ثنايا الأسئلة الكبرى التي تطيح بالمسلّمات، ولأنّ الغوص في الأبعاد المأسويّة التي صنعتها الحرب، سمحتْ للكتابة بالتحرّر من المسبقات الأيديولوجيّة الجاهزة.
نظام الحرب الأهليّة الدائمة
لكنّنا استفقنا من أهوال الحرب اللبنانيّة لنواجه ثلاث حقائق: الحقيقة الأولى هي أنّ الحرب الأهليّة التي اعتقدنا أنّها انتهت في سنة ١٩٩١ لم تنتهِ، بل استمرّت بأشكالٍ متنوّعة، من تدمير بيروت القديمة وسط حمّى إعمار كان يراد به أن يجعل من لبنان وسيطاً جديداً في مرحلةٍ قيل إنّها مرحلة السلام في المنطقة، إلى تجدّد الانقسامات بعد حدثين تاريخيّين كبيرين: طرد الاحتلال الإسرائيليّ من لبنان في سنة ٢٠٠٠، وإنهاء الوصاية السوريّة في سنة٢٠٠٥. لقد قاد الانقسام المتجدّد إلى استيلاد نظامٍ سياسيٍّ جديد - قديم يمكن أن نطلق عليه اسم نظام الحرب الأهليّة الدائمة، الذي ينعم فيه اللبنانيّون بسلام اللصوص، وسط منطقةٍ عربية تحترق.
الحقيقة الثانية هي أنّ أوهام السلام في فلسطين والمنطقة، والتي تنامت بعد الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى وتوقيع اتّفاق أوسلو، سرعان ما تبدّدت، لتجد فلسطين نفسها في شدق الوحش الإسرائيليّ الذي يؤسّس اليوم لنظام تمييز عنصريّ يفرض علينا أن نعيد تأسيس فكرة فلسطين من جديد.
الحقيقة الثالثة هي اكتشافنا المروّع أنّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعناصرها الإقليميّة والدوليّة، صارت مجرّد تمرين صغيرٍ أمام الأهوال التي يعيشها المشرق العربي، في مسلسل الألم والموت والهجرات في كلٍّ من سورية والعراق واليمن وليبيا.
لقد وصلتْ فضيحة الاستبداد وأنظمة الحكم الوراثيّة إلى نهاياتها الإجراميّة المخيفة، محوّلةً احتمالات النهضة العربيّة الثالثة التي رفعت شعارات الخبز والحرّية والديمقراطيّة في الانتفاضات الشعبيّة العربية، إلى كابوس من الثورة المضادّة التي تحاول إعادة تأسيس الاستبداد والطائفيّة والتمزّق الاجتماعي، وإطفاء الضوء في العيون. وكانت التيّارات الأصوليّة التي عرفت تناميها في المراحل النهائيّة من الحرب الباردة في أفغانستان، قد تحوّلت إلى وحشٍ دمويّ ساهم مع المستبدّين ومع أنظمة الكاز والغاز في وأد حلم التغيير.
الثقافة العربيّة تعيش اليوم في عراء القمع والألم، وفي زمن انهيار القيَم ووسط مدٍّ عالميّ يحصد النتائج الأولى للعولمة الرأسماليّة النيوليبراليّة المتوحّشة على شكل دعواتٍ عنصريّة وتعصّب قوميّ وديني، ونموّ للفاشيّات المتنوّعة التي تحاول وأد الثقافة الإنسانويّة في العالم.
كيف نبدأ بعدما تكسّرت أغلبيّة الأطر التي تصنع المعنى؟ قد يكون الزمن الذي نعيشه هو الزمن المثاليّ للكتابة، أو هكذا يظنّ مَن يقرأ في كتب النكبات التاريخيّة. نقرأ عن الحروب الإفرنجيّة أو الصليبيّة، أو نقرأ عن سقوط بغداد في يد المغول، أو نقرأ عن سقوط الأندلس، فتبدو لنا الحكايات وهي تتوالد من تلقاء نفسها، فخيال المحاربين والمجرمين والقتلة أكثر اتّساعاً من خيال الكتّاب والشعراء، لأنّه خيال متحرّرٌ من أيّ رادع أخلاقيّ أو حساسيّة إنسانيّة.
