يُعدُّ «معذّبو الأرض» من أكثر كتب فرانز فانون راديكالية وتأثيرًا، فهو يعبّر عن التناقضات والإمكانات الثورية في مجمل ظروف القضاء على الاستعمار، والتي تشوّهت ما بعده، وأعمت الأنظار عن تحليل فانون للاشتراكية والطبقية، وحوّلته إلى نبيّ يبشر بالعنف.
فانون (١٩٢٥–١٩٦١) هو أحد أهمّ المفكرين المناهضين للاستعمار في القرن العشرين. ولد في مارتينيك خلال فترة الاستعمار الفرنسي. انضمّ إلى القوات الفرنسية الحرّة المناهضة لفيشي في الحرب العالمية الثانية، وخدم في شمال أفريقيا وفرنسا. بعد حصوله على شهادة في الطب النفسي من ليون في العام ١٩٥١، انتقل إلى الجزائر التي كانت لا تزال مستعمرة فرنسية، حيث مارس عمله في مستشفى بليدا — جوانفيل للأمراض النفسية، إلى أن رُحّل من البلاد في العام ١٩٥٧ بسبب تعاطفه السياسي مع النضال الوطني الجزائري. انضمّ فانون رسميًّا إلى «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» من منفاه في تونس ومثّل الحركة على الساحة الدولية. شارك أيضًا في تحرير جريدة «المجاهد» الصادرة باللغة الفرنسية حيث نُشرت أعماله. توفّي فانون وهو ينتظر الحصول على علاج من سرطان الدم في الولايات المتحدة، وكان قد أكمل لتوّه كتابة وصيته السياسية «معذّبو الأرض» (١٩٦١)، وهو الكتاب الذي اشتهر بالمقدمة التي نصّها جان بول سارتر له.
«معذّبو الأرض»
كان لكتابات فانون عن الاستعمار والعنصرية ومعاداة الإمبريالية تأثير هائل في جميع أنحاء العالم خصوصًا في عالم الجنوب، ومنها «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» (١٩٥٢)، و«استعمار يُحتضر» (١٩٥٩)، و«نحو الثورة الأفريقية» (١٩٦٤)، إلّا أن «معذّبو الأرض» يبقى بلا شك أحد أهمّ كتبه، إذ لا مثيل له في سجلات أدب مناهضة الاستعمار. لا يوجد نص سياسي آخر يعبّر بحنكة وفاعلية عن مجمل ظروف القضاء على الاستعمار بتناقضاتها وإمكاناتها المميزة. باستهدافه الاستعمار والدعوة إلى مجتمع متساوٍ جديد في المستقبل، يستحوذ فانون على صوت جيل كامل من المثقفين الراديكاليين ويسلّحهم بتوجيه نقدي.
قراءة «معذّبو الأرض» دخول إلى عالم من الانقسام الاستعماري، والصراع الوطني، والتوق التحرّري. يجمع النص بين النقد الديناميكي والشغف السياسي، الحَفر في التاريخ وإدانة الظلم، الحجة المنطقية والسخط الأخلاقي تجاه المعاناة. هكذا ألهم فانون جيلاً كاملاً من الراديكاليين حول العالم لتغيير المجتمعات التي كانت تخرج ببطء من تحت السيطرة الاستعمارية. من خلال تحديد العنصرية والتبعية الهيكلية للمعضلة الاستعمارية، ورسم طريق إنساني للقضاء عليها، حدّد فانون سياسة التحرير التي لا تزال شروطها وأهدافها صالحة حتى اليوم.
لكن العديد من نقّاد فانون من الأكاديميين الجُدد، وحتى بعض مؤيديه، استمروا في تشويه «معذّبو الأرض» وإساءة فهمه. لقد بالغوا في التدليل على عنصر واحد في الكتاب على حساب العناصر الأخرى: العنف، وقلّلوا من الالتزام الاشتراكي لدى فانون وتحليله الطبقي للرأسمالية، وهما مكوّنان أساسيان في ترسانته المناهضة للإمبريالية. هذا ما ينطبق على نظرية ما بعد الاستعمار الحديثة. في الواقع، اعتبرت هذه النظرية أنّ العنف هو الجوهر النظري لـ«معذّبو الأرض». على سبيل المثال، حوّل هومي ك. بابا عمل فانون إلى موقع من «الشك النفسي العميق في العلاقة الاستعمارية» التي «تنطلق بفعالية من التصدّعات غير المؤكدة للتغيير التاريخي». في مقدمته الأخيرة لكتاب «معذّبو الأرض»، يقرأ بابا العنف الاستعماري باعتباره أحد مظاهر أزمة المستعمَر في تحديد هويّته النفسية «حيث يصبح نكران الذنب عارًا». يولّد القمع الاستعماري ذنبًا «نفسيًّا عاطفيًّا» عند المستعمَر، ويصبح فانون عند بابا مخلوقًا لا يخجل من العنف وشاعرًا للإرهاب. هذا التفسير الخاطئ ينزع عن فانون صفة المفكّر السياسي في الدرجة الأولى، ويربط مساهماته بالإرهاب إلى حدّ ما. وهذا تفسير غريب لبابا يُقدّم في عصر «الحرب الأميركية على الإرهاب». يفترض بابا أن الإرهاب، وليس التحرير، هو الذي يميّز مشروع حياة فانون.
قراءة فانون بين سارتر وسعيد
من أجل تحويل فانون إلى شاعر للعنف، من غير المستغرب أن ينكر منظّرو ما بعد الاستعمار سياساته الاشتراكية. وهو ما يبدأ مع بابا الذي يقوم مشروعه الفكري على تقويض التضامن الطبقي والاشتراكية باعتبارهما تقاليد سياسية ثانوية. يتّضح أيضًا تجاهل التزامات فانون الاشتراكية في قراءة إدوارد سعيد له في كتابه «الثقافة والإمبريالية»، التي أثارتها الانتفاضة الأولى وخيبة سعيد النقدية من النخبة الوطنية الفلسطينية. على الرغم من التشارك العميق بين سعيد وسياسات فانون عن القضاء على الاستعمار وفي الأممية الانسانية، إلّا أنه فشل حتى في ذكر كلمة «الاشتراكية» عندما يتعلق الأمر بفانون، أو حتى قراءته كجزء من التقليد المديد للنقد الاشتراكي للإمبريالية. هذا التنصّل من اشتراكية فانون، والذي ساد في فترة ما بعد الاستعمار، واضح أيضًا عند روبرت جاي. سي. يونغ عندما قال صراحة إن فانون غير مهتمّ بـ«أفكار المساواة والعدالة الإنسانية المتجسّدة في الاشتراكية».
لم يرتكب سارتر هذا الخطأ قطّ على الرغم من أن قراءته لفانون لا تخلو من العيوب. في الواقع، عمد سارتر إلى تضخيم دلالات العنف في مقدّمته الشهيرة للكتاب. وصيّته حازمة: «اقرأوا فانون: سوف تعلمون أنّ الدافع الجنوني للقتل عند السكان الأصليين هو تعبير عن لاوعيهم الجماعي في فترة عجزهم». نتيجة ذلك، يصبح إنهاء الاستعمار مرتبطًا بـ«الغضب المجنون»، و«الرغبة الدائمة في القتل»، و«الكراهية العمياء» التي من خلالها «يصنع المستعمَرون رجالاً من أنفسهم عبر قتل الأوروبيين». من الصعب التأكيد على مدى الضرر الذي يحْدثه هذا التذرّع بالقتل لفهم عمل فانون ومفهومه عن القضاء على الاستعمار.
