العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

أحلام وكوابيس الطبقات الوسطى العالمية

جزء ٢/١

نشر النص لأول مرة في العام ٢٠٢٠

 

يتلقى العالم رسائل متناقضة حول تركيبه الطبقي، فهو، حسب رواية مرجعية، قد بلغ «نقطة الفصل الكونية»، ذلك أنّ «نصف سكان المعمورة هم من أبناء الطبقات الوسطى أو الثرية». والرواية مبنيّة على بيانات جمعها هومي خاراس، من كبار اقتصاديي البنك الدولي سابقًا، والذي يعمل حاليًّا في مؤسسة «بروكينغز». والأكثر إثارةً أنّ مجلة «إيكونومست» قد حيّت «الصعود اللاهوادة فيه» لـ«برجوازية نامية» واحتفلت بمجيء عالم من الطبقات الوسطى. غير أنّ المنهجية الأكاديمية الجادّة تؤكد العكس أيضًا: فبحسب بيتر تيمين، البروفسور الممتاز للاقتصاد في جامعة «أم آي تي»، ينبغي أن ينشغل بالنا بصدد «اختفاء الطبقة الوسطى».1 ويمكن المغفرة للقرّاء لشعورهم بالذهول، فما الذي يجري في عالم الاقتصاد وفي السوسيولوجيا الاقتصادية للعالم الحقيقي؟ ستتفحّص هذه المساهمةُ التعريفات المتنوعة لـ«الطبقة الوسطى» الواقعية وللمسارات المتباينة التي حلّلها اقتصاديو التنمية وعلماء الاجتماع والصحافيون الماليون عبر القطاعات المختلفة للاقتصاد العالمي. ثم ننتقل إلى رسم مستقبل للطبقات الوسطى في العالم يختلف بعض الشيء عن النقيضين المستشَهد بهما أعلاه. ولكن يتطلّب الأمر أولاً معالجة بعض الاعتبارات التاريخية والمفهومية، ذلك أنّ مفهوم «الطبقة الوسطى» مثار نقاش منذ زمن طويل.

دخل مصطلح «الطبقة الوسطى» اللغة الإنكليزية منذ قرنين من الزمن - «ما بين ١٧٩٠ و١٨٣٠ تقريبًا» - حسب إريك هوبْزباوم، فيما المجتمع الصناعي الصاعد يتجاوز التراتب «العسكري» للمَلَكية والأرستقراطية.2 وقد شهد القرن التاسع عشر نقاشًا حاميًا حول الوجهة التي يتّجه إليها ذاك المجتمع الجديد وحول موقع الطبقة الوسطى داخله. كانت المحاجّة الليبرالية تقول إنه يجب أن تقع مهمة الحكم على عاتق الطبقة الوسطى، وإنّ ذلك سوف يتحقق حكمًا، لأنها «الجزء الأوفر حكمةً والأرقى فضيلةً في الجماعة» كما قال جيمس ميلّ.3 ولكن هل تحقق ذلك؟ يقول [ألكسيس دو] توكفيل، في نص مكتوب العام ١٨٥٥، إنّ حكم الطبقة الوسطى قد تحقق ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية وإنما في فرنسا أيضًا، حيث مثّلت ثورة تموز/ يوليو ١٨٣٠ انتصارها «الحاسم» و«الكامل».4 وهل مجتمع الطبقة الوسطى الصاعدة هذا يؤدي إلى نظام سياسي جديد ومستقر؟ دار التساؤل على نحو متزايد في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. نشأت مذاهب فكرية جديدة، حَشدت الأفكار، وأوّلها وأبرزها الاشتراكية، التي نظّرت أنّ «مجتمع الطبقة الوسطى» إنما هو الرأسمالية، المحكومة بأن يُقضى عليها مع توسّع صفوف الطبقة العاملة الصناعية.

