تسعى هذه المداخلة١ إلى النظر في/ إلى البحر المتوسط من اليابسة؛ وتحديدًا من الساحل الفلسطيني وذلك من خلال بعض نماذج الفن التشكيلي الفلسطيني خلال الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن الواحد والعشرين.
يؤسس النظر من اليابسة هنا طرحًا معاكسًا لعمليات الاستدلال في البحر Navigation، التي يفترضها الاقتباس أعلاه، والتي تأسست عليها أشكال الهيمنة البحرية على المتوسط منذ قرون، والتي تدفع فيها اليابسة الكثيرَ من أثمان تلك الهيمنة. فلا نبحث هنا عن أثر اليابسة في البحر كما أشار جون هوث، بل العكس، نبحث عن أثر البحر في اليابسة، محاولين التساؤل: بما أننا كشعوب شرق المتوسط، وتحديدًا الفلسطينيين — موضوع المداخلة هنا — من شعوب هذا البحر: أين يبدأ وأين ينتهي، وما حصتنا فيه؟ وهل يمكنه أن يعلن عن نفسه فينا من «مسافة معتبرة»، والمسافة التي نعنيها هنا هي الحيز الاجتماعي والتاريخي والسياسي.
في مؤلّفه «تراتيل متوسّطيّة»، يخبرنا بريدراك ماتفجيفتش عن هذا «البحر العظيم»٢، فيقول: ليس ضروريًّا أن نتعرّى في البحر من أجل انتزاع حقنا في القول فيه، فالمتوسط بنفسه يتعرّى أمام زائريه، كي يمنحهم فرصة الحديث عنه. ويشير إلى أن لكلّ واحد يكتب عن المتوسط أو يُبحر فيه، سببًا شخصيًّا.
فلسطينيًّا، هل ثمة ما هو أكثر خصوصية من فقدان هذا البحر، وانتزاع الحق في البحر — واليابسة معًا — سببًا للكتابة عن المتوسط وساحله، وهو فقدانه وفقدان هذا الحق في التعري أمامه وفيه.
لعلّ سياسات النظر إلى البحر بالنسبة إلى الفلسطيني/ة، بعد انتزاع البحر واليابسة منه، تصبح فعلاً نظرة مقاومة، وليس نظرة جماليّة فقط. والنظر هنا ليس مصدرًا للمعرفة، فحسب، لكنه يحمل احتماليــــــــــــــــــــــــــــــــةـ هامة للعصيان المعرفي Epistemic Disobedience.
تشكّل هذه المداخلة محاولة لفهم كيف نظر الفلسطينيون والفلسطينيات إلى البحر، وماذا رأوا انطلاقًا منه. وكيف يمكن للنظر من اليابسة أن يُعتبر مدخلاً لموقعية Positionality لها دور في إنتاج معرفة تساهم في دراسة تمثلات المكان/ الجغرافيا والزمان/ التاريخ، واستعادة الحق فيهما.
نتتبّع أثرًا للمتوسط في الفن التشكيلي الفلسطيني خلال تلك الفترة، التي تتقاطع فيها سلطة الدولة العثمانية والانتداب، وأخيرًا النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. والساحل هنا هو نقطة ارتكاز تمكّننا من النظر إلى التاريخ الفلسطيني (وفي بؤرته كحدث رئيسي النكبة) عبر الحمولات التعبيرية البصرية والتأويلية الجمالية للبحر، والتركيز على حمولاتها السياسية والاجتماعية والتاريخية.
الساحل كحدّ والحدّ كاستعارة
لطالما كان ترويض ساحل المتوسط أمرًا حديثًا نسبيًّا في تاريخ البحر٣. ولعل كتاب «استغواء البحر» (١٩٩٤) للمؤرخ الفرنسي آلان كوربان، يشير إلى الهاجس الذي مثّله البحر في ثقافات شعوب المتوسط، فهو مصدر الطوفان والخراب والدمار والطاعون. ويشير كوربان إلى العديد من الأساطير التي تحكي هروب قبائل الساحل إلى الجبل خوفًا من غدر البحر٤. لعل المسافة التخيلية بيننا وبين البحر تفسر، أو تشارك في تفسير، أدبيات الخوف من البحر في المخيال الثقافي لشعوب ساحله الشرقي، إذ إن كثيرًا من قرى وبلدات الساحل الفلسطيني بُنيت على مسافة خمسة إلى ثمانية كيلومترات عن شاطئ البحر. نرى ذلك بوضوح في القرى الواقعة إلى الجنوب من مدينة يافا٥: يبنة، أسدود، عرب اسكير، وحمامة والمجدل، أما القرية الوحيدة المتاخمة لحدّ البحر فكانت الجورة، وهي بلدة صيادين كما هو الحال مع جسر الزرقاء. لكن اللافت أنّ أغلب بيوت تلك القرى بُنيت واجهاتها في مواجهة الشرق، مديرةً ظهرها للبحر٦. هذه التركيبة في العلاقة مع البحر، والاطمئنان له إلى حدّ تصويره بشكل سلبي وغير فاعل في علاقات السكنى، وكذلك في الفن التشكيلي الفلسطيني، لا بد أن تثير فضول الملاحظ/ة، خصوصًا أنّ هذا التجاهل أو الاطمئنان إلى البحر، غفلا عن أحداث أساسية مرّت من خلاله، كالاستعمار وموجات الهجرة اليهودية، والتهجير (وليس الهجرة) الفلسطيني، عبره.
