الخِلد حيوان لطيف ينقّب بدأبٍ الأنفاقَ في الأرض ثم يكسر القشرة، على نحو هو الأقل توقعًا، ويخرج فوق الأرض. إن نشاطه الباطني، والأهم انتفاضاته الفجائية، جعلت من البهيمة الصغيرة الوقحة رمزًا للثورة في القرن التاسع عشر. استَشهد ماركس في «١٨ برومير» بعبارةٍ من «هاملت» لتحية جهود الحيوان «أحسنت حفرًا وتنزيلاً، أيها الخلد الحبيب!». كتاب أمير صادِر «الخلد الجديد» مكرّس لظهور جِراء الخلد في أميركا اللاتينية في السنوات القليلة الماضية. ذلك أنه في مطلع القرن الواحد والعشرين، تُقدّم القارة مقارنة فاقعة مع معظم أنحاء المعمورة: حكومات ميّالة لليسار، غالبًا ما تدعمها حركات شعبية راديكالية، موجودة في السلطة على القسم الأكبر من مساحتها، من الأرجنتين إلى السلفادور، ثم تنعطف لتشمل أكبر قوة في المنطقة، البرازيل، وأكبر منتج للنفط فيها، فنزويلا.
صادِر، المولود في ساو باولو العام ١٩٤٣، مؤلف دزينة كتب وأبحاث عن السياسة في البرازيل وأميركا اللاتينية، كما عن مصائر اليسار واستراتيجياته — من «الدولة والسياسة عند ماركس» (١٩٨٣) ودراسات عن الثورات في كوبا وتشيلي ونيكاراغوا إلى «بطاقات بريدية إلى تشي غيفارا» (١٩٩٧) و«القرن العشرين» (٢٠٠٠) وهي سيرة غير رسمية للقرن العشرين. وصادِر الآن رئيس «المجلس الأميركي اللاتيني للعلوم الاجتماعية» ولا يقتصر أمره على أن يكون عالمًا اجتماعيًّا نافذًا، بل هو مناضل غير تائب أيضًا، من فئة الذين لم يستبدلوا خمرهم الأحمر بالماء المعدنية أو الكوكا كولا. وكما يروي في مقدمة سيرته الذاتية، بدأ صادِر كمناضل العام ١٩٥٩ عندما دُعي هو وأخوه آدير للانضمام إلى مجموعة «لوكسمبورغية» صغيرة. كانت مهمته الأولى توزيع جريدة اشتراكية، كانت صفحتها الأولى تحيي انتصار الثورة الكوبية على ديكتاتورية فولجنسيو باتيستا.
وكما هو حال مجايليه، تأثر صادِر تأثرًا عميقًا بالظهور المفاجئ لـ«الخلد» في تلك الجزيرة الكاريبية، وهو حدثٌ ترك آثاره على القارة كلها. في حديثه عن تلك السنوات، يلاحظ أنه بدا كأنّ تلاقيًا هيغليًّا قد حصل بين النظرية والواقع، بين الماركسية والثورة. يصف قول تشي المأثور «إما ثورة اشتراكية وإما مسخ ثورة»، بأنه «الشعار الذي أعطى لحيواتنا معنى». بدا في مطلع الستينيات أن تلك الاندفاعة إلى الأمام لا تقاوم، ثم توالت سلسلة الانتكاسات والهزائم، من الانقلاب العسكري في البرازيل إلى عودة الرأسمالية على امتداد الكتلة السوفييتية بعد العام ١٩٩١. على أن تلك الارتدادات لم تكن عند صادِر سببًا للاستسلام: كانت الرأسمالية في شكلها الحاضر أشدّ ظلمًا من أي وقت مضى ومسؤولة عن حالات الحروب والمجاعة والحرمان العميمة وتدمير البيئة؛ وما دامت الرأسمالية باقية، تبقى الاشتراكية في الأفق التاريخي بديلاً ممكنًا.
