العدد ٣٤ - ٢٠٢٢

أبو خليل القباني وريادته المسرحية

محاولة في التأريخ

يحلو لمؤرّخي الفن المسرحي في العالم العربي منحَ الشيخ أحمد أبو خليل القباني لقب «رائد المسرح الغنائي العربي». إن هذا اللقب غير صحيح من الناحية التأريخية أولاً، وفيه غمز من قناته ثانيًا، على اعتبار أن العرض الذي كان يقدّمه، والمؤلف من حاصل جملة من الفنون العربية؛ كفنّ المقامة البغدادية، وحكايات ألف ليلة وليلة، ورقص السماح، وفن الموشح الغنائي، لا يرقى إلى سويّة المسرح الكلاسيكي بصيغته المقتبسة من موليير وشكسبير وغيرهما من واضعي أساس الشكل المسرحي الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر.

والحق؛ أن مارون النقاش هو الذي يستحق لقب رائد المسرح الغنائي العربي، لكون مسرحياته، التي نشرت في كتاب «أرزة لبنان» على يد شقيقه نقولا النقاش بعد وفاته ببضع سنوات، كانت أيضًا مسرحيات غنائية، لا تختلف كثيرًا من حيث بنْيتها وتوليفتها عن مسرحيات القباني. ومن المرجح، بحكم السابقة الزمنية، أن يكون القباني قد تأثر بطروحات النقاش، النظرية والتطبيقية، حول شكل العرض المسرحي العربي. لكنّ فرادة أبي خليل تكمن في تحقيقه المعادلة الصعبة التي يطمح لها أيّ مسرحي، حتى وقتنا الحاضر، والقائمة على الإمتاع والمؤانسة ذات البعد الفني البحت، والجماهيرية ذات البعد الاقتصادي، وهي التي تضمن الاستمرار. لقد كان بحقّ المسرحي العربي الأول الذي موّل مسرحه، بممثليه وفنيّيه الخمسين من شباك التذاكر، لمدة تقارب العقدين من الزمن، وهو ما لم يُتح للنقاش تحقيقه في عروضه الثلاثة التي قدّمها في مسرحه قرب ميناء بيروت بين العامين ١٨٤٧ و١٨٥٣.

وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لنشأة المسرح العربي، وهي مظهر أساس من مظاهر حركة النهضة العربية التي انطلقت من بيروت في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، إلا أنها لم تحظَ باهتمام مؤرّخي تلك المرحلة، وتُركت لهواة الفن الذين ساهموا بشكل أو بآخر في خلق وعي زائف عن هذه الظاهرة الحيوية؛ ساهم في تغريبها عن مضمونها الفكري، التنويري الإصلاحي، ووضعها في درجة أدنى من باقي الفنون والآداب التي نشأت في فضاء النهضة. لذلك تغدو الحاجة إلى إعادة الاعتبار للتجارب المسرحية الريادية في سورية العثمانية، نوعًا من إعادة الاعتبار للنهضة نفسها. وفي هذا الإطار، نضع محاولتنا كتابة سيرة أبي خليل القباني، بأدوات البحث التاريخي.

bid34_nahawand_khalaf1_bw.jpeg


أبو خليل القباني

 

الآغا بين حياتَين

ولد أحمد بن محمد بن حسين آق بيق، الشهير بالقباني، في شهر نيسان/ أبريل عام ١٨٤٢ في حي باب سريجة خارج سور مدينة دمشق، وهو من الأحياء التي شكّلت توسع المدينة العمراني في العصر العثماني. وثمة تضارب كبير في تواريخ ولادة أبي خليل المتداولة، غير أنّ التاريخ الدقيق لميلاده هو ما أثبتته وزارة الخارجية الأميركية في وثائقها استنادًا إلى جواز سفره العثماني، حيث كان عمره ٥١ عامًا حين دخل إلى الولايات المتحدة في شهر نيسان/ أبريل من عام ١٨٩٣ ١.

الأصل الأرستقراطي للعائلة واضح من لقب «الأغا» الذي كان يُطلَق عليه وعلى والده، كما على جميع رجال العائلة. وكان والد أبي خليل يملك فدادين عدة في جديدة عرطوز، غربي دمشق، ورثها عن والده، وأورث جزءًا منها لولده أحمد، والذي باعها، من جانبه، لكي يبني مسرحه في دمشق٢.

