العدد ٢٢ - ٢٠١٩

كيف انتهى حلم مسيرات العودة في غزة؟

النسخة الورقية

لم يبقَ من ألَق مسيرات العودة سوى هؤلاء الأبرياء غير المتحزّبين من عامّة الشعب الذين يذهبون كلّ يوم جمعة إلى الحدود دون أيّة دوافع سوى المشاركة في الحلم، حلم العودة إلى الأرض التي احتلّتها إسرائيل عام ١٩٤٨. وقد كانت الدعوات إلى المشاركة في مسيرات العودة قبل عام من الآن، تبدو طوباويّة وصعبة التصديق، ففعْل التظاهر ضدّ الاحتلال أصبح مكروراً ويبدو صغيراً أمام خراب ثلاث حروب لا تزال تحيط بمليونَي فلسطينيّ يعيشون في قطاع غزّة.

إلّا أنّ غزّة كانت على الدوام مدينة المفاجآت السياسيّة. فاز فيها الإسلاميّون في انتخاباتٍ برلمانيّة نظيفة في عام ٢٠٠٦، وسرعان ما انقلبتْ على نفسها ذات الحكومة الإسلاميّة التي فازت في هذه الانتخابات وحسمَت الحكم لها أمام منافسة قوّتين عائدتين لمحمّد دحلان ومحمود عباس في الشارع عام ٢٠٠٧. وبدأ قطاع غزّة يعاني الويلات طوال ١٢ عاماً من حصارٍ دوليٍّ وصل الآن لدرجة أنّ مشهد طَرد العائلات من الشقق المستأجَرة لتعيش في الشارع داخل خيمٍ قماشيّةٍ يصبح اعتياديّاً.

وهكذا كان. أرسلت غزّة إلى العالم مفاجأة جديدة، ما يجعل هذه المدينة تصنع الأخبار على الدوام دون أن تكون فيها حرب بالضرورة لتفعل ذلك. خرج عشرات الآلاف للمشاركة في مسيرات العودة الكبرى في يوم الأرض الموافق في الثلاثين من آذار / مارس من العام الماضي، واستمرّت لشهور في فعل عفويٍّ تماماً، يحرّكهم كثيرٌ من أمل ومكبوتات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة يشهدها واقع القطاع. تحوّلت ساحات الحدود المفتوحة مع الأراضي المحتلّة، على امتداد محافظات قطاع غزّة، إلى مهرجانٍ وثورةٍ كحلم ميدان التحرير في مصر الذي استمرّ ثمانية عشر يوماً. عائلاتٌ جلبتْ طعامها معها، واحد يغنّي، واحدة تنْصب سَندة اللوحة لتبدأ بالرسم، وشباب اخترعوا أدواتٍ جديدة تحميهم من غازِ مسيّلِ الدموع، أو عمّروا رقصة الدبكة وسْط الدخان.

لكلّ جمعةٍ اسمٌ في تقليدٍ لمسارات الثورة السوريّة. هو ربيعٌ جديدٌ ينهي خريف النضال الفلسطينيّ الذي لا يزال مشدوداً لاسترجاع فلسطين في سلْمه وحربه. منحتْ هذه المسيرات للمؤيّدين في أميركا والغرب وفي الأروقة السياسيّة صوتاً قويّاً بعدما كانوا مجبَرين على السكوت أمام صواريخ غزّة، والنار مقابل النار، فبات بإمكانهم أن يصرخوا عالياً «إنّهم عزّل».

كان كلّ شيءٍ يبدو جيّداً، عادت القضيّة إلى الصفحات الأولى في مقالاتٍ وقصصٍ مؤيّدة بوضوح دون خوفٍ من أيّ «لوبي» إسرائيليٍّ في هذا البلد أو ذاك. فالصورة واضحةٌ ولا تحتاج إلى تفسير خصوصاً بعدما تسرّبت فيديوهاتٌ لجنود الاحتلال وهم يقنصون الشباب السلميّين كما لو أنّهم يصطادون بطّاً أو يلعبون «PUBG» (لعبة إلكترونية اشتهرت أخيراً)، الأمر الذي زاد من إحراج رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو وحكومته.

