حين يشرح الكتّاب مهنتهم يبدون كلاعبي أكروبات في سيرك، يستجدون تعاطفًا من جمهور لا يفقه شيئًا عن السيرك وقوانين التوازن، كما لا يفهم روعة القفز والسير على الحبال. كل ما يطلبه الجمهور من لاعب الأكروبات ممارسة بهلوانيته بتشكيلات جديدة، تمتّع ناظريه، ومتابعة السير على الحبل الرفيع دون أن يقع، كي تشهق القلوب معه. بينما الكتّاب يسعون بأقدامهم كي يقعوا في حفر عميقة، مظلمة، لا يُخرجهم منها أحد سوى وهج الكتابة حين تستسلم كامرأة على سرير من حرير لأصابع كاتب، الشيء الوحيد الذي لا يتقنه في الكتابة الحديث عنها.
***
أحسد الرسامين.
يستطيعون رسم آلاف اللوحات خلال حياتهم، وبالتالي يحق لهم ارتكاب آلاف الأخطاء، لديهم آلاف الفرص للتجريب، واختيار الألوان والمواضيع، كل لوحة هي اكتشاف جديد للذات والآخر، بينما الكتّاب، خصوصًا الروائيين منهم، يقضون أوقاتًا طويلةً مع نص واحد، يتحدّاهم، يشعرهم دومًا بالنقصان، وبعد الانتهاء من كتابة أي رواية يشعر الكاتب بوقوعه في فخ النشر المتعجل، حتى لو انتظر سنين طويلة. ببساطة لا اكتمال في الكتابة عمومًا والرواية خصوصًا.
***
الوحدة تقدم آلاف الفرص والأفكار للكاتب، لكنها تمضي دون أن يستطيع التقاطها وغربلتها، بالتالي لا تثمر.
يجب طرد الآخرين أولاً من النص ومن حياة الكاتب، بنفس الطريقة التي يُنظف فيها الحقل من الأعشاب السامّة قبل حرثه وبذاره.
***
كل ما يصنع النص الروائي يجب أن يغيب عنه، الألم والصمت، التأمل وآلاف اللحظات المدمرة، لن تقدم شيئًا للرواية بل ستحولها إلى حقل من الدموع، وسماء مليئة بالنحيب والآهات، ستمطر حبّات مطر لا ماء فيها، إن سرتَ تحتها لن تتبلّل.
***
الأقسى من الكتابة انتظارها.
انتظار لحظة إشراق الأفكار كي تأتي طائعة إلى بياض الصفحات، انتظار التسامح الذي تبديه الشخصيات، وتبدأ في الإفصاح عن مكنوناتها وأسرارها وقبولها نسج علاقاتها في ما بينها بحرّية وديموقراطية ونكران لا مثيل له للذات. كمسافرين على سطح سفينة تعبر المحيط، يتبادلون الأنخاب وساحة الرقص، متحاشين الحديث عن خوفهم من مفاجآت العواصف والتيارات البحرية، إحساسهم بأن مصيرهم قد أصبح متشابكًا، ولّد لديهم شعورًا بالانتماء إلى هذه المجموعة الصغيرة، كلما اشتد الخطر أصبحت ذكرياتهم وأسرارهم قابلة للتداول.
انتظار الكتابة يشبه اللحظات المدمّرة التي تجعل من الكتابة وهمًا لا يفصح عن حقيقته بسهولة.
***
اللغة قابلة للتصنيع والتغير بأشكال مختلفة، لكن لمرة واحدة، اللغة تقدم خصائصها ورحابتها لكل الكتّاب بالتساوي، لكنها تعشق الصانع الأمهر.
***
عدم الابتعاد عن الأوراق، عن محترف الكتابة، عن الصمت، عدم الإحساس بأي واجب، السكون، المفاصل المشبعة بالكسل والراحة — كلها مفردات ضرورية لبدء الكاتب يوم عمل جديدًا.
***
تغيير الأمكنة رياضة روحية خاصة، لا يتقنها المولعون باحترام العادات.
الروائيون من أكثر الأشخاص الذين لا يحترمون العادات خارج أوقات عملهم.
***
لماذا لا أكتب كل ما أراه جديرًا بالكتابة فورًا، لماذا أتركه يتسرّب إلى الذاكرة كي أكتبه بعد عام أو عشرة أعوام.
امتحان الكتابة أم امتحان الحواس؟
***
كل ما نراه، كل ما نشمّه، ما نحس به ونلمسه
نتركه ينسرب من بين أصابعنا إلى الذاكرة
نترك كل شيء لامتحانات الزمن
كأننا ننتقم من تفاصيل حياتنا ردًّا على انتقام التاريخ من كتبنا.
***
كل حياتي السابقة وقْع أقدام ثقيلة على بلاط بارد.
كل حياتي السابقة للكتابة ضجيج، لا أجد مبررًا له الآن سوى بأنه كان يجب أن يعاش، يجب أن تسير هذه الأقدام بوقعها المزعج كي تصل إلى الصمت.
***
إذا كنت تبحث عن فكرة لرواية، فأعدْ ذاكرة طفولتك إلى الشوارع، افرد أسرارها المخجلة ولا تتشبث بالأخلاق.
ابدأ من أعلى درجات الزندقة، لا تجمّل ما حولك، كن ساخطًا على كل شيء، على العائلة والوطن والأصدقاء والمرأة التي تحب، والطعام الذي تشتهي.
