لمئات السنين، لعبت الموسيقى دورًا مهمًّا في علاقات المجتمعات كوسيلة للتفاعل الثقافي. ومن الممكن الحديث عن التفاعلات الموسيقية للثقافات المتقاربة، في عصر الإمبراطوريات التي حكمت مناطق جغرافية شاسعة.
نجحت الدولة العثمانية في بناء حضارتها الموسيقية في الشرق الأوسط من خلال التأثير والتأثُّر بالأمم التي وصلت إليها. ويمكننا أن نرى اليوم أيضًا الأمثلة الموسيقية المتبقية من تراكم الحضارة العربية والتركية. وسنرى في السطور المقبلة آثارًا لهذا التفاعل الموسيقي في القرن العشرين.
من إسطنبول وإليها
بلا شك، من الخطأ الاعتقاد أن العلاقات العربية — التركية بدأت منذ الدولة العثمانية، إذ عاش الأتراك لمئات السنين جيرانًا وأقاربَ مع العرب في الأناضول وكلّ شمال أفريقيا وفي العراق وسورية وفلسطين ولبنان. وقد تأثَّر المجتمعان بعضهما ببعض في الموسيقى وفي موضوعات أخرى. وصل التركمان إلى العراق للمرة الأولى في عهد الخليفة معاوية (٦٠٢–٦٨٠). وتظهر آثار دور الأتراك في الشرق الأوسط بارزةً في الدولة الطولونية خلال القرن التاسع، والدولة الإخشيدية في القرن العاشر، ودولة المماليك في القرن الثاني عشر، حيث يشار إلى المماليك في النصوص إلى العربية بعبارة «الدولة التركية». ومن المعروف أن التفاعل الحضاري بين الأتراك والعرب ازداد بسيطرة الأتراك على بغداد عام ١٠٥٥، وأن السلطان مراد الرابع أحضر معه موسيقيين من بغداد إلى إسطنبول أثناء عودته من حملة بغداد بين عامَي ١٦٣٨ و١٦٣٩. ووصل هذا التفاعل إلى ذروته بعد هيمنة الإمبراطورية العثمانية على الشرق الأوسط.
ومع دخول القرن التاسع عشر، صارت الموسيقى التركية الكلاسيكية هي الذوق المشترك للإمبراطورية العثمانية، وقُبلت في مدن كبيرة كان العرب يعيشون فيها كأغلبية.
ومن المعروف أن الموسيقى التركية كانت تحظى برواج كبير في مصر وسورية في القرن التاسع عشر. وبسبب الولع بها، كان حكّام مصر يأتون بفنانين من إسطنبول إلى مصر، ويصطحبون أيضًا مشاهير الموسيقيين المصريين إلى إسطنبول.
وكانت هذه الدعوات، التي لعبت دورًا مهمًّا في التفاعل الموسيقي، تحصل من خلال المدرّس والمؤدّي. وأشهر مثال على ذلك مصطفى فاضل باشا (١٨٢٩–١٨٧٥)، ابن الخديوي سعيد، مع زكايي داده أفندي (١٨٢٥–١٨٩٧)، إذ ذكر رؤوف يكتا بك في رسالته «أستاذة الخان» أن مصطفى فاضل باشا لم يكن يفارق زكايي داده أفندي قطّ.
لقد خصَّص مصطفى فاضل باشا غرفة خاصة في قصره لزكايي داده أفندي وجعله يدرّس فيها. وخلال إقامته في مصر (١٨٥١–١٨٥٨)، تعلّم زكايي داده أفندي من أحد أعظم الموسيقيين في ذاك الوقت، الشيخ محمد شهاب الدين أفندي، ونجح في نقل الأساليب التي تعلّمها إلى أعماله، كما لحّن أغاني دينية عربية أثناء إقامته في مصر. ثم درّس زكايي دده أفندي بعد ذلك طلابه في دار الشفقة بإسطنبول بعضَ أساليب الموسيقى العربية التي تعلّمها. هناك أيضًا بعض الموسيقيين الذين ذهبوا إلى مصر بدعوة من الخديوي إسماعيل نفسه، منهم علي بك الأندروني ومَلاكْسَات أفندي وولي أفندي. وكانت النتيجة المهمة لهذا التفاعل، ظهور ما عُرف بـ«الأسلوب المصري» في الموسيقى بإسطنبول.