مع ذلك، يؤكّد سارتر الرسالة الاشتراكية الأساسية لفانون، ويلخّصها على النحو الآتي: «من أجل الانتصار، يجب أن تكون الثورة الوطنية اشتراكية. إذا قُطعت مسيرتها، وإذا استولت البرجوازية المحلّية على السلطة، فإن الدولة الجديدة، على الرغم من سيادتها الرسمية، تظل في أيدي الإمبرياليين». ويخلص إلى القول: «هذا ما شرحه فانون لإخوانه في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية: يجب أن نحقّق الاشتراكية الثورية معًا في كل مكان، وإلا فسوف نُهزم واحدًا تلو الآخر على يد أسيادنا السابقين». يهدف النضال الوطني إلى تشكيل أممية اشتراكية تقوم على التضامن والتعاون الشعبيين، لإعادة تشكيل السيادة كديموقراطية اجتماعية واقتصادية. باختصار، هذه هي القضية السياسية التي يقدّمها فانون في «معذّبو الأرض».
لقد استغرق الأمر عقودًا من سوء القراءة المتعمّد للكتاب بغية تجريد فانون من صفته كرمز للاشتراكية الأفريقية في منتصف القرن الماضي. بالنسبة لفانون، تشكّل الاشتراكية الحلَّ لمشاكل العنصرية والهيمنة الاستعمارية والتخلّف الاقتصادي الذي ابتُلِي به العالم الثالث في عصر القضاء على الاستعمار. لم يكن ماركسيًّا، ولم يولِ الاعتبار اللازم لدور الطبقة العاملة المدينية في نضالات إنهاء الاستعمار. لكنه كان ماديًّا، أرسى تحليله عن الاستعمار في بنية اجتماعية موضوعية. وكان أيضًا محللًا طبقيًّا للمجتمع الاستعماري والحركات المناهضة للاستعمار. وأخيرًا، كان ملتزمًا بإنسانية أممية جديدة يمكن لشعوب وطبقات المستعمرات المختلفة أن يشاركوا فيها ويساعدوا في تشكيلها. بالنسبة لفانون، لا يمكن القضاء على العنصرية والإقصاء من خلال إحياء الهويات المُضطهدة والاحتفاء بالخصوصية الوطنية أو العرقية، بل من خلال النضال المشترك من أجل الحرية والمساواة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن رؤية فانون للتحرير لا تقتصر على التحرر الوطني الجماعي من الاستعمار. أن تكون حرًّا يعني بالتأكيد أن تعيش في أمّة متحررة اجتماعيًّا وسياسيًّا تسيطر باستقلالية على اقتصادها. لكنّ فانون خطا خطوة حاسمة أخرى، واعتبر أن القضاء الحقيقي على الاستعمار يجب أن يؤدي إلى تحرر الفرد وأوضح هذه الفكرة في كتابه «نحو الثورة الأفريقية»، عندما قال: «تحرر الفرد لا يتبع التحرير الوطني. لا يتحقق التحرير الوطني الفعلي إلا مع بدء تحرّر الفرد بشكل لا رجعة فيه». وهكذا، فالحرية الفردية جزءٌ لا يتجزأ من مفهوم فانون للديموقراطية المناهضة للاستعمار. بالتوازي مع مفهوم «القوة للشعب ومن الشعب»، حيث تعتبر السيادة الشعبية ردّ فعل رئيسيًّا على الاستبداد والقمع، قدّم فانون مفاهيم تنويرية عن ازدهار الإنسان، وأوضح في كتاباته في جريدة «المجاهد» أن:
«القيم الأساسية للإنسانية المعاصرة التي تُعنى بالفرد كإنسان: حرية الفرد، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وحرية المعتقد، وحرية التجمّع، وكل ما يسمح للفرد بالازدهار والتقدّم وممارسة حكمه الشخصي والمبادرة بحرّية».
هكذا ربط فانون الديموقراطية بمفهوم التحرر الذاتي، وفهِم القضاء على الاستعمار بأنه تقرير المصير الجماعي والفردي. في الواقع، هذا ما يتوق إليه «معذّبو الأرض» في النهاية: الديموقراطية الشاملة والازدهار البشري.
نُظّمت كتابة هذا المقال تبعًا لثلاثة مواضيع أساسية: مفهوم فانون للعنف الذي جذب الكثير من الاهتمام؛ معاينته لحدود البرجوازية الوطنية وعيوبها ومشروعها لاستقلال المستعمرات؛ ومفهومه الفريد عن التحرير. أتطرّق أيضًا إلى آرائه المتميّزة حول القوة السياسية والمسار الثوري في المستعمرات. يشكّل «معذّبو الأرض» مساهمة فانون في الفكر الراديكالي، ويُبرز تصوّراته الإنسانية الجديدة عن التحرر العالمي، وهي رؤية عالمية تصلح للتصدّي لانعدام المساواة العالمية الراهنة.
العنف رد فعل على عنف
يبدو أن الجملة الافتتاحية في الكتاب تقول كلّ شيء: «التحرر الوطني، النهضة الوطنية، إحياء الشعور الوطني للشعب، الأمّة: مهما كانت العناوين المُستخدمة أو الصيغ الجديدة المقدّمة، يبقى القضاء على الاستعمار ظاهرة عنيفة». لكن غالبًا ما يتمّ إغفال أمرين في تبرير فانون للعنف ضدّ الاستعمار؛ أولاً أن العنف هو ردّ فعل على عنف أكبر يمارسه الاستعمار، وثانيًا هو جزء من استراتيجية سياسية أوسع ومُصنّف ضمنها: هو ضروري ولكن غير كافٍ ما لم يترافق مع التعبئة الشعبية اللازمة لإزاحة الهيمنة الاستعمارية.
بالنسبة لفانون، كان الاستعمار ظاهرة عنيفة بشكل استثنائي: جرّد المستعمَرين من إنسانيتهم، وقسّمهم، واستغلّهم، وشوّه ثقافتهم، وحوّلهم إلى شعوب درجة أدنى. قام على أساس القوّة وليس الإجماع السياسي، وأدّى إلى إنكار حقوق الناس الأساسية. ساوى الاستعمار المستعمَرين بـ«الشر المطلق»، ووصمهم بالصفات الآتية: الفساد والكسل والفقر والفسوق والجهل والعوَز. يجادل فانون بأن المستعمَرين يرفضون الوضع الاستعماري والتنكّر لوجودهم. وقد فشل الاستعمار في إقناع المستعمَرين بشرعية سلطته وحكمه. فإذا القوة تولِّد المقاومة، وتصبح مصدرًا رئيسيًّا لعدم استقرار الأنظمة الاستعمارية. يصوّر فانون هذه العملية بالعبارات الآتية: «هو (أي المستعمَر) مغلوب على أمره ولكنه ليس مدجّنًا؛ يعامَل على أنه أقل شأنًا لكنه ليس مقتنعًا بدونيته». يدرك المستعمَرون أن نظام الهيمنة والقمع الاستعماري مصمَّم لإبقائهم في الأسفل، وأن مصلحتهم تكمن في كسر القيود والتغلّب على نيره.
تكمن قوة تحليل فانون بمجادلته أنّ العنف ضروري في هذه العملية. ليس لأن المستعمَر عنيف بطبيعته، بل لأن المستعمِرين لا يفهمون إلا لغة العنف: الاستعمار «لن يرضخ إلا عندما يواجَه بعنف أكبر»، و«يجد الرجل المستعمَر حرّيته في العنف ومن خلاله». هذه هي لحظة الصدام والمواجهة والتناقض القوي.