لذا كان كتاب «الخِلد الجديد» مبنيًّا بما هو تحقيق في الأشكال الحاضرة من النضال المناهض للرأسمالية في أميركا اللاتينية وفي احتمالاته القادمة. يبدأ أمير صادِر تحليله بتقسيم تاريخ القارة منذ الثورة الكوبية إلى ست دورات من النضال السياسي. جاءت الأولى بين ١٩٥٩ و١٩٦٧، وهي فترة ظهور الحركات المسلحة الريفية في عدد من البلدان تحت تأثير الثورة الكوبية. أعلن موت تشي غيفارا نهاية الموجة الأولى. في الدورة الثانية، من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣، حلّت الحركات المسلحة المدينية محلّ الريفية، فيما كان سلفادور ألليندي يحاول تجربة فريدة في تشيلي. في الفترة الثالثة بين ١٩٧٣ و١٩٧٩، بدا اليسار مهزومًا فيما الديكتاتوريات العسكرية تتسلم الحكم في تشيلي والأرجنتين وأوروغواي، وتنضم إلى لائحة طويلة من البلدان — بوليفيا، البرازيل، الإكوادور، هندوراس، نيكاراغوا، باناما، باراغواي، بيرو — التي سبقتها تحت الحكم العسكري. بدأت مرحلة رابعة العام ١٩٧٩ عندما تسلمت «جبهة ساندينيستا للتحرر الوطني» الحكم في نيكاراغوا واستمرت حتى ١٩٩٠؛ في تلك السنوات شكلت الحركات المسلحة تحديًا قويًّا للحكومات، في بلدان أخرى من أميركا الوسطى، وفي السلفادور خصوصًا. تجري المرحلة الخامسة من ١٩٩٠ إلى ١٩٩٨، تفتتحها الهزيمة الانتخابية للساندينيين وسقوط الاتحاد السوفييتي، الذي خسرت كوبا بعده الدعم السوفييتي وبدأت تعاني مصاعب «الفترة الخاصة». والأهم من هذا كله هو انتصار النيوليبرالية على امتداد القارة خلال تلك الدورة، وقد كسبت تأييد الأحزاب القومية والاشتراكية الديموقراطية السابقة، واحتلت الأطياف السياسية كلها.
انهيار النموذج النيوليبرالي
لكن في الحقبة الأقرب إلينا، جابهت الهيمنة النيوليبرالية انتكاسات متتالية. انتخاب هوغو تشافيز في فنزويلا العام ١٩٩٨ أعقبته انتفاضات، عند منعطف القرن، ضد الحكومات في بلدان عدة: أجبر رؤساء على الهرب من قصورهم في الأرجنتين العام ٢٠٠١، وفي بوليفيا العام ٢٠٠٣ و٢٠٠٥ والإكوادور في ٢٠٠٥ وأحرزت القوى التقدمية انتصارات انتخابية بمستويات مختلفة: «لولا» في البرازيل العام ٢٠٠٢، تاباريه فاسكيس في أوروغواي العام ٢٠٠٤، إيفو موراليس في بوليفيا العام ٢٠٠٥، رافائيل كورّيا في الإكوادور العام ٢٠٠٦، فرناندو لوغو في باراغواي العام ٢٠٠٨. وتكرّس معنى «الانعطافة اليسارية» في أميركا اللاتينية بتعزيز العديد من تلك القوى: تجاوز تشافيز محاولة انقلابية ضده واستفتاء لنزع الشرعية عنه وفاز بدورة رئاسية جديدة العام ٢٠٠٦؛ في العام ذاته، أعيد انتخاب «لولا»؛ وبقي موراليس وكورّيا في الحكم العام ٢٠٠٩؛ وخلَف خوسي موخيكا في مونتيفيديو تاباريه فاسكيس؛ وفازت ديلما روسّيف، المرشحة المدعومة من «لولا»، في الانتخابات البرازيلية العام ٢٠١٠.
