«كنتُ مشبوحًا وسلك الكهرباء على يدي، وكان برقٌ من وحوش الطير ينهش ظاهر الكفين، تنبش ثم تلقى. لا دمي يكفي ولا يكفي طحين العظم، فانظر هل ترى!! لا شيء يبقى من بلادك غير جِير العظم، هل وطنٌ سوى هذي المسافة بين لحمك في الجحيم وسلك الكهرباء! ناديتُ- بين تخلّع الرسغين والجمر المؤرِث في الأصابع- أيها الموتى، بحقّ قرابة الأشباح ودرويشٍ من الأموات يركض في سهوب الموت فانتظروا».
منذ عقدين تقريبًا، كنتُ هناك، في مقهى «زهرة البستان»، يجلس جواري شخص يواظب على الحضور إلى المكان يوميًّا، يلعب النرد، ويشتبك مع الحضور من الكتّاب والمثقفين في حوارات ساخنة وقضايا شائكة. في هذا التوقيت، كانت المعلومات الحقيقية وراء كلّ خبر تجدها هنا، ما يدور في كواليس السياسة والصحافة وأروقة المؤسسات الكبرى، الأصداء تتناثر من دون تعثّر. كانت عناوين الصحف الحكومية المصرية لا تعكس الحقيقة دائمًا، فهي تخاطب قارئنا وحيدًا، الرئيس فقط، ويهمّها إرضاؤه. أمّا صحف المعارضة فتجنح إلى التهويل أحيانًا، لتلفت الأنظار إلى كارثة كبرى أو قضية فسادٍ لا تُغتفر. لم يكن هذا الشخص كاتبًا، لكنه كان مثقفًا، واسع المعرفة، لديه هوسٌ بالسياسة بشكل مفرط، يتجاذب أطراف الحديث بحماسة واضحة، متحاملاً على النظام بشكلٍ راديكالي يثير القلق عليه.
غضَب «العمّ»
في هذا اليوم تحديدًا، لمحتُ الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر قادمًا، ثم وجدته يجلس إلى طاولة على الرصيف المقابل على غير عادته، وينظر إليّ بوجهٍ متكدّر، وجهامةٍ تخالف طبيعته. ثم وجدته يناديني، فنهضت من مكاني واتجهت إليه.
اجلس هنا جواري!
قالها محتدًّا، وأضاف:
ما الذي يجعلك تجلس إلى جوار هذا الرجل؟
لم أفهم شيئًا. قلتُ متحيرًا:
ما الأمر؟ هل أساء إليك؟
قال محتدًّا، محتفظًا بنبرة الغضب السابقة: هذا مُخبر، كاتب تقارير. هو من أبلغ عنّي وتسبب باعتقالي.
لم أرَ «عمّ عفيفي» على هذه الصورة من قبل، فهو صاحب صوت خفيض، وأداء هادئ، غير منفعل، في معظم أحاديثه وحواراته. ربما كانت التجربة الأليمة والدامية، وحجم الإهانة والتعذيب اللذين تعرّض لهما أثناء اعتقاله، قد جعلاه أقلّ تسامحًا، أو ميلاً إلى النسيان مع الأشياء التي تخصّه. صار أكثر ارتيابًا من ذي قبل، صَموتًا، لا يميل إلى الاستفاضة في موضوعات معيّنة. لقد أشار إلى أكثر من شخص، ووضعهم في دائرة الخصوم، متهمًا إياهم بالوشاية به، حتى وصل به الأمر إلى اتهام أحدهم بأنه كان يشرف على تعذيبه في مقرّ أمن الدولة بـ«لاظوغلي»، وأنه استمع إلى صوته وهو معصوب العينين، أثناء استجوابه من قبل المحققين.
لقد كان اعتقال مطر حدثًا شهيرًا، جاء بعد إعلان غضبه على صمت النظام عن التدمير الأميركي المروّع لـ«ملجأ العامرية» في بغداد، أثناء حرب الخليج الثانية، والذي راح ضحيته أكثر من أربعمئة من أطفال ونساء العراق، وتحوّل المكان إلى مقبرة جماعية، إثر قصفه بوحشية مفرطة، بعدما ظنّوا أنهم في مأمن من الغارات المخيفة. على أيّ حال، لم يترك المثقفون المصريون والعرب، حينها، الشاعرَ وحده، تم الضغط بالبيانات والمقالات وأشكال التضامن القوية، حتى تمّ الإفراج عنه.