«يعمل المستوطن على جعل حتى الحلم بالحرية مستحيلاً بالنسبة إلى ابن البلد، فيما يعمل ابن البلد على تخيّل كلّ الطرق الممكنة لتدمير المستوطِن. على المستوى المنطقي، تُنتج النظرة المانوية لدى المستوطنين فكرًا مماثلاً لدى السكان الأصليين. تجيب نظرية «الشرّ المطلق للمواطن الأصلي» على نظرية «الشرّ المطلق للمستوطِن». فبالنسبة للمواطن الأصلي لا يمكن للحياة أن تنبثق مجددًا إلا من جثة المستوطن المتعفّنة».
استُخدمت عبارات مماثلة من نقّاد ما بعد الاستعمار للقول إن فانون يعطي الأحلام والدراما العقلية (أو ما يصفه بابا بـ«المجال النفسي العاطفي») أولوية سببية في تفسير سلوك المستعمَر. لكنها ليست الطريقة التي يستخدمها فانون لتعبئة البعد النفسي في حجّته، بل يستخدم لغة الظواهرية لتسليط الضوء على الصلة المولِّدة بين الفرد والمسارات التاريخية الأوسع، حيث ينقل المجال الذاتي التأثيرَ القوي الذي يملكه الواقع الموضوعي على علم النفس الفردي وعلى الخيال. الهدف الأساسي من تحليل فانون إظهار حقيقة أن الاستعمار هو مسبّب الأذى النفسي والاجتماعي والتشوّهات والعنف. من خلال الإطار المادي للتفسير لدى فانون، تصبح الأفكار والمشاعر من عوارض البنْية الاجتماعية، وتنطوي على أساس اجتماعي ضروري لفهم ظهورها وتطوّرها.
أولوية السياسي على العسكري
في فصل «الحرب الاستعمارية والاضطرابات العقلية» من كتاب «معذّبو الأرض»، يتطرّق فانون إلى مسألة علم النفس الفردي بشكل مباشر، ويشرح بالتفصيل عشرات الحالات الفعلية التي تعامل معها خلال عمله كطبيب نفسي في بيلدا — جوانفيل أثناء الحرب الجزائرية. يقول على سبيل المثال: «لقد جمعنا هنا بعض الحالات أو مجموعات من الحالات برز فيها أن الحدث المسبّب للمرض هو الحرب الشاملة في الجزائر»، أو «إن الحرب الاستعمارية فريدة حتى في الأمراض التي تسبّبها». المجادلة بأن جذور العنف تكمن في أزمات الهوية أو الأزمات النفسية فيها إغفال للأسباب المؤدّية إليها في الأساس، وينتج عنها خطأ في تحديد أسباب وآليات العمل الجماعي. يهدف «معذّبو الأرض» إلى ربط المعاناة الاجتماعية بالعلاقات الاستعمارية وتحديد طرق علاجها.
بالنسبة لفانون العنف لديه وظيفة، إنه أداة لبناء الوحدة الوطنية، ومن خلاله فقط يمكن للمستعمَر أن يأمل بتحقيق أهدافه. لا يمارَس العنف لمجرّد العنف، بل هو وسيلة لتحقيق غاية سياسية: الاستقلال. هكذا تأخذ الأمّة مكانها كمشروع سياسي معارض وأداة للحرية.
يسلّط السياقُ الجزائري الضوءَ على تركيز فانون على إعطاء الأولوية للسياسة على حساب الكفاح المسلّح. يُعَدّ ارتباطه بمؤتمر الصومام للثورة الجزائرية مثالاً جيّدًا على ما يعنيه هذا الأمر في الواقع. كان المؤتمر استراتيجيًّا، استمرّ ثلاثة أسابيع في العام ١٩٥٦، وعقدته جبهة التحرير الوطني بعد عامين من بدء الكفاح المسلّح. ارتبط بشكل أساسي بمهندسه عبّان رمضان، واعتُبر المحاولة الأكثر جدية لصياغة رؤية تقدمية متماسكة للكفاح من أجل القضاء على الاستعمار. يجادل مارتن إيفانز قائلاً:
«في ما يتعلّق بالكفاح المسلّح، أنشأ مؤتمر الصومام الهياكل المدنية التي سوف تحكم الجيش، وعيّن مفوّضين سياســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيين لتنظيم السكان وتقديم المشورة بشأن الاستراتيجيـــــــــــــــــــــــــة العسكرية وإنشاء المجالس الشعبيــــــــــــــــــــــــــــــــــة: دولة مضادة تحلّ محلّ القانون والسلطة الفرنسيين».
كذلك وضع المؤتمر قواعد حرب جديدة للمقاتلين، «والأهم، أنتج مؤتمر الصومام مجموعة واضحة من أهداف الحرب: الاعتراف باستقلال الجزائر وبجبهة التحرير الوطني كممثّل وحيد للأمّة». وفق ديفيد ماسي، وهو آخر من كتب عن السيرة الذاتية لفانون، دعا مؤتمر الصومام إلى تفعيل وتوسيع نضال المجتمع الجزائري من أجل الحرية الوطنية: «تم توضيح وتفصيل الحاجة إلى تحالفات مع الأقلية اليهودية والمنظمات النسائية والفلاحين والنقابات العمّالية والجماعات الشبابية». دفع عبّان حياته ثمنًا لهذه الجهود. اغتيل من قبل القيادة الخارجية لجبهة التحرير الوطني، التي اعتبرت دفعه الداخلي نحو التنظيم السياسي بمثابة تحدٍّ لولاءاتها الإسلامية المحافظة، وللسيطرة العسكرية، والقومية العربية الاستبدادية. لكن رؤيته السياسية عاشت من خلال «معذّبو الأرض».
نقد الزنوجة
بتركيزها على التنظيم الذاتي والنضال الشعبي، تُجذِّر الروحُ النقدية لمقرّرات الصومام كتابات فانون عن القضاء على الاستعمار. والأهم أنّ هناك مشاعر متضاربة تجاه المشروع الوطني، وأن القضاء على الاستعمار هو نضال من أجل الحرية والديموقراطية بين الدول وداخلها أيضًا. هذا التركيز على التحليل الطبقي يرسّخ التحليل السياسي الذي قدّمه فانون في كتابه. يكمن القلق الأساسي لدى فانون بأن يترافق النضال الشعبي الوطني مع مشروع النخبة الوطنية لاستبدال الخارج بأشكال داخلية من السيطرة والاستبداد، فضلاً عن خوفه من ألّا ينتج القضاء على الاستعمار ديموقراطية بل استبدادًا قوميًّا. إنّ التعبير الأفضل عن مفهومه الديناميكي الاجتماعي للنضال ضد الاستعمار هو:
«الأشخاص الذين تبنّوا، في بداية النضال، الثنائية البدائية للصراع التي طرحها المستوطن — السود والبيض، والعرب والمسيحيون — أدركوا خلال مسارهم أنّ هناك سودًا أكثر بياضًا من البيض، وأنّ امتلاك علم وطني والأمل في دولة مستقلّة لا يُغري دائمًا شرائح معيّنة من السكان ولا يدفعها للتخلّي عن مصالحها وامتيازاتها... المناضل الذي يواجه آلة الحرب الاستعمارية بالحدّ الأدنى من الأسلحة يدرك أنه في تحطيمه القمع الاستعماري يبني تلقائيًّا نظامًا آخر للاستغلال».
إن «الحصول على سود أكثر بياضًا من البيض»، يعني أن التضامن العرقي لا يمكن أن يُرسِّخ الديناميكية السياسية للقضاء على الاستعمار: «حواجز الدم والتعصّب العرقي تتحطّم في كلا الجانبين».