أنشأ القباني في حداثته مجتمعَه الخاص المكون من أصدقاء يهوون الطرب والموسيقى. كان يجتمع إليهم في بيت جده حسين آغا، شبه المهجور، فكان في تلك المرحلة من خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر يعيش حياتين متناقضتين: حياته الحقيقية، المفعمة بالموسيقى والأدب، وحياته التي يريدها له والده كطالب علم في الجامع الأموي، حتى تغلّبت الأولى على الثانية، ولم يكمل دروسه في الحلقات الدينية٣.

وتُجمع الروايات، بما فيها رواية محمد كرد علي، على أن تفكير أبي خليل في المسرح بدأ عند مشاهدته مسرحية في إحدى المدارس التبشيرية، قد يكون لفرقة فرنسية(!)، أو عرضًا لطلاب المدرسة اللعازرية، فأعجب هو ورفاقُه بها أيّما إعجاب «واعتقدوا أن من المستطاع تمثيل رواية مثلها، فأقدموا على العمل بعدما وضع لهم أبو خليل رواية قصيرة مثلت مرارًا في دار آل القباني»٤.

وتشير المعلومات التي جمعها أكثر من مؤرخ فني إلى أن شهرة أبي خليل في تلك المرحلة عمّت المجتمع الدمشقي وأثارت حفيظة والده محمد آغا أقبيق. ومن المؤكد أن ضغوط الوالد خصوصًا، والمجتمع الدمشقي عمومًا، حدّت من نشاطه المسرحي، فاقتصر على المناسبات الخاصة التي كانت تقام في بعض البيوت الدمشقية الكبيرة. وفي هذا الوقت بالذات تعرف عليه الوالي عبد اللطيف صبحي باشا الذي تولى ولاية سورية العثمانية خلال عامَي ١٨٧٢ و١٨٧٣ لمدة عام واحد وثلاثة أشهر.

وبحسب بعض الشهادات، يُعدّ صبحي باشا ركنًا مهمًّا في المرحلة الدمشقية من سيرة أبي خليل القباني، وهو من الولاة المتنورين الأدباء الذين تركوا بصمات في دمشق، برغم قصر المدة التي تولى فيها حكم سورية. وأول من ذكر ذلك محمد كامل الخلعي حين قال: إن صبحي باشا كلّف أبا خليل القباني في ذلك الحين بأن «يؤلف جوقًا للتمثيل يرقي بواسطته الأفكار السقيمة، إلى مكارم الأخلاق والمبادئ القويمة، فقام بهذه المأمورية خير قيام، حتى افتخر به الخاص والعام»٥.

ولا شك في أن الخلعي كان يشير في كلامه عن «الأفكار السقيمة» إلى عروض «خيال الظل» المنتشرة في مقاهي دمشق آنذاك انتشارًا واسعًا، والتي كانت حواراتها تعجّ بالبذاءات.

وبحسب المعلومات التي جمعها المؤرخ الفني حسني كنعان ونشرها في مجلة «الرسالة» عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩، اختار أبو خليل أحد خانات البزورية، فتمّ له ما أراد. والخان المقصود هو «خان أسعد باشا»، فالبعض لا يزال يسميه إلى الآن «خان البزورية» بسبب موقعه في قلب سوق البزورية الشهير.

وحول هذه المرحلة من تجربة أبي خليل؛ لا نملك حتى الآن وثيقة يمكن أن تدعم أيًّا من الروايات الكثيرة والمتعددة والمتناقضة أحيانًا، سوى نص نادر للديبلوماسي الفرنسي الفيكونت يوجين ملكيور دي فوغيه حول رحلته إلى دمشق بين يومي ٢١ و٢٦ من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر ١٨٧٢ في شهر رمضان، أثناء ولاية صبحي باشا على سورية، وفيه إشارة لعرض درامي موسيقي في خان أسعد باشا العظم، يتضمن «أغاني تروي قصص الصحراء»٦.

bid34_nahawand_khalaf2_bw.jpeg


جوق القباني كاملاً في شيكاغو

 

ضجة «عطر شان»

في الأول من حزيران/ يونيو عام ١٨٧٥، أعلن مراسل جريدة «ثمرات الفنون» البيروتية في دمشق محمد رشيد الجلاد، أن «دمشق الشام، معدن أهل الفضل الكرام، ومحطّ رحالهم، ومحمل ثناء رجالهم، وكعبة آمالهم، ومآل مجالهم، من قديم الزمان، حتى الآن»، شهدت في هذه البرهة تشخيص رواية «درويش مصباح وقوت الأرواح»، تأليف جناب الأديب الفاضل، والشهم الأريب الكامل، أحمد أفندي الدمشقي القباني، فأعجب بها جميع من حضر من قاصي وداني...»٧.