ويذكر البروفيسور علي جهاد راسي في كتابه حول الموسيقى في العالم العربي، أنه بالإضافة إلى زيارات موسيقيي إسطنبول إلى مصر، توجّه أيضًا موسيقيون من دمشق وحلب ومصر إلى إسطنبول وأقاموا فيها حفلاتهم. ومن بين هذه الأسماء، عازف القانون المهمّ عمر أفندي، الذي ذهب من دمشق إلى إسطنبول في عهد السلطان محمود الثاني، وفي تلك المرحلة كان المعجبون بالقانون قلّة في إسطنبول، إلا أن عمر أفندي، الذي كان مدرّسًا لضياء باشا (١٨٢٩–١٨٨٠)، جعل القانون شائعًا مرة أخرى في إسطنبول. كما أن المغني المصري الشهير يوسف المنيلاوي (١٨٤٧–١٩١١) جاء إلى إسطنبول أيضًا، وقدّم إحدى أغنياته أمام السلطان عبد الحميد، فمدحه السلطان ومنحه ميدالية. وجاء إلى إسطنبول كذلك المصري عبده الحامولي (١٨٤٥–١٩٠١)، صديق الخديوي إسماعيل، وغنّى أكثر من مرة أمام السلطان عبد الحميد، ويُذكر الحامولي في مصر من بين أسماء الذين جلبوا مقامات وأساليب تركية للموسيقى الكلاسيكية المصرية.
هناك اسم آخر في هذا السياق، وهو الماروني العثماني البيروتي وديع صبرا (١٨٧٦–١٩٥٢). عاش صبرا ١٦ عامًا في فرنسا ثم عاد بعد إعلان المشروطية الثانية عام ١٩٠٨، ولحّن نشيدًا عثمانيًّا كتب كلماته الشاعرُ التركي توفيق فكرت (١٨٦٧–١٩١٥)، كما عمل مديرًا للمدرسة البحرية الموسيقية في إسطنبول، وكان صديقًا مقربًا للكاتبة والسياسية التركية خالدة أديب (١٨٨٢–١٩٦٤)١. لحّن صبرا المسرحية التي كتبتها أديب لطلاب مدرسة «نقيّة هانم» للفتيات٢، بعنوان «رعاة كنعان» وجعلها أوبرا٣، وهي أول أوبرا مؤلفة من نص تركي. عُرضت الأوبرا عام ١٩١٦ في مدرسة نقية هانم بالسلطان أحمد في إسطنبول، وتروي المسرحية قصة النبي يوسف وفقًا لرواية التوراة. تعرضت الأوبرا إلى انتقادات كثيرة بعد عرضها من قبل المثقفين العثمانيين، الذين اعتبروها دعاية إسرائيلية، ولم يكن تمثيل نبي على المسرح أمرًا مقبولاً بالنسبة لهم. كما اعترض الكثيرون على تمثيل الشبان والفتيات معًا على المسرح، إذ لم يكن مسموحًا في ذلك الوقت للطالبات المسلمات أن يمثّلنَ أمام الشعب. وقد علّق الشاعر سليمان نظيف (١٨٧٠–١٩٢٧) على هذا العرض ساخرًا: «ظننتُ أن البطريرك اليوناني يؤدي صلاة التراويح»٤. ووفقًا لما ذكرته خالدة أديب، تمّ عرض هذا العمل في مدارس الفتيات في بيروت وسورية لمرات عدّة، وحظي بإشادة كبيرة، وقد صدر في كتاب ببيروت عام ١٩١٨ عن دار نشر صبرا، وفي إسطنبول عام ١٩٦٨.