الطبقة الوسطى والبرجوازية

الأكثر إثارةً للاهتمام هو أنّ نقاشات القرن التاسع عشر كان لها التنوّع المفهومي الغائب كليًّا عن المعالجات الحالية لـ«الطبقة الوسطى». وقد نتج ذلك من ازدهار عدد من اللغات القومية، لكلّ منها تاريخه المميز للتكوّن الطبقي والصراع الطبقي. ففي أوروبا الغربية كانت ثلاثة مفاهيم رئيسة تدور مدار ظاهرة اجتماعية مشابهة، كلٌّ منها ترى إليه من زاوية مختلفة تمامًا عن الآخرَين: في مقابل Middle class البريطاني كان تعبير Burgertum الألماني و«البرجوازية» Bourgeoisie الفرنسي.5 ويعود أصل الأخيرين إلى القانون المديني القراوسطي، للدلالة على فئة من سكّان المدن تتمتّع بحقوق مدنية وسياسية مميّزة. بعد الثورة الفرنسية، تطوّر مصطلح «برجوازية» ليصير مطابقًا إلى حدّ كبير لمصطلح «الطبقة الوسطى» البريطاني و les classes moyennes الفرنسي. لكنه اتخذ دلالتين متمايزتين. كانت الواحدة ذات دلالة تجريحية من الناحية الثقافية كما في عبارة [غوستاف] فلوبير «إن الحقد على البرجوازية هو بداية كل فضيلة».6

ابتداءً من سبعينيات القرن التاسع عشر، برز تمايز واضح بين البرجوازية والشريحة الاجتماعية «الوسطى» أو «الجديدة». باتت البرجوازية تشير إلى كبار مالكي رأس المال من مصرفيين وصناعيين يتربّعون على قمة الهرم المجتمعي – أي أنها تشير بعبارةٍ أخرى إلى الطبقة العليا.7 أما الطبقة الوسطى – Mittlestand الألمانية، أو Petite bourgeosie أو Couches moyennes البرجوازية الصغيرة أو الفئات المتوسطة، الفرنسية، فأمر آخر. في «البيان الشيوعي»، مدح ماركس وإنغلز أيّما مديح الدور التاريخي «الثوري» الذي لعبته البرجوازية، وقد ظهرت بما هي تجسيد لرأس المال والعدوّ اللدود للطبقة العاملة.

وثمّة فرق لافت آخر: العمل بما هو صفة وقيمة حاسمتان للطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر، وهذا ما ميّزها عن النبالة المتعيّشة على الريع. «العمل زينة البرجر/ ابن المدن»، كتب فريدريش شيللر في أغنية شهيرة. «بوركَ من وجد عمله/ ولا حاجة له لأن يسعى إلى أي نعمة أخرى»، يكمل طوماس كارلايل في «ماضٍ وحاضر»8 تُعرَّف الطبقة الوسطى، غالبًا في النقاشات المعاصرة، بناءً على معيار الاستهلاك، والأحرى بناءً على طاقتها على الاستهلاك، وتقاس هذه الطاقة بالدولارات (مع تعديلها حسب معايير القدرة الشرائية الدولية)؛ وأحيانًا يجري تمييز الطبقة الوسطى عن طريق موقعها الوسيط في الهرم الوطني لتوزيع الدخل – ولكنها لا تعرّف أبدًا بعلاقاتها بالعمل. وهذا نافر بنوع خاص ما دام الاستخدام الأميركي المعاصر للمفهوم يقدّم المصطلح بما هو كنية للطبقة العاملة.

ما الذي يترتب على هذا التحوير في خطاب الطبقة الوسطى من العمل إلى الاستهلاك؟ ها هي مجلة «إيكونومست» تعطينا الدليل وهي تحيّي بحماسة ارتقاء «مليارَي برجوازي» جديد.9 وهي تحية انتصار وقوة، مثلها مثل دخول «الرأسمالية» إلى قاموس كبار المدراء التنفيذيين. فما دامت الاشتراكية لم تعد خطرًا، يمكن ركن مصطلحات مثل «رأسمالية» و«برجوازية» في الهامش والاستعاضة عنهما بـ«اقتصاد السوق» و«البزنس/ الأعمال». وكما سوف يتبيّن لنا، يشكّل التغيّر في الخطاب نقلةً هامةً في الهيمنة الاجتماعية. ولكن علينا قبل ذلك أن نتفحّص الظروف التي أدّت إلى نشوء التفكير الجديد عن الطبقة الوسطى في القرن الواحد والعشرين.

