رحيل ماركسيّ من الأطراف في المركز
في يوم الأربعاء، التاسع من آذار/ مارس ٢٠٢٢، تُوفي عن واحد وثمانين عامًا المفكّر والمنظّر الأدبي الماركسي الهندي إعجاز أحمد في منزله في إيرفين، كاليفورنيا، الولايات المتحدة، حيث كان أستاذًا للأدب المقارن خلال السنوات الأخيرة من حياته. وكانت أهميته كواحد من أبرز المفكّرين الماركسيين في عصرنا قد برزت على نحوٍ خاص في أعقاب تقهقر الاشتراكية وتفكك المعسكر الاشتراكي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، حين راح كثير من الماركسيين السابقين يبحثون عن أدوات أخرى لفهم المجتمع بعد زوال المدّ والصعود اللذين شهدتهما الماركسية حتى النصف الثاني من القرن العشرين.
لا يستمدّ إعجاز أحمد ماركسيته من الفكر الماركسي الصادر عن المراكز المتروبولية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته فحسب، بل أيضًا من تقاليد الحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية من أجل التحرر الوطني. وهذا ما بوّأه موقعًا فريدًا في الدفاع عن النظرية الماركسية ورعايتها ونقد سلسلة «الما بعدات» (ما بعد الماركسية، ما بعد الحداثة، ما بعد الاستعمار، إلخ) عندما تخلّى كثير من المفكّرين الغربيين وسواهم عن الماركسية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي. ولذلك كان طبيعيًّا أيضًا أن ينكبّ على تحليل الإمبريالية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وعلى الحروب العدوانية التي شنّتها الولايات المتحدة وقوات «الناتو» في العراق وسواه، مُظهرًا أنها جزء من مشروع إمبريالي للهيمنة على العالم. وهنا، مرة أخرى، فنّد آراء عديد من الباحثين الماركسيين الغربيين الذين رأوا أنّ الإمبريالية لم تعُد مقولة ذات صلة في العالم الرأسمالي المعولم.
قدّم إعجاز على مدى عقود مساهمات ثاقبة في فهم الأدب والأدب المقارن والنقد الأدبي، والثقافة ودراساتها، ودراسات الترجمة، كما في فهم الإمبريالية والقومية ومناهضة الاستعمار، والطائفية والفاشية، والفلسفة والنظرية الاجتماعية، فضلاً عن الماركسية والسياسات الشيوعية. وذلك على نحوٍ ترك أثره في العديد من فروع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، ولا بدّ أنّ رحيله سيترك فراغًا يصعب سدّه في عصر الحروب والأزمات الساحقة والجوع والعنصرية هذا.
الأكاديمي المناضل
ولد إعجاز عام ١٩٤١ لأسرة ميسورة في مظفرنجار، ولاية أوتَر براديش، في الهند البريطانية. بعد تقسيم الهند في ١٩٤٧-١٩٤٨، هاجر مع والديه إلى لاهور، في باكستان، حيث حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنكليزي ثم غادر إلى الولايات المتحدة من أجل الدكتوراه. لكنّ توجهه الاشتراكي والأممي الماركسي سبق ذلك، في مدارس لاهور وجامعتها، كما في مقاهيها وخلايا تنظيماتها السياسية الماركسية.
درّس إعجاز لسنوات في جامعات مختلفة في الولايات المتحدة وكندا، قبل أن يعود إلى الهند التي غدت موطنه لأكثر من عقدين، حيث أصبح أستاذًا زميلاً في متحف نهرو ومكتبته التذكاريين، وأستاذًا زائرًا في مركز الدراسات السياسية، في جامعة «جواهر لال نهرو»، وشغل كرسي الخان عبد الغفار خان في الجامعة الملّية الإسلامية. وعلاوةً على مناصبه الأكاديمية في الهند، شغل إعجاز مناصب أكاديمية على المستوى الدولي قبل قبوله في منصبه الدائم في «جامعة كاليفورنيا» (إيرفين) في عام ٢٠١٦، فقد سبق أن درّس في «جامعة يورك» (تورنتو)، و«كلية الدراسات الأفريقية والشرقية» (لندن)، و«جامعة ساو باولو» (البرازيل)، وألقى سلسلة محاضرات مميزة في «أكسفورد» و«كامبردج» وجامعات في جنوب آسيا وأوروبا بالإضافة إلى محاضرات ويليك المتميزة في النظرية النقدية في «جامعة كاليفورنيا» بإيرفين.