وفي وثائق قصر «يلدز» الأساسية وثيقة عثمانية فريدة مؤرّخة في مطلع الشهر العاشر من العام ١٨٨٠، تتضمن تقريرًا لمسؤول في جهاز المخابرات السرية في دمشق، يذكر فيه بشكل قاطع أن دار المسرح العربي (عرب تياترو خانة) كان قد رخص لها في العام ١٢٩١ هجري، الموافق عام ١٨٧٤ ميلادي، ولكن من دون الإشارة إلى مكان المسرح٨.

ووفق المعطيات المتوفرة، يمكن الاعتبار أن هذه الوثيقة هي الأولى التي تأتي على ذكر مسرحٍ عربي في دمشق، في تلك الفترة المبكرة، وتسمّيه «دار المسرح العربي».

العرض المسرحي الثاني للقباني في «دار المسرح العربي» هو مسرحية «عطر شان وورد الجنان»، في شهر أيلول/ سبتمبر على الأرجح من عام ١٨٧٥، بحسب صحيفة «ثمرات الفنون»، وهي المرة الأولى والأخيرة التي يرد فيها ذكر هذه المسرحية بهذا الاسم، ومن المرجح أن يكون القباني قد غيّر اسمها في فترة لاحقة.

أثارت مسرحية «عطر شان وورد الجنان» حين عرضها ضجة كبرى في دمشق، وانتقلت إلى بيروت، إذ قام مَن اعترض عليها، وشهّر بأبي خليل وبالمسرحية وبمن حضرها.

وتكشف الحصيلة الصحافية لتلك المرحلة من عمر القباني مجموعة من الحقائق الغائبة، وتجْلي الكثير من الغوامض وتداخل المراحل الذي وسم الكثير من الدراسات والمقالات. من هذه الحقائق:

    أن الوالي الذي منحه الترخيص بإقامة دار للمسرح العربي هو محمد حالت باشا، وهو الوالي الذي أتى بعد الوالي صبحي باشا.
    أن رؤية القباني الفنية كانت مكتملة في هذه المرحلة، فمسرحية «عطر شان وورد الجنان» كانت تضم جميع عناصر الفرجة «القبانية»، كالديكور والمناظر المبهجة، والأغاني والموشحات والألحان، والكوميديا اللطيفة، والحكم والمواعظ المفيدة.
    أن القباني كان يحظى باحترام ودعم أركان الولاية، من قائد الجيش، إلى الوالي، إلى أعيان وأفاضل الشام، بحسب شهادة رئيس بلدية بيروت أحمد أفندي أبازة في مقال كتبه في جريدة «ثمرات الفنون» بعد الحملة الظالمة ضده، وأن الجميع كان يثني عليه٩.
    يؤكد تقرير رئيس تحرير «ثمرات الفنون» أن الاعتراض على نشاط القباني له لون ديني، بدليل تدخّل الشيخ بكري العطار، أستاذ أحمد القباني حين كان طالب علم في الأموي، في الموضوع لكي يقنع أبا خليل بإيقاف نشاطه الفني، ويبدو أن ذلك تم بناءً على طلب الشيوخ المناوئين لرائدنا١٠.

bid34_nahawand_khalaf3_bw.jpeg


طاقم مسرحية هارون الرشيد

 

    العودة إلى المسرح

    بعد أقل من عامين، انفردت صحيفة «ثمرات الفنون» بنشر خبر لقاء والي دمشق المعيّن حديثًا، مدحت باشا، مع أبي خليل القباني في نهاية الشهر الأخير من عام ١٨٧٨.

    كتبت «ثمرات الفنون» أن مدحت باشا سأل «عن محلّ تشخيص الروايات في الشام، فأُجيب بعدم وجود ذلك». وأن أحد الحاضرين في مجلس الوالي روى قصة «جناب الذكي الفطن أبي خليل القباني»، وكيف اعترض عليه البعض بعد عرض إحدى مسرحياته، «فأظهر مزيد التعجب من ذلك، وبرهن أن تشخيص الروايات من جملة المحسنات التي يتقدم بها الوطن، وتنور أفكار أهله».