على عكس ما توقع مِيلّ وتوكفيل، لم يَفتتح القرن التاسع عشر نشوء عالم الطبقة الوسطى، ذلك أنّ القرن العشرين كان يُعرَّف قبل أي شيء آخر بأنه عصر الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أنّ الديموقراطية الاشتراكية والشيوعية وُلدتا في أوروبا، إلا أنّ اشتراكية الطبقة العاملة تحوّلت إلى نموذج عالمي، نشاهده في الثورتين الصينية والفيتنامية، وفي ارتداداتهما عبر آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية؛ وفي ثورات المكسيك وكوبا الكاسترويّة، كما في الحركة التقدمية الواسعة في أميركا اللاتينية – وفي الأرجنتين خلال عهد پيرون، والبرازيل في عهد ڤارغاس، من دون أن ننسى «حزب العمّال» البرازيلي الأحدث عهدًا – وفي النضالات المعادية للاستعمار، من «حزب المؤتمر» بقيادة نهرو إلى «المؤتمر الوطني الأفريقي» في جنوب أفريقيا مرورًا بالاشتراكية العربية. كانت الطبقة العاملة القوة الرئيسة في إنجاز الاقتراع العام ودولة الرعاية إلى كونها الحليف الرئيس للحركات النسوية والمعادية للاستعمار– مع أنها نادرًا ما كانت حليفًا نموذجيًّا. وكانت الطبقات الوسطى في حالة سبات خلال فترات الثورة والإصلاح تلك في القرن العشرين، لكنها اكتسبت أهمية مع صعود الفاشية والسلطات الاستبدادية. على أنّ القوة الدافعة للإصلاح بقيادة الطبقة العاملة بلغت ذروتها في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تتقهقر سريعًا.

وكان لنهاية قرن الطبقة العاملة أساس اقتصادي تجلّى في التراجع عن التصنيع والأمْوَلة المتسارعين في بلدان المركز الرأسمالي؛ وثمة عامل سوسيولوجي إضافي، وإن يكن مواربًا، هو التفكك الاجتماعي الذي نجم عن ثورات ١٩٦٨ الثقافية. على أنّ هذه كلها لم تؤذن بسرعة بفجر وليد للطبقة الوسطى. لمّا كانت النيوليبرالية الغربية حساسة ضد أي نوع من أنواع الخطاب الطبقي، آثر المعادون للشيوعية في أوروبا الشرقية أن يسمّوا أنفسهم «مجتمع مدني» مع أنهم كانوا ينسبون لأنفسهم خصائص الطبقة الوسطى عندما يكونون في السلطة.10 ومع أنّ فكرة الطبقة الوسطى وُلدت في الغرب، كما يلاحظ هوبزباوم، إلا أنها بُعثت حيّة في الشرق والجنوب11 خلال ثمانينيات القرن الماضي، فقد «اكتشِفتْ» الطبقة الوسطى في شرق آسيا المحافظة بما هي نتاج النموّ الاقتصادي المتسارع في «النمور الأربعة الصغار»: تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ.12 كانت الطبقات الوسطى تبرز بما هي قوة سياسية لا يستهان بها في المنطقة، تلعب أدوارًا مركزيةً في الحركات الشعبية العريضة التي قضت على الدكتاتوريات العسكرية في سيئول وتايپاي.

