«وصْلنا الآن الى نقطة، يا رفاق،
حيث أصبحنا قادرين على قَول إنّنا تلاقَينا مع ماركس،
وأنّنا نتقدّم مجددّاً تحت رايته (...) على الجماهير أن تعلم كيف تستخدم القوةّ.
العمّال اليوم سيتعلّمون في مدرسة الفعل... في البدء كان الفعل».
روزا لوكسمبورغ - خطاب تأسيس الحزب الشيوعيّ الألمانيّ
كانون الأوّل / ديسمبر ١٩١٨
كانت رايا دونايفسكايا (1910 - 1981) أوّل من نشر «المخطوطات الفلسفيّة والاقتصاديّة لعام 1844» لكارل ماركس بالإنكليزيّة (ضمن كتابها «الماركسيّة والحريّة» 1958). تميّزت هذه المفكّرة والمناضلة الأميركيّة المولودة في أوكرانيا بسعيها وراء إظهار تجذّر الأنسنة في فلسفة ماركس، وتزعّمت تيّاراً دُعي بـ«الماركسيّة الإنسانيّة». عندها أنّ «الإنسانيّة» لم تكن مجرّد مرحلةٍ عابرة افترق عنها ماركس لاحقاً حين تجاوز مرحلة شبابه. من هنا كان رفْضها لمقولة «القطيعة» بين ماركس الشاب «الإنسانويّ»، الدائر في فلك الفلسفة المثاليّة الألمانيّة، وبين ماركس الناضج «الماركسيّ»، وهو ما رسّخه تحديداً الفيلسوفُ الفرنسيّ لوي إلتوسير في مرحلته البنيويّة، مع نظريّة «القطيعة المعرفيّة» التي تفصل ما بين ماركس الإنسانويّ، غير الماركسيّ بعد، وبين ماركس المادّيّ التاريخيّ، الذي لم يعد ينطلق من موقفٍ حول ماهيّة الإنسان وإنّما من البُنى التي تحكم التشكيلات الاقتصاديّة الاجتماعيّة. وقد حدّد إلتوسير زمن القطيعة في لحظة «الأيديولوجيا الألمانيّة» (1846) والردّ على برودون «بؤس الفلسفة» (1847)، وزمن التمركس الناجز لماركس مرحلة كتابة «رأس المال».
أرجعتْ دونايفسكايا هذا الفصل بين ماركس إنسانيّ وبين ماركس «ماركسيّ» إلى جملة أسباب، منها تأخّر نشر أعمال ماركس الشابّ، ناهيك عن رواج التفسيرات الاختزاليّة والميكانيكيّة في «الماركسيّة الممأسسة»، وشدّدت على أنّ «مخطوطات 1844» هي لحظة القطيعة الأساسيّة عند ماركس، إنّما القطيعة مع المجتمع البرجوازيّ والتأسيس لفكرٍ إنسانيّ قدْر ما هو ثوريّ. وعلى عكس مساعي الفصل بين الفلسفة والثورة، ركّزت على وحدتهما من خلال ما سمّتْه «ديالكتيك التحرّر». من هذا المنطلق أولتْ دونايفسكايا اهتماماً لافتاً بمن اعتبرتْها «الوريثة» الحقيقيّة لهذه الفلسفة» أي روزا لوكسمبورغ. يندرج كتابها «روزا لوكسمبورغ، تحرّر المرأة وفلسفة الثورة لدى ماركس» (1982)، ضمن ما يُعرف بـ«ثلاثيّة الثورة»، إلى جانب «الماركسيّة والحرّيّة: من 1776 إلى اليوم» (1958) و«الفلسفة والثورة: من هيغل إلى سارتر ومن ماركس إلى ماو» (1973). اتّفقت المناضلتان اللتين تفصل بينهما أربعة عقود من الزمن تقريباً، على أنّ «الحركة من الممارسة نفسها هي بحدّ ذاتها شكْلٌ من أشكال النظريّة». وهو ما توصّلتْ إليه دونايفسكايا بسبب احتكاكها بالديالكتيك الهيغليّ، ولا سيّما مفهوم «الوجود المطلق» لديه الذي فسّرتْه بكونه يُرسي حركةً ثنائيّة من الممارسة إلى النظريّة، ومن النظريّة إلى الممارسة.1