هذه المسافة من المتخيل بين اليابسة والبحر، هي الساحل. من هنا، شكّل الساحل حدًّا استعاريًّا، مهمّته ضبط أشكال المعرفة والتجربة المتعلقة بين طرفي الحد؛ اليابسة والبحر. وهذه المهمة الضبطية والإنتاجية أقرب ما تكون إلى مقولة ماكس فيبر «نزع السحر عن العالم»، والتي قدّمها من خلال محاضرته الشهيرة «العِلم كحرفة» (شتاء العام ١٩١٨/ ١٩١٩). ونزعُ السحر عن العالم هو محاولة منح المغلوبين فرصة لبناء علاقة (ما) مع العالم. وهنا العالم يتمظهر من خلال المتوسط وأحداثه الجسام. وعليه، تتجلى أهمية الساحل كشكل من أشكال بناء نقطة ارتكاز خارج البنية الثنائية للجبل والساحل أو القرية والمدينة أو حتى اليابسة والبحر، أو لبناء مقاربة تقع خارج بينة السلطة التي تعاقبت على الساحل الفلسطيني منذ العام ١٨٥٠ حتى الآن. وفي هذا الحيّز الحدّي بين كل تلك الثنائيات نتأمل البحر باعتباره استعارة تؤسس للفهم ولإنتاج معرفة مضادّة.
يوجب الربطُ بين الاستعارة والحدّ علينا أن نعود إلى ما قدّمه جورج لايكوف ومارك جونسون، في كتابهما «الاستعارات التي نحيا بها»، إذ يقولان: «بما أن عددًا كبيرًا من التصورات المهمة لدينا هي إمّا تصورات مجرّدة أو غير محددة بوضوح في تجربتنا (مثل المشاعر، والأفكار، والزمن، إلخ) فإننا نحتاج إلى «القبض عليها» من خلال تصورات أخرى نفهمها بوضوح (مثل التوجّهات الفضائية، والأشياء، إلخ) وهذه الحاجة تُدخِل الحد الاستعاري في نسقنا التصوري»٧. من هنا نرى أهمية الساحل باعتباره حدًّا يمكّننا من فهم البحر واليابسة معًا، وما ظهر منهما إلينا وكيف. والفن التشكيلي منفذُنا إليهما، وتربّصنا بتمثلات الساحل هو تربّص به بما هو «الحدّ» كفضاء إبستمولوجي قائم بذاته، بين فضاءين آخرين، بقدر ما يؤسس لتعريفهما ومتخيّلهما ومعنى كلّ منهما، فهو يساهم كذلك في تعريف نفسه باعتباره الخروج الدائم عليهما كثنائيّة متقابلة.
البحر بين القرية والمدينة
لعلّ ثنائية القرية والمدينة هي إحدى الثنائيات الحداثية الأكثر نهمًا والتي ساهمت في استلاب فلسطين وساحلها، ليس فقط في مواجهة المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية، لكن أيضًا الانتداب البريطاني. ولعلّ هذا الأمر هو ما أوقع الفلسطينيين/ات في تأمل الحداثة وثنائيتها (المدينة والقرية) من دون «فك السحر» عنها، حتى ولو كان هذا السحر حاضرًا برسم العودة والمقاومة، وهو ما سمح للعديد من سياسات الغياب والطمس الحداثي أن تمرّ على حساب الجسد والمكان الفلسطينيين٨، بالتركيز على الخروج من القرية دون المدينة.