في الصين، مضى المصطلح في مسيرة عسيرة قبل أن يلقى القبول. في الثمانينيات، كان الاهتمام الأكاديمي بالطبقة الوسطى مستوحًى إلى حد ما من الماركسية الأميركية الجديدة التي مثّلها أريك أولين رايت وزملاؤه. على أنّ العقيدة الرسمية ما لبثت أن نظّمت هجومها المضاد بعد أحداث ساحة تيانانمين، العام ١٩٨٩. وكما يقول عالِم اجتماع مشهور باتّباعه الخط الرسمي: لم يكن بإمكان الصين الاشتراكية أن تسمح لـ«الطبقة الوسطى» بالظهور، لأنّ ذلك سـ«يقلب نظامنا الاشتراكي رأسًا على عقب». فبينما نظرية الطبقة الوسطى في الغرب «قد وُجدت للتغطية على قضية الصراع الطبقي»، إلا أنها في الدول الاشتراكية «تَقسم صفوف البروليتاريا وتفصل رجال الأعمال والمثقفين عن البروليتاريا وتشكّل قوة تخريبية». على أنه، بعد فترة من الصمت، أعيد فتح النقاش عن الطبقة الوسطى. وفي العام ٢٠٠١ كانت المحاجّة التي تقول «إن الطبقة الوسطى هي، في جميع البلدان، أهم قوة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي» قد حققت انتصارًا حاسمًا. فهذه الطبقة حاجز بين الطبقات العليا والفقيرة، وهي حاملة الأيديولوجيات المعتدلة والمحافظة، وهي القاعدة لسوق استهلاكي عريض ومستقر.13 وقد رأى العديد من الأكاديميين الصينيين في القرن الواحد والعشرين أنّ الطبقة الوسطى هي أيضًا مثال لنزعة المساواة، ومفتاح لبنية اجتماعية «لها شكل الزيتونة».14 أما التغيّر المفهومي الفييتنامي لمرحلة بعد الشيوعية فقد اختزله نائب رئيس الوزراء هوانغ ترونغ هاي، بقوله «إن أبناء الطبقة الوسطى الشباب سوف يشكلون القوة الدافعة في آسيا»، مشيرًا إلى «وصول مليار مستهلك إضافي من أبناء الطبقة الوسطى» [إلى الأسواق]. قبل ثلاثين عامًا، كان سلفه سوف يشير إلى الطبقة العاملة على أنها هي تلك القوة الدافعة.15

أحلام جنوبية

كان للحلم بطبقة وسطى جديدة في الجنوب الكوني إطار آسيوي أولاً بأول. صاغته وروّجت له شخصيات في مدار البنك الدولي، مدعومة بهيئات استشارية لرجال أعمال ومديري مصارف استثمارية. وظهرت الطبقة الوسطى مطلع الألفية، خلال «العصر الذهبي»، عصر الرأسمالية المعولمة وتعهيد الأعمال لمصادر خارجية. وكما أشرت أعلاه، أعيدَ اكتشاف الطبقة الوسطى في الشرق خلال ثمانينيات القرن الماضي على أيدي علماء اجتماع مشغولين بتغيّر البنى المهنية والتشكيلات الطبقية ومهتمين بآثارها الاجتماعية والسياسية. بالمقارنة، كانت نزعة الانتصار الجديدة تكاد تنحصر بالاستهلاك. كانت «الطبقة الوسطى» تعني كل من يملك بعض المال لينفقه. ثم صار المعنى ينطبق بعد قليل على الذين تجاوزوا خط الفقر، حسب تعريف خطوط الفقر الوطنية الرسمية.16 الفكرة التي تقول إن الطبقة الوسطى تبدأ فيما يتجاوز العشرين بالمائة الأفقر من السكان – ويكون هؤلاء من فئة مدقعي الفقر في البلدان الفقيرة – تلقّت الدعم عام ٢٠٠٠ في دراسة نافذة لوليام إيسترلي، وهو من أنصار فريدريش فون هايك المتعصبين يعمل في البنك الدولي. في دراسة «توافُق الطبقة الوسطى والتنمية الاقتصادية»، حاجج إيسترلي أنّ اللامساواة المتمثلة في حصة ثلاثة أخماس السكان الأدنى دخلاً – التي سمّاها «الطبقة الوسطى»، من دون أن يقدّم حججًا لدعم ذلك – تشكل عائقًا أمام التنمية.17 لذا فإن توسّع الطبقة الوسطي بات موازيًا لتقلّص الفقر – وهو رابط مفهومي يربط مشاغل اقتصاديي التنمية عن خفض عدد الفقراء مع مصالح مستشاري رجال الأعمال الباحثين عن أسواق جديدة.