المعاني مطروحة في الطريق، بحسب افتراض الجاحظ حين حدّد الشعر بأنّه «صناعة وضرْبٌ من الصبْغ وجنس من التصوير»، وهو على حقّ، لأنّعمل الشاعر والكاتب لا يكمن في اختراع المعاني أو الحكايات لأنّها متوافرة «يعرفها العربي والعجميّ»، بل يعمل على صناعتها كي يكتشف فيها معنى المعنى، بحسب الجرجاني، أي تكون الصناعة باباً إلى إعادة تأسيس المعاني، عبر ما أطلقنا عليه هنا اسم بناء الحكاية الإطار.
زمننا المثاليّ المفترض للكتابة يتكشّف عن صعوباته الكبرى، إذ يكتشف الكاتب الذي يريد لكتابته أن تكون شاهداً على زمنه، أنّه عرضة في أيّ لحظة للتحوّل إلى شهيد. إنّه زمن للرعب العبثيّ، لكنّ عبثيّة الصراعات الطائفيّة والإثنيّة ولا معنى القمع المتوحّش ليست علاجاً ضدّ الرعب، بل قد تكون سبباً إضافيّاً لفرض الصمت بصفته اللغة الأخيرة التي لا تزال قادرة على التقاط المعاني.
اللحظة الهاملتيّة: الصمت
ما نشهده اليوم هو انهيار مثلّث الأضلاع: انهيار خطاب السلطة الاستبداديّة الذي فقَدَ كلّ مسوّغاته، فتحوّل إلى خطاب قمعيٍّ مطلَق، وهو ما أشار إليه انهيار الأنظمة التي بُنيت على الفكر القوميّ من مصر الناصريّة إلى دولتَي البعث في سورية والعراق. هذا الانهيار يمتلك طاقاتٍ لا حدود لها على تدمير المجتمع. وانهيار خطاب المعارضة اليساريّة الذي تشظّى بين مَن لاذ بسلطة الاستبداد باسم الخوف من الإسلاميّين، أو باسم الممانعة في ظلّ ولاية الفقيه، ومَن تبنّى خطاباً ليبراليّاً ما لبث أن تحوّل إلى فجيعة بمَن يدعو إلى احترام حقوق الإنسان على الطريقة الأميركيّة. وتراجع الخطاب الإسلامويّ الذي أثبت أنّه ليس أداةً لتوحيد المجتمع، وإنّما هو أداة لتقسيمه وإشعال الحروب الأهليّة.
حين ينهار خطابا السلطة والمعارضة، وحين يتفكّك النصّ الذي يوحّد المجتمع، تصير الحكايات بلا أطر، ويتحوّل حلم الكاتب بأن يعيش زمن التحوّلات التاريخيّة العاصفة إلى كابوس، وندخل فيما يشبه الرطانة البلاغيّة التي تشلّ الإبداع.
نحن أيّتها الصديقات والأصدقاء نعيش اليوم في زمن هذا الكابوس.
عندما نتذكّر هاملت تأتي عبارتاه الشهيرتان: «أن نكون أو لا نكون»، و«كلمات كلمات كلمات». العبارة الأولى جعل منها محمود درويش متّكأًلقصيدته «مديح الظلّ العالي»، بينما استعار أنسي الحاج العبارة الثانية عنواناً لسلسلة مقالاته الاحتجاجيّة التي نُشرتْ في «ملحق النهار»، في ستينيّات القرن الماضي وأوائل سبعينيّاته. نتذكّر هاتين العبارتين الشائعتين وننسى كلمة هاملت الأخيرة وهو يُحتضَر: «ما تبقّى صمت، The rest is silence». هل وصلنا إلى هذه اللحظة الهاملتيّة؟
في سنة ١٩٦٦ كتب غسان كنفاني رواية بعنوان «ما تبقّى لكم»، مستكملاً بنبرةٍ فوكنرية روايته «رجال في الشمس» (١٩٦٣)، وفي الروايتين كان كنفاني يستشرف الكلام الذي يخبّئه الضحايا في صمتهم المدوّي.