البراكسيس
«الفعل له الأولويّة على أيّة مقولة أخرى في الماركسيّة». على هذا الأساس ارتسمتْ، بالنسبة إلى دونايفسكايا، قطيعة ماركس مع الهيغليّين اليساريّين بعدما كان في عدادهم. تحدّد ذلك في «مقدّمة نقْد فلسفة الحقّ عند هيغل» ثمّ في «المسألة اليهوديّة» حين وجد ماركس «الذاتيّة» في قوّة العمل، الأمر الذي أصبح نقطة التحوّل لبقيّة حياته، وتعزّز ذلك مع مفهوم الاستلاب (alienation) في «مخطوطات 1844»، الذي ترى دونايفسكايا أنّه يسبر «ليس فقط العلاقات الطبقيّة، بل العلاقات الحقيقيّة بين الناس»2. تعطي دونايفسكايا للنزعة الإنسانيّة الثوريّة عند ماركس طابعاً تراكميّاً. ففي1844، ركّز على «لا إنسانيّة» العامل المستلَب من رأس المال. مع «أطروحاتٍ حول فويرباخ» سينتقل من موضوعيّة الواقع إلى إدراك الواقع كممارسة، ويبيّن في الأطروحة العاشرة أنّ «نقطة ارتكاز المادّيّة القديمة هي المجتمع المدنيّ، في حين أنّ نقطة ارتكاز المادّيّة الجديدة هي المجتمع الإنسانيّ، أو الإنسانيّة الاشتراكيّة3. وفي 1857 - 1858، وسّع ماركس مفهوم اللا إنسانيّة ليشمل دخول الرأسماليّة الغربيّة إلى آسيا.
ترى دونايفسكايا أنّ «رأس المال» كان انفصالاً عظيماً عن هيغل، ليس فقط لأنّ موضوعه كان اقتصاداً عوضاً عن الفلسفة، بل لأنّ الموضوع قبل أن يكون في الاقتصاد والفلسفة كان حول الإنسان / الجماهير4. بدلاً من الديالكتيك الهيغليّ الذي أزال إنسانيّة التطوّر الذاتيّ للإنسانيّة في ديالكتيك الوعي - الوعي الذاتي - العقل جاءتْ طريق الحرّيّة لتحوّل الثورة الهيغيليّة في الفلسفة إلى فلسفةٍ للثورة مع الديالكتيك الماركسيّ5. بالرّغم من ذلك، أعلن ماركس مرّة أخرى في المجلّد الثاني من «رأس المال» أنّه مدين إلى الديالكتيك الهيغليّ: «علاقتي بهيغل يمكن وصفها بمنتهى البساطة أنا تلميذ لهيغل، وأزدري بصراحةٍ هراءَ الذين يزعمون دفن هذا المفكّر العظيم. غير أنّي في المقابل، أخذْت حرّيّتي في انتهاج مسلكٍ نقديٍّ تجاه معلّمي، وتخليص ديالكتيكه من التصوّف وإحداث تغيير عميقٍ فيه». تجلّى ذلك من خلال «الكلّيّة الموحّدة» لنظرة ماركس إلى العالم التي شكّلتْها جدليّة «الذات - البروليتاريا»، وتلفت دونايفسكايا في هذا الإطار إلى أنّ ماركس الذي ربط بين نهاية التبعيّة المستعبِدة للفرد كفردٍ وبين الوصول إلى مرحلة الشيوعيّة كان ماركس في مرحلة «رأس المال»، بخلاف التقسيم التعسّفيّ لماركس بين شابّ «إنسانويّ» وكهل مادّويّ».