على الجانب الآخر، هناك مخبرون بالفعل، يندسّون وسط تجمّعات المثقفين، يكتبون التقارير ويقومون بالوشاية، ويبالغون كثيرًا في تقاريرهم لاستثارة السلطة. هؤلاء يخرّبون تمامًا العلاقة بين الكاتب الضحية والنظام، فتُغلَقُ دونه الأبواب وهو لا يدري، لا قرارَ مكتوبًا، فقط، توجيهات شفوية: لا جوائز، لا مِنح، لا مناصب ثقافية، لا سفريات، لا شيء، مهما كان حجم موهبته. أحيانًا، نتيجةً لهذا الضغط اللامرئي، يقع البعض بين أنياب الاكتئاب والإحباط والاختفاء التدريجي، مفضّلين اللجوء إلى الصمت. وهناك من يفقد عقله، ولا يلجأ إلى التفكير النقدي، تاركًا الاستعارةَ والرمز، ميّالاً إلى التعبير الصريح المباشر، مستغرقًا في مغامرة جنونية، يغذّيها حسّ عدمي، انتقامي، غير مكترث بالعواقب، في صراع مرير مشحون بالتناقضات، قائمٍ على التعبير عن الأنا المتمرّدة، بأيّ وسيلة، بصرف النظر عن خطورة هذه الأفعال.
محمد عفيفي مطر، الذي حاول الابتعاد بقصيدته عن السياسة، وجد نفسه غارقًا فيها حتى أذنيه، مكرهًا، وعلى غير إرادته. دخل في تجربة أليمة، سطَرَها في واحدٍ من أكثر أعماله شهرة «احتفاليات المومياء المتوحشة»، راصدًا دقائقَ محنة اعتقاله، ناظمًا باللغة الفيّاضة الدينامية آلامه وانهياره، من دون أن يخرج عن فنّ الشعر. أنشأ دفتر يومياتٍ للتعذيب والقهر. كان يثأر بالكلمات حتى تحتفظ بها سجلات الذاكرة العربية، على نحوٍ يجعل القارئ شاهدًا معه، ومعذّبًا بالفعل، لا يستطيع إنهاء الديوان من دون أن يشعر بالتحطم.
«كان جلّادٌ بكعب حذائه يهوي عليّ فطقطقت ضلعٌ ولعلعت الرصاصةُ فارتمى وارتميت أنا وليس لي من وطن سوى هذا الرماد» (لاظوغلي، ثالث أذان الفجر، الموافق ١٩٩١/٣/٤)
على هذا النحو، كان يؤرّخ لضربات الجلّادين، فاضحًا الجانب المظلم للديكتاتورية، ومعبّرًا عن اللحظات القاتمة قبل هذه المحنة بفترة زمنية.
كنت أشاكسه:
-لا توجد هناك قضايا كبرى في أشعارك.
يصمت قليلاً. ليردّ بعدها بإيجاز، حاسمًا موقفه:
قضيتي هي كتابة الشعر الجيد، ألا يكفي؟
كنت أتصور وأنا أجادله أنه سيلقّنني درسًا في الالتزام السارتريّ والتلميحات الثورية، المبثوثة داخل بنية نصوصه، متهمًا إياي بأني لم أستطِع التقاط هذه الإشارات الخفيّة. كان يحتمل مشاغباتي، المفعمة بالتقدير والمحبة. كنت أقول له:
قصيدتك «معقربة» ولكنها تستهويني.
وكان يردّ بابتسامة صامتة، فهو في الواقع يتعمّد أحيانًا الغموض الاستاطيقي، واستخدام شحنات فلسفية خالصة، وإنْ حاول أن يجعلها تتوارى خلف نقطة بعيدة، حتى لا تطفو على سطح القصيدة، فهو لا يعتمد على الإلهام كثيرًا في عمله، إنه صنيعة ذاته، مطيعًا لأفكاره التي تدفعه إلى الكتابة، وفق أسلوب كاتدرائي، بالغ الفخامة والتعقيد، يحتاج إلى صبر ودقة وقدرة على الإحساس بالجمال الكوني في اللغة والوجود. ما جعل محاولات تقليده بالغة الصعوبة، أنّه يعتمد تكتيكات فنّية لا يستطيعها غيرُه، مهما بلغ حدّ الهوس به. لذلك باءت بالفشل كلُّ محاولات استنساخه أو تقليده.
إنه يحدّد مطلبه مبكرًا:
«عشقتُ الشعر من أيامي الأولى/ وغاية مقصدي: لو صرتُ بين السادة الشعراء...»
إنه يتطلع إلى هذا العالم الساحر، مفعمًا بالفخر، وبنبرة انبهارٍ بفرسانه، يريد أن يحرسهم، يذود عنهم ما يعيق تقدّمهم، حتى يتفرّغوا إلى قصائدهم، إلى كؤوسهم، خمرهم العتيقة التي تلهم قرائحهم بهذا الجمال.