خصّصت جريدة «نيويورك تايمز» لأوّل مرّةٍ زاويةً ومحرّراً خاصّاً لاستقطاب مجموعةٍ من الكُتّاب، من المحترفين أو الهواة داخل قطاع غزّة، ليكتبوا عن هذه المسيرات أو يرووا قصصاً عنها، ولعب الإعلام العالميّ دوراً كبيراً في إرجاع القضيّة إلى مربّعها الأوّل: التجمّعات السلميّة في مواجهة رصاص الاحتلال. كان هذا على عكس الصحف والإذاعات داخل غزّة والتي لم تستوعب هذه الحالةَ الجماهيريّة السلميّة، لأنّها اعتادت التعبئة والطوارئ في حالات حرب، كانتْ مسيرات العودة يلزمها كثير من الترويج المحلّيّ لاستقلاليّتها وسلميّتها، ومن التغطية الإبداعيّة، وأن يلعب الإعلام المحلّيّ دوراً في حمايتها من أيّة أيدٍ حزبيّة.

بين «سلميّة» حماس وسخرية السلطة

إلّا أنّ هذا لم يحدث، ولم يدرك أحدٌ أهمّيّة بقاء هذه المسيرات مستقلّةً سوى تلك القلّة من الشباب الأوائل الذين دعوا إليها، وكانت حركة حماس قد شُدهتْ بالصدى العالميّ الكبير الذي تُحدثه هذه المسيرات، ولحقتْ بالركْب، ولو متأخّرةً عن الأسابيع المبكّرة. ومن أولى محاولات اللحاق بالرّكْب، خطاب إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسيّ لحركة حماس، في التاسع من نيسان / أبريل ٢٠١٨، عن أهمّيّة الجنوح إلى السلم، وهو واقفٌ على منصّةٍ أمام الجماهير في أرض المسيرات، تعلوها صوَر ضخمة لغاندي ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كِنغ. ولم يكن يخطب من منبر مسجدٍ كما اعتاد أن يفعل باعتباره قائداً ثيوقراطيّاً. بعدها صرّح يحيى السنوار في الخامس من أيار / مايو من العام ذاته، وخلال اجتماع مع الصحافيّين، بـ«أنّنا نرغب في حلّ مشاكل غزّة والفلسطينيّين بالطرق السلميّة».

وعلى الرّغم من أنّ القناعة بالنّضال السلميّ تحتاج إلى عمق وإلى سَيرٍ جادٍّ وإيمانٍ جذريّ، لا إلى فاصلٍ إعلانيٍّ أو تجربة تهجينٍ للنّضال، إلّا أنّ حركة حماس حاولتْ أن تمضي في الأمر بجدّيّة على الأرض. حافظ رجال الأمن في وزارة داخليّة غزّة التي تقودها الحركة، يرتدون زيّاً مدنيّاً وستراتٍ واقية، على سلميّة خطوط التماس، ومنعوا أيّ استخدام لسلاح أو قنابل، بل اعتبروا استخدامها وسط المسيرات السلميّة أمراً مشبوهاً ويخدم الاحتلال.

تضمنتْ خطابات إسماعيل هنية ويحيى السنوار (الرئيس الحالي لحركة حماس منذ ٢٠١٧) الموازية لمسيرات العودة تلميحاً إلى أنّهم يتأهّلون، خلال هذه المرحلة الجديدة من النضال، ليكونوا الورَثة الشرعيّين للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ. ولعلّ هذا ما كان يخشاه محمود عباس وجماعته: سحْب البساط من تحت أقدامهم، لذلك لم يتبنَّوا هذه المسيرات ولم يعلنوا دعمها، بل سخروا من توجّهات حماس الجديدة، واستعارتها لأدَوات النضال الشعبيّ العلمانيّ والثوريّ واليساريّ. ردّ صائب عريقات، أمين سرّ اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، على خطاب هنيّة السلميّ قائلاً «لو أنّ مانديلّا وكينغ وغاندي بُعثوا إلى الحياة من جديد ليستمعوا إلى ما اُقتبس عنهم على لسان هنيّة، لتعجّبوا»، ولم تتأخّر سخرية محمود عبّاس الرئيس الفلسطينيّ حين قال، في كلمته خلال اجتماع المجلس الوطنيّ برام الله في الثلاثين من نيسان / أبريل العام الماضي، «أبعِدوا الأولادَ عن الرصاص، لا نريد أن نصبح شعباً مصاباً بعاهات».

