مارك هنري مانغى
«لا يوازي قناعتي الشديدة بدونيّة وسائلنا الموسيقية، إلّا قناعتي بأنّ فنّنا الشرقي سيكون علم الموسيقى للمستقبل».
(وديع صبرا – في محاضرة ألقيت بتاريخ ٣٠/٦/١٩٢٢ في مسرح «كريستال»).
لا تشبه شخصية وديع صبرا الموسيقية أي شخصية أخرى. إنه ابن الشرق، الذي أُرسِل إلى فرنسا في سنٍّ مبكرة (بفضل بصيرة السيد سانت رينيه تيلاندييه، قنصل فرنسا آنذاك)، ودرس الموسيقى الأوروبية في باريس، لكن من دون أن يفقد الصلات ببلده الأم، الذي عاد إليه مرارًا*.
بالنسبة لعقل أقلّ اتزانًا، لن تؤدّي الدراسة المزدوجة سوى إلى الضياع والارتباك خصوصًا أنّ مفهوم الجمال الموسيقي يختلف كلّيًا بين الغربيين والشرقيين. لكنّ ذكاء صبرا سمح له بأن يصبح، بطريقةٍ ما، متعدّد اللغات موسيقيًّا، لدرجة أنّه يروِّج بحماسةٍ للموسيقى الفرنسية عندما يزور وطنه الأم، فيما يصبح المبادِر إلى تطوير أسلوب الموسيقى العربية المثير عندما يكون في باريس. وفي الوقت نفسه، لا يحول ذلك دون تحوّله إلى عازف الأورغ الأيرع لإحدى كنائسنا البروتستانتية الرئيسية.
المشروع المعلَّق
«يجب أن نرى في وديع صبرا فنانًا ذا قيمةٍ عالية. يتحدّث ويكتب بلهجتين موسيقيتين مختلفتين كلّيًّا، وبالسهولة نفسها، مع إدراك سحرهما وجمالهما بالتساوي. وهذه حقيقة فريدة في تاريخ الفن».
ألبير لافيناك، عميد الأســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاتذة في كونسرفتوار
باريس: «جريدة المســــــــــــــــــــــــــارح والحفلات الكبرى في باريس» (Gazette des Théâtres et des grands concerts de Paris) – (٥/١٢/١٩٠٨).
من المزعج ألّا يُعطى هذا التصريح حقّه لا سيّما أنّه صادر عن أحد أبرز مفكّري الموسيقى العالمية ومؤرّخبها. لذلك، إذا ظهر اسم وديع صبرا اليوم في موسوعة لاروس، فهو من دون أدنى شكّ علامةٌ على الاحترام والتقدير الغربيين اللذين اكتسبتهما هذه الشخصية اللبنانية البارزة، ومؤسّس الكونسرفتوار الوطني للموسيقى، والذي توفي منذ ٢١ عامًا (١٨٧٦–١١ نيسان/ أبريل ١٩٥٢) ونسيه الرأي العام والوطني من حينها، على الرغم من أنّه يدين له بالكثير! لكن، لمَ المفاجأة؟ أليس هذا مصير العظماء في كلّ مكان تقريبًا، الذين لا يتمّ تذكّرهم، كما يُقال، إلّا بعد مرور ربع قرن من تجهيلهم؟
يجب الاعتراف بأنّ القدر لم يسمح له بتنفيذ المشروع الأقرب إلى قلبه بسبب شيخوخته – باستثناء تأسيس الكونسرفتوار اللبناني – والذي كان سيجعل بيروت ولبنان المكان المختار لإطلاق مواجهة موسيقية عالمية من حيث «موازين الصوت» و«السلّم الموسيقي» في خمسينيات القرن الماضي. كان المشروع عبارةً عن «مؤتمر موسيقي عالمي» خُطِّط له للمرّة الأولى في عام ١٩٤٦، أي بعد عام من الحرب العالمية الثانية. لكنّه لم يُعقد بسبب ظروف مؤسفة على الرغم من الجهود التي بذلتها لجنة المبادرة التي ضمّت عبد الله بَيهم، وأحمد الداعوق، والأب دوبونفيل، وبايارد دودج، وبارت دو سانفور، وغاستون ليدوك، والأمير مجيد حيدر، وميشال شيحا، وشارل قرم، وشارل حلو، ورامز سركيس، وسعيد عقل، وسكرتير اللجنة التحضيرية جورج ملحمة.