الديالكتيك: فلسفة ثوريّة
شكّل «النقص في فهم فلسفة ماركس» أحدَ أسباب الخلاف بين روزا لوكسمبورغ وقيادة الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ البولنديّ الذي كان يعمل ضمن الإمبراطوريّة الروسيّة6. مثّل الديالكتيك بالنسبة إليها فلسفةً ثوريّةً: إطاراً مفاهيميّاً لا يفصل الاقتصادَ والسياسة عن الفاعل، ولا يفصل الجماهير عن الحركة. معنى الديالكتيك أنّ كلّ إنسان حيِّ، يشعر ويفكّر ويفعل. رأتْ في ثورة 1905 الروسيّة أفضل مثالٍ على أنّه - في العالم الفكريّ الجديد الذي أوجده كارل ماركس - «التاريخ ليس مجرّد حقَبٍ اقتصاديّة إنّما جماهير تصنع التاريخ».
وفي ألمانيا، دافعتْ لوكسمبورغ عن المادّيّة الجدليّة في وجه برنشتاين المطالِب «بتخليص الماركسيّة من الديالكتيك»، وكاوتسكي الذي كان يركّز على مادّيّةٍ تاريخيّة مفصولة عن كلّ همّ فلسفيّ. مع هذا، كان خطأ لوكسمبورغ أنّها نظرتْ إلى الديالكتيك كـ«أداة» قبل أن تكون «منهج تحرّر»7.
ترى دونايفسكايا هنا أنّ رؤية لوكسمبورغ في البداية «كانتْ تقريباً الخطأ المميت الذي وقع فيه كلّ الماركسيّين بعد موت ماركس»، أي اعتبار العالم الفكريّ الجديد لديه في الديالكتيك مجرّدَ سلاحٍ في الصراع الطبقيّ، مجرّد أداةٍ فكريّة، وكأنّ كلَّ ما نريده بعدها هو الممارسة التطبيقيّة8. في المقابل، كان لينين الماركسيّ الثوريّ الوحيد الذي عاد إلى دراسة هيغل عام 1914، معتبراً أنّ «من المستحيل فهم «رأس المال» ما لم يفهم المنطق لدى هيغل. لذلك لا أحد من الماركسيّين في النصف الماضي من هذا القرن قد فهم ماركس» (مقال «عن الديالكتيك»، 1915). تحديداً، الشرخُ الكبير الذي شهدتْه الاشتراكيّة - الديمقراطيّة مع اندلاع الحرب العالميّّة الأولى، دفع لينين إلى العودة لـ«جذور» تشكّل جذور ماركس وإنغلز.
كلّ الماركسيّين الذين تحدّث عنهم لينين قبل 1914، اعتبروا الديالكتيك تجريداً فقط. وبالنسبة إلى لينين، لم يفهم بليخانوف، الأبُ المؤسّس للماركسيّة في روسيا، فلسفة الثورة عند ماركس، كما لم يفهم ديالكتيك هيغل: «بليخانوف ينتقد الكانطية من وجهة نظرٍ مادّيّة مبتذلة، أكثر منها وجهة نظر الديالكتيك المادّيّ». بالنسبة إلى لينين، كان يجب أن تتمّ دراسة الديالكتيك لدى هيغل «بذاته ولذاته»، وذلك على الرّغم من محافظته على المواجَهة المباشرة مع الديالكتيك الهيغليّ. مع العلم أنّه في ذلك الوقت، لم تكن «مخطوطات 1844» قد أبصرت النور بعد (نُشرت للمرّة الأولى عام 1932)، وتضمّنت نقد ماركس للديالكتيكيّة الهيغليّة».