كن ساخطًا ولا قدرة لك على الكلام.
كن ساخطًا ولا قدرة لك على الصمت.
اعتبِر الجملة الأولى قضية حياة أو موت
ركز حاضرك وماضيك ومستقبلك على الجملة الأولى، وادخل في رهانٍ خاسر كمقامر تساوت لديه خيارات الموت مع آمال الحياة.
***
في لحظة الكتابة
كل حياة الكاتب مقابل جملته الأولى كسعي نحو مستحيل ممكن تحقيقه.
عندها لا بدّ ستبزغ الجملة الأولى وتدافع عن وجودها كزهرة شقائق نعمان وحيدة في نهاية فصل الربيع، فهي الوحيدة التي صمدت وتفتّحت في الوقت المناسب ولم تلقَ نفس المصير الذي لقيته شقيقاتها اللواتي تفتّحن في موسمهن ثم خضعن للدورة الطبيعية لوجودهن.
تفتّحن ثم ذبلن ومتن.
زهرة واحدة من بين آلاف الأزهار ستعيد الربيع، وتمنحه طعمًا جديدًا.
***
كتابة رواية بطريقة واحدة نعرفها
كتابة رواية بلغة اختبرناها، يشبه تمامًا رؤية مدينة طوال يوم كامل من خلف زجاج مقهى، والاعتقاد بأن هذه التفاصيل نفسها ستتكرر في اليوم التالي.
الزاوية نفسها.
المقهى نفسه.
الموظفون، الموظفات، المارّة، الأرصفة، الأشجار نفسها.
الكتابة بهذه الطريقة تنتج نصًّا لا يستطيع الركض أكثر من خطوات قليلة، ثم لا بد من سقوطه ميتًا.
احتمالات الدهشة حتى لو كانت نسبتها واحدًا بالمليون جديرة بالمغامرة.
سأفترض الآن.
من موقعي في مقهى «السويس» باللاذقية، والساعة الآن التاسعة صباحًا، مع فنجان قهوتي الثاني يتكرر مشهد مرور الأشخاص والسيارات وباعة اليانصيب تمامًا كما في اليوم السابق، إلا أنني أنتظر أن يحط نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس على كرسيه ويتأمل المارة، رغم استحالة هذا إلا أنني أنتظره، أو أنتظر فعلاً يشبهه كحقيقة غير قابلة للجدل.
***
الشهرة قد تودي بالكاتب إلى التهلكة، إن أسرف الكاتب في خسارة ذاته كجسد وروح مكثفة، محققة. يجب الفصل بين الكتابة كفعل مستقل تمامًا، وبين آثارها اللاحقة كالطباعة والنشر والجوائز والقرّاء.
الشهرة لها ميكانيزم خاص تمنح صاحبها سلطة غاشمة، يحتاج الكاتب إلى الكثير من وقته للحفاظ عليها ورعايتها، وإعادة إنتاجها يوميًّا، وهذا تمامًا ما تريده السلطة من الكاتب، الدخول في دائرتها والانشغال عن الكتابة ذاتها، بمجموعة أفعال متوحشة تخضع دومًا للتقييم من قِبل المجتمع، تخضع فيه آليات الدفاع عن الخطأ إلى التعسّف.
***
الكتابة
ألم سعيد
***
الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الكتابة حتى الآن هو فكرة ضرورة الجلوس إلى الطاولة ساعات طويلة وبشكل يومي، كأي عامل في المصنع على حد تعبير إرنست هيمنغواي، وهذا الاكتشاف الأولي أتاح لي فكرة افتراقي عن مهن أخرى يكون فيها الآخر شريكًا أساسيًّا لا يمكن الاستغناء عنه، وأستطيع أن أضيف أنني وعبر ثلاثة عقود من عملي في الكتابة، واحترافها بشكل نهائي، تلمّست متعة الصبر الذي يودي إلى نفق الألم السعيد، الذي لا يستطيع أن يفهمه الآخرون، وشرحه ليس من واجب الكتّاب، ما زلت أعتقد بأن الكتّاب هم أسوأ شرّاحٍ لنصوصهم وطريقة كتابتهم، يشبهون في هذه اللحظات أطفالاً لا يجدون مبررات لكسرهم فازة ثمينة أثناء مرورهم قرب طاولة رخام. يخترعون قصصًا تزيد الطين بلّة وتقلب براءتهم إلى أدلّة قوية على إجرامهم.
***
أكتب يوميًّا بعد استيقاظي فورًا، غالبًا ما يكون هذا وقت الظهيرة، فأنا كأيّ رجل شغوف بملذات الحياة أريد الجنة والنار كما أدّعي، أريد عيش حياة الليل، وفي الوقت نفسه أريد الكتابة بانضباط لم أحِد عنه منذ ثلاثة عقود على الأقل، أي منذ احترافي النهائي للكتابة في مجتمع من أكبر عجائبه أن يقف شابّ في مثل عمري ذلك الوقت، أي في الثانية والعشرين، ويجاهر أمام عائلته بأنه يكره أي عمل غير الكتابة، إما أن يصبح كاتبًا أو ينتحر، لأنّ لا طريق ثالثًا لسعادته. هذا يعني بالنسبة لهذه العائلة أنّ ابنها الفخورة بذكائه، كما كل العائلات فخورة بذكاء أبنائها حتى لو كانوا أغبياء، قد أصابه مسّ من الجنون، يريد أن يصبح عالة على أهله ومجتمعه. لكنهم الآن فخورون بما أنجزته، وأحب أن أشعر بهذا الشعور الذي يتحدثون عنه بمحبة غامرة متناسين معاركنا الطاحنة، أريد أن أكون فخورًا ولو للحظة واحدة بألمي السعيد لكنني لا أستطيع، قلقي وشغفي بالحياة كما بالاكتشاف سلسلة لامتناهية لن تتوقف إلا مع توقّف نبضي للأبد.