إن رفض فانون للزنوجة كفلسفة سياسية للتعبئة يتساوى مع تركيزه على الطبقية في النضال الوطني. على الرغم من إعجابه بالروح التمرّدية للشاعر المارتيني إيمي سيزير وتحدّيه العنصرية والاستعمار، إلّا أنه وجد مصطلحات الهوية الزنجية غير كافية ورجعية ونخبوية. وكما يقول نايجل غيبسون بإيجاز في قراءته لانتقادات فانون المستمرّة للحركة الثقافية: «تتحدّث الزنوجة عن الاغتراب وليس عن الاستغلال، وتتحدّث إلى النخبة وليس إلى الجماهير، إلى المتعلّمين وليس الأمّيين». وهو ما ينطبق بشكل خاص على ليوبولد سيدار سينغور، أول رئيس للسنغال. أراد الداعية الأفريقي الرئيسي للزنوجة إعادة تقييم العنصر الأسود الذي شُوِّهت سمعته وأقصِي باعتباره عرقًا تابعًا لما وصفه بـ«الحضارة البيضاء».
على عكس المنطق والعلم والموضوعية الموجودة في القطب الأبيض من الثنائية العرقية، احتفى سينغور بنقيضها: العاطفة والمشاركة والذاتية. رفض فانون العقيدة الجوهرية التي تقبل التقسيم الوجودي القائم على العرق بين البيض والسود، ورآه خاطئًا. على الرغم من أن فانون كان متعاطفًا مع الزنوجة المناهضة للعنصرية، إلّا أنه نبذ الانقسام الوجودي العرقي الذي اعتمد عليه كل من الاستعمار والزنوجة.
كان موقف فانون من العرق واضحًا حتى قبل كتابة «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، قال: «لا ينبغي تكريس حياتي لوضع ميزانية لقيم الزنوجية»، مضيفًا: «لا يوجد عالم أبيض، ولا أخلاقيات بيضاء، وأكثر من ذلك لا يوجد ذكاء أبيض». في مقال بعنوان «الهنود الغربيون وأفريقيا» نُشر في العام ١٩٥٥، كان فانون متأكدًا من أن الزنوجة هي الردّ الخاطئ على الاستعمار: «هكذا يبدو أن (إيميه سيزير) ابن الهند الغربية، يعيش الآن في سراب أسود بعدما عاش الخطأ الأبيض الكبير». مع اشتداد نزعة تصفية الاستعمار، سوف تصبح الزنوجة في متناول اليد، فبدلاً من تقويض الأهداف الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا جرى تحصينها. حتى عندما تحدّث سينغور باسم حرية السود في القارة الأفريقية، حشد الزنوجة كإيديولوجيا لحكم الدولة وعارض استقلال الجزائر. وجاء حديث الزنوجة عن العرق المتطرّف مترافقًا مع خنوع سياسي، وهو ما قوّض الوحدة النشطة والتضامن اللذين دعا إليهما فانون للقارة الأفريقية. عبّر فانون بوضوح عن إدانته لذلك في كتابه. فإذا كانت الزنوجة أحد أعراض السياسات الثقافية الوهمية للعرق، فإن «معذّبو الأرض» هو المكان الذي سوف يطوّر فيه فانون رؤيته السياسية العالمية البديلة، والتي تحتل فيها السياسة الطبقية المركز الأول.
«الخيانة الاجتماعية» للبرجوازية الوطنية
يرسم فانون كيف تسعى النخبة المستعمَرة وراء مصالحها الطبقية، خلال النضال للتحرر من الاستعمار، لبناء نظام للهيمنة والاستغلال يخدم مصلحتها. يسمّي فانون هذه العملية بـ«مطبّات الوعي القومي»، ويخصّص فصلاً كاملاً في «معذّبو الأرض» لشرح المقاربة البرجوازية للاستقلال الوطني. بالتوازي مع القضاء على الاستعمار، أعرب فانون بكتاباته عن قلقه العميق من طبيعة ونوعية الحرية التي تنادي بها النخب الوطنية، وصبّ كلّ تركيزه على وحدة جماعية تتصدّع وتتفكّك بسبب البرجوازية الاستعمارية: «الجبهة الوطنية التي أجبرت الاستعمارَ على الانسحاب تتصدّع، وتهدر الانتصار الذي حقّقته». تتفوّق مصالح النخبة على سياسات المساواة والتضامن الاجتماعي. بمعنى أعمق، لا يزال عالم الجنوب يعاني من تأثيرات الخيانة الاجتماعية التأسيسية للبرجوازية: «الخيانة ليست وطنية، إنها اجتماعية».
من أجل الحفاظ على هيمنتها الطبقية واستراتيجيات التراكم، تؤسّس البرجوازية نظام الحزب الواحد، وتدير ظهرها لشعبها، وتبحث عن حلّ وسط وعن دعمٍ من أسيادها الاستعماريين القدامى. الأمر ليس مستغربًا، ويتفق مع الأبحاث التي أجريت عن هذه الفترة. على سبيل المثال، فيفيك شيبر، الذي كشف زيف أسطورة البرجوازية الوطنية التنموية في المستعمرات، وصف النظام الاقتصادي السياسي بعد الاستعمار بأنه شكل من أشكال التنمية التي «في جوهرها تحوّل الموارد الوطنية إلى الرأسماليين المحلّيين». وجادل إعجاز أحمد أيضًا بأن القضاء على الاستعمار انتهى إلى منح السلطة «لا إلى الطلائع الثورية بل إلى البرجوازية الوطنية المستعدّة لإعادة الاندماج في مواقع التبعية داخل الهيكل الإمبريالي».
كان فانون مدركًا لهذا الاحتمال وانتقده أثناء حدوثه. رأى أن الانتقال إلى نخبة وطنية لم يكن «لتلبية احتياجات الأمّة» بل لتحقيق ربح خاص: «التأميم، بالنسبة لهم، مجرّد عملية نقل لتلك المزايا غير العادلة الموروثة من الفترة الاستعمارية إلى أيدي سكان أصليين». يُقرأ القضاء على الاستعمار هنا على أنه بديل للطبقة — حيث تستولي البرجوازية المحلّية ببساطة على مقاليد السلطة الاقتصادية والسياسية من أسيادها الاستعماريين القدامى وتجلس مكانهم. ووفق المنطق الاستعماري الجديد، «تكتشف [البرجوازية الوطنية] مهمّتها التاريخية كوسيط، أو كصلة وصل بين الأمّة والرأسمالية الزاحفة». في الواقع، «سوف تكون البرجوازية الوطنية راضية تمامًا عن لعبها دور وكيل أعمال البرجوازية الغربية».
يجب الاعتراف بأن تحليل فانون الدقيق للطبقات الحاكمة الاستعمارية يتناقض مع قبوله بالأساطير الرائجة عن برجوازية أوروبا. ففيما يفضح زيف أسطورة البرجوازية الوطنية كعامل ضامن لحرية المستعمرات، يعزّز أسطورة أخرى وهي أن البرجوازية قاتلت من أجل الحرّيات الليبرالية في وطنها لكنها انقضّت على هذه المهمة النبيلة في المستعمرات. من خلال استخدام التماثل التاريخي للثورة البرجوازية في أوروبا، يجادل فانون بأن البرجوازية الوطنية في المستعمرات تفشل في مهمّتها التاريخية المتمثّلة في الدفع نحو ثورة ديموقراطية حقيقية، وتتنصّل من الدور التقدّمي الذي لعبه أسلافها في أوروبا. يقول: «تتماهى البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة مع برجوازية الغرب وهي في حالة انحطاط»، فهي تحاكي نهاية «شيخوخة» تلك الطبقة بدلاً من محاكاة «مراحلها الأولى في الاستكشاف والاختراع»، و«تعيش لنفسها وتنفصل عن الشعب». بالنتيجة، تشكّل البرجوازية الاستعمارية عائقًا أمام التقدّم والتحرر.