لعلّ الأهم من ذلك، أنّ إعجاز كان أيضًا مثقفًا عموميًّا بارزًا شديد الحضور، بظهوراته التلفزيونية المنتظمة في الهند، وكتاباته في البوابة الإخبارية Newsclick على شبكة الإنترنت، ومساهمته المنتظمة في مجلة Frontline الهندية كلّ أسبوعين، وفي مجلات يسارية مثل الـMonthly Review، والـSocial Scientist، وThe Marxist. كما ارتبط بمشروع النشر Leftword Books منذ بدايته، وهو المشروع الذي نشر عددًا من كتبه اللاحقة. ولم يكن دوره كمثقف عموميّ وباحث يساري مناضل ليقلّ أهمية بالنسبة إليه عن مهنته الأكاديمية.
ألهم إعجاز، كمعلم متميّز ذي شخصية كاريزمية، كثيرًا من الطلاب بصرامته الفكرية وشغفه، الأمر الذي دفعهم إلى التميّز في عملهم. وكان اهتمامه الأول هو تعليمهم التفكير والقراءة النقديين. وامتدّ دوره كمدرّس أبعد بكثير من الفصل الدراسي، إلى جماهير كبيرة ومتنوعة وصل إليها كمثقف عمومي وكاتب.
بدأ إعجاز مشاركته في الحركات اليسارية منذ أيام دراسته الجامعية في لاهور. كما ارتبط بالحركات النقابية هناك، وشارك بانتظام في التعبئة ضد الإمبريالية. وبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة في أوائل سبعينيات القرن العشرين، نشط في «التحالف من أجل السلام والعدالة» المناهض لحرب فييتنام. وكان إعجاز يتدخل بانتظام في المناقشات العامة حول قضايا مثل الحروب الإمبريالية في غرب آسيا وأفغانستان، والصعود العالمي لليمين والتدخلات الإمبريالية. وكان انخراطه مع حركات اشتراكية في أنحاء العالم جزءًا لا يتجزأ من عمله الأكاديمي. وبعد عودته إلى الهند في عام ١٩٨٥، ارتبط إعجاز ارتباطًا وثيقًا بالحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) وعدد من الحركات الأخرى. لكنه اضطر إلى مغادرة البلاد من جديد وسط تشديد القيود على التأشيرات ووصول حزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني إلى السلطة في عام ٢٠١٤، إذ كان إعجاز من أشد المنتقدين لهذا الحزب والقوى اليمينية الأخرى، لا سيما دورهما في أعمال الشغب الدينية بولاية غوجارات عام ٢٠٠٢.
كان وجود إعجاز في الهند مصدر تحفيز استثنائي لحياة اليسار الفكرية والسياسية في ذلك البلد. ألقى هناك كثيرًا من المحاضرات العامة، ولم يرفض أيّ دعوة لمجموعات الطلاب اليساريين والأوساط الأدبية اليسارية، ولم يتجنّب قط اتخاذ مواقف قوية في شأن القضايا السياسية الراهنة. لكنّ آراء إعجاز الماركسية الصريحة، ومواقفه العامة، وحقيقة أنّه كان مواطنًا باكستانيًّا لفترة من الزمن لطالما اعترضت طريقه إلى جعل الهند وطنه الدائم كما كان يحبّ. وكان ذلك مصدر توتر وألم دائمَين بالنسبة إليه، وجعلَه في النهاية يقبل عرض كرسي الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا، إيرفين، وهو الكرسي الذي سبق أن شغله الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، بعدما رفضت حكومة ناريندرا مودي تمديد تأشيرته مرّة أخرى.