مع كلّ اقتراب ليوم الجمعة، تعمّد المسؤولون في سلطة رام الله نشرَ وعودٍ بنزول راتب شهر كامل، أو أن يعلنوا فجأةً عن فتح معبر رفح البرّيّ مع مصر في فتراتٍ متقاربة، وهذا ما لم يكن يحدث وقتها منذ سنوات. وجميعها محاولاتٌ من معسكرَي أوسلو وكامب ديفيد لكسر إيقاع المسيرات، وخفْض الأعداد المشاركة فيها. نجحتْ هذه الوسيلة خلال جمعة أو جُمعتين فقط، فمن الصعب خداع أهالي القطاع الذين أصبحوا خبراء بالوعود الفارغة والألعاب السياسيّة بعد ١٢ عاماً من الحرب والانقسام وفشل المصالحة.

لكنّ إرهاصات التحوّل هذه لدى حركة حماس بدتْ متردّدةً بين الدفع نحو التغيير والخشية من النقد. والتحوّل في كلّ الأحوال تحوّلٌ معقّد. فإمّا أن يكون مدوّياً بتمثّله للواقعيّة السياسيّة أو تراجعاً عنها وانكفاءٌ مرحليّ. فحركة «راديكاليّة» كحماس تحتاج إلى «مهرجانٍ» لتحقيق مثل هذا الانتقال. ومن الممكن تسمية ذاك الانتقال «دائرة حياة الكائن الوطنيّ الفلسطينيّ» التي مرّتْ بها حركة فتح من قبل فأصبح عندنا النهج الفتحاويّ في العمل إلى توليد نموذج مقبولٍ عالميّاً على غرار نموذج ياسر عرفات، وهذا ما يتطلع إليه إسماعيل هنيّة ليختم به حياتَه السياسيّة ولكنْ هذه المرّة بنسخةٍ إسلاميّةٍ لا القوميّة أو العلمانيّة.

لم يحدث أيٌّ من هذا، لم تصبح حركة حماس حركة فتح جديدة، كما أنّها لم تعدْ حماسَ الزمن الماضي، فقد ارتفع صوت التردّد، وبقي هذا التهجين النضاليّ دخيلاً لا أصليّاً، وأصبح التدخّل في مسيرات العودة ورموزها فاضحاً، بل تغيّر اسمها إلى «مسيرات العودة وكسر الحصار»، وتمّ تخصيص تمويل للحافلات التي تنقل جزءاً من المتظاهرين، والخيم ووجبات الطعام، وتعيين لجنة من مختلف الفصائل الفلسطينيّة، وفي فلسطين إذا أردتَ أن تقتل فعلاً إبداعيّاً فاجعل له لجنةً أو هيئةً فصائليّة، وهذا ما كان.