لكنّ ما لا يدركه فانون هو أن البرجوازية مخلِصة لطبيعتها، وأن الثورة البرجوازية أسطورة. يجادل شيبر بأن سوء قراءة تاريخ البرجوازية وإسناد دور البطولة السياسية إليها هو خطأ شائع يرتكبه منظّرو ما بعد الاستعمار. تتحقّق الديموقراطية والليبرالية بالفعل في العصر الرأسمالي لكن ليس نتيجة «البرجوازية كفاعل تاريخي». ويلاحظ شيبر أن رأس المال لم يقصد إطلاقًا تغيير النظام الليبرالي في المستعمرات كونه لم ينشئ في الأساس نظامًا مماثلاً في أوروبا. ما «عولمتْه» الرأسمالية ليس التحرر والحرية بل نظام التبعية للسوق، وما تسعى إليه ليس المساواة الليبرالية إنّما الهيمنة السياسية. إن أي إنجازات ديموقراطية لما يُسمّى بالثورة البرجوازية ناتجة من التعبئة الشعبية والضغط من الأسفل، سواء داخل المركز أو في المستعمرات. حتى خلال المراحل العنيفة من الثورة الفرنسية، «أصبحت الثورة مناهضة للإقطاع وديموقراطية بالفعل، لكن ليس لأن هناك مشروعًا برجوازيًّا. كان لا بدّ من جرّ المشرّعين البرجوازيين وركلهم والصراخ في وجوههم لكي يقوموا بدورهم كثوّار».
هكذا لا توجد برجوازية ليبرالية مثالية يمكن قياس الرأسماليين الاستعماريين على أساسها واكتشاف تقصيرها عنها. تتصرّف البرجوازية بطريقة مماثلة في مختلف المستعمرات: مصلحة خاصة ضيّقة، خوف من الديموقراطية والسيادة الشعبية، وسلطوية. يخْلص شيبر إلى أن «البرجوازية الأوروبية لم تكن مولعة بالديموقراطية، أو بازدراء النظام القديم، أو احترام قوّة التابعين، أكثر مما كان الهنود». ما يقرأه فانون على أنه خيانتها الاجتماعية في المستعمرات، كان سمَتها العالمية الأساسية. ويعكس تحليله ووصفه لسلوك هذه البرجوازية، سلوكَها الطبقي في كل مكان.
لئن كان فانون قد أخطأ في مقاربته للتماثل الطبقي التاريخي، إلّا أن مساهمته الحقيقية تكمن في مكان آخر: في الدروس السياسية التي يستخلصها لما يجب أن يحدث في المستعمرات لكي يتغلّب النضال الثوري فيها على الرؤية النخبوية للبرجوازية المحلية للاستقلال. وكانت إجابته واضحة: التنظيم الديموقراطي والاشتراكية.
التحرير في الاشتراكية
في مواجهة مشاكل القضاء على الاستعمار — البرجوازية المهتمّة بمصالحها الذاتية والتخلّف الشديد في التنمية — يقدّم فانون رؤية إشتراكية خلافية للتحرر. لم يحاكِ السياسات البيروقراطية السوفييتية ولا الديموقراطية الرأسمالية الغربية بل قدّم بديلاً يساريًّا جديدًا:
«إن الاستغلال الرأسمالي والكارتلات والاحتكارات هي أعداء البلدان المتخلّفة. من ناحية أخرى، إن اختيار نظام اشتراكي، نظام موجّه بالكامل نحو الشعب يقوم على مبدأ أن الإنسان هو أغلى من كلّ الممتلكات، سوف يسمح لنا بالمضي قدمًا بشكل أسرع وأكثر انسجامًا، ويجعل من المستحيل حصر السلطة الاقتصادية والسياسية في أيدي قلّة ممن ينظرون إلى الأمة بأكملها بازدراء واحتقار».
يعود فانون إلى هذا الموقف الواضح في كثير من الأحيان في «معذّبو الأرض»، لذلك من المفاجئ أن يتجاهله العديد من نقّاد ما بعد الاستعمار. إنّهم يفضّلون اقتباس الآتي من فانون، وادّعاء وجود اختلاف بين النزعة الإنسانية التي يستحضرها والاشتراكية: «لكن إذا لم توضّح الوطنية، إذا لم تُثْر وتعمّق من خلال تحوّل سريع نحو وعي بالاحتياجات الاجتماعية والسياسية، بعبارة أخرى نحو الإنسانية، فإنها سوف تؤدّي إلى طريق مسدود». هذا ما يقوم به إدوارد سعيد في «الثقافة والإمبريالية». وإذا كان يستند إلى فانون لتبرير انتقاده الناشئ للبرجوازية الفلسطينية الوطنية خلال الانتفاضة الأولى، إلّا أنه بقي صامتًا حيال اشتراكية اليسار الجديد التي قدّمها فانون، على الرغم من أن «الاشتراكية» هي الكلمة الوحيدة التي تعبّر عن نظرة فانون للعالم، وتفسّر ما هو أساسي في نقده للبرجوازية الوطنية الذي كان إدوارد سعيد يسعى وراءه.
بالنسبة لفانون، يجب أن يصبح الوعي الوطني أداةً لتلبية احتياجات الغالبية. فهو يؤكد بالتالي على قدرة الجماهير المستعمَرة على حكم نفسها بنفسها — الحكم من الشعب وللشعب، من المنبوذين وللمنبوذين — ويجادل بأن كلّ شيء «يعتمد عليهم». التركيز كلّه ليس على الديموقراطية كنتيجة فقط، بل على الديموقراطية كشكل وعملية تنظيم: سيادة شعبية حقيقية. يعبّر فانون عن رفض واضح لدافع «تنمية الاستثنائي أو البحث عن بطل في شكل آخر من أشكال القادة». التنظيم اللامركزي هو أسلوب «لرفع مستوى الشعب»، والاعتراف بإنسانيتهم بعد إنكارها من قبل الاستعمار. إنّهم مسؤولون عن مصيرهم: المسؤولية الجماعية هي المفتاح. وتمتدّ هذه الرؤية أيضًا إلى المساواة بين الجنسين. إن مشاعر فانون المناهضة للسلطة الأبوية واضحة: «سوف يكون للمرأة مكانة الرجل نفسها، ليس في بنود الدستور ولكن في الحياة اليومية: في المصنع والمدرسة والبرلمان». المشاركة الاجتماعية الواسعة جزء لا يتجزأ من تعميق «الوعي الاجتماعي والسياسي» للثورة.
على أساس تنظيم ذاتي ديموقراطي مماثل، يمكن لفانون أن يحاجج بالمساواة والتعاون بين الأمم. على عكس القوميات الإقصائية والمتنافسة، تتضح التزاماته الأممية عندما يقول: «في صميم الوعي الوطني يعيش الوعي الدولي وينمو. وهذا الظهور ثنائي الأبعاد هو في النهاية مصدر كل الثقافة». تمامًا كما فهم سارتر جيدًا، إمّا أن ينهض العالم الثالث معًا في وحدة وتضامن، أو ينهار في الانقسام والتفتت. لا يمكن مواجهة جبروت الإمبريالية الغربية إلّا ككتلة موحّدة تتمتّع بالحكم الذاتي ومتعاونة.