بالنظر إلى تمثّلات القرية في الفن التشكيلي الفلسطيني، لا تحضر القرية باعتبارها مساحة للفردية الذاتية، إنما مساحة اجتماعية جمعية تظهر فيها الجماعية الفلسطينية وترتسم حدودها. لعل أعمال إبراهيم غنّام في السبعينيات: «الدبكة في الياجور»، و«الحصاد»، و«موسم قطف الزيتون» تمثل نموذجًا واضحًا لهذا الأمر. حضور الجماعية في القرية هو استعادة لذاكرة الفلسطيني الجماعية، لا الفردية، وشكل من أشكال مقاومة القطيعة والانفصال، والأهمّ، استعادة حدود الجماعة وأدوار الأفراد المترابطة. «الذاكرة بعد انفراط عقد الجماعة هي أيديولوجيا»٩، ونضيف أنها استعادة لمكانية وزمانية ما فقدتها، وهي في الحالة الفلسطينية استعادة مرتبطة عضويًّا بفضاء القرية العام وليس الخاص.
يتّضح هذا الانفصال جليًّا في نماذج الفن التشكيلي عن القرية مع البحر والساحل، فالبحر غائب تمامًا، ولا فضاء للتفاوض بينه وبين القرية. فالفضاء العامّ القروي لا يسمح بعمومية مقابلة وندّية له، وهي الساحل، إلا من خلال طقوس التأكيد على الجماعة القروية كما هو الأمر مع نماذج مثل «موسم النبي صالح» لإبراهيم غنّام. وهنا، علينا أن نتبع رايات الأعياد المرتبطة بالأنبياء، وعلاقتها بالساحل والجماعية الفلسطينية وترسيم حدودها.
بعد الاحتلال البريطاني لمدينة القدس عام ١٩١٧، قرر الحاكم العسكري رعاية موسم النبي موسى بشكل رسمي من خلال مشاركة فرقة موسيقية عسكرية وحرس شرف فيها. وكان منطق المحتلّين يقول إن رعايتهم للموسم تشكل تواصلاً مع سياق السلطة العثمانية السابقة، وتظهر احترامًا للتقاليد الإسلامية من جانب جيش أوروبي محتلّ. إلا أن جماعية الفلسطينيين في هذا الطقس أطلقت ثورة النبي موسى العام ١٩٢٠، فتأكدت أهمية احتواء العيد، حتى بعدما روّجت السلطات البريطانية فيلمًا دعائيًّا في العام ١٩١٩، ووصِفت الأعلام حينها في مراسلات الضباط الإنكليز بأنها رموز خطرة، إلى أن اختفت تمامًا من الذاكرة الجمعية.
ما حدث للعَلم١٠ حدث للساحل، فالمشهد في لوحة غنّام هو مشهد مواجهة قروية لا تحدث بين فضاءين عامّين: البحر والقرية. كلاهما أخفي من الذاكرة البصرية. نكاد لا نجد أي مشهد قروي للبحر في الفن التشكيلي الفلسطيني. بات البحر استحواذًا مدينيًّا «إلى حدّ أن ابتلع فيه تاريخ المدن الساحليّة ذاكرةَ ريفها»١١.
إن غياب البحر من أغلب مشاهد الفن التشكيلي١٢ عن الريف والقرية — في أعمال نقولا صايغ، إبراهيم غنّام، فتحي غبن، إسماعيل شموط، داود زلاطيمو، جمانة الحسيني، وغيرهم — صاحبْته ظاهرة أخرى مركزية يمكننا مشاهدتها، على الناحية المقابلة من تلك الثنائية، وهي المدينة.
تحضر المدينة في المشهد التشكيلي الفلسطيني بشكل ندّي للبحر، كما في أعمال روفين روبن خلال عشرينيات القرن المنصرم «جزء من يافا القديمة» و«صورة شخصية في تل أبيب» وأعمال داود زلاطيمو «ساحل عكا». وهذا الحضور المديني الندّي ليس معنيًّا بالجماعية الفلسطينية، لأن المدينة قائمة بذاتها كهوية مستقلة، حتى أن العديد من هذه الأعمال تناولت المدينة من دون شخوصٍ فيها.
العامّ والخاص
ويمكننا هنا أن نتعقب بالبحث ظاهرتين حداثيتين: تمثلات الحيّز العام والخاص والحداثة المدنية/ الحضرية في مدن الساحل كمقولة استعمارية.