تراجُع الوجه السلميّ للمسيرة

وما كان انتصاراً إعلاميّاً عالميّاً انقلب ضدّنا حين بدأ مزيدٌ من القادة الذين لا يسمعون سوى صوت السلاح بإطلاق تصريحات تسيءُ لعفوية هذه التظاهرات، وكأنّهم لا يأبون أن يخرجَ من القطاع ما لا يحمل بصْمتهم عليه. وقال القياديّ في حركة حماس صلاح البردويل، في السادس عشر من مايو / أيار ٢٠١٨ على قناة «بلدنا»: «نحو ٦٢ شخصاً استشهدوا في التظاهرات، ٥٠ منهم ينتمون لحماس»، في إشارةٍ إلى مسيرات يوم الرابع عشر من مايو خلال العام ذاته. هذا النّوع من التصريحات هو الصَّيد الذي تنتظره إسرائيل، ليصبح رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو ناشطاً على مواقع التواصل الاجتماعيّ مهمّتُه إثبات أنّ مسيرات العودة ليست بريئةً، ويصوّر فيديوهاتٍ شخصيّة شوهدتْ ملايين المرّات. لاح تراجُع الاهتمام في التغطية العالميّة لمسيرات العودة، إذ إنّ هذا النوع من التصريحات الحزبيّة الضيّقة، يجعل كثيرين يشعرون بالخداع على الرّغم من أنّ هذا لم يكن حقيقيّاً إذ بقي الناسُ على الحدود يدافعون عن سلميّتها، لايأبهون لخطابات حركة حماس ما دام عناصر أمنها لا يمنعونهم من المشاركة في التظاهر.

على امتداد الأسابيع بدأ يتراجع النهج السلميّ للمسيرات، وظهرتْ وحدات «الكاوتشوك» و«مجموعات الإرباك الليليّ» و«الطائرات الورقيّة الحارقة». اعترض الشباب الذين دعَوا إلى هذه المسيرات على هذه الأساليب والوسائل، ولو كانت مجرّد رمي حجارة، فالفلسفة التي قامتْ عليها مسيرات العودة، ونظّر لها أحد مؤسّسيها الكاتب أحمد أبو رتيمة، تقوم على اعتصام سلميٍّ مفتوح، ونصْب الخيام، وإقامة حياة طبيعيّةٍ بالقرب من السلك العازل مع أراضٍ احتلّتْها إسرائيل عام ١٩٤٨، وهو شكلٌ نضاليٌّ جديد، ومختلف حتى عن الانتفاضة الأولى. إلّا أنّ الأمور خرجتْ من بين أيدي هؤلاء الشباب، فهناك قوّةٌ حاكمة على الأرض في حاجةٍ لأن تصبح هذه المسيرات ورقةَ ضغط أقوى، فتحوّلت مسيرات العودة إلى ساحة ابتزازٍ سياسيٍّ أخرى للتفاوض على شروطٍ أفضل للحصار.

bid22_min_bab_awla_asma_el_ghoul_photo4_rgb.jpg


مشاركات في إحدى مسيرات العودة - رويترز

قبل ساعاتٍ من مليونيّة مسيرات العودة التي كانتْ بمناسبة ذكرى النكبة في الرابع عشر من أيار / مايو ٢٠١٨ صعد إسماعيل هنيّة إلى طائرةٍ عسكريّةٍ مصريّة بغرض لقاء مسؤولين في النظام المصريّ الذي ارتكب واحدةً من أكبر المذابح في تاريخ مصر الحديث وقتل أقران اسماعيل في الفكر والحركة خلال فض اعتصام رابعة عام ٢٠١٣. منذ تلك اللحظة بدأتْ حماس تساوم على المسيرات، فتراجع إيمان الناس بجدواها، ولم يمرّ وقتٌ طويلٌ حتى بدأتْ حرب الأكفان والمنافسة على تبنّي الشهداء بين حركتَي فتح وحماس، ومن يغطّي الجثمان بعلَمه الأخضر أو الأصفر! وهكذا سقطتْ مسيراتُ العودة في أتون الانقسام والاحتراب، وما هي إلّا أشهرٌ قليلة أخرى حتى بدأتْ تصل حقائب المال القطريّ بإذنٍ إسرائيليٍّ عن طريق معبر بيت حانون «إيرتس» كرواتب لموظّفي حماس.