    وأضافت الجريدة أن الوالي استدعى بعد ذلك «أبا خليل الموما إليه، وسأله عمّا كان من أمر تلك الرواية التي شخصها، فعرض لأبّهته تفصيل ما كان، وكيف ترك هذا المشروع لاعتراض البعض عليه».

    وبعدما أعجب مدحت باشا بنباهته ولباقته، بحسب الصحيفة، طلب منه أن يعود إلى التمثيل، ووعده بأن يعضده ويساعده بجميع ما يحتاج إليه. انتهز القباني الفرصة وطلب منه «دار البلطجية» الواقعة في محلة القنوات، وهي من أملاك الدولة المتروكة، «فأصدر أمره إلى رئيس البلدية بأن يعطيه ذلك المحل مجانًا، ويساعده بما يطلبه». وقد ألحّ عليه بأن يسرع بالقيام بهذا «المشروع الحسن»١١.

    ولم يمضِ أقلّ من شهر حتى أعلنت «ثمرات الفنون» أن العمل في تجهيز مسرح أبي خليل القباني قد انتهى، وبات جاهزًا لتقديم العروض. وما هي إلا أيام حتى أعلنت جريدة «سورية» الرسمية أن الوالي «الأفخم صاحب الأبّهة والدولة مدحت باشا، شهد تشخيص رواية «الأمير محمود وزهر الرياض»، تأليف جناب الأديب البارع أبي خليل أفندي القباني في محل تشخيص الروايات في ثمن القنوات». وأكدت الجريدة أن «أركان الولاية كانوا من جملة الحاضرين يتقدمهم المفتي محمود أفندي حمزة»١٢.

    في نهاية شهر نيسان/ أبريل، أو النصف الأول من شهر أيار/ مايو، حضر عضو مجلس اللوردات البريطاني السير لورانس أوليفانت إلى دمشق لبحث تنفيذ مشروعه الاستيطاني الصهيوني في شرقي الأردن مع الوالي مدحت باشا، ويبدو أن الوالي أراد تكريم ضيفه فدعاه إلى حضور مسرحية «عايدة» لأبي خليل القباني، فكتب أوليفانت أن ««المسرح العربي» القائم على أسس شبه حضارية، هو من منجزات مدحت باشا. وروى أنه ذهب إليه ذات ليلة مع صاحب السعادة وفوجئ بالمظهر الحضاري للمسرح، فقد كان هناك قاطع تذاكر عند المدخل ومقاعد مرتّبة بعناية ومليئة بالمشاهدين الذكور حصرًا، وتم حجز الصف الأول من المقاعد للحاكم وحاشيته كما شاهد فرقة موسيقية مؤلفة من عازف عود وقانون وناي وضارب دف ومطرب، وكانت هذه الفرقة تحتل منصّة في زاوية المسرح... أما الستارة فقال إنها زيّنت بكتابات ورموز عربية، وكانت ترتفع وتنخفض بشكل راقص غير منتظم، وكان الممثلون يغنّون، ولم تتغير المناظر طوال مسرحية «عايدة» التي سبق لجوزيبة فيردي أن حوّلها إلى أوبريت».

    وذكر أوليفانت أن بطل المسرحية «أدّى دوره بقوة درامية، وكان يرتدي درعًا يشبه المعطف، وله قلنسوة رائعة الجمال يحدّها من الأسفل ما يشبه خرطومًا أسود، وكان يسير على خشبة المسرح بخيلاء، ثم يقوم بحركات دؤوبة لا يعتريها العيب من أي ناحية». وقال إن «صوته كان صافيًا من دون نشاز، أما ابنة الملك المصري التي كانت تحبه، وابنة الملك الحبشي التي أسرها في الحرب، فقد أدى دورهما ولدان ارتديا ألبسة الفتيات على مدار القصة، وكان من الصعب أن تميّز أنهما ليسا فتاتين، وقد أدّيا دوريهما بمشاعر جياشة وذكاء واضح. وأشاد أوليفات بجميع الممثلين الذين أدّوا أدوارهم بشكل أفضل من المتوقع. وأشار إلى وجود نساء بين الحاضرين يرتدين ألبسة شبه أوروبية، لافتًا إلى انسجام الجمهور مع الممثلين، وتفاعلهم مع المواقف الكوميدية التي تخللتها المسرحية»١٣.