ما الذي يفسّر انهيار النيوليبرالية في القارة التي كانت «مختبرها» ذات مرة؟ يشير صادِر إلى حالات الفشل الاقتصادية لسياسات «توافق واشنطن» التي سيطرت على التضخم النقدي، إلا أنها أنتجت مديونيات حكومية متنامية ما جعل البلدان المعنية بالغة الهشاشة في وجه هجمات المضاربة الريعية. ففي غضون عقد من الزمن، كان النموذج النيوليبرالي قد تسبب بأزمات كارثية في أكبر ثلاثة اقتصاديات في المنطقة: المكسيك العام ١٩٩٤، البرازيل العام ١٩٩٩، والأرجنتين العام ٢٠٠١. ولكان لسياسة «الانفتاح» التي اعتمدتها اقتصاديات أميركا اللاتينية أيضًا نتائج اجتماعية بعيدة المدى، فقد أدى تقليص التصنيع وتوسّع القطاع المالي إلى ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم تمركز الدخل بين الأغنياء من جديد. وقد ترافقت تلك المسارات مع تذرير القوة العاملة وارتفاع نسبة العمل غير الرسمي في أوساطها، وإفقار فئات الدخل المنخفض والمتوسط. ورأى صادِر أن النيوليبرالية كانت ناجحة على الصعيد الأيديولوجي، فيما فشلت في تأسيس قواعد اجتماعية ضرورية لإكسابها الشرعية والاستمرارية، ففي غضون سنوات قليلة كانت قد «استنفدت طاقة الهيمنة لديها من دون أن تنجز أيًّا من وعودها»، فأدّت الأزمات الاقتصادية والمظالم الاجتماعية إلى سقوط عشر حكومات على الأقل — هذه المرة ليس نتيجة انقلابات عسكرية وإنما نتيجة فقدان الشرعية.
تجربة «لولا» في البرازيل
يخصص صادِر فصلاً كاملاً لما يسميه «لغز لولا». وتفسير المكانة البارزة التي تحتلها البرازيل في كتابه لا يعود فقط إلى خلفية المؤلف، إنما أيضًا إلى الأهمية الموضوعية لذاك البلد في سياسات أميركا اللاتينية. كان لانتصار «لولا» الانتخابي العام ٢٠٠٢ جذوره في مقاومة الديكتاتورية كما في معارضة النيوليبرالية وسياسة «تجديد العملية الديموقراطية» في العام ١٩٨٥. تأسس «حزب العمّال» العام ١٩٨٠ في محاولة لخلق نوع جديد من السياسة اليسارية، تتخطى الاشتراكية الديموقراطية والشيوعية السوفييتية في آن. وقد لعب الحزب دوره في تكوين حركات عمّالية وفلّاحية كما في تأسيس «المنتدى الاجتماعي العالمي» في بورتو أليغري، المدينة الجنوبية حيث طبّقت الإدارة التابعة لحزب العمّال «ميزانية تشاركية»، وهي نوع مبتكر من الديموقراطية التشاركية. ولكن بعد أن هزمه مرشحون نيوليبراليون في الانتخابات الرئاسية في ١٩٨٩ و١٩٩٤، زاد استقلال «لولا» عن حزبه. والواقع، كما يقول صادِر، إنه لم تكن له صلات بالتقاليد اليسارية في البرازيل: بصفته مناضلاً نقابيًّا، كان يفتقر إلى أيديولوجية ثورية أو راديكالية، يؤْثر المفاوضات على الانقطاعات.
إن الرصيد الذي يجريه صادِر لحكم «لولا» بعيد من أن يكون ورديًّا: يشخّصه بما هو شكل من أشكال الليبرالية الاجتماعية التي لم تتحدَّ هيمنة رأس المال المالي ولا الإمبريالية الأميركية. وقد تأمنت الاستمرارية مع التوجه النيوليبرالي للحكومات السابقة بواسطة سياسات أساسية عدة: استقلال البنك المركزي — الذي يرأسه هنريكي مايرلليس، المدير السابق لـ«بنك بوسطن» [الأميركي] — الفوائد المرتفعة، تخفيض المديونية ولو بوتيرة أسرع من تلك التي يتطلّبها صندوق النقد الدولي. وربما كان الأسوأ في كل هذا هو تحالف حكومة «لولا» مع المصالح الزراعية على حساب أمن البلد الغذائي والوعود بإصلاح زراعي. وإلى هذا التقصير أضيفت قلّة الاهتمام بقضايا البيئة، وبحماية غابة المطر في الأمازون خصوصًا، ما حدا بوزيرة حكومة «لولا» للبيئة، مارينا سيلفا، إلى الاستقالة وخوض انتخابات العام ٢٠١٠ ضد مرشح حزب العمّال.