أعماله
أوّل كتاب منشور لإعجاز أحمد هو تحقيقه «غزليات غالب» (١٩٧١)، مع ترجمات لهذه الغزليات من الأوردية إلى الإنكليزية أنجزها إعجاز بالتعاون مع سبعة من الشعراء الأميركيين البارزين. تلى ذلك كتابُه الأبرز «في النظرية: طبقات، أمم، آداب» (١٩٩٢)، ثمَّ «أنساب الحاضر: الأيديولوجيا والسياسة في جنوب آسيا المعاصر» (١٩٩٦)، و«الطائفية والعولمة: هجمات أقصى اليمين» (٢٠٠٢)، و«العراق وأفغانستان وإمبرياليةُ زمننا» (٢٠٠٤)، و«في زمننا: الإمبراطورية والسياسة والثقافة» (٢٠٠٧)، وسواها. كما حقق كتابَ «صوتٌ منفرد: كتابات مايكل سبرينكر» (٢٠٠٣). ونَشرت له LeftWord Books مجموعةً من المقابلات حول حياته وأعماله بعنوان «لا شيء إنسانيًا غريب عليّ» (٢٠٢٠). وكان من المقرر أن يتبع ذلك نشر مشروع إعجاز الأخير، وهو مقدمات لكتابات ماركس السياسية، لكنّ وفاته قطعت ذلك للأسف. تُضاف إلى هذه الكتب مئات المقالات الأكاديمية والقطع الصحافية. وله كذلك دواوين شعر ورواية بالأوردية. وظهرت له ترجمات لقصائد أوردية، مع تقديم مهمّ، في الـThe Hudson Review وفي الـPoetry.
إذا ما كان ثمّة كلمة تشير إلى المحور الذي ينتظم كتاب «في النظريّة: طبقات، أُمَم، آداب» حوله، فإنّ هذه الكلمة هي «النَّقد»: النقد الماركسي للعالم في بنيته الراهنة وفي تاريخه القريب الذي أوصل إليها؛ وللنظرية الثقافية والأدبية كما تطورت في الأكاديمية الغربية والثقافة الغربية خلال العقود الأخيرة مع ما بعد البنيوية والنظرية ما بعد الاستعمارية؛ وللفكر القومي؛ ولمقولتَي «العالم الثالث» و«أدب العالم الثالث» ونظرية «العوالم الثلاثة» في طبعاتها المختلفة؛ ولإدوارد سعيد في تجاذباته الوجدانية كما تجلّت في كتابه «الاستشراق» ثمّ في سواه؛ ولما أشاعه سعيد ومدرسة دراسات التابع وحالات كتّاب مثل سلمان رشدي من إعلاءٍ لشأن المثقف والكاتب المنفيّ والمهاجِر والهجين على حساب الثقافة الوطنية وأبنائها الذين يعيشون ويقاومون فيها؛ وللطريقة التي تُبنى بها المُعْتَمَدات الأدبيّة المكرَّسة الغربية والعالمثالثية والهندية؛ وللنقّاد الذين اتهموا ماركس بالمركزية الأوروبية والاستشراق بناءً على كتاباته الصحافية عن الهند، إلخ. وهذا ما دفع تيري إيغلتون، الناقد والمفكّر الماركسي البريطاني الشهير، إلى القول معلّقًا على الكتاب: «إنْ كان بعض النقّاد الجذريين قد نسوا أمر الماركسية، فإنّ الماركسية، كما تتجلّى في نقد إعجاز أحمد المُفْحِم والشجاع وغير الدارج، لم تَنْسَ أمرهم». غير أنّ ما يطلع به إعجاز من كتابه هذا لا يقلّ عن إعادة صوغ كاملة للحوار الفكري في النظرية النقدية والدراسات ما بعد الاستعمارية. وسوف يُشرك في السنوات اللاحقة أصواتًا بارزة أخرى في النظرية النقدية، بما في ذلك جاك ديريدا وسلافوي جيجيك وآلان باديو وغاياتري سبيفاك، ويعيد النظر في جدالات حول النظرية والسياسة من منظور التحول النيوليبرالي الذي ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة.
