يبدو أنّ الحديث عن البيت كمجاز فلسفي لأولئك الذين لا يملكون بيتًا من حجر وطين، أو بيتًا قوميًّا يؤمّن لهم حياة اجتماعية ثقافية، نوعٌ من الترف، لا بل هو حديث إشكالي كمن يرشّ الملح على الجروح. ومن يقضي أيامه في الغربة، منقطعًا عن سياقه الاجتماعي، أو من يقضي أيامه من دون سقف يؤويه، فإنّ كل الكلام الفلسفي النقدي عن أهمية المنفى كمساحة تتيح بُعدًا نقديًّا، لا يستطيع أن يسعفه في غربته أو يقيه برد الشتاء.
الكلمات والبيت
عليه، من الواضح أن الكلمات ليست بديلاً لسقف يؤوي المرء، لكنْ بصفتنا كائنات معنويّة تسعى لفهم العالم من خلال إسباغ معانٍ ومغازٍ على الواقع المادي، لا مفرّ من خوض السؤال حول معنى البيت والمنفى وعلاقتهما. وكما أن الكلمات لا تغني عن سقف مادي، فالمادية الفجّة ليست بديلاً لبحثنا المستمر عن المعنى وعن الدلالات الرمزية للبيت. فكم من امرئ يعيش في وطنه، بين أهله، وتحت سقف بيته، لكنه يعيش مغتربًا ومسلوبًا ومنزوعًا وعاجزًا ومنفصلاً عن ذاته وسياقه. لا يمكن القبض على الواقع إلّا مجازًا، ولا يمكن القفز عن محاولة البحث عن المعنى.
سيطرت فكرة البيت، بتجلّياتها المختلفة، أو العودة إلى البيت، باعتبارها توقًا مستمرًّا وفكرةً ناظمةً في تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، بدءًا من الفلسفة اليونانية، مرورًا بالفكر الديني الذي يعتقد أن الوجود البشري على الأرض عبارة عن رحلة شاقة ومضنية وأن البيت الحقيقي الوحيد هو في الحياة الأخرى، بعد الممات حيث الراحة الأبديّة. وألهمت فكرةُ المنفى وتوق العودة إلى البيت التراثَ الأدبيّ والميثولوجي منذ توق إبراهيم للعودة إلى بلده، مرورًا برحلة الأوديسة المستمرة، وحين يخيّر كاليبسو يوليسس بين الحياة الأبدية والوطن، فيختار الوطن على الأبدية في المنفى. وفي العصر الحديث يصف جورج لوكاتش الفلسفة باعتبارها: «الحنين المستمر للبيت» (Homesickness)، أما هيغل فيتحدّث في كتابه «فينومينولوجيا الروح عن «عودة الروح إلى البيت». وتسعى العودة التي يتناولها هيغل إلى التغلّب على حالة الانفصال والاغتراب التي تعاني منها الذات البشرية في العصر الحديث، معتبرًا العودةَ نوعًا من المصالحة التي تلتئم فيها الجروح والندوب التي تركها الاغتراب والانسلاخ اللذان تعاني منهما الذات المعاصرة، وتبدو الفلسفة بالنسبة إليه كتلك الرغبة بإحداث المصالحة بين الذات وذاتها، وبين الذات والعالم كردّ فعل على الهوّة غير القابلة للجَسْر الذي أقامه الفكر الكانطي بين الذات والعالم وبين الذات بوصفها فكرة والذات كمادة، ثانيًا. ومجاز العودة إلى البيت هو تعبير عن مجاز العودة إلى تلك الحميمية التي تشعر فيها الذاتُ أنها متصالحة مع ذاتها راضية تسكن بيتها الآمن.
البيت — الوطن
يتحدّث شاعر مثل روبرت فروست عن البيت ويقصد الوطن — بوصفه ذلك المكان الذي يُعتبر الانتماء إليه بديهيًّا، وليس مطلوبًا من المرء أن يقْدم على عمل أو يقوم بإنجاز كي يحظى به، أو أن يثبت جدارته أو استحقاقه كي يناله. هو انتماء بديهي وفطري لا يحتاج إلى جهد أو وساطة أو إثبات مستوًى من الدخل أو الثقافة أو المعرفة. بهذا المعنى، إنّ البيت القومي — الوطني هو السياق والانتماء الذي يزوّد المرءَ بالمعنى من دون وساطة الترجمة، إنما تكتسب الأمور دلالاتها بشكل مباشر، بطرق مختصرة، تحت رادار الوعي، مخاطبة البديهة. إنّ هذه البداهة وهذا الثبات هما ما يبعثان كاتبًا مثل برتولت بريشت ليضع على لسان أحد أبطاله في «دائرة الطباشير القفقازية» جوابًا بسيطًا عن سؤال: «لماذا يحبّ الإنسان وطنه؟» هو: «لأنّ الصوت يرنّ فيه أوضح ولأنّ الأرض تتحمّل السير فيه أكثر».