في واقع الأمر، كان مثقفو القاهرة والإسكندرية وحلب ودمشق يتابعون الذوق الموسيقي في إسطنبول، حتى في أكثر الأوقات السياسية الصعبة للدولة العثمانية. ويجب أن نتذكر في هذه السياق، أهمية التكايا الصوفية التي انتشرت في الأراضي العثمانية وكانت مراكز للموسيقى الدينية وغير الدينية. وبالتأكيد، سنجد علاقة الموسيقيين الأتراك والعرب بهذه التكايا في قصص حياتهم. وقد أخذت التكايا مكانها في المشهد التاريخي كمراكز مساهمة في التفاعل الموسيقي.
أتاتورك ومحاربة الموسيقى الشرقية
هل استمرت العلاقات الموسيقية التركية العربية بعد انسحاب الدولة العثمانية من مسرح التاريخ؟ يجب أن نجيب عن هذا السؤال بـ«نعم»، وبشكل حاسم.
هناك أمران مزعجان في هذا الموضوع، من زاوية العلاقات الموسيقية. الأول؛ قيام الجمهورية التركية عام ١٩٢٣ والابتعاد عن الجغرافيا العربية، والثاني؛ المسافة التي وضعتها الدول العربية بينها وبين تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية٥.
كان الغازي مصطفى كمال أتاتورك من بين الحاضرين لحفل المغنّية المصرية منيرة المهدية، الذي أُقيم في سراي بورنو بإسطنبول في آب/ أغسطس ١٩٢٨. وفي تصريحه للصحف، قال أتاتورك إن منيرة المهدية مغنية ناجحة للغاية، لكن الموسيقى الشرقية لم تعد قادرة على تطمين الروح التركية. وقد اتخذت الإدارة التركية، التي تشكلت بهدف التغريب، بعض القرارات السلبية ضد الموسيقى الشرقية في بداية الأمر؛ مثلاً، تم حظر تعليم الموسيقى الشرقية في معاهد الموسيقى التركية حتى عام ١٩٧٥ ٦، ولم يكن مسموحًا إلا بتعليم الموسيقى الغربية الكلاسيكية. كما منُعت هذه الموسيقى في الإذاعات التركية لمدة عامين (١٩٣٤–١٩٣٦)، وكانت تُذاع الموسيقى الغربية الكلاسيكية فقط.
وبرغم المشاكل الرسمية بين البلاد العربية وتركيا، من المعروف أن الفنانين الأتراك أحيوا العديد من الفعاليات الموسيقية الناجحة في البلاد العربية. وهذا أمر مهم لناحية استمرار العلاقات الموسيقية حتى خلال فترات الانفصال السياسي بين العالمين التركي والعربي. دعونا نتذكر بعض الأمثلة لهذه الفعاليات؛ كالتي قام بها الملحّن وعازف العود الشريف محيي الدين ترجان (١٨٩٢–١٩٦٧) ابن الشريف علي حيدر باشا، أمير مكة في الدولة العثمانية. ولد في إسطنبول وتلقى فيها تعليمه الموسيقي من أساتذة الموسيقى التركية، كرؤوف يكتا بك٧ وعلي رفعت تشغاتاي٨ وأحمد إرسوي٩.
جاء الشريف محيي الدين إلى إسطنبول عام ١٩٣٤ بعد أن فقدت عائلته أموالها وأملاكها عندما انحازت إلى العثمانيين في الحرب، ووقعت في ضائقة مادية. ذهب بعض معارف الشريف محيي الدين إلى والي إسطنبول آنذاك محيي الدين أوستونداغ، وطلبوا أن يعيّنه في لجنة المعهد الموسيقي بإسطنبول، فقال الوالي: «لقد رحل كلّ أفراد الأسرة العثمانية والأمراء، فكيف أعيّنه الآن؟»١٠، ما يعني أنه رفض مطلبهم. ذهب الشريف محيي الدين إلى العراق، حيث تمت دعوته إلى تأسيس المعهد الموسيقي في بغداد، وبقي هناك من ١٩٣٤ حتى ١٩٤٨. ساعد الشريف محيي الدين بعضَ الفنانين في العراق مثل منير بشير وشقيقه جميل بشير (١٩٢٠–١٩٧٧) الذي تُذاع ألحانه في الإذاعات التركية حتى اليوم١١. وبعد أن ترك الشريف محيي الدين العراق، ذهب بعض الفنانين الأتراك إلى معهد الموسيقى ببغداد كمعلمين، مثل جودت تشغلا ومسعود جميل (ابن جميل بك الطنبوري ١٩٠٢–١٩٦٣).