    مسرح جديد

    بعد عزل الوالي مدحت باشا، واصل القباني نشاطه المسرحي. كان الوالي الجديد أحمد حمدي باشا يعرف أبا خليل القباني ومسرحه خلال فترة ولايته السابقة، لذلك تعامل معه باحترام وتقدير كبيرَين. كان يدعوه إلى الاحتفالات الرسمية لتقديم بعض العروض الخيرية، ومن ذلك ما نشرته «ثمرات الفنون» في تقرير نادر لمراسلها في دمشق أديب نظمي، حول حفل خيري برعاية الوالي أحمد حمدي باشا لمناسبة ختان خمسة وأربعين صبيًّا يتيمًا من تلاميذ مكتب الصنائع، قدم فيه أبا خليل عرضًا مسرحيًّا للتلاميذ ولأعيان الولاية بعنوان «الأمير سعيد»١٤.

    لا نعلم اليوم، أو حتى الشهر الذي انتقل فيه مسرح أبو خليل القباني إلى قلب مدينة دمشق التجاري في سوق «العصرونية»، ولا الأسباب التي دفعته إلى ذلك، ولكن؛ قد يعود السبب إلى رغبة الشيخ محمود أبو الشامات في تحويل مبنى «دار البلطجية» إلى زاوية صوفية، أو امتناع البلدية عن تأجيره المبنى الذي كان قائمًا في حديقة الأمة، والأهم من كل ذلك رغبته في الاستقرار.

    وتؤكد السالنامة العثمانية الخاصة بولاية سورية، وهي الكتاب السنوي الرسمي، أن المسرح العربي انتقل في العام ١٨٨١ من الحديقة إلى مكان آخر، من دون أن تحدد ماهيته سوى بكونه كبيرًا بثلاثة أبواب. وقد حققت انتقالة القباني إلى مسرحه الجديد في «العصرونية» ما كان يؤمل منها، إذ بات لديه «ريبورتوار» شبه ثابت، وأصبحت المناظر والديكورات أكثر احترافية، والجلسات أكثر راحة للمشاهدين.

    وكتب المراسل أديب نظمي أنه حضر في الآونة الأخيرة «تمثيل ثلاث روايات من جوق المتفنن الأديب أبي خليل أفندي القباني الذي أتقن هذا الفن بكل ما يتعلق به»، فالأولى دعيت بـ«ناكر الجميل»، والثانية رواية «عنترة العبسي»، والثالثة رواية «أنيس الجليس».

    المسرح في الفقه

    من غير الواضح متى بدأ المعترضون على مسرح القباني يطلّون برؤوسهم. لقد أكد الشيخ طاهر الجزائري أن الكثير من الفضلاء كانوا يسألونه عن رأيه الشرعي في موضوع الروايات (المسرحيات) التي ظهرت في هذه البلاد من نفع أو ضرّ، والمقصود هنا مسرحيات أبي خليل القباني طبعًا، فكان جوابه: «أنّ في المسألة تفصيلاً لا يمكن الحكم بدونه، وأن من ترك التفصيل فما أجمل، وأن محمول كل رواية هو واصف موضوعها وما يقترن به من الأحوال، فإنْ كان الموضوع فيه فائدة وذكرى، ولم تقترن بما يكون نكرًا، كانت الرواية بعيدة عن القدح جديرة بالمدح، وإن كان موضوعها ما يفسد الأخلاق ويعود على تقليد ممن لا حظَّ لهم في الكمال لأخلاق، أو كانت مقرونة بأمر فيه نكر، فهي بعيدة عن المدح، جديرة بالقدح لعظم مضرّتها على الناس، لا سيما الأحداث الذين هم أقرب لقبول ما يرون ويسمعون من غيرهم...»١٥. ويمكن القول إن رأي الشيخ الجزائري، وهو من ألمع علماء دمشق وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا، كان التخريج الشرعي الأول لفكرة عدم حرمة المسرح لذاته، بل لما يقدّم من مواضيع، حلالها حلال وحرامها حرام.