هل يعني ذلك أنه يجوز تعريف حكومة «لولا» على أنها نسخة استوائية من حكومات أنطوني بلير، كما حاجج البعض؟ ليس تمامًا، يقول صادِر. ينبغي أن تؤخذ بالحسبان بعض الأوجه الإيجابية لتلك الإدارة الهجينة والمتناقضة: الأولوية المعطاة للاندماج الإقليمي على حساب التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأميركية، يدلّ عليه رفض البرازيل لـ«منطقة التجارة الحرة لعموم أميركا» التي اقترحها جورج بوش؛ اعتمادها سياسات التوزيع الاجتماعي، مثل برنامج «بولسا فاميليا» [ميزانية الأسرة] لمساعدة الفئات الأفقر بين السكان؛ خفض معدلات البطالة ولجم نمو العمل غير الرسمي؛ إضافة إلى سياسة خارجية مستقلة. وفيما أوافق صادِر على هذا التقييم العام، أودّ أن أضيف أن ثمة مقياسًا إضافيًّا لتعريف طابع إدارة «لولا». لقد كشف فراي بيتو، الداعية المعروف لـ«فقه التحرير» البرازيلي وصديق «لولا» ومستشاره السابق، «البنية الطبقية» للميزانية البرازيلية: ٣٠٠ مليار «ريا» تذهب لرأس المال الكبير — المصارف، الصناعات، ملّاك الأراضي — مقابل ٣٠ مليارًا للأسر الأشد فقرًا، على شكل برامج اجتماعية. والحصيلة المعادلة الحسابية للّيبرالية الاجتماعية: ٩٠ في المائة للأغنياء، ١٠ في المائة للفقراء. على أنّ هذه العشرة في المائة تشكل فرقًا كبيرًا بالنسبة للفقراء ما يفسّر شعبية «لولا» بين الجماهير التي سمّيت «الفقريتاريا».
استراتيجية جديدة لليسار
كيف يمكن لليسار أن يحدد موقفه من حكومة «لولا»، ومن أشباهه من أحلاف يسار الوسط برئاسة باباري فاسكيس، ولوغو، أو كريستينا فيرناندس في الأرجنتين؟ في فصل لعله أهم ما في الكتاب، ينتقل صادِر من التحليل إلى القضايا الاستراتيجية. يحاجج قائلاً إن التحدي الأعظم الذي يواجهه اليسار في أميركا اللاتينية هو تحدي صياغة استراتيجية هيمنة جديدة، تتجاوز مأزق الإصلاحية والعصبوية معًا. إن النزعة الإصلاحية، التي تمثّلها إدارة «لولا»، لا تتحدى النموذج النيوليبرالي، بل ترتضي بأن تكون منوعًا من منوّعاتها: إذ إنها ليست تضع موضع تساؤل سلطةَ رأس المال المالي، والرأسماليةَ الزراعية ومجمّعات الإعلام الخاصة. على أنّ النزعة «اليسارية المتطرفة» التي تُركّز غيظَها على الدوام ضد حكومات يسار الوسط ولا تقتصر إدانتها على «لولا» وحده وإنما تدين معه موراليس وتشافيز أيضًا على أنهما «خونة» — ليست هي البديل. يقترح صادِر في المقابل مقاربةً أكثر مرونة. البديهي أن حكومات يسار الوسط الأميركية اللاتينية أكثر تقدمًا من الأحلاف اليمينية النيوليبرالية السابقة، ولو بسبب رفضها معاهدات حرية التجارة واعتمادها سياسة التوزيع الاجتماعية. فالاستراتيجية الصحيحة لليسار، في رأيه، يجب أن تكون التحالف مع القطاعات التقدّمية من تلك الحكومات، فيما يجري تركيز الهجمات على سياساتها الرجعية: هيمنة رأس المال المالي، دعم الرأسمالية الزراعية، استقلال البنك المركزي، وغيرها.