جاء كتاب «في النظرية» ليدافع عن الماركسية في لحظة ضعفها الأكبر، إذ كانت تُدَكّ في الأكاديميات كمنهج وكمنظور، وكانت سياساتها تُشيطَن باعتبارها شمولية. من اليسار، كانت انتقادات ما بعد البنيوية للماركسية تتهمها بأنّها قاصر وحتمية في أحسن الأحوال، وجزء من نظرة الرجل الأبيض في أسوئها. ومن اليمين الليبرالي والمحافظ، كانت تُهاجَم لافتقارها إلى الحرية والتطور، وبأنّها عقيمة فكريًّا. ولا يزال الكتاب محتفظًا بأهميته بعد كلّ هذه السنوات، سواء في إظهاره أخطاء النظرية ما بعد الاستعمارية والتقليد الإنسانوي الليبرالي وعيوبهما (كما تجلّت لدى إدوارد سعيد) أو في تبيانه أنّ الطرائق الماركسية الكلاسيكية وأفكارها التأسيسية (التي يتخلّى فريدريك جايمسون عن كثير منها) لا تزال تتيح لنا أن ننظر نظرة خلّاقة وثاقبة إلى الإمبريالية والاستعمار والظواهر المرتبطة بهما، مثل الهجرة ومقولات «العالم الثالث» و«أدب العالم الثالث» و«كتّاب العالم الثالث» و«العوالم الثلاثة». وفي هذا المجال الأخير، بيّن إعجاز أنّ ما من «وحدة» تجمع أدب العالم الثالث الذي يعتبره باحثون غربيون، من بينهم جايمسون، كتلة متراصّة؛ وأنّ ثمّة تمايزًا شديدًا طبقيًّا وثقافيًّا في ما يُدعى «أدب العالم الثالث»؛ وخصوصيات متباينة يتجاهلها الغرب في ما يُدعى «العالم الثالث»؛ وأنّ هذا الأخير رأسماليّ مثل العالمين الأول والثاني لكنّ رأسماليته متخلّفة وتابعة. أمّا في شأن «الهجرة» و«المنفى»، هذان الحدثين المؤلمين الحقيقيين في حياة المحرومين، فقد بيّن سعيد أنهما لا يكادان يشتركا في شيء مع «التهميش» و«دراسات الشتات» و«الهجنة» و«البرمائية الثقافية» التي راح يتغنّى بها كتّاب النظرية ما بعد الاستعمارية وباتت تدَرَّس في الجامعات اليوم.
لذلك كلّه، يمكن أن نصف «في النظرية» بأنّه كتاب ماركسي كلاسيكي يقاوم بشدة استيراد ما اعتبره مفاهيم غريبة وغير متوافقة مع الماركسية، بحجة جعلها أكثر واقعية، الأمر الذي يخلق خلائط انتقائية متنافرة. غير أنّ ما يجعل «في النظرية» كتابًا فريدًا هو جمعه السجال الناري إلى الإبداع الفكري والتبحّر اللافت في فروع وتخصصات عديدة، وكذلك تبيانه أنّ كثيرًا ممّا تنتقده ما بعد البنيوية والنظرية ما بعد الاستعمارية لدى الماركسية إنْ هو إلّا خيال مآتة من قشّ وليس الشيء الفعلي، في الوقت الذي يسعى إلى إعلاء كعب التقليد الماركسي الكلاسيكي وتكريس تفوّقه. كان يحلو لإعجاز القول إنّ «ما بعد الماركسية ليست سوى ما قبل الماركسية، عودة إلى المثالية التي تجاوزها ماركس». وعندما تعرّضت الماركسية للهجوم، كان إعجاز أحد المفكرين القلائل الذين قدموا سردًا متطورًا ليس لأهميتها فحسب، بل لضرورتها أيضًا: «ما بعد الاستعمار هو أيضًا، مثل معظم الأشياء، مسألة طبقية».