***
نعم، لا يستطيع أحد أن يتجاهل الواقع، وليس مطلوبًا مني أن أكتب عن البحيرات والأزهار بينما أنا وشعبي غارقون بكل هذه الوحول والدماء. لكنني أعرف أيضًا أن كتابة دون خيال هي كتابة ميتة ستسير خطوات قليلة ثم تلفظ أنفاسها.
***
أحب الخرافات، والرواة الذين يتقنون فن السرد، كنتُ محظوظًا لأنني قابلت الكثيرين منهم، رغم أميّتهم كانوا رائعين، بالإضافة إلى أنني عشت في منزل يعجّ بالخرافات، تتجاور الماركسية مع الرقى وأدعية الأولياء مع جدتي المقدّسة التي يزورها المرضى لتشفيهم في تداخل سريالي كنت أراقبه بحب شديد وذهول. والكتب المقدسة هي الميدان الأكثر رحابة لهذه الحكايات، ما زلت أذكر كيف كنت أنتقل بين غرف منزلنا، من غرفة أخوتي الذين يتحدثون عن الحتمية التاريخية وأصْل العائلة وطروحات إنغلز وماركس، إلى غرفة أمي ورفيقاتها اللواتي يعدّدن كرامات الأولياء بيقين كامل.
حتى الآن ما زلت أتعاطى مع هذه القصص بكثير من دهشة التصديق، خاصةً وأنني حتى الآن لا أستطيع فهم آلية إرسال الفاكس، ويبدو لي نوعًا من الأسطورة المعاصرة التي حاول أصدقائي مرارًا تفسيرها لي، إلا أنني حقيقةً لا أعرف كيف أصدّق ما أعتبره خرافة حتى لو كانت محكومة بقوانين علمية صارمة.
***
ربّيتُ النسيان طوال عمري دون أن أدري بأنني أربّي الوحش الذي سأحتاجه ذات يوم، ببساطة أستطيع نسيان أسماء عمّاتي وأروي سيرهنّ متداخلة وبشكل خاطئ إلى درجة الشك الحقيقي بأنني أعرف هؤلاء النسوة. في البداية كنت أشعر بالخجل من أفراد عائلتي والأصدقاء المقربين من العائلة لأنني أرى في عيونهم نظرات التشكيك، لكنني في النهاية اختبرت قوة ذاكرتي ووجدت بأن الذاكرة المثقلة بالتفاصيل تقف حجر عثرة في طريق نهر السرد المتدفق، يجب محوها تمامًا والبدء في تمجيد النسيان كطريق وحيد للوصول إلى مملكة الخيال الصاخبة.
***
العائلة تقدم لك كل ما تحتاجه لتغادر منصّة الكتابة، تبقى الكتابة هي التهديد الأكبر لأسرارها. ما زلت جبانًا لا أجرؤ على تفتيش عار العائلة، لكن في أعماقي أعرف أنني أحتفظ بتلك الحكايات إلى وقت يجفّ فيه الخيال، حين أصبح تقريبًا جثةً عفنة، لا بدّ سأفتح تلك الدفاتر القديمة وأعيد كتابتها، لكنني أنظر بمودّة حقيقية إلى الكثير من الأشياء اليوم، خلال الثلاثين سنة الماضية فقدت مهارة النقد والسخرية، أصبحت أمي بعد موتها أيقونة لا يمكن المساس بها، كما أصبح أبي الذي لم أكن على علاقة طيبة معه شخصًا مسكينًا وضعيفًا، ويستحق الشفقة، رغم قوته. في تأجيل الحديث عن تلك العلاقات المثيرة والبديعة فقدتُ الرغبة في الكتابة، أصبحتُ أكثر جبنًا في الحديث عمّا يجب أن أكتبه بكل حرية ودون أي إحساس بالندم، كان الخيالُ الفائضُ الذي كنت أشعر به وأعيشه السببَ الرئيسي في ذلك الفقدان، وحين سأقوم بالكتابة عن تلك الأسرار سأكون قد فقدتُ الشجاعة، أو فقدَت تلك القصص والشخصيات بريقها.
أنا نادم لأني لم أكتب سيرة عائلتي التي فيها الكثير لرَويه بجماله وقبحه، لكنني أعتقد بأنني لم أفقد رغبتي في إعادة ترتيب تلك الحياة الناقصة التي تشكل موضوعًا رائعًا لاحتقار الفخر، والذي هو البوابة الحقيقية للدخول عبر برزخ ضيّق ينفتح في ما بعد عن عالم ساحر أبطالُه العمّات المتنفذات والقويات والخالات الضعيفات البسيطات، والأمّ الضحية لبطش الأب الذي عاش كل عالمه يدافع عن الفخر، وحين رأيته ممددًا في تابوته لم نعُد نمتلك الوقت لأسأله هل حقيقةً يحب العائلة التي افتخر طوال عمره في الانتماء إليها، ينتابني الشك حقيقة، الفخر يقتل كل خيال ويحوّل الكائن إلى طبّال يقرع طبله طوال يومه مجانًا دون كلمة شكر في النهاية. سيأتي يومًا ما أحمقُ يقول الحقيقة ويدمّر السردية التي دفع بشرٌ أعمارهم في تزويرها.