    لكن الشيخ الجزائري، ومن كان في صفّه من الشيوخ المتنورين، لم يكونوا لوحدهم، إذ كان هناك تيار آخر يرى أن الحرمة واقعة على المسرح لذاته، كونه يُعد نوعًا من الغيبة والنميمة. وتذكر غالبية المصادر المبكرة وجود عريضة وقّعها شيوخ الشام تطالب بمنع التمثيل في البلاد السورية، نظرًا لما ينطوي عليه من المفاسد الجمّة، وأن السلطان عبد الحميد أصدر إرادة سامية بمنع التمثيل في سورية استجابةً لهذه العريضة. وأول من أشار إلى هذه القصة محمد كامل الخلعي الذي نقل معلوماته عن أستاذه القباني بشكل مباشر، إذ كتب يقول بأسلوبه المسجوع: إن بعضًا من مشايخ الشام، قدموا تقريرًا إلى دار خلافة الإسلام، قالوا فيه ما معناه:

    «إن وجود التمثيل في البلاد السوريّة. مما تعافه النفوس الأبية. وتراه على الناس خطبًا جليلاً. ورزءًا ثقيلاً؛ لاستلزامه وجود القيان. ينشدن البديع من الألحان. بأصوات. توقظ أعين اللذات. في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات. فيمثل على مرأى الناظرين. ومسمع من المتفرجين. أحوال العشّاق. وما يجدونه من اللذة في طيب الوصل بعد الفراق. فتطبع في الذهن سطور الصبابة والجنون. وتميل بالنفس إلى أنواع الغرام والشجون. والتشبّه بأهل الخلاعة والمجون. فكم بسببه قامت حرب الغيرة بين العواذل والعشاق! وسفك الدماء البريئة وأراق. وكم سلب قلب عابد. وفتن عقل ناسك وحلّ عقد زاهد! كذا قد يرى الإنسان فيه من اللهو، وأحاديث اللغو ما يذهب بفكره. ويضلّ الطير عن وكره. حتى إذا ما ارتكبت النفس أعظم الموبقات. واجترمت أنكر المحرمات. وابتذلت الخدور. ونفقت سوق الفحش والفجور. وذهب المال. وساء الحال. لا ينفع من ثم التلافي بعد التلاف. ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف. ومثلوا بالتمثيل، زاعمين أنه أسّ كل رذيلة وفعل وبيل…»١٦.

    وفور تلقّي الوالي أحمد حمدي باشا برقية من إسطنبول في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر ١٨٨٣، أغلق مسرحَ القباني. وتشير وثيقة عثمانية بتاريخ ٢ تشرين الأول/ أكتوبر ١٨٨٣ إلى انتشار منشورات في دمشق تدعو إلى «فجر عربي جديد»، والثورة على الأتراك١٧، وقد أثبتت وثائق عثمانية أن السلطان عبد الحميد لم يكن يعلم بقرار منع التمثيل في ولاية سورية، وأن الأمر لا يتجاوز قرارًا من الصدر الأعظم.

    كان القباني في العام ١٨٨٣ قد بلغ أوجّ مجده في دمشق، فقد تواصل تعريف مسرحه بأنه أحد معالم مدينة دمشق في الكتاب السنوي للولاية (السالنامة) للسنة الرابعة على التوالي. واختلفت التسمية من «مسرح صغير داخل حديقة يقدّم مسرحيات باللغة العربية» خلال عامي ١٨٨٠ و١٨٨١، إلى «مسرح بثلاثة أبواب يقدم مسرحيات عربية» خلال العامين ١٨٨٢ و١٨٨٣، وهو ما يشير إلى انتقاله إلى مكان أرحب وفي مبنى دائم.

    الهجرة إلى مصر

    ذكر كامل الخلعي أن أستاذه القباني «حرر خطابًا إلى أحد أعيان الإسكندرية يستشيره في الشخوص من عدمه، ويخبره بما جرّعه به الدهر من كأس غدره وظلمه. فاستدعاه، مؤكدًا له نيل مناه. فكان الناس ينتظرون وقت وصوله، انتظار المحب رجْع رسوله، وأقاموا يترقّبون تحقيق ذلك الأمل، حتى حضر الفاضل الأجلّ. فقوبل من وجهاء القوم على الرحب والسعة، والكرامة والدعة». وكان ذلك في الثلث الأخير من شهر حزيران/ يونيو في العام ١٨٨٤، بحسب جريدة «الأهرام» المصرية التي كتبت: «قدم إلى ثغرنا من القطر السوري جوقٌ من الممثلين للروايات العربية يدير أعماله حضرة الفاضل الشيخ أبو خليل قباني الدمشقي الكاتب المشهور والشاعر المفلق، وقد التزم للعمل قهوة الدانوب المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي في جوار شادر البطيخ القديم، والجوق مؤلف من مهرة المتفنين في ضروب التمثيل وأساليبه، وبينهم زمرة من المنشدين المطربين، تروق لسماعهم الآذان وتنشرح الصدور، فنحث أبناء الجنس العربي على أن يتقدموا في عضد المشروع بما تعودوا من الغيرة، والتمثيل سيبتدأ به هذه الليلة غرة رمضان المبارك عند الساعة الثانية بعد الغروب (الساعة ٦ أفرنجية مساءً) وستتوالى في كل ليلة حتى نهاية الشهر، وأول رواية تشخص «أنس الجليس»، وهي بديعة مُسِرَّة، وأوراق الدخول تباع في باب المحل بأثمانها المعينة وهي: ٥ فرنكات للدرجة الأولى، و٢ للدرجة الثانية، و١ للدرجة الثالثة، وهي قيمة زهيدة في جنب الفوائد المكتسبة»١٨.