الالتزام الأممي
بناءً عليه، يُعدّ كتاب «معذّبو الأرض» ملتزمًا أمميًّا، يرفض تعميم صورة جوهرية عن الغرب باعتباره عنصريًّا لا يمكن إصلاحه أو عاجزًا عن التعبئة لمناهضة النظام. من الواضح في ختام الفصل الأول: «بخصوص العنف» — الذي لا يمكن تفويته — أنّ فانون أمميّ. في الواقع، إنه يدعو إلى مساهمة ومشاركة الطبقات الأوروبية في النضال من أجل «إعادة تأهيل البشرية، والانتصار للإنسان في كل مكان». إنه يرى فيهم حلفاء وعوامل محتملة للتغيير:
«هذه المهمّة الضخمة المتمثّلة بإحياء الإنسانية في العالم، الإنسانية بأكملها، سوف تنجَز بمساعدة لا غنى عنها من الشعوب الأوروبية، الذين يجب أن يدركوا أنّهم انضمّوا في الماضي إلى صفوف أسيادنا المشتركين عندما كان الاستعمار موضع ريبة. لتحقيق ذلك، على الشعوب الأوروبية أن تقرّر أن تستيقظ أولاً، وتنتفض، وتستخدم عقولها، وتقلع عن لعب دور الجميلة النائمة الغبي».
اللافت في هذا الانفتاح ليس رؤيته الشاملة فحسب، بل مطالباته الموضوعية المتميّزة. وفي حين قلّل العديد من المنظّرين الأوروبيين النقديين (مثل تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر) من إمكانية حصول تعبئة شعبية في الغرب حول الاشتراكية في ذلك الوقت، لم يفعل فانون ذلك. بدلاً من رؤية اندماج تابع ودائم في الهياكل الرأسمالية والحياد السياسي، رأى فانون أيديولوجيات إقصائية يجب محاربتها وإمكانية سياسية للعمل. في الوقت الذي أصبحت فيه النظرية الماركسية الأوروبية «نظامًا محصورًا بفئة معيّنة، تُبيّن مصطلحاته الصعبة بُعده عن السياسة»، قدّم فانون النظرية كنشاط فكري يركّز على السياسة والقوة الخاضعة والتحوّل الجذري. فقط مع انفجار تعبئة الطبقة العاملة في العام ١٩٦٨، اضطر دعاة الهزيمة إلى التعامل مع آرائه عن تدهور القوة السياسية.
على عكس الماركسية الغربية، كان انفتاح فانون على قوة الطبقة العاملة في أوروبا موجودًا طوال الوقت، وواضحًا في «معذّبو الأرض». في فصله الختامي، استخدم خطابًا حماسيًّا يعبّر عن خيبة أمله العميقة في التاريخ الإمبريالي الأوروبي والالتزام المستمر بالهيمنة العالمية. لكنه لم يعادِ أوروبا، ولم يعتبرها مصابة بعجز دائم بسبب ممارساتها الاستعمارية القديمة. يوصي فانون بـ«ترك أوروبا تلك، حيث لا يكفّون عن الحديث عن الإنسان، فيما يقتلون الرجال في كل مكان يجدونهم فيه، في زاوية كل شارع من شوارعهم، وفي جميع أنحاء العالم». أوروبا التي يريد دفنها إلى الأبد — وألا يُعاد استنساخها مرّة أخرى — هي أوروبا العنف والغطرسة والنفاق وسحق الإنسانية. إنها أوروبا الرأسمالية الاستغلالية التي حطّمت الفرد، وابتعدت عن الوحدة المستقلة.
إذا كان العمّال الأوروبيون الذين يعانون من نيرها القمعي قد شاركوا ذات مرة في «المغامرة المذهلة للروح الأوروبية»، فقد حان الوقت الآن للانفصال عن افتراضاتها والانضمام إلى صياغة إنسانية أممية جديدة مشتركة مع الطبقات الخاضعة الأخرى. من خلال تحدّي الإمبريالية والرأسمالية العالمية، يدعو العالم الثالث الراديكالي إلى خلق روابط حقيقية والتنوّع والانخراط في مسار عالمي لإحياء الإنسانية. وإن اقتراح فانون ليس مجرّد انعكاس بسيط للمركزية الأوروبية يحتفي بالوطنية الثقافية أو الخصوصية الموجودة في الأيديولوجيات العرقية مثل الزنوجة التي انتقدها بشدة في «معذّبو الأرض» بوصفها رجعية. كما أنه لا ينكر مساهمة التنوير في تحرر الإنسان. على العكس تمامًا، يجد أن «كل عناصر حلّ المشكلات الكبرى للإنسانية كانت موجودة، في أوقات مختلفة، في الفكر الأوروبي». تكمن الجدّة الحقيقية لموقف فانون في تركيزه على الممارسة السياسية. ما يتوقّعه «معذّبو الأرض» هو سياسة إنسانية جديدة، أطلقتها حدود جديدة للمقاومة في عالم الجنوب، في أماكن مثل الجزائر وفيتنام، وتُمكِّن المشاركة الشاملة.
العفوية والفلاحون كقوة ثورية
مع ذلك، إن شرح فانون للقوة والفاعلية لا يخلو من التعقيدات النظرية والسياسية، خصوصًا في ما يتعلّق بالأساس الاجتماعي للثورة ومَن سوف يقودها في المستعمرات. تجدر معاينة هذه القضايا هنا لأنها تثير بعض المشاكل مع مفهومه عن الاشتراكية.
رأى فانون نفسه ناقلاً «للحقائق الإنسانية» المرئية في المستعمرات الاستيطانية من خلال علامات العرق والعنف والقوة، فضلاً عن تكييف النظرية الماركسية مع الخصوصية التاريخية للعلاقات الاستعمارية. من أجل فهم طبيعة الانقسام الاستعماري، يذكر فانون الآتي — ومن ثمّ يتجاوزه:
«في المستعمرات، تُعتبر القاعدة الاقتصادية التحتية أيضًا بنية فوقية. السبب هو النتيجة؛ أنت غني لأنك أبيض، أنت أبيض لأنك غني. لذلك يجب توسيع التحليل الماركسي قليلاً عند التعامل مع المشكلة الاستعمارية».
هل يقصد فانون أن كل البيض المستعمِرين أغنياء وكل المستعمَرين فقراء؟ يُظهر تحليله في «معذّبو الأرض» حدود هذا المنطق وكيف يجب التغلّب عليه ليأخذ المسار الاشتراكي للقضاء على الاستعمار مكانه. يحجب العرقُ التقييمَ السياسي في المستعمرات. كما يقول فانون: «المستوطن ليس مجرّد رجل يجب قتله. يكشف العديد من جماهير المستعمِرين عن أنهم أقرب بكثير إلى النضال الوطني من بعض أبناء الأمّة». تتجلّى هذه الحقيقة من خلال مسار النضال الثوري الذي يتحدّى التوزيع غير المتكافئ للرفاه البشري ومستويات المعيشة والمساحة في المدن الاستعمارية الاستيطانية. في هذا المسار، يصبح العرق شيئًا يجب تجاوزه، وليس تجسيده.
يتم توسيع التحليل الماركسي إلى المستعمرة من خلال أخذ آليات البنية الاستعمارية بعين الاعتبار: من خلال تحليل طبقي يُجرى خلال المسار التاريخي للثورة الوطنية. يخصّص فانون الفصل الثاني من الكتاب «العفوية: نقاط قوّتها وضعفها» لتحديد وقياس وزن القوى الاجتماعية المختلفة المعنية. هنا يجد معظم الأسباب التي تجعله ينأى بنفسه عما يستلزمه التحليل الماركسي للرأسمالية في مدينة أوروبية أكثر تقدمًا اقتصاديًّا. مثل العديد من الاشتراكيين الثوريين في العالم الثالث، تمثّلَ التحدّي الذي أطلقه بنقل الأعمال المتميّزة للرأسمالية في المستعمرات واقتراح استراتيجية محدّدة تاريخيًّا لتحويلها.