كانت أعمال وديع صبرا موضع تقدير، وهذا ما تُعبّر عنه السطور الآتية: «بعد ثلاثين عامًا من البحث، قادت هذه الأعمال زميلَنا إلى اكتشاف وحدة قياس الفواصل الموسيقية الحقيقية التي يُفتقر إليها حتى الآن»، ووفقًا للسيد برودان بروفو في ١٩٤٠ «سيكون لها تأثير كبير على مصائر الموسيقى».
منذ عام ١٩٢٣، عند تقديم محاضرة لوديع صبرا في مسرح Salle Pleyel حول «القيمة التجديدية للموسيقى الشرقية»، ألم يَكتب جول بونديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه في «دليل الحفلات» (Guide du Concert) الباريسي أنّ «قوانين التنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاغم الأساسية تتعزّز إذا ثبُت أنها أساس كل الموسيقى الشرقية». وهذا بالضبط ما كان ينوي وديع صبرا، ابن لبنان اللامع، أن يبرهنه نظريًّا وعمليًّا للأجيال المقبلة.
النشيد العثماني و«البيانو الشرقي»
ولد في ٢٣ شباط/ فبراير ١٨٧٦ في عين الجديدة، وهي بلدة صغيرة في منطقة بحمدون. كان محظوظًا وتمكّن من إكمال دراسته الابتدائية في المدرسة التي يديرها والده، ثم تابع دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. وكما أشار أنطوان سفر، في مقال في Matin Littéraire بتاريخ ٩/٤/١٩٥٣، تلقّى الشاب صبرا دروسه الموسيقية الأولى من الآنسة غريس أمين شكور وتيودورا كساب، وكذلك من البارون فون روبلين.
في ذلك الوقت، منحه القنصل سانت رينيه تيلاندييه منحةً دراسيةً للدخول إلى كونسرفتوار باريس في عام ١٨٩٢ عن عمر يناهز ١٦ عامًا، حيث سيعلّمه على مدى سبع سنوات كلٌّ من ألبير لافيناك، وألكسندر غيلمان، وبول فيدال، ولونوفو، وبورغو- دوكودريه، وجيروديه. كان بالكاد يعرف بضع كلماتٍ بالفرنسية عندما وصل إلى باريس، وهو ما لاحظه لافيناك بعد فترة وجيزة متسائلًا عن قدرته على متابعة دروسه، والتي برغم ذلك استفاد منها إلى أقصى حدود. في عام ١٩٠٠ كان صبرا قد تعلّم ما يكفي لينال توصيةً قضت بتعيينه عازف أورغ في إحدى أشهر كنائس باريس: كنيسة الروح القدس حيث عزف لمدة عشر سنوات أخرى. مع ذلك، في بداية العام ١٩٠٨، استُدعي إلى إسطنبول لتلحين النشيد العثماني الذي فاز بمسابقته، وعُزِفُت موسيقاه من قبل أوركسترا وجوقة ضمّت مئات الموسيقيين وأمام حشد من عشرات آلاف المستمعين. قد يكون هذا النجاح الإقليمي وراء حنينه إلى الوطن.
بعد عامين، ترك صبرا منصبه كعازف أورغ باريسي وعاد إلى بيروت تحدوه رغبة في تأسيس «مدرسة للموسيقى». لم يكن أمام الباب العالي سوى تشجيع مؤلّف نشيده الوطني على هذه الخطوة. وفي عام ١٩١٠، صدر قرار تأسيس «دار الموسيقى»، وهي أول مدرسة للموسيقى الغربية والشرقية، ليس في لبنان فقط، ولكن في الشرق الأوسط كلّه. ثمّ أغلقت الدار لسنوات عدّة بسبب الأحداث السياسية التي أعقبت حرب العام ١٩١٤. وفي هذه الأثناء، انتهز صبرا الفرصة لإنشاء كونسرفتوار في إسطنبول ثمّ عاد مرّة أخرى إلى باريس بعد الهدنة، وهذه المرّة وصل إلى Pleyel – شركة بلييل للادوات الموسيقية – حيث قدّم إلى عالم الصوت اللامع غوستاف ليون نتائج بحوثه التقنية حول السلّم الموسيقي الشرقي.