هل هذه اللحظة التي نعيش هي صمت ما قبل الكلام، أم صمت نهاية الكلام؟ أعتقد أنّ التوازي بين ما قبل الكلام وما بعده ليس دقيقاً، حتى هاملت ترك المسألة ملتبسة، ففي ترجمة جبرا إبراهيم جبرا للمسرحيّة نقرأ المقطع على الشكل التالي:
إّنني أموت يا هوراشيو
والسمّ يعلو على النفس فيّ بصياحه
فلن أعيش لأسمع الأنباء من إنكلترا
غير أّنني أتنبّأ أنّ خلافة العرش ستستقرّ
على فورتينبراس، وأنا أهبه صوتي المحتضَر
فارْوِ له عن الكبيرة والصغيرة
ليعرف دوافعي... والبقيّة صمت وسكون
ترجم أستاذنا جبرا عبارة The rest is silence بـ «البقيّة صمت وسكون»، وهي ترجمة تأويليّة للصمت، إذ تفسّر الصمت بالسكون الذي يحيل إلى الموت. أمّا أنا فأقترح ترجمتها بعبارة «ما تبقّى صمت»، لأنّ «ما تبقّى» تحافظ على الصفة الاسميّة للعبارة، وتحيلنا في الوقت نفسه إلى عنوان كنفاني، كما أنّ كلمة صمت تبقى عارية لأنّها تختزن في داخلها أصداءها الاحتماليّة كافّة.
المسألة هي أنّ صمت هاملت هو في الوقت نفسه دعوة إلى الكلام. إنّه صمتٌ يختزن احتمالات رواية الحكاية من جديد. فعلى هوراشيو كي يروي، كما طلب منه هاملت، أن يقوم بإعادة تأليف الحكاية من ثنايا صمت الأمير المقتول.
تأويل صمت الضحايا
هذه العلاقة بين الصمت والكلام قادني إليها آدم دنون عندما جعل صمت ضحايا غيتو اللد يتشقّق في النصّ الذي كتبه في رواية «أولاد الغيتو - اسمي آدم». لقد قادني صمت وضّاح اليمن وهمسات منال في هذه الرواية إلى صمت هاملت وليس العكس، وعندما استعدْت هذا النّص الشكسبيريّ في سياق إعداد هذه المداخلة أُصبت بالذهول، لا لأّن الكتابة هي شكل من أشكال إعادة الكتابة فقط، بل لأنّ صمت الضحايا يقاوم ضجيج المنتصرين بحقيقته الإنسانيّة أيضاً.
وفي السياق نفسه أعدْت قراءة المتوالية الحكائيّة والكلاميّة في مونولوغ خليل أيّوب في «باب الشمس»، وهو النصّ الذي تتوالد في داخله حكايات الجليل في النكبة، بصفته استنطاقاً لصمت يونس، الميت - الحيّ الذي أسكته النزيف الدماغي ورماه في الغيبوبة. خليل يُنطق الصمت حكايات، وينسج من عتمته صورة للكارثة فتصير حكايةً قادرة على مواجهة كلام المنتصرين الذين صادروا كتابة التاريخ.
الأدب كما علّمنا أبو نواس هو أوّلاً وأساساً رحلة بحث عن المعنى في المعنى:
غيرَ أنّي قائلٌ ما أتاني
من ظنوني مكذِّبٌ للعيانِ
آخذٌ نفسي بتأليف شيءٍ
واحدٍ في اللفظ شتى المعاني
قائمٌ في الوهم حتى إذا ما
رُمْتُه رُمْتُ معميّ المكان
فكأني تابعٌ حُسْنَ شــيءٍ
من أمامي ليس بالمستبان
شتى المعاني، أي المعاني المتعدّدة التي يحملها النصّ الشعريّ، هي جوهر المعادلة الأدبيّة، أي جوهر التعدّد الذي يجعل من الأدب نافذةً على أفقٍ بلا حدود.