    حقق القباني نجاحًا منقطع النظير في الإسكندرية والقاهرة خلال عامَي ١٨٨٤ و١٨٨٥، وعرض لمدة شهر كامل في الأوبرا، غير أن حملة صحافية لجريدة «الزمان» استهدفته واتهمتْه بأشنع التهم، فحزم أمره وقرر مغادرة مصر بشكل نهائي في النصف الأول من العام ١٨٨٦، أي بعد حملة الجريدة مباشرةً. انتقل إلى الأستانة في العام نفسه، وعاد منها في العام ١٨٨٧ قبل أن يستقر في بيروت، ويبدأ سعيه الدؤوب لتأسيس مسرح احترافي فيها.

    وبعدما فشلت المحاولة بسبب القرار القديم بمنعه من التمثيل في ولاية سورية، عاد مكرهًا إلى مصر في العام ١٨٨٩ ليتفادى كارثة مالية. إلا أنه، وبعد أن تفادى الكارثة، عاد مجددًا إلى بيروت لكن ليأخذ فريقه الجديد إلى معرض شيكاغو في العام ١٨٩٣.

    ويبدو أنه لم يفكر بالعودة مجددًا إلى مصر إلا بعدما رأى بعينيه استحالة الحصول على ترخيص في بلاد الشام، فعاد هذه المرة إلى أرض الكنانة بنفسيّة مختلفة، وبرغبة في الاستقرار، فكانت بحق الحقبة الأكثر عطاءً في سيرته، إذ أعدّ نصوصه العشرين للنشر، ووضع كتابًا في أصول الأنغام، وأسس مدرسة فنية تخرّج فيها عدد من أعلام الموسيقى والغناء والتمثيل في تاريخ مصر أمثال كامل الخلعي والشيخ سلامة حجازي والشيخ درويش الحريري، وغيرهم الكثير من الذين كتبوا شهاداتهم وأقرّوا بفضله وأستاذيته. خلال هذه المرحلة التي استمرت من بداية العام ١٨٩٧ وحتى أواسط العام ١٩٠٠، اندمج القباني كلّيًا بالوسط الفني المصري، بعدما كانت علاقته في السابق محصورة بصديقه الحميم عبده الحامولي، وبات فريقه المسرحي يضمّ إلى جانب السوريين، الكثير من المصريين. وفي هذه المرحلة بدأ يخفف من ظهوره التمثيلي ليتفرّغ للإخراج والإدارة الفنية، كما رفع عن كاهله عبء الإدارة المالية، على ما يبدو، واستنّ عادة درج عليها في سنواته الأخيرة، شكلت منعطفًا في تاريخه الموسيقي، ألا وهي الوصلة الطويلة بعد العروض المسرحية، إذ تحدّث أكثر من مؤرخ فني عن أنه ابتكر طريقة جديدة خاصة به في الغناء، فكان «يسحر الألباب ويذهل العقول»، بحسب تعبير قسطندي رزق. وقد لمسنا آثار هذه الطريقة لدى بعض المطربين اللاحقين، وخصوصًا الشيخ سلامة حجازي١٩.

    اسمٌ ضارّ

    جرت الرياح بما لا تشتهي سفن القباني. حصلت له كارثة قاصمة، إذ احترق مسرحه في القاهرة، فعاد مجددًا إلى دمشق. وقد ذكرت مريم سماط شيئًا عن حالته النفسية وإحباطه بعد حريق المسرح، كما ذكرت أن الجوق المسرحي توجّه إلى البلاد الشامية٢٠.