آسيا الصاعدة

بالتأكيد، كان مستشارو رجال الأعمال والمصرفيين أول من روّج لحلم الطبقة الوسطى. في العام ٢٠٠٧، توقع ماكنزي أنّ المستهلكين من أبناء الطبقة الوسطى سوف يزيد عددهم عن خمسين مليونًا إلى ٥٨٣ ملايين بحلول العام ٢٠٢٥. في العام التالي، توقع غولدمان ساشس تقلص اللامساواة على الصعيد الكوني بفضل «انفجار الطبقة الوسطى العالمية»18 وأثنت «إيكونومست» على هذا التبجح بادعائها وجود «ملياري برجوازي إضافي».

ظهرت أول نظرة عددية شاملة للطبقة الوسطى «المنتفخة» في كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٩، بقلم الخبير الاقتصادي في البنك الدولي مارتن راڤاليون الذي دافع عن تعريف لـ«الطبقة الوسطى» على أنها تضم الذين يعيش الواحد منهم على مبلغ يراوح بين دولارين و١٣ دولارًا في اليوم، وقد اختير الخط الأعلى على أنه يوازي تقريبًا خط الفقر الأميركي لعام ٢٠٠٥ بناءً على معدلات القدرة الشرائية – بعبارة أخرى، كانت «البرجوازية» الصاعدة تعادل المستوى الاقتصادي للفقراء الأميركيين. بناءً على تقديرات راڤاليون، انتفخت الطبقة الوسطى الكونية بما يزيد على ٨٠٠ مليون نسمة بين ١٩٩٠ و٢٠٠٥.

عند إلقاء نظرة أدقّ، يتبيّن أنّ ٦٢٢ مليونًا من أبناء تلك الطبقة الوسطى كانوا في «شرق آسيا النامية»، أي أنهم في الصين. ولكن إذا كانت الطبقة الوسطى الصينية التي ينفق الفرد منها بين دولارين و١٣ دولارًا في اليوم قد «انفجرت» من ١٥ ٪ إلى ٦٢ ٪ من السكان، فإن التغيّرات المشهودة في مناطق أخرى من العالم كانت متواضعة بالمقارنة.

في جنوب آسيا، ارتفع عدد الذين ينفقون بين دولارين و١٣ دولارًا في اليوم من ١٧٪ إلى ٢٦٪ من عدد السكان؛ وفي أفريقيا، من ٪٢٣ إلى ٢٦٪ مع أنه في كل حالة من الحالات، كان «الانتفاخ» مركّزًا بالدرجة الأولى لدى ما يزيد قليلاً على الذين ينفقون دولارين في اليوم. في تلك الأثناء، كانت الطبقات الوسطى في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى قد تراجعت من ٧٦ إلى ٧٣٪ من السكان.19