هذا الأفق يرتسم أمامنا من جديد، مثلما ارتسم أمام الشاعر العباسيّ الذي كان يتلاعب بالكلام الغزليّ، ليكتشف أنّ المعاني أفلتت منه، لأنّ الأدب ليس سوى تأويل للتجربة الإنسانيّة، وهو بدوره عرضة للتأويل الدائم.
نحن اليوم أمام تحدّي تأويل صمت الضحايا، وهو إطار مفتوحٌ يسمح بكسر كلّ الأطر التي حاولت الثقافة أن تصنعها في آفاقها التجريبيّة المتنوّعة.
أعود إلى سؤالي الأساسي: هل نستطيع أن نصنع إطاراً حكائيّاً لواقع اجتماعيّ تداعتْ جميع أطره تحت ضربات القمع والحروب؟
كيف نجد بداية للحكايات وسط بحار الدم والألم والهجرات؟ في العلاقة بين الصمت والكلام، نكتشف أنّنا نواجه احتمالات أن نكتب بلا إطار يلمّ أطراف النص ويأخذه إلى المعنى. هل هذا ممكن؟
بعيداً عن الإجابة عن هذا السؤال، أريد للتأمّل في واقعنا أن يأخذني إلى وصف حالتنا بكلماتٍ غير مألوفة، فأنا أشعر بأنّ آلام الناس هي الموضوع، لكنّها صارت اليوم خارج الموضوع.
يبدو كلامي غرائبيّاً، لكنّه ليس أكثر غرابة من الحاضر الذي نعيشه. نعم فالموضوع صار خارج الموضوع. ففي أتون الثورة المضادّة التي تفترس بلادنا بالديكتاتوريّات العسكريّة، وفي ظل أجهزة الدول التي تتصرّف كالمافيات والمليشيات، صرنا خارج الموضوع، واحتلّت فضاءاتنا تحليلات عن الصراع الدولي والإقليمي، كأن بلاد العرب ليست طرفاً في الصراع، وإنّما مجرّد ملاعب له.
وبمقدار ما يتمّ تهميش الألم، والاعتياد عليه، بمقدار ما يصير الموضوع خارج الموضوع.
هل يستطيع الألم أن يشكّل إطار حكاياتنا؟
في ماضٍ قريب، لكنّه يبدو اليوم بعيداً، كتب سعد الله ونّوس عبارته: «نحن محكومون بالأمل»، وخبّأ إميل حبيبي تفاؤله التاريخي عبر نحته كلمة «المتشائل»، ولم نتوقّف عن استعادة المقولة الغرامشيّة عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.
لكنّني أشعر اليوم بأنّ واقعنا تجاوز الأمل ومعادلة التفاؤل والتشاؤم، لأنّنا نعيش فيما بعد اليأس.
نحن الجيل الأوّل لمرحلة ما بعد اليأس، وهي مرحلة تحرّرنا من الانتظارات، وتسمح لنا بأن نغوص في قعر الألم. للألم لغته التي لا يستطيع الوصول إليها إلّا مَن يفكّ رموز صمت الضحايا، وهنا يكمن تحدّي الحياة وتحدّي الكتابة.
قلت إنّنا في زمن ما بعد اليأس، وهذا يعيدنا إلى الأسئلة الأولى التي بقيتْ معلّقة منذ بداية عصر النهضة.
هل ما زلت قادراً على أن أصرخ مع يونس: «من الأوّل»، أم إن صرختي ليست سوى دعوةٍ إلى القرّاء، بصفتهم كتّاب الأدب الحقيقيّين، كي يبحثوا معي عن أوّل يبدأ بكلمات جديدة؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.