يُعَدّ كتاب «في زمننا: الإمبراطورية والسياسة والثقافة» (٢٠٠٧) نوعًا من المتابعة لكتاب «في النظرية»، إذ ينطوي على تحليل مدقِّق لوجه الإمبريالية المتغير، ومجموعة من التدخلات المتشابكة في أكثر الجدالات المعاصرة إلحاحًا في النظرية السياسية والثقافية، وتحليل جديد مميز للإمبريالية في عصر العولمة، حيث تنزلق إلى النيوليبرالية والحرب الكوكبية، وتظهر أشكال مقاومة جديدة تاريخيًّا في جميع أنحاء العالم. أمّا كتاب «أنساب الحاضر: الأيديولوجيا والسياسة في جنوب آسيا المعاصر» (١٩٩٦، مع طبعة منقحة ومزيدة في عام ٢٠٠٠) فيكرّس صاحبَه لا كواحد من أبرز المنظّرين النقديين لجنوب آسيا فحسب، بل أيضًا كواحد من أقوى الأصوات في الجدالات النظرية حول السياسات النووية العالمية. ويحلل كتاب «الطائفية والعولمة: هجمات أقصى اليمين» (٢٠٠٢) الإمبريالية الجديدة والتأثير المتزايد للفاشية في مجتمعات العالم الثالث، ويجعل من إعجاز أحمد أحد الأصوات الأشد إثارةً للاهتمام في الجدالات حول ما يسمّيه التحول العالمي الإمبريالي الجديد. ولعلّ فرادة صوته بصدد تناول الطائفية والفاشية كظاهرتين محددتين في جنوب آسيا نبعت من اطّلاعه على تجربتَي الطائفية الهندوسية في الهند والطائفية الإسلامية في باكستان، ومعرفته بسياسات الأصولية الإسلامية، إنّما مع أمميةٍ ومنهجيةٍ لا تخفيان، تستخلصان من المقارنات والأمثلة المستمدة من جميع أنحاء العالم وتطلق تلك الاستخلاصات كي تعمل عملها في سياق الاقتصاد السياسي لدولة الهند المختلّة.
يجمع كتاب «العراق وأفغانستان وإمبرياليةُ زمننا» (٢٠٠٤) مقالات طويلة بدأت بعد كارثة ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ مباشرةً وامتدّت على مدى عامين تاليين، تناول فيها إعجاز التخطيط الإمبراطوري العالمي وحربَي الاحتلال اللتين شنّتهما الولايات المتحدة ضد أفغانستان والعراق. وتنطوي هذه المقالات على ثروة من التفاصيل والتحليلات التي تكشف خلفيات السياسة الأميركية، والتحضير للحربين وتنفيذهما، وبروز المقاومة في البلدين. أمّا مقدمة الكتاب الطويلة والملاحظة المقتضبة عن أَسر القوات الأميركية صدام حسين فتأتيان بالقصة إلى أواسط كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٠٣. وتلي ذلك مقالة بعنوان «إمبريالية زمننا»، وهي مداخلة نظرية كبرى من مداخلات أحمد يرى فيها أنّ الولايات المتحدة اتبعت سياسة ثابتة منذ الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية تهدف إلى تدمير الشيوعية، وهزيمة قومية العالم الثالث؛ وإقامة تفوّق واضح ودائم على المنافسين في العالم الرأسمالي. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، شنّت الولايات المتحدة هجومًا عالميًّا للتراجع عن المكاسب التي حققتها القوى الاشتراكية والمناهضة للإمبريالية خلال معظم القرن العشرين، وفرض أنظمة عميلة في آسيا وأفريقيا، واحتكار موارد العالم الاستراتيجية. ويتتبّع أحمد حربَي الاحتلال في أفغانستان والعراق على نحو ما تتكشّفان في هذا الإطار النظري الأكبر. ويتناول، من بين أمور أخرى، عددًا من الموضوعات ذات الصلة: نظام العقوبات الإبادي وعمليات القصف الشرسة التي نفّذها التحالف الأميركي البريطاني على مدار ما يقرب من اثني عشر عامًا؛ الدور الغادر للأمم المتحدة؛ والدور المبهم للاتحاد الأوروبي وحرب العملة بين الدولار واليورو؛ والسياسات النفطية في العراق والشرق الأوسط وحوض بحر قزوين؛ وعديد القضايا الأخرى ذات الأهمية الأساسية في فهم الإمبريالية في زمننا.