عام ١٩٢٠، وبفضل الانتداب الفرنسي، تمكّنت «مدرسة الموسيقى» من إعادة فتح أبوابها، وعاد صبرا إلى بيروت مع مشروعٍ واضحٍ يقضي باختراع آلة بيانو قادرة على إصدار التقسيمات الصوتية للأنغام الشرقية، أو ما يُعرف بـ«البيانو الشرقي» بعد الحرب العالمية الثانية، أتيحت لي فرصة التعبير عن تقديري لهذا الاختراع بمزاياه التصميمية وقدراته التنفيذية بحضور صبرا نفسه. كان هذا الاكتشاف مصدر إلهامٍ لاحق لبحث مُماثل أجراه عبد الله شاهين لتأسيس علامته التجارية من البيانوهات المبنية وفق الفواصل الموسيقية الخاصّة بالموسيقى العربية. (...) مُشبعًا بأفكاره التنبوئية ومتيقّنًا من تحقيقها، انطلق صبرا في جولة محاضرات عبر فرنسا ومصر للقيام بسلسلة من التجارب التي أثارت بعض ردود الفعل الإيجابية في فرنسا، وقد سبق ذكرها، فيما أسّس لـ«المؤتمر الأول للموسيقى العربية» الذي عُقد عام ١٩٣٢ في القاهرة، ودُرِست خلاله الأعمال الرائعة للبارون رودولف ديرلونجيه، الذي بادر، مع صبرا، بإطلاق سلسلة من الأبحاث المتخصّصة حول هذه المسألة المهمّة. خلال هذه الفترة زُجّ بصبرا لأسابيع في سجنٍ عثماني إثر خطأ مؤسفٍ ارتكبته الشرطة التركية لجهلها بهوية مؤلّف نشيدها الوطني! بعد خروجه من سجن «سيواس» وسط ضجّة عارمة، طلبت السلطات العثمانية من صبرا المضي في تأسيس كونسرفتوار في إسطنبول. في السياسة، لا مفاجآت.
بين الشرق والغرب
عند عودته من سلسلة المؤتمرات التجريبية، أعادت Pleyel فتح ورشات وديع صبرا الصوتية في باريس، لا بل جهّزت له استوديو خاصًا، ووعدت أيضًا بتخصيص بيانو كلّ عام لتعويض التكاليف الأولى لإنشاء «دار الموسيقى»، الذي أصبح «المدرسة الوطنية للموسيقى» في عام ١٩٢٥ بموجب قرارات صادرة في ١٢/٩ و٣١/١٠/١٩٢٥ مذيّلة بتوقيع ليون كايلا (راجع «الموسيقى في لبنان» – مارك هنري مانغوي – بيروت – منشورات دار النهار). بعد أن أصبح إداريًّا وملحّنًا وتقنيًّا في أساسيات الموسيقى، أمضى صبرا أيامه مُتكئًا على طاولة العمل على حساب إنجاز الأعمال الإدارية. هناك ولدت مؤلفاته الموسيقية الجريئة من بين أصابعه الماهرة: للعثور على الرابط الدقيق على جميع المستويات بين المفهومين الشرقي والغربي للموسيقى في القرن العشرين، وقد كان هناك رابط فعلي وقريب طوال فترة العصور الوسطى، إذ دُرِّست الموسيقى العربية في باريس، شارع سانت جاك، في منتصف القرن الثالث عشر خلال عهد الملك سانت لويس.
بنتيجة التنافس على مسابقة تلحين النشيد اللبناني، فاز صبرا على ٢٨ متسابقًا آخرين عام ١٩٢٧، وكانت كلماتُ النشيد، كما يعلم الجميع، لرشيد نخلة. في العام نفسه، قدّم «الملكان» (Les Deux Rois) في التياترو الكبير ببيروت، وكانت أول أوبرا باللغة العربية، أعقبها تقديم أول أوبرا باللغة التركيـــــــــــــــــــــــــــة بعنوان «رعاة كنعان» (Les Bergers de Canaan). وبعدها بعامين قدّم أوبريت «المهاجر» (L’Émigré) بالفرنسية، وهو موضوع لبناني بامتياز خلال تلك الفترة! كذلك استمرّ بعرض عمل غونو الجميل «ميراي» في التياترو الكبير من بطولة أرليت الخوري.