***
في عمر مبكر هدمتُ اليقين، لكني لم أعرف كيفية التعبير عن اللايقين. لم أكن يومًا شخصًا مؤمنًا، وكنت قريبًا من الإلحاد طوال عمري، لكني كنت أحسد رفاقي الذين كنت قريبًا منهم، وعبَروا من الإيمان المطلق إلى الإلحاد، أو من الإلحاد إلى الإيمان، لم أعش ذلك الشعور العظيم والتجربة العظيمة. الانتقال من أقصى الضفة اليمنى إلى أقصى الضفة اليسرى يكسب البشرَ شجاعةً استثنائيةً لقول ما لا يُقال. اختبروا وتلمّسوا الجمر بأصابعهم العارية، وبالتالي يحق لهم إخبارنا عن الطَعم الحقيقي لتلك الأشياء والحقائق والأوهام، كما يحق لنا تجاهلها واعتبار كل ما يقولونه لا يعنينا، لكن حين تكون كاتبًا يجب أن تستمع باهتمام إلى هؤلاء الأشخاص الذين غالبًا ما يكونون خجولين وليست لديهم رغبة في الحديث عن آلامهم.
***
لم أفكر يومًا بقسوة الخسارة، لكنني في أعماقي تحاشيت الملكية غير الضرورية، الأشياء تجعل من البشر جبناء، لم أعد أفكر بالفرق بين الجبناء والشجعان، لقد فقدت الكثير من الأشياء والخصائص خلال السنوات العشر الماضية، لست نادمًا على فقدي ما فقدت. ببساطة فتحتُ كفّي وجعلتهم ينسربون، أشياء فائضة عن الحاجة، وأشخاص ميتون منذ زمن في قلبي، لم يعد يهمّني الحديث عن تلك الأشياء والأشخاص الذين فقدتهم، ببساطة اعتبرت وجودهم في حياتي خطأ قامت الحياة بتصحيحه. إذ لا داعي للانفعال خاصةً أنني أيضًا فقدتُ طاقة الانفعال، وأصبحت ساهيًا، غارقًا في سأمي، كلّ ما فيّ لا يوحي بماضيّ الصاخب، حقًّا بدأتُ أشعر بأنني شخص مختلف جدًّا، لا أشبه ذلك الذي كنتُه قبل عقدٍ من السنين، لكن هذا الشيء الجيد الوحيد الذي حصل خلال هذه السنين.
***
أحب هشاشتي، ولا أريد التعليق على أفعال البشر وانتقادها، فقدتُ هذا الشغف، كل البشر كائنات مسكينة، حين سيكتشفون حقيقة الموت سيندمون أنهم لم يقولوا كل ما في صدورهم، لم يتقيؤوا كل البحص الذي ملأ أفواههم، لم يقولوا لمن يحبونهم كم أحبّوهم، ولم يبصقوا في وجوه من كرهوهم، وأنا فقدت حتى قدرة البصق في وجوه من كرهت من البشر، وهم ليسوا بأشخاص قلائل، وليست لديّ رغبة باستعادة القدرة على البصق، توقفتُ عن تبديد القليل من الكراهية والكثير من الحب في قلبي اللذين أحتاجهما في كتابتي، وليس في معارك حول الكتابة.
***
ماذا تعني رواية جديدة؟ لحظات قليلة من الفراغ، ثم لا شيء، ستنضم إلى ما قبلها، لم يعدْ يعنيني إن نجحت أو فشلت، حتى أني لا أعرف معايير النجاح، كما لم يعدْ يعني لي أيّ شيء، إن ربحت جوائز أو خسرت، لم يعدْ يعنيني إن أحبها الناس أو كرهوها، كل الصفات الجديدة لم تعدْ تعنيني. جرّبتُ كل شيء تجرّعته حتى الثمالة، وعدت إلى صورتي الأولى لكن دون اندفاع، دون رغبة بشرح أي شيء، غالبًا الشرح يفسد المعاني. كعجوز أمشي إلى زاويتي المعتمة، هناك سأقول للأشياء القليلة التي تبقّت لي كم أحبها، سأقول لأصدقائي الذين أحبهم أكثر من أي شيء كم أحببتهم وكم أحبهم وكم سأحبهم، وأوصيهم كيف يحتفلون بذكرى موتي.
***
منذ طفولتي كنت محظوظًا بأصدقائي. في الحد الأدنى لديّ صديق من طفولتي، وأكثر من صديق من أيام الجامعة، وكل عشر سنوات أتعرف على مئات البشر ويبقى في قلبي عدد قليل من الأصدقاء، أشعر كم أنني محظوظ بأن لديّ أصدقاء يعرفون كل شيء عن حياتي، تفاصيلها، خيباتي، أسراري، هزائمي وانتصاراتي الصغيرة التي كنت فخورًا بها لكنني الآن أنظر إليها كأني لا أعرفها، لا أندم لأن لا شيء يستحق الندم.