على غرار كتب إعجاز، حفّز كثير من مقالاته فكرًا جديدًا في مختلف المجالات، وتُرجم إلى عديد من اللغات، وأعيد طبعه في طبعات وسياقات جديدة. ففي مقالته «نظرية ما بعد الاستعمار وظروف ما بعد الاستعمار»، يحلّل على نحو نقدي الاتجاهات الفلسفية والسياسية والمعرفية الرئيسة في الثقافات العالمية المتنوعة اليوم. أمّا مقالته «الإسلام والإسلامويات والغرب» ففتحت أفقًا جديدًا لتناول الترابط والتشابك بين أزمة الرأسمالية العالمية والأزمة في العالم الإسلامي اليوم. وتُعَدّ مقالاته عن تاريخ الأوردية كلغة أدبية وكذلك عن الطابع متعدد اللغات ومتعدد الأصوات للأدب الهندي دليلًا على التزامه إعطاء حقّ التعبير للأعمال الأدبية بما يتجاوز الهيمنة الأحادية للّغة الإنكليزية. وهو يبدي في مقالاته هذه قدرةً لا مثيل لها في النظرية النقدية والدراسات الأدبية على تغطية ثقافاتٍ مختلفة وعهودٍ تاريخية شتّى. ويصحّ الشيء ذاته على قدرته على جعل عمله يتحدث عبر حدود الأقسام والمدارس، وفي تخطٍّ لمجالات النظرية النقدية وتحليل الخطاب والدراسات الأدبية صوب الفلسفة وعلم الاجتماع والتنظير السياسي والنضال. وفي عام ١٩٩٧، عندما نشرت أرونداتي روي روايتها «إله الأشياء الصغيرة»، قرأها إعجاز بعناية وحماس كبيرين، وكتب عنها في Frontline مقالةً بعنوان «قراءة أرونداتي روي سياسيًّا» هي من درر النقد الأدبي وكانت فاتحة علاقته مع هذه المجلة، ومن الغريب أنّها لم تعاود الظهور في أيّ من أعمال إعجاز أو في أيّ من الكتب عن أعمال أرونداتي روي. وبعد ما يقارب العقد من الزمان على انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكية، كتب إعجاز مقالةً بعنوان «البيان الشيوعي: في زمانه وفي زمننا»، هي عبارة عن قراءة ممتعة في بيان ماركس وإنغلز تعتبره «نصًّا في مرحلة انتقالية» يجمع معًا العناصر الرئيسة لما سينطوي عليه لاحقًا مجموع أعمال ماركس. وبالطبع فقد كتب إعجاز مقالات وأجرى مقابلات عمّا دُعي بـ«الربيع العربي» تغنّى فيها بثورتي تونس ومصر، بخلاف تشكّكه في ثورتَي ليبيا وسورية، الأمر الجدير بالتمحيص والمراجعة.