بالنسبة للعامّ والخاص، ارتبط انكشاف الفضاء الخاص في الفن التشكيلي بالمدينة، على حساب الذات/ الجسد الفلسطينيَّين. فكما كان الخاص مشهدًا جمعيًّا وليس حميميًّا فلسطينيًّا في مشاهد القرية — «الطهور» لإبراهيم غنّام، وغيرها — فإنه في حالة العلاقة المدينية مع الساحل، يمكن رؤية نديّة الفضاء الخاص المديني في مواجهة الساحل، وهو ما يقع ضمن مقولة الانفتاح التي أسست لها حداثة الاستعمار ومدنه.
في عملها المعنون «يافا»، تقدّم صوفيا حلبي مشهدًا للبحر اليافي من مساحة خاصة تظهر المدينة ونديّتها مع البحر، خالية من أي شخص. كذلك الحال مع «ميناء يافا القديمة» لروفين روبن، والتي يظهر فيها الميناء من دون أي وجود جسدي فلسطيني. أمّا في «بورتريه في ساحة البيت، تل أبيب» فيقدم روبن مساحة خاصة يظهر فيها أحدهم يرسم، على أنّ الحدث المركزي ليس كثيفًا كما هو الحال في مشاهد القرى الساحلية. فالفضاء في أعلى الصورة مفتوح على البحر، وثمة من يرتاح ويمدّد جسده على الساحل، وكأنّ انفتاح الساحل والبحر للفلسطينيين، كان مرتبطًا حصرًا بالمدينة، وهو أمر يمكننا تتبّعه إلى مقولة أساسية من مقولات الاستعمار وهي أنّ الحداثة الاستعمارية هي التي فتحت البحر ومساحاته العامة للفلسطينيين، وخفّفت الحدة بين العامّ والخاص.
إنّ طمس الجسد الفلسطيني من الذاكرة البصرية المدينية الساحلية يتعلق بالأساس بالسياسات البصرية للذاكرة والنسيان، فـ«التذكر متعلق ضمنيًّا بالجسد الإنساني»١٣. ما حدث أننا في ذاكرتنا كفلسطينيين فقدنا الحق في المدينة والبحر، وليس القرية وحدها.
ثمة مشهدان تشكيليان فلسطينيان أساسيان في العلاقة مع البحر والساحل، يحضران بكثافة في الذاكرة البصرية الفلسطينية؛ الأول، لوحة «سقوط يافا» لتمام الأكحل، وفيها تتجسّد النكبة والتهجير البحري من يافا، إلا أنها لوحة تجسد كثافة زمنية للخروج الفلسطيني، وكأنها — وهي كذلك فعلاً — مشهد لا قبله علاقة مع البحر ولا بعده سيبقى بحر. هنا تنهار كل مقاربات الزمن التشكيلي، هي لحظة خروج بكل ذاكرة النكبة الفردية والجمعية، وتكثيف للمخيال الجمعي الخائف من البحر برغم أنه بدا مطمئنًّا له. والثاني هو خروجٌ أيضًا، إنما للعائلة المقدسة إلى مصر لنقولا صايغ في العشرينيات، وفي اللوحة تعاطٍ مع الساحل والبحر إنما برسم القطيعة. يبقى أن نشير إلى أعمال فنية ثبتت البحر دون ساحل، وكأنه وجد فجأة في المشهد، كأعمال توفيق جوهرية قي النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
عن الحاجة لتأريخ الفن، فلسطينيًّا
لعلّ غياب مبادرات أرشفة فلسطينية للفن جزءٌ من مصيبة الفلسطينيين/ات في تاريخهم، إذ ثمة حضور طاغٍ للسياسي في ما يتعلق بالذاكرة والخيال والجماليات، يؤخر أي مقاربة متداخلة الحقول لأي حقل معرفي أو فني فلسطيني. في ظل كلّ هذه الكثافة هل يمكننا اعتبار الفن التشكيلي وثيقة تاريخية، بما أننا خارج الأرشفة، مكانيًّا وزمانيًّا؟
ينطلق التساؤل من قدرتنا على اعتبار الساحل أو غيره من بنية المكان، والحالة الفلسطينية نقطة ارتكاز لخلق جسد سياسي معرفي أخلاقي يُمكننا من إنتاج معارف وجماليات نازعة للكولونيالية، ليس فقط على المستوى المادي المباشر، لكن أيضًا على مستوى الاستعارة والمخيال. إذ لا نستطيع دراسة النظام الاستعماري في فلسطين، ضمن شروط تحررية، من دون بناء استعارات ومجازات غير تلك التي يعطينا إياها. ولعل الدراسات الثقافية أولى تلك الأدوات، والفن التشكيلي نموذجها الأساسي هنا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.