هكذا فقَد أهالي القطاع ما أحبّوه في تلك المسيرات التي كانتْ تشبههم بعفويّتها وحيويّتها، وتراجعوا عن المشاركة فيها، بمجرّد أن أصرّت الفصائل السياسيّة على تسجيل براءة الاختراع باسمها، وانتشرتْ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فيسبوك وتويتر، أوسمةٌ «هاشتاغات» تدلّ على عداءٍ حقيقيٍّ لهذه المسيرات كوسمَي #مكذبة-السلك-الكبرى، و#مسيرة-الرواتب-الكبرى. وهكذا تعاونّا على قلب الطاولة على أنفسنا مرّةً أخرى. وخفّ الرعب الإسرائيليّ من أن تظهر إسرائيل في الإعلام العالميّ كنظام وحشيٍّ يواجه مسيراتٍ سلميّة بالعنف، فقد لُوثتْ هذه السلميّة والعفويّة الشعبيّة، وخسرنا معركة جديدة بكلفة عالية. ففي نهاية الجمعة الواحدة والأربعين كان عدد الشهداء قد بلغ ٢٢٨ شهيداً وأكثر من ٢٤ ألف مصاب بالرصاص والاختناق. وارتفع صراخ المصابين من الألم، وسط ضعف الإمكانات الطبّيّة، وعلتْ زفرات الفقراء وشكوى مليونَي إنسان في واحدة من أكثر المدن كثافة في العالم، لكنْ شريطة ألّا تتحوّل هذه الشكوى إلى منشوراتٍ على وسائل التواصل الاجتماعيّ فلا تزال سياسات حماس الداخليّة القمعيّة بالمرصاد، لا توازيها غيرُ سياسات العقاب العنصريّ التي يتّخذها محمود عبّاس بحقّ غزّة عبر اقتصاص حصّة غزّة من أموال الكهرباء، ووقف رواتب الموظّفين ومنع التحويلات الطبّيّة.

لم يبق غير أيقونات جديدة

ولا تزال غزّة على الحافة، كما كانت طوال تلك الفترة: حافة السلم، وحافة الحرب. فإذا كان عدد الشهداء على الحدود كبيراً سرعان ما تعقبه رشقاتٌ من الصواريخ الفلسطينيّة ومن ثمّ القصف الإسرائيليّ. وهذه الحالة الضبابيّة التي عاشتْها غزّة طوال عام من مسيرات العودة كانت أشدَّ على أعصاب أهلها من أيّ وقت كان، فهذا النضال الذي بدأ كحلم لم يتحوّل يوماً إلى السلم، كما أنّه لم يجلب الحرب، وما بينهما ألف احتمال وإشاعة. وإنّ الحديث اليوم عن تلاشي الحلم وخفوت ألَق هذه المسيرات تخنقه غصّة كبيرة. فقد تطلّب الإيمان بهذه المسيرات والمبادرة إليها انطلاقاً من الصفر، مواردَ كبيرة من الشجاعة، فلم يبق على السطح سوى اليأس.

إنّ تربية الأمل في قلوب أهالي قطاع غزة وتليينَها بعد ثلاث حروب وانقسام وأربعة آلاف شهيد، احتاج إلى عمل قاسٍ وشغفٍ فيه إصرار، لتقفز تلك القلوب بالفعل عامرةً بالضوء الذي في نهاية النفق، فتسرع الخطى إلى الحدود، وتركض بالرّغم من مئات السيقان التي بترتْها رصاصات المحتلّ. وهنا سرّ الحياة في غزّة. تُلغي كلّ مرحلة لترقَى إلى نقيضها والاستمرار في النجاة. وهذه هي المفارقة المتكرّرة بين المُشتهى والمَعيش، والمحاولات الحثيثة للوصول إلى الأوّل. وقد صنعتْ هذه المسيرات أيقوناتٍ وخلّدتْها في حياتها ومماتها في أسابيع قليلة، فهؤلاء الشهداء البسطاء الذين أصبحوا بموتهم غير المحسوب رموزاً، لم يكونوا ضحايا حرب بل ضحايا سلْم، وأعطوا فرصة للعالم لن تتكرّر بأن يشهد ولادة قدّيسي عصرنا: الطفل محمّد أيّوب، والممرّضة رزان النجّار، والصحافيّ ياسر مرتجى، والمُقعد إبراهيم أبو ثريّا.

لم تعد هناك حاجة إلى استعارة غاندي أو لوثر كينغ أو مانديلا، ولو على سبيل الاستعراض!

 

العدد ٢٢ - ٢٠١٩

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.