العفويّة والتنظيم
إحدى النقاط المحوريّة في فكر لوكسمبورغ والتي أيدتها دونايفسكايا كان موقفها من مسألة التنظيم وعفويّة الجماهير التي اعتبرتْها «أرضاً من الإمكانات اللامتناهية». عارضتْ لوكسمبورغ مفهوم لينين عن التنظيم الذي اعتبرتْه «مركزيّاً على نحوٍ مطلق»، مؤكّدةً أنّه «لا يمكننا أن نكون بلانكيّين9 في نشاطنا اليوميّ، حيث نحتاج إلى الوعي الطبقيّ». لم تُنكر لوكسمبورغ الحاجة إلى المركزيّة والعمل، لكنّ ما عارضتْه هو تحويل الضرورة إلى مبدأ منفصل ومعيار قيمة للعمل النضاليّ. الفكر الماركسيّ برأيها، لا يمكن أن يصلح لمعادلات «جامدة»، بما فيها التنظيم10: «لا المثقّفون ولا البروليتاريا كانوا بحاجة إلى ما أشاد به لينين من (انضباط المصنع)».
هذه الرؤية تبنّتْها دونايفسكايا كلّيّاً فيما بعد، إذ رأت بدورها أنّ الجماهير تجسّد العفويّة والحركة الذاتيّة، وأنّ ما من أحدٍ، لا سيّما الإنتلجنسيا، يجب أن يفكّر أو يخطط بالنيابة عنهم11. شدّدت دونايفسكايا مع لوكسمبورغ على أنّ الجماهير هي «الذات» (subject) الثوريّة، وأنّ نضالات الجماهير، مثل حركات التحرّر، سواء عنَتْ حقوقَ العمّال، أو النساء، أو السود، هي تجسيد لهذه الحركة الذاتيّة (دونايفسكايا، «الفلسفة والثورة»،1973). تجسّدتْ رؤية لوكسمبورغ بأفضل أشكالها، برأي دونايفسكايا، في الثورة الروسيّة عام 1905، «حيث بلغتْ العفويّة أرقى درجاتها على الإطلاق لكنّها فشلتْ في تحقيق أهدافها»12.
شدّدتْ روزا على حرّيّة الطبقة العاملة في ارتكاب الأخطاء لتتعلّم من ثَمّ الجدليّة التاريخيّة بنفسها: «في النهاية، علينا أن نعترف بجدّيّةٍ لأنفسنا بأنّالأخطاء التي ارتكبتْها الحركة العمّاليّة، العمّاليّة الحقيقيّة، هي تاريخيّاً أكثر جدوى وأعلى قيمة من عدم فشل أفضل اللجان المركزيّة»13. بعكس النظرة الميكانيكيّة - البيرقراطيّة الجامدة، شدّدت على أنّ الإضراب العامّ الجماهيريّ في روسيا حقّق للبروليتاريا الروسيّة، أكثر ما حقّقتْه الخطط المنظّمة للحزب الاشتراكي - الديمقراطيّ الألمانيّ14. على المنوال ذاته، انتقدتْ دونايفسكايا في «الفلسفة والثورة»، المثقّفين الراديكاليّين الذين لا يرَون الطاقات الخلّاقة للجماهير: «في معارضتهم (المثقّفين) وإيلاء عنايته بنشاط الجماهير، كان ماركس قادراً على تكريس أنشطتهم الخلاقة في نظريّة من أجل التحرّر»15.
ترى دونايفسكايا أنّ الحاجة إلى بناء تنظيم شغلتْ كثيراً كلّ الماركسيّين باستثناء ماركس، إلى درجة أنّ «فيتيشية» (صنميّة)، أُقيمت من هذا الأمر. في الوقت نفسه، كان ماركس واعياً لأهمّيّة التنظيم بعكس ما زعمَه عدداً كبيراً من المقالات عن كونه لم يكن لديه نظريّة في هذا المجال. بالنسبة إلى ماركس، كان الشكل المؤتمريّ للأمميّة الأولى شكل تنظيم مناسبٍ للمرحلة، ويتكفل النضال الخلاق للجماهير باجتراح أشكالٍ تنظيميّة أخرى (ص155). تشير دونايفسكايا إلى أنّه لم يكن لدى ماركس في أيّ وقتٍ صنميّةٌ حول التنظيم، إذ إنّ «كلّ خطوة من الحركة الواقعيّة هي أكثر أهمّيّة من عشرات البرامج».