بهذا المعنى، البيتُ — سواء العائلي أو القومي — هو نوع من المنطقة الآمنة التي تؤهّل المرء لأن يتعثّر ويقف على رجليه، وتسمح له بأن يخطئ من دون أن يقع في الهاوية، أن يخطئ ويتعلّم من خطئه وينهض مجددًا، لأنّ جزءًا من الأنا موزّع في الآخرين وفي الجماعة التي تمكّن المرء من أن يلمّ أشلاءه المتناثرة ويصوغ نفسه من جديد. وليس صدفة أن تربط اللغة العربية — كما يلفت النظر الشاعر شوقي بزيع — بين البيت بصفته مسكنًا، وبين السكون، فالبيت بهذا الوصف هو منطقة السكون والراحة والطمأنينة. وليس صدفة كذلك أنّ اللغة العربية تربط بين بيت السكن وبيت الشِعر لإدراكها أهمية الشِعر وأهمية اللغة بصفتها حيّزًا يجد المرء فيه نفسه، وتسكن الروح اللغة كما يسكن الجسد البيت.
إلّا أنّ صفة السكون والركون قد تكون مصدرًا للقلق لأنّ السكون المطلق هو الموت، وهي تستجلب إلى الذهن والخيال أيضًا حاجة الذات للخروج من البيت ــ من حالة السكون والركون؛ أن نخرج من المنطقة المألوفة إلى مناطق غير مألوفة، ومن الحميمية المفرطة إلى ميناء الغربة، من التكرار والثبات إلى المغامرة والمفاجأة، من حميمية حب الأمّ إلى مخاطرة العشق مع امرأة/ رجل غريبَين، من الأمان إلى الترقّب. أليست الحياة نوعًا من الخروج المستمر من هذه الحميمية منذ لحظة الخروج من الرحم أولاً، ثمّ لحظة الدخول إلى المدرسة والخروج الأوّلي من البيت، ثمّ لحظة خروج الأولاد من البيت تمامًا وانطلاقهم نحو المجهول؟ هل هناك حياة من دون الدخول في المجهول؟ من دون الاغتراب؟ أليست الحياةُ أو بعضُها تغلّبًا على هذا التوق المفهوم طبعًا للعودة إلى المألوف، والعادي والحميمي؟
لا جواب واحدًا على هذه التساؤلات، لكنها تشير إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان لا نزعة واحدة؛ نزعة الخروج ونزعة العودة، نزعة المغامرة ونزعة الأمان والسكون. ويشكّل الإيغالُ في أيّ منهما خطرًا على كيفية عيش حياتنا.
بين الحنين والمنفى والهوية
حتى وإن كان الحنين طبيعيًّا، فهو يحوي أيضًا توقًا إلى إيقاف الحركة؛ إلى السكون المفرط، إلى الرضى عن الذات، إلى نوع من تماهي الذات مع ذاتها، والكلمات مع معانيها، بحيث يصبح كلّ شيء مغايرًا، مختلفًا، نوعًا من التهديد، خوفًا من الغريب والمفارقة والسخرية الحيويةــ وهذا التطابق، أو الرغبة في التطابق بين الأنا وذاتها، وبين الأنا وبيتها، وبين الشعب وأرضه، لا بد أن يؤدّي في النهاية إلى شعور متميّز بالملكية الحصرية وبالهوية المتناسقة والمتناغمة مع ذاتها والتي ترفض كلّ غريب وكلّ جديد، والتي قد تؤدي بسهولة إلى فكر أصوليّ متزمّت. كل فكر أصولي يبالغ في الإحساس بالبيت، ويرغب في العودة إليه سريعًا، وفي أن يحميه من أي دنس يكون مشغولاً بالنقاء والطهارة والعفة.