***
الحماقة جزء رئيسي من الكتابة، والخطأ جزء لا يمكن نكرانه في حياة البشر والكاتب بشكل خاص، لكن للأسف نقضي نصف عمرنا للتخلص من الحماقة وإخفاء أخطائنا، أي ما هو ضروري لإنتاج نصّ لا يشبه نصوص من سبقونا بحجج واهية. السيف المسلط دومًا على الرقاب من صيّادي الحماقة والأخطاء، يدخلنا ككتّاب في تجربة أقلُّ ما فيها يُفقد الكتابةَ مهابتَها، روعتَها، وعمقَها. أراقب الآن ما فعلت بنصف عمري الذي قضيته لأردّ على الفخاخ المنصوبة في كل مكان، أندم في الحالات القليلة التي فعلت فيها ذلك، حتى لو رددت أو شرحت بكلمة واحدة، أندم لأني لم أطوّح بها بقدمي. منذ زمن لم تعد تعنيني آراء الكثيرين ممّن يبحثون عن أي ذريعة لينصّبوا أنفسهم قضاةً وحكامًا لتقييم النص، متسلّلين من المكان الأضعف وهو شغفي بالخطأ والتجريب، وهي الزاوية الأكثر قوة بالنسبة لي ككاتب والتي كثيرًا ما اضطررت إلى إغلاقها للمحافظة على صورة زائفة، تبدأ بنهش الكتابة داخلي وتحيلها إلى جثة ميت لا تجد من يدفنها.
***
ماذا لو كان نتاج الكاتب لا يُنشر إلا بعد موته، كم ستغدو الكتابة رائعة، خفيفة كطائر خفيّ في حياة البشر، كم من الألاعيب ستنتهي، والمعارك الجانبية لن تكون لها أي قيمة. إذًا ماذا يفعل الكاتب الميت بالمجد، والثروات، والجوائز، ونظرات التقدير، لا شيء، سينسحب أكثر من ثمانين بالمائة من الكتّاب إلى مهن أخرى، وستغدو الكتابة هي تلك المتعة الأزلية، وذلك المجد المؤجّل الذي لا يفيد بأي شيء. ستصبح الكتابة أكثر عمقَا وقوةً وأقلّ تبجحًا.
***
كل يوم يموت كاتب في العالم كان من الممكن أن يكون ملهمًا، ولكن لا يولد كل يوم مثل هذا الكاتب الملهم في العالم. دومًا في جثث الأطفال الذين يموتون جوعًا أو غرقًا كما حدث لمئات الأطفال السوريين في السنوات الأخيرة، تستطيع إيجاد مستقبل العالم الذي يتم دفنه ببرود ودون أي شفقة.
***
مؤلم جدًّا عداء أهل المهنة، لكنه ضروري أيضًا. كراهية أهل المهنة تمنح الكاتب مساحة إضافية للتأمل في كتابته، في أبطاله، في سرده، في الجملة الأخيرة من روايته. يجب تحويل هذا العداء إلى طاقة إيجابية يمنحها لك هؤلاء الزملاء الأعداء مجانًا، مقولةُ أنهم أعداء يجب عدم الاستماع إليها، لأنّ الكاتب وقتها سيقنع نفسه بأنه ناجح، وهنا مقتل وتفريغ كل ما يقدّمه الأعداء من طاقة إيجابية لتحسين كتابتك، التي تتطلب دومًا منك التفكير في ارتياد أمكنة جديدة لم يسبق لك أن وطئتها كتابتك من قبل.
***
يجب المحافظة على الخيال، إنه جثة كلب ميت أو حذاء مثقوب، ومع ذلك يجب المحافظة عليه.
الخيال حذاءٌ كلَّ يومٍ يفقد الكاتبُ جزءًا منه. بعد سنوات من الاستخدام الخاطئ والإسراف في السير فيه في كل الظروف والأوقات يصاب بالاهتراء، يجب ترميمه بأناقة بشكل دائم، يجب أن يحافظ الكاتب عليه ويحميه من الموت الذي من الممكن أن يصيبه، عكس ما يعتقد الكثير من الكتّاب بأن الخيال لا يموت. يحتاج الخيال إلى ترشيد في الاستخدام كي لا يصاب الكاتب بالعمى، حينها لن ينفعه تاريخه الطويل في محاولات إنقاذه وإعادة إحيائه.
***
لا تقرأ كتبَ النقد، إنها تفسد الذائقة، والنقاد دومًا لا يريدون التخلّي عن موقعهم بأنهم معلمون وواضعو قواعد لكتابة الرواية، متناسين أن النص يأتي. وهذه المعركة ستبقى أزلية بين النقّاد والكتّاب، ومن غير المطلوب أن يربحها طرف، ويهزم الطرف الآخر، يجب إبقاؤها في مكان التواطؤ التاريخي بين كتّاب النقد والمبدعين.