نسويّة مستترة
سلّطت دونايفسكايا الضوء على البُعد النسويّ، المجهول إلى حدّ كبير، في نشاط لوكسمبورغ، انطلاقاً من مفهوم البراكسيس، وخلصتْ إلى أنّها أدّت دوراً نسوياً في تاريخها وفي تاريخ الحركة الشيوعيّة في العالم «أكثر ممّا كانت تعيه»16. قدّمتْها بوصفها «شخصيّة مميّزة، سواء كمنظّرة ثوريّة، أو كنسويّة، ومع أنّها قد تبدو أحياناً نسويّة متردّدة، فهي دائماً ثوريّة»17. ما أقلق روزا كان أنْ تقع أسيرةً لـ«شوفينيّة ذكوريّة» عند قادة «الاشتراكيّة - الديمقراطيّة»، بحيث يقتصر عملُها على ما كان يسمّى آنذاك «قضيّة المرأة». لم يتردّد الماركسيّ النمساويّ فيكتور أدلر في وصفها بـ«العاهرة السامّة» التي تحرّكها «رغبةٌ منحرفة لإثبات الّذات» (في رسالة إلى أوغست بيبيل، أغسطس / آب 1915). بالتوازي، كان على روزا أن تتعايش مع نزعة «معادية للساميّة» موجودة حتى ضمن الماركسيّين.
ربطتْ روزا لوكسمبورغ تحرّر المرأة من الهيمنة الذكوريّة بالتحرّر الشامل من الرأسماليّة، وعلى هذا الأساس جمعتْها صداقة متينة مع كلارا تستكين، المناضلة الماركسيّة من أجل تحرّر نساء الطبقة العاملة ومطْلقة يوم المرأة العالميّ. وكما جمعها النضال ضدّ «التحريفيّة» داخل الحزب مع تستكين، عاونتْها أيضاً في نشاطها النسويّ، وساهمتْ في صحيفتها «غليشهايت» (مساواة).
وسبق لروزا، في مقال نشرتْه سنة 1902 في «Leipziger Volkszeitung» أنْ شدّدت على أنّه، «مع التحرير السياسيّ للمرأة، هناك نسمةٌ منعشة يجب أن تهبّ في الحياة السياسيّة والروحيّة للديمقراطيّة الاشتراكيّة، مبدّدةً المناخَ الخانق للعائلة التافهة الحاليّة التي انتقلتْ بلا خطأ إلى أعضاء حزبنا أيضاً، العمّال كما القادة». وشاركتْ عام 1911 في مؤتمرٍ دوليٍّ لمنح النساء حقّ الاقتراع، وبعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب العالميّة الأولى، ركّزت أكثر على أهمّيّة النساء في البروليتاريا: «بالنسبة إلى نساء الطبقة البرجوازيّة المملوكات، المنزل هو العالَم. أمّا بالنسبة إلى نساء البروليتاريا فالعالَم هو منزلهنّ»18.
مع اندلاع الحرب العالميّة الأولى، تابعتْ «غليشهايت» دعايتها ضدّ الحرب. وأدركت «القيادة الشوفينيّة» للحزب الاشتراكيّ - الديمقراطيّ، الموافقة على منح الحكومة الألمانيّة الاعتمادات الحربيّة، أنّ عليها أن تأخذ بعين الحسبان هذا العمق النسائيّ للمعارضة ضدّ الحرب. هزيمة الثورة الألمانيّة1919 ستكون بشكل أساسيِّ هزيمةً للنساء الثوريّات، مثلما أنّ إلغاء القطاع النسائيّ «جانوتل» في الحزب البلشفيّ سيكون أوّل مظاهر تمكّن النزعة البيرقراطيّة - الستالينيّة.