إلى هذه يجب أن تُضاف استراتيجية أخرى، لعلها الأكثر ملاءمة للوضع: للمساعدة على حشد ضغط سياسي من تحت، بالتعاون مع الحركات الاجتماعية — من فلاحين وسكان أصليين وعمّال ومتعطلين عن العمل — ومع تنظيمات يسارية، ومثقفين وطلاب وشبكات الكنيسة التقدمية، من أجل انتزاع تنازلات مهمة. والأفضل: البدء بتطبيق الإصلاحات الزراعية على نحو مستقل، كما فعلت «حركة البدون أرض» البرازيلية، واحتلال أملاك كبار الملّاك والنضال في الوقت ذاته لفرض الاعتراف بحقوق المزارعين البدون أرض. إن وجود تيارات راديكالية، ولكن غير عصبوية، ترى إلى القوى النيوليبرالية الرجعية على أنها العدوّ الرئيسي، وتكون مستقلة بوضوح عن حكومات يسار الوسط وقد بلورت نقدًا حادًّا للّيبرالية الاجتماعية، يشكل رصيدًا هامًّا لليسار.
وبناءً على رأي صادِر، إن استراتيجية اليسار الجديدة هذه من شـــــــــــــــــــــــــــــــــأنها استلهام التقليد الكلاسيكي للبرنامج الانتقالي، فبدلاً من أن تقدم خيارًا مجرّدًا بين «إصلاح» و«ثورة»، يقترح إصلاحات لا يمكن للنظام استيعابها، مطالب تبدو محدودة — «خبز، أرض وســـــــــــــــــــــــــــلام» — لكنها في الواقع تفتح المجال لنموّ بديل معاد للرأسمالية. إن نداء فريدريك جايمسون «الطوبــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوي» — «العمــــــــــــل للجميـــــــــــــع» — قد يكون مثلاً عن تلك المطالب. ويذكّرنا صادِر أيضًا أن كل الثورات هي بالضرورة هرطوقية ومفاجئة: ألم تكن الثورة الروسية «ثورة ضد كتاب «رأس المال» [لماركس]» كما كتب غرامشي؟
عودة إلى التاريخ
لمنح هذا النقاش الاستراتيجي عمقًا تاريخيًّا، ينتقل صادِر بعد ذلك إلى استكشاف السبل الثلاثة التي اتخذها اليسار الأميركي اللاتيني خلال القرن العشرين. السبيل الأول هو استراتيجية الإصلاحات الديموقراطية، التي افترضت الأحزاب الشيوعية التقليدية أنها سوف تؤدّي إلى «مرحلة ديموقراطية وطنية»، بالتحالف مع البرجوازية الوطنية التقدمية، على اعتبار تلك الخطوات خطوات لازمة سابقة على تصوّر الانتقال إلى الاشتراكية. إلا أن تجارب مختلف الحكومات الوطنية (البرجوازية)، التي دعمها اليسار — كما في حالة فارغاس وبيرون — انتهت بهزيمة. ويصحّ الأمر ذاته أيضًا على تشيلي، ولكن لأسباب مختلفة.