***
أشعر بالشفقة الشديدة حين أرى كتّابًا يحومون حول بعض الأشخاص الذين عاشوا حياةً غريبة أو تعرّضوا لصدفة قلبت حياتهم رأسًا على عقب. أشعر بالشفقة على هؤلاء الكتّاب الذين يريدون ويفاخرون بأنّ ما كتبوه قد جرى في الحياة بحذافيره، خاصةً وأن الحياة مليئة بالشخصيات الغنية التي يكفي الكاتبَ أن تمنحه معاشرتُها فكرةً صغيرة، أو طرف خيط صغير جدًّا، ولكن الخضوع للشخصية الحقيقية بشكل كامل يشبه الخضوع الكامل للواقع والذهاب إلى الكتابة الجافّة، دون خيال، دون مفاجآت.
الرواية تعيش في الضفة الأخرى، حيث لا يقين هناك ولا شخصية حقيقية تستحق أن تكون موجودة بشكل كامل، دون خيال حتى لو كان صاحبُها الأكثرَ فرادة في العالم.
***
أنا أذهب إلى الأمكنة التي أحب، أعاشر الأصدقاء الذين أحب، ولا أفكر للحظة أنهم موادّ أولية لرواياتي، لكنني أكتشف، وغالبًا بعد الكتابة، أن هؤلاء الأشخاص قد وجدوا حيّزًا في شخصيات رواياتي، واكتشفتُ في وقت متأخر بأنني أميل إلى الأشخاص الذين لا يدّعون البطولة ويعيشون الحياة بملل دائم، ولكن بحماس في الوقت نفسه. في كثير من الأحيان قابلت نساءً ورجالاً يريدون أن يرووا لي حياتهم لأكتبها، إلى درجة أنّ أحد الأشخاص عرض مبلغًا محترمًا من المال لأكتب سيرته، وما زلت أذكر في تلك اللحظة شعوري تجاهه بشفقة لا متناهية، لم أرَه فيما بعد، تحاشيت رؤيته رغم مودّته الكبيرة لي وتعبيره عنها كلما رآني، فكرت وقتها بأن صداقتنا ستموت مبكرًا لاعتقاده بأنني أحتاج إلى مواد أولية، وهي هنا تفاصيل حياته، لم أستطع غشّ الرجل واعتذرتُ عن فعل ذلك. وأنتظر اللحظة التي أمتلك الشجاعة الوقحة لأخبره بأن حياته تشبه حياة أي شخص آخر صعد من قاع المجتمع إلى عليّة القوم نتيجة فساده. ولا أستطيع تبييض صفحته وإعطاءه براءة ذمّة.
حتى الفاسدون يجب ألا يغشهم الروائي.
***
هل يمكن لكاتب أن يتحدث عن تجربته في السرد؟ أشك في ذلك، لأنّ ذلك يعني حديثه عن فشله في الوصول إلى الكتابة.
ما زلت أذكر حين فكرت للمرة الأولى بأنني سأصبح روائيًّا انتابتني حمّى حقيقية. لسنوات كنت أكتب الشعر، وأعيش كما يليق بحياة الشعراء المتهتّكين، لكن طيف الرواية جعلني أنظر إلى قصائدي كنصوص بائسة، ميتة، مجرّد تمارين لكتابة مقبلة سأقدم عليها لا بدّ في لحظة غير بعيدة. كنت في العشرين من عمري، وغارقًا في حب الكتب، وتمضية الأوقات كشاعر شاب بين أدراج وقاعات ومقاصف الجامعة وشوارع المدينة الخلفية، مكترثًا بكل شيء إلا دراستي، لم أكن أعرف شيئًا عن كتابة الرواية، لكنني احتفظت في دفاتري بجمل منشورة في مجلة شعر يوصي فيها هيمنغواي كتّابَ الرواية بضرورة الجلوس إلى الطاولة لمدة ثماني ساعات يوميًّا، ويشبّههم بعمّال المصانع. كنت أفكر بأنني لن أستطيع فعل ذلك، وأتهيّب من أساتذتي. كنت حين أقرأ دويستوفسكي أشعر بالإحباط، كيف لي أن أكتب مثل هذا السرد العظيم، وهذا النهر الدافق من الأحاسيس.
في أعماقي بهتتْ صفة الشاعر، وبدأتُ بكتابة نصوص شعرية طويلة كتمرين محتمل لكتابة الرواية، لم أستمِع إلى نصائح بائسة توصي بكتابة القصة القصيرة كخطوة أولى، كنت أكره القصة القصيرة وما زلت. وفي أعماقي كنت أفكر بأنني إما أن أكون روائيًّا أو لا أكون. فقد الشعر بريقه، ولم تعد تعنيني صفة الشاعر، إلى أن أنقذتني حماقتي وكتبت الجمل الأولى التي تراكمت وأصبحت رواية طويلة، كتبت بشكل شبه يومي لساعات طويلة أكثر من سبعين ألف كلمة. اختبرت كل شيء، قدرتي على الجلوس إلى الطاولة، تنمية الخيال، اللغة، اللعب، بناء الشخصيات، اختبرت كل أسئلة الرواية، واكتشفت بأنني أحتاج إلى الحماقة أيضًا لأحرق روايتي الأولى التي كانت مستعارة من روايات أخرى، أحرقتها، شعرت بإحباط كبير، لكني شعرت بنفسي قريبًا من هدفي.