ما أرادتْ دونايفسكايا التركيز عليه في هذا السياق يتلخّص في جملتها هذه: «المشكلة هي خطأ النسويّات الاشتراكيّات أنّهنّ قلّلن من شأن روزا كثوريّة وكنسويّة وساعدن هؤلاء الرجال الذين حاولوا أن يختزلوا ماركس في مجالٍ واحد، في حين أنّه في جميع مراحله كان ثوريّاً في النظريّة كما في الممارسة»19. ترى دونايفسكايا أنّ «الفخّ» يكمن في اعتبار أنّ ماركس لم يكن مهتمّاً بتحرير المرأة، منبّهةً إلى رؤية معالجة ماركس «علاقة الرجل بالمرأة» في «مخطوطات 1844»، وأنّه ما كان ليوافق على ما ذهب إليه إنغلز في «أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة» من ربْط «الهزيمة التاريخيّة العالميّة للجنس النسائيّ» (الانتقال من النظام الأموميّ إلى النظام البطريركيّ) بمحدّداتٍ بيولوجيّة متأثرة بمورغان وداروين. بالنسبة إلى ماركس، عناصر القمع في العموم، وقمع المرأة بشكل خاصّ، برزتْ من داخل الشيوعيّة البدائيّة، والتقسيم الأوّل للعمل كان على أساسٍجنسيّ. مع هذا، لا تخرج المرأة من التاريخ في المقابل بعد استتباب التقسيمات الاجتماعيّة للعمل. بالعكس، في رسالته إلى لودفيغ كوغلمان عام 1868 يوضح «كلّ مَن يعرف شيئاً من التاريخ يدرك أنّ التغييرات الاجتماعيّة العظمى مستحيلة من دون خميرةٍ نسائيّة»20.
درستْ دونايفسكايا حركات التحرّر من القرن السابع عشر إلى الستينيّات من القرن الماضي واعتبرتْ أنّه مع تحوّلها إلى حركاتٍ جماهيريّاً «باتت النسويّة بمثابة قوّةِ خلّاقةٍ»، وتوقفتْ مليّاً عند ظهور النساء كقوّةٍ ثوريّة جديدة في كومونة باريس 1871. نقلتْ دونايفسكايا عن دوريس راي، عضو المنظمة الوطنيّة للنساء، قولَها إنّ حركة تحرّر المرأة التي عادت إلى الظهور في منتصف الستينيّات، تعود بالفضل إلى كلارا تستكين خصوصاً، مع أنّ تستكين كما لوكسمبورغ، آثرتا عدم التطرّق إلى موضوع الذكوريّة داخل الحزب، على أساس أنّ «الثورة الاشتراكيّة تأتي أوّلاً».
الثورة الدائمة
ترى دونايفسكايا أنّ هناك عناصر لمفهوم الثورة الدائمة لدى لوكسمبورغ من اللحظة التي اعتبرتْ فيها أنّ ثورة 1905 الروسيّة ليستْ امتداداً لثورة1848، بل مفتتحٌ لثورات القرن العشرين الأوروبيّة. لكنّ لوكمسبورغ لم تجعل من هذه النزعة عندها نظريّةً قائمة بذاتها، على غرار ليون تروتسكي الذي تنطلق نظريّته من أنّ الثورة البروليتاريّة نفسَها هي التي عليها أن تحقّق مهامّ الثورة الديمقراطيّة وتشرع في الوقت نفسه لتعبيد الطريق نحو الاشتراكيّة. ما قامتْ به من مراجعةٍ لأعمال ماركس المبكّرة، جعلها تستبعد الفصل بين «مرحلتين» برجوازيّة ثمّ بروليتاريّة. بالتوازي، اهتمّت بتجربة الإضراب العامّ في ثورة 1905، كونه مزَجَ السياسيّ بالاقتصاديّ، وبسلطة المجالس (السوفييتات) كاتّحاد للعفويّ بالتنظيميّ، واستمرّتْ نزعة «الثورة الدائمة»، غير المكرّسة في نظريّة، عند روزا لوكسمبورغ حتى ثورة 1919، عندما رفضت «النداء الرجعيّ» لقيام «جمعيّةٍ تأسيسيّة» وشدّدت على وجوب قيام سلطة مجالس الشغّيلة.