قطعت حكومة «الوحدة الشعبية» في تشيلي مع هذا النوع من استراتيجية «المراحل» وهدفت إلى انتقال سلمي إلى الاشتراكية، لكنها عجزت عن خلق «سلطة شعبية» فما لبث أن دمّرها انقلاب عسكري وحشي. وأدى قيام ديكتاتوريات عسكرية في معظم بلدان أميركا اللاتينية بين ١٩٦٤ و١٩٧٣ إلى قيام استراتيجية اليسار الثانية: الحرب الغِوارية. بوحي من الثورة الكوبية، وغالبًا بناءً على تفسير أحادي الجانب لمسارها — كما في كتاب ريجيس دوبريه واسع النفوذ «الثورة في الثورة؟» (١٩٦٧) الذي شدد على وجهها العسكري والإرادوي، متجاهلاً الحركات الجماهيرية — انتشرت حملات غِوارية على امتداد القارّة. لكنها هُزمت أينما كان، باستثناء أميركا الوسطى ونيكاراغوا خصوصًا، حيث تمكن الساندينيون من إسقاط سوموزا.
ولدت الاستراتيجية الثالثة في نهاية القرن العشرين في النضال ضد الحكومات النيوليبرالية. ولمّا كان معظم الأحزاب القومية والاشتراكية الديموقراطية قد تبنّت النيوليبرالية، انتقلت قيادة المقاومة إلى الحركات الاجتماعية مثل الزاباتيستاس في المكسيك، و«حركة البدون أرض» البرازيلية، وحركة Piqueterios الأرجنتينية، وهي حركات المتعطّلين عن العمل — ومنظمات السكان الأصليين في بوليفيا، بيرو، والإكوادور... وكان «المنتدى الاجتماعي العالمي» التعبير الأبلغ عن مقاومة الحركات الاجتماعية للنيوليبرالية.
وفي حين يعترف صادِر بأهمية «حركة البدون أرض» ومساهمتها الإيجابية، إلا أنه يعتقد أنها جسّدت الفصل المثير للإشكال بين الحيّز الاجتماعي والحيّز السياسي الذي دعت إليه تلك الحركات باسم «الاستقلال الذاتي». وهو يحاجج بأن هذا التوجه أدى إلى هجران المجال السياسي والتخلي عن النضال ضد الهيمنة — ما جمّد الحركات الشعبية في حقبة المقاومة ليس إلا.
معارضة الفصل بين الاجتماعي والسياسي
ومعروف أن هذا الخيار المشؤوم قد نظّر له، بواسطة جمّة حجج، كلٌّ من أنطونيو نيغري وجون هولوواي، وهما يدعوان على التوالي إلى قوة «الجموع» و«تغيير العالم من دون تسلّم السلطة». يرى صادِر أنه لا يمكن بناء «العالم الآخر الممكن» بواسطة الحركات الاجتماعية وحدها، والحال أن ذاك العالم قيد البناء الآن بواسطة الحكومات التقدمية المعادية للّيبرالية في بوليفيا والإكوادور وفنزويلا.
إن نقد صادِر لخطاب «الاستقلال الذاتي» المعادي للسياسة له ما يبرّره، لكنّي أسجل عليه بعض التحفظات. في كثير من الحالات، كان لموقف الاستقلال الذاتي للحركات الاجتماعية — مثل «حركة البدون أرض» — تجاه الحكومات اليسارية، إلى هذا الحد أو ذاك، وجهٌ بالغ الإيجابية. فعندما تفقد الحركات الاجتماعية استقلالها الذاتي وتصير تابعة للحكومة — كما في حال «اتحاد النقابات» البرازيلي — يشكل ذلك انتكاسة خطيرة. ثانيًا، لم يكن الموقف الغالب لـ«حركة البدون أرض» معاديًا للحكومات التقدمية — إذ دعت أكثر من مرة موراليس وتشافيز للخطابة في مهرجاناتها. وإنني أرى أن لـ«حركة البدون أرض» والحكومات التقدمية مهمّات متباينة ولا يمكن استبدال الواحدة منهما بالأخرى. وفيما يشدد صادِر على أهمية الجبهة المشتركة التي شكّلتها كل حكومات أميركا اللاتينية اليسارية، أو ذات اتجاه يسار الوسط، ضد اقتراحات التجارة الحرة التي تقدمت بها الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه يميّز بين تلك الحكومات التي اتخذت خطوات جادّة نحو القطيعة مع النموذج النيوليبرالي وتلك التي تمثل الاستراتيجية الجديدة لما بعد النيوليبرالية: بوليفيا، فنزويلا، والإكوادور. وقد شكلت تلك الحكومات، جنبًا إلى جنب مع كوبا، «التحالف البوليفي لعموم أميركا» الذي انضمّت إليه بعضُ دول البحر الكاريبي وأميركا الوسطى، في مواجهة Free Trade Area of the Americas — «منطقة التجارة الحرة لعموم أميركا» — وهو التحالف المكرّس للنضال ضد الهيمنة الأميركية خارجيًّا والعمل داخليًّا على إعادة بناء الدولة بتعزيز المجال العام على حساب المجال الخاص، والقطع مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وتأسيس أشكال جديدة للسلطة الشعبية.