انتظرتُ حماقتي الكبيرة بعد سنة لأكتب نصي الأول «حارس الخديعة» الذي كان بالنسبة لي إعلان هوية غير مفهومة، لكنها هوية على كل حال. كان هدفي كتابة نص روائيّ لا يشبه نصوص الآخرين. كانت الفرادة دومًا تؤرّقني، وما زالت. نجحت التجربة رغم فشل النص في منحي لقب الروائي الذي كنت أطمح إليه. كانوا يقولون بأنه نص شعري طويل ومكثّف لكنه ليس رواية، لم أرُدّ أو أناقش أحدًا، عرفتُ بأن الطريق طويل وقاسٍ، شعرت بأنني على الطريق الصحيح، ويجب أن أختبر كل الأشياء التي تصنع من كائن غير مكترث مثلي روائيًّا، أقضي ليالي طويلة وأنا أفكر في تفكيك نصوص الآخرين التي علمتني الكثير. شعرت في تلك السنوات بأنني شخص غير مفهوم، أستطيع الجلوس إلى الطاولة لأشهر دون أن أغادرها، يكفيني القليل، وأستطيع الدفاع عن نفسي ضد النظرات المتشككة. والشيء الرئيسي الذي فهمته جيدًا أنني يجب أن أصبح ناقدًا قاسيًا لنصوصي، لا أنتظر رأيًا من أحد. والشيء الرئيسي الذي تعلمته هو أنني يجب ألّا أدافع عن نصي، يجب أن يدافع النص عن نفسه، وهذا ما حدث في روايتي «دفاتر القرباط». أصبحت حياتي مرتبطة بشكل أو بآخر بالعمل طوال اليوم في كتابة الروايات، ببساطة رتبتُ حياتي على تقريب كل ما يفيد كتابة الرواية، وإبعاد كل ما يؤذيها، حتى علاقاتي الشخصية حكمتْها هذه القاعدة، تعلمت أنني قد بدأت الغوص في عالم لا متناهٍ. يتكوّن من طرق سرد لامتناهية، خيال غير محدود ولا يمكن تأطيره في سقف أو تبريره، بحثت في حياتي عن مستحيل لا يمكن تحقيقه بسهولة، وما زلت.
بالتأكيد بعد روايتي الثالثة «مديح الكراهية» شعرت باسترخاء كبير، شعرت بأني قد ذهبت إلى المكان الذي لا أمل في العودة منه، لقد أصبحت تلميذًا من جديد، كل جملة تعلّمني كيف يكون السرد، اللعب، الكهوف المخفية في الذات، تعلمتُ أنه لا يمكن لكاتب أن يتحدث عن الكتابة، هناك طرق سرّية في تلك المدن الخفية التي أعيش فيها منذ ربع قرن، تقودني طرقها إلى متاهات لا متناهية، وكلما وصلت إلى مفرق طرق تركت لقلبي أن يقودني إلى الطرق الأكثر وعورة، لم أعد أرى الحياة والموت كما يراه الآخرون. أصبحت حياتي المرئية مملّة، فقيرة في مفرداتها، لكن حياتي الأخرى غير المرئية شديدة الصخب لا يمكن لأحد أن يراها. تعلمتُ الحفاظ على أحاسيسي طازجة، قوية، لا تخطئ هدفها، أصبحتُ أكثر جهلاً وأكثر قوة في النظر إلى الأشياء المرئية، لكن بطرائق مختلفة أيضًا لا يمكن حصرها.
حتى الآن ما تبقى منّي هي تلك اللحظات التي تذكّرني بجهلي، ويقيني بأن طريق الروائي لا ينتهي، مَفارقه كثيرة ومتشعبة وليست بالضرورة كلها تؤدّي إلى روما أو إلى الطاحون. قد يكون الروائي محظوظًا ويؤدي به الطريق إلى مجرّات غير مكتشفة. كثيرًا ما أسمع عظامي تنهرس تحت وطأة الخوف من السرد والجمل المقبلة، لكن جلوسي الأبدي إلى الطاولة، وشعوري بأنني أمتلك وقتًا طويلاً يجعلني أشعر بأن كل شيء سيكون على ما يرام. سأجرب السير في طرق السرد التي توصلني دومًا إلى طرق مجهولة أخرى، لقد اعتدتُ عيش هذه الحياة — المتاهة بعد أكثر من ثلاثة عقود من جلوسي اليومي إلى الطاولة لمدة ست ساعات يوميًّا واللعب مع طرائق السرد اللامتناهية والمنفتحة على مغاور ظلام النفس البشرية.
كل نص جديد يعلمني أنني ما زلت في أول الطريق، هناك وعد دائم بملذّات كثيرة يجب اكتشافها ما دمتُ قادرًا على السير بتؤدة، والنظر إلى العالم بهدوء وبرود.
***
الكاتب نبتة غريبة، شتلة نعنع بطعم مانغا، وشجرة برتقال تثمر قمحًا. هذا غريب بالنسبة للبشر لكنه أقلّ من عادي بالنسبة لكاتب، يجب أن يدع هذه الفرادة تقوده من يده إلى أقداره، ولا تأخذ أسئلة البشر الفضوليين على محمل الجد.
على الكاتب أن يهرب بأي وسيلة من شرح الخلطة السرية لشجرة جوز تتساقط من أغصانها حبّات زيتون. لأنه في دخول الكاتب إلى متاهة الجواب يحوّل الطبيعي إلى ظاهرة غريبة. الكاتب نبتة غريبة في أرض بوار، كل صباح يخرج من سريره حاملاً جذوعه وشروشه، وأغصانه، يخرج إلى الشمس، ينفض العصافير عن كتفيه ويبدأ الكتابة.