    وثمّة وثيقة عثمانية مصدرها والي سورية ناظم باشا، تتحدث عن شركة مسرحية عربية من مصر، عملت في بيروت عدة شهور، وأنها وصلت يوم ٢٢ شباط/ فبراير ١٩٠١ إلى دمشق وأرادت تنفيذ مسرحيات هنا، فلم يسمح لها بذلك لأن رئيس هذه الشركة من الأشخاص المضرّين، وأنه أصدر أوامره لطردها من دمشق٢١. ومن المؤكد أن سبب طرد الفرقة ذِكر اسم أبي خليل القباني، الذي كان لا يزال ممنوعًا من التمثيل في ولاية سورية. ولا تفسير لهذه الوثيقة سوى أن أحدًا في الفرقة ذكَر اسمَ أبي خليل أثناء الاستجواب الروتيني لمنح الفرقة ترخيص التمثيل في دمشق، فأثار الاسم ما أثار من رد فعل غاضب، على الرغم من أن أبا خليل لم تكن له علاقة مباشرة بهذه العروض.

    ومن سخريات القدر أنه في الوقت الذي طُرد فيه الفريق المسرحي من دمشق على يد «بوليس» الولاية، بسبب أبي خليل القباني، كونه أحد «الأشخاص المضرّين»، كان السلطان عبد الحميد يوقّع إرادة سنية بتخصيص معاش شهري لكريمات أحمد أفندي آقبيق زاده من أهالي الشام الشريف، سلوى وعادلة وكاتبة، قدره خمسمائة قرش»٢٢.

    ويبدو أن القباني لم ينقطع عن الموسيقى والغناء بعد أوبته من إسطنبول. وهناك مخطوطة لأمين صيداوي، مؤرّخة بيوم العاشر من تموز/ يوليو ١٩٠١ نَشر مقاطعَ منها وصفي المالح في كتابه «تاريخ المسرح السوري ومذكراتي»، تؤكد إحياء أبي خليل القباني حفلاً كبيرًا بمناسبة زواج الابن الوحيد لصديقه الحميم إبراهيم نقاش في حي باب توما٢٣.

    وفي تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٠٢، تفشّى وباء الكوليرا، المنقول من حجّاج الهند، في منطقة المشرق العربي ومصر، ففرض الحجر الصحي على دمشق لأكثر من عام، كما يقول الشيخ جمال الدين القاسمي، بعدما ذهب ضحيته الآلاف، وكان من بين ضحاياه الشيخ أحمد أبي خليل القباني.

    على شاهدة قبره في مقبرة باب الصغير هذه الأبيات:

    لسميِّ أحمد جاء داعـــــي الحق إذ    بعد الصيـام قضى بيوم أشرف

    وبحضرة الرحمن سار أبو خليـ    ـل معيِّدًا يا حبذا بــــــــه من وفي

    أعنيه قباني من أفضاله    كالشمس قد ضاءت ولم تك تختفي

    لله قبر قد حوى حبرًا فما    أعجب به بحرًا غدا بالصدف

    وإلى جوار الله زفَّ بجنة   منها لقد أرَّخ بدا بالغرف

    وبناءً على حساب الجمل تكون جملة «بدا بالغرف» هي التاريخ المقصود، كونها تأتي بعد كلمة «أرَّخ» ومعادلها الرقمي ١٣٢٠ وهي السنة الهجرية. وفي الأبيات السابقة تأكيد أن الوفاة تمت في أول أيام عيد الفطر، في الأول من شوال. وهو ما يعادل ٣١ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٠٢، أي أنه عاش ٦٠ عامًا، قضى منها أربعين مهجوسًا بالمسرح والموسيقى.

    وفي رثائه كتب تلميذه كامل الخلعي أن المنيّة وافتْه «ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ١٣٢٠ هجرية، فهلعت القلوب عند هذا النبأ العظيم، وارتاعت النفوس لوقعه الأليم. بموته أحيا الأسف، وشوى الأكباد على جمر التلف. فكم ارتفعت عليه من الصدور حسرات وزفرات، وسالت من المآقي دموع وعبرات... ترك خلفه فنونًا تبكيه، وتلامذة ترثيه، ومرسحًا كان بوجوده مجمع الأنس ونادي الهنا والسرور، فإذا ما صعد عليه صفق الناس طربًا وانشرحت الصدور. تفرّق شمل صحبه والرفاق، وآخر الصحبة الفراق»٢٤.

    يمكنكم الاطلاع على مسرحيات القباني كاملةً وفق تسلسل سنوات عرضها عبر الموقع الإلكتروني للمجلة.

العدد ٣٤ - ٢٠٢٢
محاولة في التأريخ

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.