أبرز الأمثلة على تلك الدول بوليفيا، حيث أسّست الحركات الاجتماعية وحركات السكان الأصليين حزبَها المستقل — «حركة الاتجاه نحو الاشتراكية» — بمساعدة مجموعة من المثقفين الماركسيين، مثل مجموعة «لا كومونا» المتحلقة حول ألفارو غارسيا لينيرا، واختارت فلاحًا من أبناء السكان الأصليين، إيفو موراليس، مرشحًا للانتخابات الرئاسية، وقد فاز في انتخابات العام ٢٠٠٥، مع غارسيا لينيرا نائبًا له. وعندما جوبه موراليس ورفاقه بهجوم رجعي عنيف — مدعوم بالإمبريالية الأميركية — خاضوا «حرب مواقع»، على طريقة غرامشي، أي معركة حول الدستور الجديد انتهت إلى انتصار الحكومة اليسارية في استفتاء العام ٢٠٠٩.
في هذه النظرة الشاملة لنضال بوليفيا، يستوحي صادِر تحليلات غارسيا لينيرا الماركسية لتقديم صورة مقنعة عمّا يسميه «المراحل المختلفة للمعركة من أجل الهيمنة». ومن أسف أنّ الكتاب لا يبلور نقاشًا مماثلاً للمسارات الشبيهة المعقّدة والمتناقضة في فنزويلا والإكوادور. تتباين هاتان الحالتان مع حالة بوليفيا، حيث نلاحظ الجدلية القائمة بين سياسات موراليس والضغوط الآتية «من تحت». أما في فنزويلا، فالراجح أن تصدر المبادرات من تشافيز، بطريقة تذكّر بأشكال سابقة من الشعبوية الأميركية اللاتينية، أو من نزعة الزعيم الأوحد فيها caudillismo. والفرق، أن تشافير يتحدث باستمرار عن الاشتراكية والصراع الطبقي والثورة، وهو ما لم يفعله بيرون قط. وهكذا تبقى الحركات الاجتماعية في موقع تبعية بالنسبة لـ«قصر ميرافلوريس» [الرئاسي]. تمثل الإكوادور نسقًا مختلفًا: لم يُنتخب كورّيا بدعم من حركة السكان الأصليين، إنما بدعم من تحالف بين المجتمع المدني ومجموعات سياسية يسارية. وقد طبّق إجراءات تقدمية ولكن بطريقة سلطوية إلى حد ما. والحصيلة صدام مستمر مع حركة السكان الأصليين التي ارتكبت بدورها عددًا من الأخطاء الفادحة، ما خلق حالة توتّر تضعِف المسار المعارض للنيوليبرالية.
ومع أن صادِر يعتبر بوليفيا وفنزويلا والإكوادور، مع كوبا، التعبيرات الأكثر تقدمًا عن استراتيجية بَعد نيوليبرالية الجديدة، يضيف ملاحظة جادّة تقول إنه في ظل الوضع الدولي المتراجع الحالي ليس لتلك الحكومات من حلفاء استراتيجيين خارج أميركا اللاتينية وأنها لم تتمكن من أن تسلك طريق التطور المعارض للرأسمالية، بل إنها تتعايش مع رأس المال الخاص، الذي يحتفظ بوجود قوي. وهذا ما يفسّر الهجوم المضاد الذي تشنّه القوى الرجعية في البلدان الثلاثة مستخدمة سلطتها الاقتصادية والإعلامية لإثارة القضايا التي تجذب الرأي العام المحافظ: العنف، التضخم المالي، «الأمن» وغيرها.