على الرغم من المكانة الرفيعة التي حازها عفيفي مطر، وموهبتِه القائمة على عالم ثريّ من الثقافات المختلفة، إلا أنه كان إنسانًا متواضعًا، خلوقًا، لا يمارس نرجسيةً مقيتة، أو تطاوسًا فجًّا، مثل البعض ممّن هم أقلّ منه تأثيرًا. كان يحتفظ بروح فلّاح مصري، يعشق الأرض ويحمل الفأس طوال الوقت. في جلساتنا، كان لا يتناول غير الشاي الأسود الثقيل، والسجائر المحلية الرخيصة. في سنواته الأخيرة، كان يتحدث مَمرورًا وحزينًا عن عدم حصوله على جائزة الدولة التقديرية، في الوقت الذي حصل عليها كثيرون أقلّ منه، بل هناك من لا يستحقونها على الإطلاق، ولتكريمهم أسبابٌ لا تنتمي بكلّ تأكيد إلى الجدارة الثقافية. كان يشعر بغصّةٍ في القلب ووجعٍ حقيقي، شاعرًا بأن الرحلة قاربت على النهاية، ومرعوبًا من أن يُكتب في نعيه أنّ المرحوم حصل على «جائزة الدولة التشجيعية» فقط، لأنّ هذا شبيه بالإهانة لا التقدير، خاصةً بعد هذا الإنجاز الشعري الكبير.
لكنّ هذه المرارة تلاشت بعدما حصل على الجائزة تحت ضغط الحَرَج وعدم المعقولية، من أن تمر الأعوام ولا يظهر اسمه بين الفائزين، فهو الوحيد من جيله الذي دفع ثمن كراهية نظام مبارك، متحدثًا في جلساته عن فساده وديكتاتوريته، دافعًا ثمن عدم انتظامه في سلك مدّاحيه.
الأمر الثاني بدا كطعنة مسمومة في الظهر، مسرحية تراجيدية، أبطالها مجموعة من قطّاع طرق، وكان هو الضحية؛ اختطاف جائزة مؤتمر الشعر منه في واحد من أسوأ مشاهد الثقافة العربية، وأكثرها غرابةً ومدعاةً إلى الاستياء، فعلها شاعرٌ متقاعدٌ نسيَ الشعر وتجاهلته القصيدةُ منذ عقود، واحدٌ من هؤلاء الذين أخذوا كل شيء، مقابل عطاء ضئيل وموهبة نضبت بعد وقت قصير من بدايات كانت مبشرة. يقول مطر بعد هذه الفضيحة المدوّية «من يضمن لي العيش أربع سنوات أخرى حتى أحصل على هذه الجائزة التبادلية؟ عامٌ للشعر وعامٌ للرواية. فائزٌ مصري وفائزٌ عربي. بالتبادل أيضًا في كل فرع». لا أعتقد أن الرجل برأ من هذه الطعنة الغادرة حتى وفاتــــــــــــــــــــــــه.
عفيفي مطر، دارسُ الفلسفة، وصاحبُ أنضج التجارب في الحداثة الشعرية، كان لا يدّعي بطولات مطلقة، أو يحاول الإيهام بنبوغ مبكر، لا يزيّف الوقائع من أجل إضفاء إحساسٍ بالثراء والدّعة. من يقرأ سيرته الذاتية الرائعة «أوائل زيارات الدهشة» سيلحظ بسهولة بساطته الآسرة وهو يتحدث عن المحطات الصغيرة الفاصلة، التي كان لها الأثر البالغ في تكوينه، الذكريات العصية على النسيان، ملخّصًا مشوار حياته في عددٍ من المراحل المفصلية، حتى لو كانت هناك نقاط قاتمة مثيرة للألم.
إنه ابن الإرادة الإنسانية، التي ترادف الحرية في اكتمالها، وتنفي الجبر المطلق، فهو قد عرف كيف يغالب نفسه لا الحظ، منشغلاً بتغيير نفسه لا تغيير العالم، يفعل ما يقدر عليه، بما يتّفق مع طبيعته وثقافته العميقة. كان يؤمن- مع كثيرين- بأنّ ذهاب الاستعمار لم تخلفه أنوارُ الحرية، وأنّ الوطن العربي قد وقع في قبضة مجموعة من الحكام الطغاة المستبدين الذين جلبوا الدمار لشعوبهم. باختصار، هو واحد من الذين أعادوا إلى لغة الشعر فصاحتها، أمام تيّار ينحو بها إلى الركاكة والتهافت، بما هو شاعر حذر ومحصّن ضد الثقافة السطحية. يقول محمد عفيفي مطر في جملة ختامية:
«حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي، وكريم استحقاقي، لم أغلق بابًا في وجه أحد، ولم أختطف شيئًا من يد أحد، ولم أكن عونًا على كذب أو ظلم أو فساد. اللهم فاشهد».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.