لا يشبه أحدًا ولا أحد يشبهه، إن التشابه يعني موته.
***
آمل أنه في ٢٠٥٠ ستكون حياتنا التي عشناها خمسين سنةً في ظل الديكتاتورية قد أصبحت جزءًا من الماضي، لكن لو عاش الكاتب بعد خمسين سنة وبقيت الديكتاتورية تتناسل، سيتلمّس أنواعًا من الحسد مختلفة عن النوع المتفشّي في أنظمة ديموقراطية. في ظل الديكتاتورية هنا سيجد الكاتب نوعًا نسمّيه الشبّيح، قاطع الطريق، يجده الكاتب فجأة قد ظهر أمامه، نصَب حاجزًا وأخرج من جيبه غرف الكونكريت، ومن أذنيه المسدسات وجلس مقلدًا الضباط، يحدّث الكاتب بترفّع عن أوهام لا تخطر على بال الكاتب، يريد منه دومًا البقاء تحت الحذاء، لذلك حين تكون كاتبًا وموهوبًا يجب أن تُشعرهم بأنهم عبارة عن مخاط وقذارة مكانها الطبيعي المجارير. على الكاتب ألا يخاف من هؤلاء، إنهم فارغون، يحتاجون إلى دبوس، كلما قلّ خوف الكاتب ازداد رعبهم منه، الكاتب الموهوب صوتُ الله الذي يخشونه دومًا.
لكن على الكاتب الموهوب أن يحترس، إنهم أنذال، غدّارون يريدون سلب الكاتب كل لحظات مجده الذي يبنيه بتؤدة وصبر كبيرين. قد يقطعون طريقه ويحرّضون عليه حين يكون في الواجهة، يخترعون له قصصًا، ويهينون نصوصه، ويهمسون في الغرف المظلمة بأنه خائن للوطن، يكتبون فيه التقارير عن سلوكه الإمبريالي المعادي للنظام، على الكاتب ألّا يكترث ولكن يجب ألا يقلّل من خطر المخبرين وإزعاجهم، يلمّحون بين الحين والآخر إلى سلطتهم التي يمتلكها أقاربهم، أو يمتلكونها، هؤلاء البشر حين يقابلهم الكاتب يجب أن يبصق عليهم كإجراء احتياطي لأنهم سيبتزونه ليبصق عليهم، على الكاتب ألا يتوانى عن إغراقهم في بوله، سيعرفون بأنّ قوة الكتابة جزء منها شجاعة لا يمتلكها الجبناء المخبرون دعاة الديكتاتور ورجاله ونسائه.
***
لو أن كاتبًا موهوبًا وُلد اليوم في الأسبوع الثالث من شهر حزيران/ يونيو من عام ٢٠١٥، وإذا افترضنا بأنه وُلد الآن أو خلال هذه السنة، سيكون عمره في ٢٠٥٠ خمسًا وثلاثين سنة، وهو العمر المفترض لحسم الخيارات في الحياة، فإذا أصابه الحظّ، واكتشف موهبته مبكرًا، واستطاع تقديرها وإدارتها، وقرّر المضيّ في درب الألم، يجب أن يعرف بأنه سيكون من قلائل جدًّا في هذا العالم، يشبهونه ويشبههم، وسيتعرف عليهم في ما بعد في مناسبات عديدة، ومحافل مختلفة. أحب أن أبارك له بأنه اختار مهنة الكتابة التي لن تمنحه ذاتها سوى بالتقسيط، وفي القسط الأخير قبل أن يموت بدقائق ستمنحه ضوءًا ساحرًا، يقوده من يده إلى ملكوت لا يعرف أحد عنه أي شيء. نعم، الكاتب ابن الرب، لكن قبل كل شيء يجب أن يتعلم ما هو أهم من الموهبة وأقصد فن إدارة هذه الموهبة، وقوة العمل الجبار، يجب أن يتحوّل إلى بغل قوي، بقلب من ورد، وذراعين صلبتين لينجو بموهبته.
***
أحد الأشياء التي يجب أن يتأملها الكاتب جيدًا موتُ موهبة أحد من أبناء جيله، لأن المواهب لا تموت بطريقة واحدة، كل عصر وكل بلد وكل ثقافة لديها طرق مختلفة لموت مواهب أبنائها، لذلك عليه تأمل ذلك، وإذا استطاع مساعدة أي شخص موهوب عليه ألّا يتردد في ذلك حتى لو قابله فيما بعد بالجحود، الكاتب يفعل هذه الأشياء من أجله. العيش في عصر مزدحم بالمواهب والكتّاب الكبار يمنح تحدّيه طعمًا مختلفًا، وإنقاذ موهبة كإنقاذ غريق، طبعًا إن كان صديق الكاتب يصبح التخلي عنه نذالة مهما كانت أسباب ذلك التخلي، ويتحوّل الكاتب حتى لو كان عبقريًّا ليكون من ذلك الصنف المشبع بالنذالة، احترام الصداقة جزء أساسي من مشروع الكاتب.
اللاذقية — دمشق — أيوا — الولايات المتحدة
أمكنة مختلفة من العالم.
شتاء ٢٠٠١ — حزيران/ يونيو ٢٠١٥
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.