تستند نظرية فانون عن المسار الثوري إلى بعض الحقائق التاريخية الرئيسية.
أولاً، رفضت الأحزاب الشيوعية في كل من فرنسا والجزائر الاستقلالَ السياسي الجزائري لفترة طويلة تحت ذرائع مختلفة تتراوح بين محاربة التقليدية في المجتمع العربي والدعوة إلى إصلاحات سياسية تدريجية في المستعمرة. وهو ما شوّه الشيوعية سواء بالتناقض السياسي في أحسن الأحوال، أو الازدراء الاستعماري في أسوئها. ثانيًا، كان الفلاحون يمثّلون الطبقة الغالبة في الجزائر في ذلك الوقت (وفي العالم الثالث عمومًا). تتمثّل تحدّيات مفهومه بوجود حركة سياسية مبنية على الثورة البروليتارية، وبروليتاريا تقود «حفّاري قبر» الرأسمالية (كما وصفها كارل ماركس وفريدريك إنغلز في «البيان الشيوعي»). لقد أظهرت الثورة الروسية في مطلع القرن العشرين أن استنباط نتائج اشتراكية في مجتمعات متخلّفة اقتصاديًّا، حيث يكون العامل الأساسي للاشتراكية طبقة أقلية، يمثّل تحديًا سياسيًّا حقيقيًّا. وهذا ما ينطبق على المستعمرات. من يستطيع أن ينقل المجتمع الاستعماري إلى ما بعد الرأسمالية؟ كان هذا أحد الانشغالات الأساسية للماركسية في القرن العشرين، خصوصًا أن جميع الثورات الاشتراكية الناجحة حدثت خارج البلدان الرأسمالية المتقدّمة: في روسيا وليس في ألمانيا؛ في كوبا وليس في الولايات المتحدة. إن «توسعة» فانون للتحليل الماركسي تقدّم حلًّا لهذا اللغز.
في مواجهة البنية الاجتماعية للجزائر المستعمَرة، يقدّم فانون الاستنتاجات الآتية. بما أن البرجوازية الحضرية والطبقة العاملة دُمِجتا في الاستعمار، كما يعتقد، يجب على القيادة الراديكالية للثورة أن تنظر إلى الريف بحثًا عن بدائل. هناك، يشكّل الفلاحون كتلة معادية للاستعمار ومتأثّرة سلبًا بالنهب الاستعماري. أمام العجز في تجاوز أشكال التمرّد الأولية والمتنوّعة، تصبح مقاومة الفلاحين في حاجة ماسّة إلى الانضباط والتنظيم الوطني الذي لا يمكن إلّا لقيادة راديكالية أن تحقّقه. من خلال مسار تعلّمي متبادل بين القادة والجماهير، يُرسى أساس الحرب الثورية. إن دور البروليتاريا الرثّة غامض ومتناقض، لكنه مع ذلك مهمّ لسحب الثورة من الريف إلى المدينة. بينما يرسم مسار العملية الثورية، يؤكّد فانون أن الثورة توحّد القرى والبلدات والمدن من خلال تشكيل «وطني»: «هذه السياسات وطنية وثورية واجتماعية، وهذه الحقائق التي سيعرفها المواطنون الآن تنوجد فقط خلال العمل». يختم فصله عن «العفوية» بهذه الإدانة الموصوفة لحركة الاستقلال البرجوازية التي يجب على الممارسة الثورية التغلّب عليها:
«من دون ذلك النضال، ومن دون تلك المعرفة بالممارسة العملية، لن يبقى سوى المواكب المتألّقة وصوت الأبواق. لن يبقى إلّا الحدّ الأدنى من إعادة التكيّف وبعض الإصلاحات في المراكز العليا وتلويح بالعلم: وفي القعر، تلقى كتلة متّحدة، لا تزال تعيش في القرون الوسطى، وتهدر وقتها إلى ما لا نهاية».
إقصاء البروليتاريا المدينية
في حين أن نقد فانون للبرجوازية الوطنية ورؤيته الاجتماعية التحرّرية نموذجيان، إلّا أنه يمكن نقد مساره في الممارسة الفعلية الرافض لقوة الطبقة العاملة. في الواقع، يطوّر «معذّبو الأرض» مفهوم البروليتاريا المدينية الاستعمارية التي تعكس الأرستقراطية العمّالية لفلاديمير لينين. إذا كانت الأرباح الإمبريالية قد استُخدمت لتقسيم الطبقة العاملة في الداخل وخلق طبقة أرستقراطية عمّالية موالية للنخبة الحاكمة بالنسبة إلى لينين، كذلك فإن الاستعمار يؤدّي دورًا مشابهًا بالنسبة لفانون في ما يتعلّق بالعمّال المستعمَرين، لا بل تعكس لغةُ فانون تحليل لينين، من دون ذكره بالاسم، وهو ما يظهر بقوله:
«تتمتّع البروليتاريا المولودة في المدن بمكانة متميّزة نسبيًّا. في البلدان الاستعمارية، يمكن للطبقة العاملة أن تخسر كل شيء. في الواقع، إنها تمثّل الجزء الضروري من الأمّة المستعمَرة، والذي لا يمكن تعويضه إذا كان للآلة الاستعمارية أن تعمل بسلاسة: إنها تضم سوّاق حافلات الترام وسيارات الأجرة، وعمّال المناجم، وعمّال الموانئ، والمترجمين، والممرّضات وما إلى ذلك».
يطلق فانون على هذه البروليتاريا المدينية اسم «الجزء البرجوازي من الشعب المستعمَر».
بغضّ النظر عما إذا كانت نظرية لينين عن عمّال المدينة صحيحة أو لا، فإن إقصاء فانون للطبقة العاملة المستعمَرة أكثر جزمًا منه بكثير. إنه لا يَستخفّ بالبروليتاريا المدينية بأكملها من الناحية السياسية فحسب، بل يَنظر إليها أيضًا على أنها منتج استعماري مدلّل يفتقر إلى القوة السياسية ومدفوع حتمًا بالمصلحة الاقتصادية الخاصة الضيّقة. هل كان ذلك صحيح تجريبيًّا؟ هناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى العكس.