ودونايفسكايا التي عملتْ في الثلاثينيّات إلى جانب تروتسكي قبل افتراقها عنه، تقارن بين عناية لوكسمبورغ بالأشكال الحيويّة للتنظيم المتفاعل مع حركة الجماهير وانتفاضاتها، وبين الشكل «الجهازيّ» له عند لينين وتروتسكي، وهي إذ تخصّص الفصلَ الأخير من كتابها عن تروتسكي، تعيب عليه أنّه عوضاً عن أهمّيّة تقوية الأساس النظريّ للحزب الثوريّ انشغل بإعادة تنظيم جهاز الحزب. بدلاً من تعميق هذا الأساس النظريّ، غلبتْ عند تروتسكي «النزعةُ السيكولوجيّة - الأخلاقويّة» لتفسير الظواهر والتحوّلات، فتقّلصتْ فلسفة الثورة الدائمة عندها إلى صراع على كيفيّة التأثير على البروليتاريا غير الناضجة سياسيّاً، مع نزعةٍ فوقيّةٍ سلبيّةٍ تجاه الكادحين غير البروليتاريّين، وتحديداً الفلّاحين، وهيمنة التقاليد العصبويّة في العمل السياسيّ.
الخلاف الحزبيّ
تتبّعت لوكسمورغ منذ الحرب الصينيّة - اليابانيّة في العام 1895 المسار المؤدّي إلى اشتعال الحريق الإمبرياليّ العالميّ عام 1914، ورصدتْ تزايد النزعة العسكريّة للإمبرياليّة الألمانيّة، وبخاصّة في أعقاب أزمة المغرب الثانية، إذ جاءتْ أزمة أغادير 1911، الناتجة من المطالبة الألمانيّة باستعمار المغرب واصطدامها بسبب ذلك بفرنسا، لتغذّي نزعةَ معاداة الإمبرياليّة عند لوكسمبورغ، ودراستها للإمبرياليّة كحقبة جديدة في التطوّر الرأسماليّ، وأسّس ذلك للقطيعة أكثر فأكثر مع الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة.
بخصوص أزمة أغادير، قالت لوكسمبورغ إنّ قادة الحزب «عوضاً عن القيام بتحليلٍ ماركسيّ جدّيّ لقضيّة ساخنة، كانوا يمارسون الهراء السياسيّالاشتراكيّ الديمقراطيّ». مثلما اعتبرتْ بعد اندلاع الحرب العالميّة الأولى أنّ الحزب «تولّى وظيفةً تاريخيّة مهمّة جدّاً: «حامل درع الإمبرياليّة في الحرب الحاليّة». في المنشور الذي كتبتْه خلال سجنها ووقّعته باسم يونيوس، ندّدت كيف «يقف المجتمع الرأسماليّ في العار والخزْي، ويخوض في الدم وتسيل القذارة منه، وفي وسط هذه العربدة، تحدث تراجيديا عالميّة: قطْع رأس الديمقراطيّة الاشتراكيّة»21. تشرح دونايفسكايا بأنّ هذه العزلة المتنامية لروزا في الاشتراكيّة الألمانيّة، أتاحتْ لها تأليف أعظم أعمالها النظريّة: «تراكم رأس المال» (مساهمة في تفسير الإمبرياليّة). في هذا العمل سعتْ لوكسمبورغ إلى اكتشاف الجذور الاقتصاديّة للإمبرياليّة، وهو العمل الاقتصاديّ الوحيد المنشور خلال حياتها. عالجتْ فيه حاجة الرأسماليّة على الدوام إلى التوسّع إلى المناطق غير الرأسماليّة، وخلصتْ إلى أنّ النظام الرأسماليّ وحاجته إلى التوسّع تقوده دائماً إلى الإمبرياليّة والحرب. بالتوازي، عُرفتْ لوكسمبورغ بمعارضتها تكريس حقّ تقرير الأمم مصيرها، وكان خلافها حادّاً حول المسألة الوطنيّة مع لينين. رأتْ في تقرير المصير يوتوبيا خاصّة بالوطنيّة البرجوازيّة، يستحيل تحقيقها في ظلّ الرأسماليّة، ولا حاجةَ لها من الأصل في ظلّ الاشتراكيّة. ورغم اختلاف الرأسماليّة وقت ماركس والرأسماليّة في مرحلتها الإمبرياليّة، ظلّت لوكسمورغ تسوّغ موقفها حيال المسألة القوميّة وتقرير المصير للأمم بالرجوع إلى ماركس الذي حلّل المسألة الوطنيّة بكونها «تحويلَ الواقع إلى تجريد».