إذا نظرنا من خلال عدسة ٢ - ١٣ دولارًا الضيقة، يبدو نموّ «الطبقة الوسطى» الآسيوية في تسعينيات القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين مؤثّرًا بالتأكيد، ما استدعى طوفانًا من الكتابات الاحتفالية. وأبرز مساهمة في ذاك الاتجاه تقرير أصدره «بنك آسيا للتنمية» العام ٢٠١٠ بعنوان «صعود الطبقة الوسطى الآسيوي» وهو هيئة إقليمية مركزها مانيلا. صدر التقرير خلال ذروة الركود الذي سبّبه الانهيار المالي في بلدان الشمال الأطلسي العام ٢٠٠٨، وتنبأ البيان الصحافي الذي أصدره المصرف بأن «الطبقة الوسطى الآسيوية سريعة التوسع ويقدّر لها أن تضطلع بالدور التقليدي الذي لعبته الولايات المتحدة وأوروبا بما هي المستهلك الكوني الأول فتساعد على إعادة التوازن للاقتصاد الكوني». وادّعى التقرير أن المستهلكين الآسيويين سوف ينفقون ٤٣٪ من الاستهلاك العالمي بمجيء العام ٢٠٣٠20 ويمكن أن يُقرأ بين السطور أنّ الطبقة الوسطى الآسيوية قابلة لأن تنقذ العالم، أو أن تنقذ الاقتصاد الرأسمالي العالمي، على الأقل. فبناءً على تقرير «مصرف التنمية الآسيوي»، زاد عدد أفراد الطبقة الوسطى في «آسيا النامية» – أي باستثناء اليابان – من ٥٦٩ مليونًا إلى ١،٩ مليار بين ١٩٩٠ و٢٠٠٨، أو من ٢١٪ إلى ٥٦٪ من السكان. وكان تعريف الطبقة حينها بأنها الطبقة التي ينفق الفرد منها بين دولارين و٢٠ دولارًا في اليوم، وقد وضع الخط الأعلى بما يقارب خط الفقر في إيطاليا. أما الفقراء، أي الذين ينفق واحدهم أقل من دولارين في اليوم، فقد تقلّصوا بالتوازي من ٧٩٪ إلى ٤٣٪ من السكان. تركّز معظم ذاك التحوّل، ولكن ليس كله، في الصين، ذلك أنّ الطبقة الوسطى قد توسّعت من ٢٩٪ إلى ٣٨ ٪ من السكان بين ١٩٩٣ و٢٠٠٥. كانت هذه الأرقام مبنيّة على مسوح ولكنها لم تكن متينة تمامًا. فالحسابات المبنية على الأرصدة الوطنية تعطي صورة مختلفة نوعًا ما ولكنها لا تعدّل في الاتجاه اللافت، فقد تقلّصت نسبة الفقراء من ٦٩٪ إلى ١٧٪ على امتداد آسيا النامية وازدادت نسبة أفراد «الطبقة الوسطى» من ٣١٪ إلى ٨٢٪ من السكان.21

على أنّ الافتتان بالطبقة الوسطى الآسيوية لم ينتج منه أي اتفاق على حجمها الفعلي. توصلت شركة تداول أسهم صينية منذ بضع سنوات إلى تقديرات أكاديمية عن الطبقة الوسطى في جمهورية الصين الشعبية تتراوح بين ٤٪ و٣٣٪ من السكان، وهو أقل بكثير من التقدير المتبجّح لـ«مصرف التنمية الآسيوي» الذي يتحدث عن ٨٩٪.22 أما «الطبقة الوسطى» الهندية، فقد تتضمن أي نسبة تتراوح بين ١٠ و٦٤ ٪ من السكان. وقد وَجدت دراسة أخيرة أنّ ٥٠٪ من السكان ينتمون إلى فئة الذين ينفقون بين اثنين وعشرة دولارات يوميًّا. وما يثير الاهتمام أنها تضع موعد «صعود» الطبقة الوسطى بعد عقد من الزمن من الموعد الذي يحدده «مصرف التنمية الآسيوي»، ليس في تسعينيات القرن الماضي وإنما في الفترة الممتدة بين ٢٠٠٤ و٢٠١٢. أما حصة الأسد من ذلك الصعود فقد نُسبت إلى السكان الذين انتقل الفرد فيهم من إنفاق دولارَين إلى ما بين دولارين وستة دولارات يوميًّا.23 والواقع أن النقاش الأكثر إثارةً في آسيا عن الطبقة الوسطى الجديدة هو الذي يجري في الهند، حيث يناقش جمهورٌ متفاوت من المثقفين لا حجمَ الطبقة الوسطى ونموّها وحسب، إنما أيضًا دلالتها الاجتماعية والسياسية، بالقياس إلى المشروع الوطني السياسي لـ«تغيير الهند». ترى ليلا فيرناندز أن الطبقة الوسطى تمثل «البناء السياسي لفئة اجتماعية تعمل بما هي داعية اللبرلة الاقتصادية». أما بالنسبة إلى ديبانكار غوپتا، في المقابل، فيبدو مصطلح «طبقة وسطى» على أنه مصطلح «هزيل» في الهند تحديدًا لأنه يفتقر إلى أي مشروع يرتبط به: والتعويض «ترمى علينا بيانات عن الاستهلاك».24