وما يحيّر أن صادِر ليس يناقش واحدة من أبرز سمات تلك الحكومات: التزامها ببديل بعد رأسمالي لـ«اشتراكية القرن الواحد والعشرين». وللمصطلح الأخير عدة وظائف بلاغية. فهو يتمايز أولاً عن كلٍّ من الليبرالية الاجتماعية والشعبوية في تاريخ أميركا اللاتينية. ثانيًا، يرمي من وراء الإشارة الزمنية تلك إلى الإيحاء بوجود مسافة نقدية مع التجارب التي طغت في القرن العشرين: الاشتراكية الديموقراطية، التي فشلت لأنها لم تسعَ مرة إلى النضال ضد الرأسمالية، وضد «الاشتراكية المتحققة»، التي ما لبثت أن انهارت لأنها افتقدت الحد الأدنى من القاعدة الديموقراطية. ثالثًا، يشير مصطلح «اشتراكية القرن الواحد والعشرين» إلى أن العدوّ ليس النيوليبرالية وإنما النظام الرأسمالي بالذات. بالطبع، لا تزال دول الحلف البوليفاري بعيدة كل البعد عن القطع مع الرأسمالية، لكن مجرّد وضعها الاشتراكية على جدول الأعمال، لأول مرة منذ انهيار ما يسمّى «المعسكر الاشتراكي»، خطوة تقدمية تستحق أن نسجّلها. وقد يعترض معترِضٌ بأن الأمر لا يعدو كونه خطابًا سياسيًّا، إلا أن الخُطَب هي أيضًا جزء من الواقع ما دامت تولّد التوقعات وتؤسس لقيَم.
يختم صادِر ببعض التأملات في مصائر الموجة الأميركية المعارضة للنيوليبرالية ملاحظًا نجاحاتها النسبية ومشيرًا إلى مستقبلها غير المضمون. يقدّم صورة صاحية للقارة الأميركية اللاتينية بأكملها تختبر، عند مطلع القرن الجديد، أزمة هيمنة مترامية الأبعاد، حيث يحاول القديم التشبث بالبقاء والجديد يجد صعوبات في الحلول محلّه. إن الظروف الموضوعية لتهالك النموذج النيوليبرالي قائمة، لكنّ بلدانًا مثل البرازيل والأرجنتين وأوروغواي، التي حافظت على النموذج مع جعله أكثر مرونة — من خلال تأمين استمراره في السياسة النقدية، وإن يكن ليس في السياسة الاقتصادية — قد تمكن كلٌّ منها، بطريقته الخاصة، من استئناف دورات التوسع الاقتصادي، وهو ما عجزت عنه حكومات سابقة، طبقت النموذج بطريقة صارمة.
إن المكسيك التي لا تزال تلتزم النموذج الصارم لم تتمكن من التقدم اقتصاديًّا، فيما تشيلي — وهي حالة مثالية لتطبيق النموذج النيوليبرالي — شهدت نهاية حكومات «التوافق».
يؤكد صادِر أن الطريقة التي ستخرج بها المنطقة من أزمة مهيمنة تعتمد على «الاتجاه الذي تحدّده الصراعات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية». ويشدد على أنه كائنًا ما كانت التناقضات والحدود، فإن مسارات «البوليفارية» الجديدة والجذرية باتت نقطة مرجعية للنقاشات حول البدائل عن النيوليبرالية، لا في أميركا اللاتينية وحسب إنما على الصعيد العالمي أيضًا. لجميع الذين ما عادوا يرون في النيوليبرالية أو النظام الرأسمالي «نهاية التاريخ»، سيكون هذا الكتاب ذا أهمية كبيرة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.