مقابل هوس الملكية والهوية، كَتب الراهب هوغو سانت فكتور منذ حوالي ألف عام أنّ المرء في نعومة أظافره يعتاد مكانًا واحدًا ووحيدًا ويشعر أنه بيته وأنّ العالم غريب عليه، هذا هو الإنسان الساذج. وعندما يكبر المرء ويتجوّل في العالم، يكتشف أنه مألوف وأنّ كل العالم بيتٌ لنا، وهذا هو الرجل القوي. لكن الرجل كامل الحكمة هو الذي يستوعب أن العالم كله عبارة عن منفى واحد مستمر.
إنّ وجهة النظر هذه، التي يكرّسها الناقد أريك أروباخ في كتاباته، ويستحضرها إدوارد سعيد في كتاباته العديدة حول المنفى، تحتفي بالأخير باعتباره طريقةً لحدس الكون وتعبيرًا عن طبيعة الوجود الإنساني الذي عليه أن يستوعب عدم ملكيّته للأشياء، يمنح طبيعتنا العابرة في هذا العالم طابعها الذاتي، مشددًا على أهمية الهامشيّة والمنفى كبعد ضروري كي يستقيم النقد. لكن في حين يؤسس الراهب سانت فكتور لهذا الموقف دينيًّا، فإنّ إدوارد سعيد يؤسس له علمانيًّا. ويلتقي سعيد بنقده كلَّ فكر يوغل في التمركز في البيت، بنقد كل فكر هوياتي يوغل في مديح الهوية. والهوية في نهاية المطاف نوعٌ من الشعور في البيت، ومن شعور الأنا بالراحة المطلقة مع ذاتها من دون إضافة أو نقصان. لكن الأنا، كما يشير فرويد، في حالة صراع دائم — منشطرة، منقسمة، متعددة، وما «الأنا» المزعومة سوى محاولاتٍ للأنوات المتعددة داخل «الأنا» كي تنتظم علاقتها ببعضها البعض، فداخل كل أنا «أنواتٌ» أخرى، وداخل كلّ بيت منفى، وكلُّ هوية مجموعةٌ من الهويات المتصارعة. يعبّر هذا المنطق والفهم عن نظرة جمالية للعالم تقوم على احتضان جراحنا المفتوحة غير القابلة أبدًا للتضميد. وبدل العودة أو الحنين المستمر إلى عالم تلتئم فيه الجراح، وتعود فيه الروح إلى مساكنها الآمنة، يُفترض معانقة الاغتراب المستمر واحتضانه باعتباره مصدر قلق إيجابي يحفّز على الحياة ويشكّل وقودها المستمر.
لكن حتى على من يرغب في مديح المنفى أن ينتبه دائمًا وأبدًا إلى ضرورة وجود البيت كشرط أوّلي لفهم المنفى، فمن دون البيت يفقد المنفى معناه، بصفته نفيًا للبيت. وليس صدفة أن المنفى والنفي في اللغة العربية مشتقّان من المصدر اللغوي نفسه، لأنّ المنفى هو نفي البيت والوطن، ومنطقيًّا، لا وجود للمنفى من دون وجود البيت، تمامًا كما لا يستقيم مفهوم السفر إلا بوجود مفهوم العودة. وكما يلفت نظرنا محمود درويش أكثر من مرة، لا معنى لكلمة السفر إذا لم يكن بالإمكان أن نعود إلى مكان ما يختلف نوعيًّا عن بقية الأمكنة، فمن دون ذلك، ليس السفر سفرًا إنما مجرّد تيه مستمر يصبح فيه الوراءُ مثل الأمام، والذهاب مثل الإياب، والخروج مثل الدخول، مما يهدد بانهيار جميع المعاني وخلخلة اللغة.
وعليه، فإنّ درويش الذي كتب أكثر من مرة «مَن أنا دون منفى»، يتأخر قليلاً في مديح المنفى وإنْ كان يدرك أنّ حياته كلها منفى وأنّ «في كل وطن منفى وفي كلّ منفى بيت من الشعر»، على حدّ قوله. لكنه مع ذلك يؤجّل مديح المنفى إلى أن يليق به المديح. «هناك، تحت شجرة التين التي تستضيفني، عند بيت أمي، عابرًا في خريف عابر»، وهكذا تصبح إمكانية نفي المنفى شرطًا لمديحه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.