كما قدّم الملحن وعازف الطنبور التركي رفيق فرسان (١٨٩٣–١٩٦٥) ألحانه في بعض البلاد العربية. وأحيا حفلات موسيقية في مصر عام ١٩٢٨ وفي العراق عام ١٩٣٥. كما تلقى دعوة رسمية من فخري البارودي (١٨٨٧–١٩٦٧) نائب دمشق في البرلمان السوري، لتأسيس «مدرسة الموسيقى الشرقية» في دمشق كمستشار مختص في الموسيقى الشرقية في ١٣ أيار/ مايو عام ١٩٤٨ ١٢. ذهب فرسان إلى دمشق بصحبة زوجته فخيرة فرسان، عازفة الكمان، وباشرا تعليم الموسيقى للطلاب وإحياء الحفلات الموسيقية التي تابعها سوريون كثيرون من خلال الراديو. إلا أنّ العائلة اضطرت للعودة إلى إسطنبول بعد نشوب الحرب العربية — الإسرائيلية. وقد فقد فرسان الكتاب الذي كان يعدّه حول الموسيقى أثناء إقامته في دمشق١٣.
تسبّب منع الموسيقى الشرقية في تركيا بين عامَي ١٩٣٤ و١٩٣٦ في حدوث شيء لم يتوقّعه النظام التركي على الإطلاق؛ فبدلاً من استماع الأتراك للموسيقى الغربية التي لم يعتادوا عليها، بدأوا بالاستماع لإذاعة القاهرة. وبرغم عدم فهمهم اللغة العربية، كانت موسيقى الحضارة المشتركة أقرب إليهم من الموسيقى الغربية. ولم يكن الحال كذلك فقط في أماكن تواجد العرب مع الأتراك في مدن جنوب تركيا كمرسين وأضنة وهاتاي، بل أيضًا في إسطنبول وتشانكري وجيرسون، أي المدن البعيدة عن العرب أيضًا. وإلى جانب التشابه الموسيقي، جذبت إذاعة القاهرة الأتراك لسببين إضافيين هما قراءةُ القرآن وإذاعةُ الأعمال الكلاسيكية للموسيقيين الأتراك.
بالنسبة للأتراك، كانت الميزة الكبرى للإذاعة المصرية أنها تقدم فنانين متميزين، وقد بدؤوا يتعرفون خلال وقت قصير على أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان وغيرهم. ولم تنتهِ علاقة الأتراك بالإذاعة المصرية بعد رفع الحظر عن الموسيقى الشرقية في تركيا عام ١٩٣٦، إذ واصل محبّو الموسيقى الشرقية الاستماع لها.
الأفلام الغنائية
في هذه الأثناء، كان المنتجون المصريون يبحثون عن طريقة لجلب جمهور أكبر إلى مطربيهم، وسرعان ما وجدوا غايتهم في السينما. وقد صُوّر الفيلم الغنائي الأول في مصر بعنوان «أنشودة الفؤاد» لكنه لم يحقق نجاحًا كبيرًا. إلا أن المغنّين بدأوا يظهرون في الأفلام، فشكّل ذلك سببًا في بداية مرحلة جديدة للعلاقات الموسيقية التركية العربية.
بدأت أصوات مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد تظهر على شاشات السينما، وكان الأتراك يعرفونهم آنذاك. صارت دُور عرض الأفلام الآتية من مصر تمتلئ بالجمهور التركي، الذي كان أثر تلك الأفلام عليه أكثر من المتوقّع، إذ وجد الأتراك فرصةً ليشاهدوا في السينما الفنانين الذين يعرفونهم من الراديو. بعض المواطنين الأتراك تعرّفوا إلى السينما للمرة الأولى عندما ذهبوا لمشاهدة فيلم مصري. وقد جذب انتباهَ الأتراك في الأفلام المصرية الأذانُ العربي١٤ كما ارتداء الطربوش والملايات التي ذكّرتهم بماضيهم القريب.