أما السؤال الذي طرحه «مصرف التنمية الآسيوي» لعام ٢٠١٠ عن مدى قدرة المستهلكين الآسيويين من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة على تعويض قصور النموّ في قدرة الطبقة الوسطى الأميركية على الإنفاق — فقد أثاره الخبير الاقتصادي هومي خاراس العامل في البنك الدولي ومؤسسة «بروكينغز». استخدم خاراس تعريفًا لاستهلاك الطبقة الوسطى أشمل عبورًا للقارات على أنه بين ١٠ و١٠٠ دولار في اليوم، إذ تخلّى فيه عن التوصيفات الطبقية المتعلقة بالديموقراطية وريادة الأعمال أو تلك التي «تسهم في تنمية رأس المال البشري» — أي أنه تخلّى عن كامل سلسلة المميزات التقليدية للطبقة الوسطى — ليؤكد بديلاً منها على «ما يجعل الطبقة الوسطى تركّز على الاستهلاك بنوع خاص». فتوقّع ارتقاء الطبقة الوسطى الكونية من ١،٨ مليار عام ٢٠٠٩ إلى ٣،٩ مليارات بحلول العام ٢٠٣٠ فيما الاقتصاد العالمي يبدأ بالتمحور حول آسيا، التي قُدّر أنها مسؤولة عن ٨٥٪ من الزيادة، مدفوعة بنوع خاص بالطبقات الوسطى الهندية (المقدّر لها أن تسبق الصين بحلول العام ٢٠٢٠) والصينية.25 وإن صعود السوق الاستهلاكي الآسيوي الضخم هو بالتأكيد جزء من تحوّر جارٍ في الاقتصاد الكوني. على أنّ «طبقة وسطى» و«فقر» ليسا دالّين بلا مرجعية يمكن تسخيرهما عشوائيًّا لخدمة أي غرض، فقد لفت جون ويست، الخبير الاقتصادي الذي يتخذ طوكيو مركزًا له، إلى التشوهات الناجمة عن النقل الواعي أو غير الواعي للدلالات الغربية التاريخية لما يشكّل موقع «الطبقة الوسطى» إلى الأمم الشرقية المعاصرة، ما يؤدي إلى ما يسمّيه «مجتمع الطبقة الوسطى الآسيوية خرافية».26