أهمّيّة كتاب دونايفسكايا في الجمع بين روزا لوكسمبورغ وكارل ماركس في كلٍّ واحد، قوامُه جدليّة «الفعل والحرّيّة». فماركس الذي قطع مع الهيغليّين الشباب لأنّهم رفضوا الاستدارة إلى عالم الممارسة، كان يبحث عن بداية جديدة، و«الذات» / الفعل والحرّيّة كانت الأرضيّة لذلك: «الحرّيّة كانت العظام والعصَب، القلب والروح، وجهة للبدايات الجديدة»22. أمّا لوكسمورغ في خطابها التاريخيّ المؤسِّس للحزب الشيوعيّ الألمانيّفي كانون الأوّل / ديسمبر 1918، قبل أسابيع من اغتيالها، فذهبتْ إلى أنّنا «وصلنا الآن إلى نقطة، يا رفاق، حيث أصبحنا قادرين على القول إنّنا تلاقينا مع ماركس، وأنّنا نتقدّم مجدّداً تحت رايته (...) على الجماهير أن تعلم كيف تستخدم القوّة. العمّال اليوم سيتعلّمون في مدرسة الفعل... في البدء كان الفعل».
- 1. Raya Dunayevskaya, Rosa Luxemburg, Women's Liberation, and Marx's Philosophy of Revolution. (Atlantic Highlands, N.J.: Humanities Press, 1982), p. 191
- 2. المرجع السابق، ص 126
- 3. المرجع السابق، ص 128
- 4. المرجع السابق، ص 143
- 5. المرجع السابق، ص 145
- 6. المرجع السابق، ص 119
- 7. المرجع السابق، ص 118
- 8. في كتابها «إصلاح وثورة»، كتبت لوكسمبورغ أنّ الديالكتيك هو الذراع الفكريّة التي بمساعدتها ستتمكّن البروليتاريا تحت نير البورجوازيّة من الانتصار عليها، لذلك «إنّ نظامنا الجدليّ، هو بالفعل يحقّق ثورة في مجال الفكر».
- 9. نسبةً إلى الاشتراكي الفرنسي لويس أوغست بلانكي الذي نظّر إلى أن الثورة الاشتراكية تقوم بها مجموعة صغيرة من الثوار المتسمين بالتنظيم والسرية
- 10. Dunayevskaya, Rosa Luxemburg, Women's Liberation, and Marx's Philosophy of Revolution, p. 60
- 11. «Returning to Rosa Luxemburg: A Comment on Raya Dunayevskaya’s Concept of the Masses as Revolutionary Subjet», The international marxist-humanist journal, 28 January 2010
- 12. Dunayevskaya, Rosa Luxemburg, Women's Liberation, and Marx's Philosophy of Revolution, p. 60
- 13. المرجع السابق، ص 60
- 14. المرجع السابق، ص 23
- 15. المرجع السابق، ص 23
- 16. المرجع السابق، ص 135
- 17. المرجع السابق، ص 185
- 18. المرجع السابق، ص 85
- 19. المرجع السابق، ص 94
- 20. المرجع السابق، ص 106
- 21. المرجع السابق، ص 68
- 22. المرجع السابق، ص 126
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.