لكن كان الأمر صحيحًا بشكل خاص بالنسبة للجزائر، حيث صدرت البروليتاريا المدينية عن العمالة الريفية الفقيرة المعدمة، التي نتجت بشكل مباشر من مصادرة الاستعمار الفرنسي للأراضي وتحويل مالكيها إلى عمّال. وإذا كان دورها خلال النضال القضاء على الاستعمار في خمسينيات القرن الماضي، بدا متواضعًا بالنسبة لفانون، فذلك هو انعكاس للقمع الاستعماري الفرنسي في المدن، فضلاً عن افتقار العمّال المدينيين إلى النفوذ الحقيقي في المجتمع الاستعماري الفرنسي الذي يعتمد بشكل أساسي على عمّاله من المستوطنين. نظرًا إلى أن الاقتصاد الاستعماري فرض قيودًا شديدة على العمالة الجزائرية ورفاهها المادي، غادر العمّال الجزائريون إلى فرنسا بمئات الآلاف. كما يجادل محفوظ بنون خلال سرده تاريخ الجزائر، فإن هجرة اليد العاملة إلى فرنسا نتجت من الإقصاء الاقتصادي: «لم يكن الاقتصاد الاستعماري قادرًا على تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الجزائريين»، وكان لهذه الهجرة نتائج اقتصادية وسياسية مباشرة تضمّنت التطرّف السياسي في المركز الذي يحظى بمزيد من الحريات السياسية. أصبح القضاء على الاستعمار وتحقيق الاستقلال الجزائري هدفين رئيسين لـ«أول حركة وطنية للطبقة العاملة الجزائرية»، «حزب نجم شمال أفريقيا»، الذي تأسّس في باريس في العام ١٩٢٦ ثم «انتقل» إلى الجزائر. «لقد أدّت تجارب هؤلاء العمّال المقتَلعين من جذورهم إلى ظهور الحركة الوطنية الأكثر راديكالية في الجزائر الاستعمارية». لذلك، على عكس ما يقوله فانون، إن ارتباط الطبقة العاملة المدينية مع النضال الوطني ومساهماتها فيه واضحان.
يهمل فانون نقطة مهمّة أخرى تتعلّق بقوة الطبقة العاملة. هناك صلة مباشرة بين طبقة عاملة مدينية صغيرة ضعيفة ومشاكل تحقيق الاشتراكية في المجتمعات المتحرّرة. إن توسيع نطاق الماركسية لا يمكن أن يتجاهل الحقائق السياسية الرئيسية. إذا كان فانون يفهم مشاكل البرجوازية الوطنية الصغيرة جيّدًا، فإنه يفشل في رؤية تأثير الضعف البنيوي للبروليتاريا على دمقرطة القوى خلال القضاء على الاستعمار، ودوره في زيادة العقبات أمام الاشتراكية. من دون السيطرة الديموقراطية للعمّال وفرض نفوذهم على قيادات التحرير، تقوى أشكال الحكم البيروقراطية وتتعزّز قوة البرجوازية الصغيرة. وكما قال مايكل لووي، إن استبدال البرجوازية الصغيرة واحتواء التطلّعات الثورية يؤدّيان إلى إحياء البرجوازية: إنها «مرحلة انتقالية نحو استقرار برجوازي جديد وتجديد التبعية للإمبريالية».
تقدّم مارنيا لزْرَق هذا الاحتمال السياسي في ما يتعلّق بالجزائر، وتجادل بأن البرجوازية البيروقراطية الصغيرة لجبهة التحرير الوطني، أثناء وبعد النضال من أجل الاستقلال، قوّضت الأشكال البديلة لقوة العمّال والفلاحين. واختارت أيضًا الاشتراكية وحوّلتها إلى أيديولوجية دولة للحكم الاستبدادي، ما مهّد الطريق لإحياء سلطة البرجوازية: «من هنا جاءت سياسة تشجيع وحماية رأس المال الخاص الجزائري». وجّهت القوى اليسارية داخل جبهة التحرير الوطني وخارجها (مثل حزب العمّال للثورة الاشتراكية) نقدًا قويًّا لسياسات جبهة التحرير الوطني السياسية والاقتصادية التسووية، ودعت إلى تعبئة العمّال والفلاحين من أجل مأسسة الاشتراكية الجزائرية ودحر قوّة الفصائل البرجوازية. لكنهم لم يكونوا منظّمين وتعرّضوا للقمع، ما أدّى إلى تعزيز القوى المعادية للثورة — وجعل إحياء الرأسمالية من قبل البرجوازية بعد الاستقلال الجزائري أمرًا شبه مؤكّد. وهذا هو الاحتمال الذي يحذّر منه كتاب «معذّبو الأرض».
***
ما قيمة «معذّبو الأرض» اليوم بعد مرور ستين عامًا على نشره؟ «معذّبو الأرض» ليس الكتاب المقدّس، واليسار ليس كنيسة غارقة في العقيدة. مع ذلك، لا يوجد أي لبس في الأهمية السياسية للكتاب، بل لديه قيمة خاصة لدى الراديكاليين والاشتراكيين المتحمّسين لمناهضة الاضطهاد العنصري والظلم الاجتماعي اليوم. لا يرتبط ذلك في تحليله الطبقي لإنهاء الاستعمار ورؤيته الاشتراكية للتحرر فحسب، إنما أيضًا في الروابط الدائمة بين السيادة الشعبية ومعاداة الرأسمالية والإمبريالية. قراءة «معذّبو الأرض» اليوم تعني الاعتراف بأن الاشتراكية كانت تاريخيًّا طريقًا محتملاً للخروج من الرأسمالية الاستعمارية وقد تمّ إغفالها، وأنّ التصدّي للعنصرية وانعدام المساواة العالمية يكمن بالحفر عميقًا في البنية التحتية المادية التي يولّدانها، وتحوّل هياكل السلطة من خلال ممثّلين لديهم القدرة والمصالح للتصدّي لها. أخيرًا، يتمثّل النشاط الأساسي للأمميين في تحديد ما هو مشترك بين الهويات المنفصلة بدلاً من تضخيم ما هو المختلف بينها. هنا، إن بناء أشكال التضامن العابرة للقوميات أمر حاسم لتقويض أشكال الحكم القائمة على قومية النخبة والتعاون بين النخب في الرأسمالية العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، يحقّق «معذّبو الأرض» التوازن الصحيح بين الثقافة والسياسة. بدلاً من تضخيم أهمية الهويات الثقافية «حول الأغاني والقصائد أو الفولكلور»، أصرّ فانون على أن النضال السياسي هو مادّة أساسية للثقافة:
«لا يمكن لأحد أن يتمنّى بالفعل انتشار الثقافة الأفريقية إذا لم يقدّم دعمًا عمليًّا لخلق الظروف اللازمة لوجود تلك الثقافة؛ بعبارة أخرى، لتحرير القارّة بأكملها».
تتألق مادية فانون هنا أيضًا: الظروف المادية والعلاقات الاجتماعية لها الأسبقية على الممارسات الثقافية للأجيال السابقة. الثقافة تتطلّب حرّية، والحرية تتطلّب سياسة. لا توجد أي طريقة لاختصار النضال السياسي من أجل التحرير بالثقافة. وهذا ما يفسّر توجّه فانون نحو إنشاء مجتمع إنساني جديد في المستقبل. ما يهمّ هو سياسة راديكالية للثقافة — وليس سياسات ثقافية.
إعادة إنتاج فانون في لحظتنا المعاصرة تعني ابتكار تحليل مادي لعالم الجنوب متجذّر في مقولات مثل «الطبقة» و«رأس المال»، وأن نكون مدركين تمامًا لتحديات القوة السياسية الراديكالية في عصر الرأسمالية النيوليبرالية. في عالم يتزايد فيه انعدام المساواة العالمية، ويستخدم اليمين باستمرار أيديولوجيات التباين الثقافي لتبرير المنافسة والمزاحمة، وحيث تدمّر الحقوق العالمية والمعايير الدولية للعدالة من قبل الدول القوية باسم الأمن العالمي والدفاع عن النفس. في مثل هذا العالم غير المتكافئ، لا شكّ في أن فانون يظهر بما هو شخصية معارضة تلهم جيلاً جديدًا يبحث عن أسلاف اشتراكيين وعن نماذج سياسية راديكالية. إن أصداء إيمانه بالمنطق والمقاومة والوعي الثوري تتردّد عبر العقود. ومن المؤكد أن معارضة فانون الراديكالية للنظام السياسي والاجتماعي في عصره تستحق الدراسة والدفاع عنها في أيامنا هذه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.