ماركس، آفاقه وحدوده
على الرغم من دفاع إعجاز، طوال حياته، عن ماركس وفكره، ما كان ليُعجَب بقراءةٍ لأعماله مستسهلة وتبسيطية ومنبتّة الصلة بالممارسة. وحتى إزاء نصوص ماركس، كان يرى أنّه «لا وجود لفهم نهائي... ولا بدّ من العودة على الدوام لإلقاء نظرة أخرى، والتفكير من جديد، والتوصّل إلى فهم أعمق». ولطالما أدرك حدود ماركس وما يفتقر إليه. على سبيل المثال، إنّ ماركس، على الرغم من انتقاده استنفاد الزراعة الرأسمالية للتربة، لم يشدد على الطرائق التي لا حصر لها التي يفسد بها رأس المال الأرض. وكان يعتقد أنّ الاشتراكية ستفيد من «تقدم» الرأسمالية، بخلاف ما أثبتته الكوارث البيئية في عصرنا. ولم ينتقد ماركس الاستعمار بما يكفي. وكان وعيه بآثار العنصرية ضئيلاً، على الرغم من إدانته الشديدة لها. وهو لم يكَد يكتب شيئًا عن النسوية، وكان يعتبر أعمال المرأة المنزلية أمرًا مفروغًا منه. وقد بذل إعجاز قصارى جهده لإصلاح هذه العيوب، مدافعًا طوال الوقت عن حركة تقدمية جديدة، وشكل من الاشتراكية منفتح وتشاركي.
في أواسط تسعينيات القرن العشرين، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بات من الواضح أنّ الماركسية كانت تعاني في معركة الأفكار، إذ دخلت الليبرالية الجديدة لا معجم مفردات الثقافة الشعبية فحسب (وعلى رأسها الفردية والجشع) بل العالم الفكري أيضًا من خلال ما بعد الحداثة. وكانت مقالته الرائعة عن البيان الشيوعي، كما الكتاب الجماعي الذي نُشرت فيه وحرره براكاش كارات، «عالَمٌ للفوز به»، والدار التي نشرته (LeftWord Books) في دلهي، نوعًا من التفاعل مع هذا السياق ومجابهته. وكذلك كانت مقابلاته التي ضمّها كتاب «لا شيء إنسانيًا غريب عليّ». خلال العامين الماضيين، خطط إعجاز أحمد لإنجاز سلسلة من المقدمات أو المداخل لكتابات ماركس السياسية. وكان يرى أنّ «الاكتفاء بالنظر إلى ماركس من خلال عمله الاقتصادي هو نظر ضيّق للغاية، على الرغم من أهمية هذا العمل، لأنّ كتاباته السياسية هي المفتاح لفهم رؤيته الثورية». وقد أجرى سلسلة من المقابلات حول بعض هذه النصوص (مثل البيان الشيوعي، القسم الأول من الأيديولوجيا الألمانية، والثامن عشر من برومير بونابرت، وكتابات ماركس عن كومونة باريس)، لتحويلها إلى مداخل لهذه النصوص فضلًا عن جمع كتاباته عن ماركس في كتاب، لكن رحيله حال دون ذلك.
نعي
عبّرت حركات كثيرة وبشر كثيرون، على وسائل التواصل الاجتماعي، عن حزنهم لرحيل إعجاز أحمد وما يمثّله من خسارة فادحة. وتذكروا كيف أعانتهم مداخلاته على فهم قضايا حاسمة تؤثّر في العالم، لا سيما أنّ عباراته الخالية من الرطانة كانت بالنسبة إلى كثيرين طريقة محببة وأثيرة لتعليم النظرية والفلسفة الماركسيتين. على «فايسبوك»، كتب فيجاي براشاد الذي شارك في تأليف كتاب «لا شيء إنسانيا غريب عليّ»: «غادرنا صديقي وأستاذي، ومعلمي الروحي الماركسي». ثم كتب في نعيٍ له: «حين يرحل عنّا شخص مثل إعجاز، يبقى صوته في مسامعنا. سوف يبقى لزمن طويل قادم». ووصفه سودانفا ديشباندي، الناشط الثقافي الذي يعمل مع LeftWord Books، بأنّه «أذكى عقل ماركسي وقعت عليه عيني». أمّا غابرييل شواب، أستاذة الأدب المقارن والأنثروبولوجيا المميزة، فكتبت: «لقد أغنى حياتنا الفكرية بطرائق لا تعدّ ولا تحصى. وبينما نحزن عليه، فإنّ غيابه سوف يملأ عالمنا».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.