١٩٢٩. في هذا العام، صدر مرسوم قضى بتحويل المدرسة الوطنية للموسيقى، التي تضمّ ٢٠٠ طالب و١٠ أساتذة، إلى «المعهد الوطني للموسيقى». سيواجه وديع صبرا، المُبتكر البارع وتقني الفواصل الموسيقية والملحّن، مشاكلَ إداريةً في مناسبات مختلفة – لا سيما تلك المتعلّقة بمقرّ الكونسرفتوار – التي لن يجد فهمًا كافيًا لها، للأسف، بين المستشارين الثقافيين في ذلك الوقت. وقد كتب غبريال بونور، أحد المستشارين في اليوم التالي لوفاة صبرا – بعد أن أزعجه لفترة طويلة: «عاش وديع صبرا في الموسيقى في حالة من الزهد الروحاني والشعور المرهف بالحياة الداخلية للفن».
هل يجب أن يختفي المرء حتى ينال التقدير؟
بعد الاستقلال، باتت المشكلات أبسط، جزئيًّا على الأقل. وجد مدير (مؤسّس) الكونسرفتوار الوطني منذ نحو عشر سنوات، الأساس لـ«سلّم موسيقي عالمي» حاول كثيرون اكتشافه من قبله. وبعد فترةٍ كتب مقالًا مهمًّا عن السلّم الموسيقي الصغير نُشِر في مجلّة باريسية متخصّصة بعلم الصوتيات. عام ١٩٤٠، قدّم عرضًا جديدًا لنظام مثالي لتقسيم البُعد الصغير للأوكتاف أو الفواصل الإثني عشر لنغمات القرار، وأطلق في الوقت نفسه مشروعًا تجريبيًّا جديدًا: «الموسيقى العربية أساس الفن الغربي». كان لهذه الأعمال تأثير لا فكرة لدينا عنه اليوم. ولكننا نجد، في ذلك العام نفسه، هذه السطور المهمّة التي كتبها مؤلف «الموسيقى المُجدّدة» برودون بروفو: «تمامًا كما تدمّر نظرية الكمّ في الطاقة مفهومَ الاستمرارية، سيضع السلّمُ الموسيقى العالمي الذي ابتكرته حدًّا لفكرة استمرارية التردّدات الموسيقية التي يلتقطها دماغنا. وحدتُكَ القياسية هي من أنواع الكمّ لإدراك طبقة الصوت».
عندما التقيتُ الأستاذ وديع صبرا صدفةً في أروقة واستوديوهات «راديو الشرق» خلال الساعات الأخيرة من الحرب، ذهلتُ بشرود هذا الموسيقار، الذي شغَلته الصعوبات لحينها، ومنعته من تحقيق حلمه في إيصال اكتشافه إلى جميع فنيّي الموسيقى في خلال المؤتمر الذي لم يُعقد مطلقًا للأسف. بعد ذلك، بدأ العمر يثقل كاهله ويظهر على كتفيه المنحنيتين تحت وجهه النحيف وعظام خدوده الغائرة.
عام ١٩٥٠، كادت الذبحة القلبية الأولى أن تقتله. لكن بفضل اهتمام زوجته ومحبّتها ومساعدتها في الأمور الإدارية اليومية، تمكّن صبرا من الصمود لفترةٍ من الوقت. وفي مساء ١١ نيسان/ أبريل ١٩٥٢، توفي العالِم والرائد الجريء في الموسيقى اللبنانية الشرقية التي تخلّصت من تعقيداتها بأرباع النغمات ووصلت طواعيةً إلى الأذن الغربية. تخلّت هذه الموهبة اللبنانية اللامعة عن المشهد الدنيوي وانتقلت إلى الأعلى لاستكشاف سلّم موسيقي ملائكي جديد.
ترك صبرا أكثر من مئة لحنٍ من جميع الأنواع – الترتيبات الشرقية للبيانو والكانتاتا والمقطوعات الكلاسيكية والأوبرا التي سبق ذكرها، وكذلك النشيد الوطني – لكنّه لم يثق، للأسف، بأحد، ولم يكشف عن سرّ هذه «الوحدة العالمية» الذي كان سيسمح، من دون أدنى شك، لمعاصرينا من الشرق والغرب بالالتقاء على أرضيّة مُتناغمة بالفعل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.