هناك أفلام مصرية حققت إيرادات قياسية في تركيا مثل «دموع الحب»، الذي ظلّ يُعرض في دور السينما التركية الشتوية والصيفية. كان الأتراك يقفون في طوابير أمام الدور لحضور مثل هذه الأفلام. أحبّ الأتراك الأفلامَ المصرية لأنها ميلودراما لقصص شرقية، والدليل على ذلك أن المنتجين الأتراك الذين شاهدوا الأفلام المصرية بدأوا بإنتاج الميلودراما بأغانٍ مثل الأفلام المصرية.
في «دموع الحب» غنّى عبد الوهاب «سهرت منه الليالي» التي أحبّها الأتراك كثيرًا. وقد كتب الفنان التركي حافظ برهان كلمات تركية للحن «سهرت منه الليالي» وحققت هذه الأسطوانة مبيعات قياسية في تركيا. كما ترجم منير يورداتاب روايةَ الفيلم إلى التركيّة عام ١٩٣٩، وعُرض الفيلم في تركيا بالاسم نفسه مرتين؛ الأولى عام ١٩٥٩، والثانية عام ١٩٦٦.
حظيت الأفلام الغنائية المصرية بشعبية كبيرة في تركيا، خصوصًا في الأربعينيات. وكانت الصحف والمجلات التركية تنشر بانتظام أخبارًا عن الفنانين المصريين في تلك المرحلة. صار الأتراك يعرفون جيدًا أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان. وكان الفنانون الأتراك يحيون حفلات في مصر باستمرار، وكان فنانون أتراك مثل منير نور الدين سلجوق وبريهان ألتنداغ سوزاري يلتقون باستمرار بفنانين مصريين كعبد الوهاب وأم كلثوم، ونُشرت أخبار عديدة آنذاك عن حفل «سيُقام» لأم كلثوم في تركيا.
كان محمد عبد الوهاب يغني واقفًا وهو يرتدي الملابس الغربية، وقد زاد من عدد الآلات في الأوركسترا كما أضاف آلات غربية، وقد تحفَّظ الأتراك على ذلك في بداية الأمر، لكنهم قبلوه بعد ذلك تدريجياً، وكان منير نور الدين سلجوق هو أول مَن نهَج نهْج عبد الوهاب في تركيا.
ورغم ذلك، تم حظر عرض الأفلام المصرية باللغة العربية في تركيا من قبل نظام الحزب الواحد في ١٠ شباط/ فبراير ١٩٤٢، بحجة أنها قلَّلتْ من الاهتمام باللغة التركية في المدن التي يسكنها العرب كمرسين وأضنة. وقد تسبّب هذا الحظر في تطور صناعة الدبلجة في تركيا إلى حدّ كبير. ومن ناحية أخرى، تولّى ملحّنون أتراك، وخصوصًا الملحن الكبير حاجي حافظ سعد الدين قاينك (١٨٩٥–١٩٦١)، تلحين أعمال مناسبة للأفلام، بعد حظر عرض الأغاني العربية في الأفلام. ولحّن سعد الدين قاينك أغانٍي لـ٨٥ فيلمًا مصريًّا، ما زال الأتراك يسمعونها حتى اليوم، وهي ألحان أصيلة بلا شك، من بينها فقط لحن أو اثنان يشبهان ألحان الأفلام المصرية.
لا تعرف الموسيقى حدودًا
يُفصل بين الدول في الشرق الأوسط بحدود لا معنى لها وتعبُر العلاقات الموسيقية هذه الحدود ببساطة، فعندما كانت أم كلثوم تحظى بشعبية كبيرة في تركيا، عبّرت للصحافة التركية عن رغبتها في إقامة حفل هناك. وقد قدّم فنان الدولة التركي كوتلو باياسلي١٥ أربع حفلات موسيقية كبيرة في القاهرة مع فناني إذاعة أنقرة عام ١٩٦٩، وحضرت أم كلثوم ثلاث حفلات منها كمستمعة، وذهبت للاعتذار بنفسها لباياسلي والفنانين الذين كانوا معه في الكواليس لعدم تمكنها من حضور الحفلة الرابعة، ودعتهم إلى منزلها.