  • 1. Homi Kharas and Kristofer Hamel, ‘A Global Tipping Point: Half the World is Now Middle Class or Wealthier’, Brookings Future Development Blog, 27 September 2018; ‘Burgeoning Bourgeoisie’, Economist, 14 February 2009; Peter Temin, The Vanishing Middle Class, Cambridge ma, 2017.
  • 2. Eric Hobsbawm, ‘Die Englische Middle Class, 1780–1830’, in Jürgen Kocka, ed., Bürgertum im 19. Jahrhundert, vol. 1, Munich 1988, p. 79.
  • 3. James Mill, ‘Essay on Government’ [1829], quoted from Hobsbawm, ‘Die Englische Middle Class’, p. 81. إن آراء ميل عن حكمة وفضيلة الطبقة الوسطى لا تزال تلقى صدى لدى اقتصاديي التنمية وعلماء السياسة في أيامنا هذه، فكأن تلك الطبقات لم تدعم الفاشية والدكتاتوريات العسكرية في تلك الأثناء.
  • 4. Alexis de Tocqueville, Souvenirs [1855], cited from Peter Gay, Schnitzler’s Century, New York 2002, p. 14. اتجه المؤرخون المتأخرون إلى الموافقة على أنّ السلطة والامتيازات التي تمتعت بها أرستقراطية الأرض استمرت في معظم أنحاء أوروبا إلى العام ١٩١٤. راجع: Arno Meyer, The Persistence of the Old Regime, New York 1981.
  • 5. لمزيد من التفاصيل، راجع المشروع البحثي الهام الذي يديره Jürgen Kocka, Bürgertum im 19. Jahrhundert, 3 vols, Munich 1988.
  • 6. Letter to George Sand, here quoted from Gay, Schnitzler’s Century, p. 29.
  • 7. Adeline Daumard, Les bourgeois et la bourgeoisie en France, Paris 1987.
  • 8. 8 Gay, Schnitzler’s Century, p. 192.
  • 9. ‘Two Billion More Bourgeois’, Economist, 14 February 2009.
  • 10. Nikolai Tilkidjiev, ed., The Middle Class as a Precondition of a Sustainable Society, Sofia 1998.
  • 11. Cf. Marcus Gräser, “The Great Middle Class” in the Nineteenth-Century United States’, in Christof Dejung, David Motadel and Jürgen Osterhammel, eds, The Global Bourgeoisie, Princeton 2019.
  • 12. See Hsin-Huang Michael Hsiao, ed., Discovery of the Middle Classes in East Asia, Taipei 1993.
  • 13. Li Chunling ‘Changes in Theoretical Directions and Interests of Research on China’s Middle Class’, in Li, ed., The Rising Middle Classes and China, Beijing 2012, pp. 6–8.
  • 14. Jean-Louis Rocca, ‘Political Crossroad, Social Transformation and Academic Intervention: The Formation of the Middle Class in China’, in Li, The Rising Middle Classes and China, p. 36. Cf. Li, ‘Changes in Theoretical Directions’, p. 8.
  • 15. كان هاي يتكلم في «المنتدى الاقتصادي العالمي في شرق آسيا».
  • 16. في العام ١٩٩٠، رسم البنك الدولي «خط فقر» عند مبلغ ٣٧٥$ سنويًّا بناءً على أسعار العام ١٩٨٥ الثابتة، وما لبث أن شاع تحت عنوان «دولار واحد في اليوم». يبدأ الفقر المدفع تحت ٢٧٥$ في السنة، وهو يعادل سقف الفقر الهندي الرسمي. World Bank, World Development Report 1990, Oxford 1990, p. 27.
  • 17. William Easterly, ‘The Middle-Class Consensus and Economic Development’, World Bank Working Paper no. 2346, May 2000.
  • 18. Eric Beinhocker et al., ‘Tracking the Growing of India’s Middle Class’, McKinsey Quarterly, no. 3, January 2007; Dominic Wilson and Raluca Dragusanu, ‘The Expanding Middle: The Exploding World Middle Class and Falling Global Inequality’, Goldman Sachs Global Economic Paper, no. 170, 2008.
  • 19. Martin Ravallion, ‘The Developing World’s Bulging (but Vulnerable) “Middle Class”’, World Bank Working Paper no. 4816, 2009, Table 3 and p. 17.
  • 20. Asian Development Bank, ‘The Rise of Asia’s Middle Class’, in Key Indicators for Asia and the Pacific 2010, August 2010, part 1.
  • 21. Asian Development Bank, Key Indicators for Asia and the Pacific 2010, Tables 2.1, 2.6 and 2.2.
  • 22. Li, The Rising Middle Classes and China, Table 1.
  • 23. Sandhya Krishnan and Neeraj Hatekar, ‘Rise of the New Middle Class in India and Its Changing Structure’, Economic and Political Weekly, 2 June 2017, esp. Figure 1a, Table 2. The low (‘scheduled’) castes experienced an uplift, while the relative advantage of Hindus over Muslims remained about the same (Table 3).
  • 24. Leela Fernandes, India’s New Middle Class, Minneapolis 2006, p. xviii; Dipankar Gupta, The Caged Phoenix: Can India Fly?, New Delhi 2009, p. 83
  • 25. Homi Kharas, ‘The Emerging Middle Classes in Developing Countries’, oecd Development Centre Working Paper 285, 2010, pp. 10–11, 38.
  • 26. John West, Asian Century on a Knife-edge, London 2018.
العدد ٣٥ - ٢٠٢٢
جزء ٢/١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.