تعدّ مصر الدولة الأكثر تفاعلاً في الموسيقى مع تركيا من بين البلدان العربية. ويجب ألّا ننسى أنّ تونس تتبع جزئيًّا أساليب الموسيقى الكلاسيكية التركية، وألّا ننسى مساهمات المعلّمين الأتراك في مدارس الموسيقى الشرقية في سورية والعراق. كما أنّ بعض أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب تم تقديمها باللغة التركية، فمثلاً أغنية «أنت عمري» حظيت بشعبية كبيرة في تركيا.
بالإضافة إلى هذا، اشتهر الكثير من أغاني السيدة فيروز في تركيا، وكانت الفنانة التركية أجدا بكان (١٩٤٦–...) من أكثر الفنانات التركيات التي غنّت أغاني لها بكلمات تركية. كما قدّم فنانون أتراك آخرون أغاني لفيروز بكلمات تركية أيضًا، منهم إبرو جونديش وفردي أوزبيان ونشا كارابوجيك وسميحة يانكي. هناك حوالي ٢٥ أغنية لفيروز قُدّمت باللغة التركية.
بعدما استقرّ بعض إخوتنا الموسيقيين السوريين في تركيا، يبدو من المحتمل أن يتطور التفاعل الموسيقي التركي العربي في المرحلة المقبلة. ويحْدونا الأمل في تطور هذه العلاقات الموسيقية في ظل قيام الحفلات الموسيقية المشتركة بين الأتراك والسوريين، مثلما فعل عازف القانون التركي جوكسال بكتاجير مع عازف العود السوري أسامة بدوي ودياب ماركاري وسركان حقي. وهناك أمور مهمة من أجل حضارتنا الموسيقية المشتركة، كالتي يقوم بها بعض الموسيقيين السوريين في تركيا مثل عازف القانون يامن جذبة وعازف الكمان منذر شيخ الكار، اللذين يؤدّيان ألحانًا تركية إلى جانب أعمالهما أيضًا.
المراجع
- خالدة أديب، «المنزل ذو العنقود الأرجواني» عن دار نشر جان، الطبعة الثالثة عشرة.
- مراد بردقجي، «أعدمنا والينا ليحلّ السلام
في لبنان» مقالة نُشرت في صحيفة حرّيات — ٣ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٦. - مراد بردقجي، «صفية» عن دار نشر إيش بنك، ٢٠١٨.
- إيليا خوري، «دراسة حول أساليب العزف على العود التركية والعربية»، رسالة ماجستير غير منشورة بكلّية العلوم الاجتماعية في جامعة إسطنبول التقنية، ٢٠٠٢.
- فاتح كوجا، «أحمد خطيب أوغلو... حياته وآثاره ومفهومه عن الموسيقى»، ٢٠٠٤.
- نوري أوزجان، مقالــــــــــــــة بعنوان «رفيق فرسان» نُشرت
في دائرة المعارف الإسلامية التركية عام ١٩٩٥. - إرهان أوزدان، من مقالة بعنوان «المدارس الموسيقية العثمانية»، نُشرت في صحيفة «رصد الموسيقية»
عام ٢٠١٣. - مراد أوزيلدريم، من مقالة بعنوان «أم كلثوم» نُشرت
في صحيفة جمهوريات عام ٢٠٠٢. - مراد أوزيلدريم، من مقالة بعنوان «أم كلثوم.. نجم الشرق الذي لا ينطفئ» نُشرت في الذكرى المئوية لميلادها
في مجلة «أوركسترا» الموسيقية عام ٢٠٠٤. - مراد أوزيلدريم، من كتاب «وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين».
- جهاد راسي، «الموسيقى في العالم العربي: ثقافة وفن وطرب»، إسطنبول، ٢٠٠٧.
- ألفينا سيبجاتوليانا، من مقالة بعنوان «توفيق فكرت والنشيد القومي العثماني» نُشرت في مجلة «تُركبيليك» عام ٢٠١٢.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.