العدد ٢٢ - ٢٠١٩

روزا لوكسمبورغ

في أزمة الاشتراكيّة الديمقراطيّة ومفارقات الطبقة العاملة الألمانيّة

النسخة الورقية

«كان السلافيّون في سنة ١٨٤٨ بمثابة صقيع أباد زهور ربيع الشعوب. أمّا الآن، فربّما كتب لهم أن يكونوا ذلك الإعصار الذي سيحطّم جليد الرجعيّة ويحمل في طيّاته للشعوب ربيعاً جديداً تملؤه السعادة».

كارل كاوتسكي، ١٩٠٢

بهزيمة كومونة باريس كان تاريخٌ من الثورات الفرنسيّة المتتابعة (١٧٨٩، ١٨٣٠، ١٨٤٨، ١٨٧١) يبلغ نقطة الختام. بدت الثورات كأنّها تنسحب من التاريخ الأوروبيّ. أمّا الحركة الاشتراكيّة فعظُم شأنها في مرحلة ما بعد الكومونة. على الرّغم من أنّ «الأمميّة الثانية» اختارتْ عقد مؤتمرها التأسيسيّ في باريس نفسها، في ١٤ تموز / يوليو ١٨٨٩ - الذكرى المئويّة للثورة الفرنسيّة الكبرى، إلّا أنّ مركز الثقل كان في ألمانيا. بخلاف سابقتها، لم تعرف هذه الأمميّة هيكليّة تنظيميّة غير مؤتمراتها إلى حين تأسيس «المكتب الاشتراكيّ الأمميّ» مطلع القرن العشرين.

لم يفلح الاشتراكيّون الفرنسيّون قبل الحرب الكبرى في بناء حزب جماهيريّ، حتى بعد توحّدهم في صيغة «الفرع الفرنسيّ للأمميّة العمّالية» عام١٩٠٥. الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة نجحتْ في ذلك، وبدا حزبها الجماهيريّ شديدَ التنظيم، راسخَ العلاقة بالطبقة العاملة المتسارعة في النموّفي فترة ما يعرف بالثورة الصناعيّة الثانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

 

مفارقات الاشتراكيّة الأوروبيّة في فترة انقطاع الثورات

بعدما كانت ألمانيا منقسمةً سياسيّاً ومتأخّرة عن اللحاق بركب الثورة الصناعيّة الأولى، ثورة آلة البخار والأفران عالية الحرارة لصهْر الحديد وصناعة النسيج الممكننة، انقلبت الآية في «الرايخ الثاني» لتصبح ألمانيا بنهاية القرن التاسع عشر ثاني أكبر بلد صناعيّ بعد الولايات المتّحدة الأميركيّة، وثاني أكبر بلد تجاريٍّ بعد بريطانيا، متفوّقةً في صناعة الآلات والأدوات الكهربائيّة والصناعات الكيميائيّة. تحقّق هذا التسارع في التحديث والتصنيع والتمدين في كنف نظامٍ «ملكيّ بيروقراطيّ عسكريّ» على النمط البروسيّ، بهرميّةٍ اجتماعيّة فظّة، تسيطر فيها الأرستقراطيّة على الوظائف الأهمّ في الإدارة وتكاد تحتكر سلك الضبّاط كلّه في الجيش. كما حافظ كبار الملّاك العقارّيين من «اليونكرز» على العلاقات الإقطاعيّة شرق نهر الإلبا، هذا في مقابل برجوازيّة متشظّية وأكثر تعلّقاً بجهاز الدولة من أيّ بلدٍ أوروبيّ آخر. هذا التفاوت في التطوّر الاجتماعيّوالاجتماعيّ لألمانيا، سيكون له عميق الأثر على مسار الاشتراكيّة - الديمقراطيّة. ارتبط ذلك أيضاً مع اختلاف العلاقة بين الحزب السياسيّوالنقابات بين فروع الأمميّة الثانية.

في فرنسا «الحقبة الجميلة» (الفترة السابقة على الحرب الكبرى)، هيمنت «النقابويّة الثوريّة» المنادية بالعمل المباشر، على «الكونفدراليّة العامّة للشغل»، في مقابل تشكيلاتٍ حزبيّة اشتراكيّة ذات طبيعةٍ نخبويّة ومنبريّة. وبشكلٍ معكوس، انبثق «حزب العمّال» كذراعٍ سياسيّة للنقابات في بريطانيا. أمّا في ألمانيا فبُني الحزب الجماهيريّ أوّلاً ثمّ ازدهرت النقابات الدائرة في فلكه بنهاية القرن التاسع عشر، واعتمد مبدأ الاستقلاليّة المتبادَلة بين الحزب والنقابات، بيد أنّ تقسيم العمل بينهما حمل معه عناصر أزمة الاشتراكيّة - الديمقراطيّة نفسها، اذ تحوّلت النقابات إلى موئل النزعة الإصلاحيّة المتخوّفة على المكاسب الاقتصاديّة المحقّقة من مغبّة الانقياد وراء الشعارات الثورويّة.

كان أثر الماركسيّة محدوداً على الاشتراكيّة الفرنسيّة في زمن «الأمميّة الثانية»، بخلاف ألمانيا، حيث تحوّلت الماركسيّة إلى زادٍ نظريّوأيديولوجيٍّ للصمود في وجه «القوانين الاستثنائيّة» ضدّ الاشتراكيّين، وتعمّق هذا الأثر بعد رفع هذه القوانين، وبخاصّةٍ في البرنامج الذي أقرّه مؤتمر الحزب في إيرفورت ١٨٩١. في حقبة القوانين الاستثنائيّة، صُنِّف الاشتراكيّون أعداءً للإمبراطوريّة وجرت ملاحقتهم، وتأمّنت بذلك أرضيّة الابتعاد عن برنامج مؤتمر غوتا ١٨٧٥، الأكثر تأثّراً بفكر فرديناند لاسال (١٨٥٤) والذي يغضّ الطرف عن أيّ بحثٍ في السمة الطبقيّة للدولة، في وقتٍ تزامنتْ فيه قوانين أوتو فون بسمارك ضدّ الاشتراكيّين مع تشريعاتٍ اجتماعيّةٍ متينةٍ بادر إليها المستشار نفسُه.

في سنوات الملاحقة، أقلع الحزب عن أحاديّة الالتزام بـ«السبل المشروعة»، وكان عليه التركيز على السمة الطبقيّة للدولة الإمبراطوريّة القائمة، والمساجلة ضدّ المروّجين لـ«اشتراكيّة بسمارك». لكنّ الحزب لم يصُغْ برنامجاً جديداً لنفسه إلّا في أعقاب انتهاء قوانين الاستثناء وعزل بسمارك.

 

ماركسيّة «برنامج إيرفورت» وحدودها

وهكذا، جاء البرنامج المقرّ في إيرفورت، والذي لعب كارل كاوتسكي الدور الأساس في صياغته، ليشدّد على أنّ «صراع الطبقة العاملة ضدّالاستغلال الرأسماليّ هو بالضرورة صراعٌ سياسيّ. من دون الحقوق السياسية، لا يسَع الطبقة العاملة أن تنهض بنضالاتها الاقتصاديّة وأن تطوّر منظومتها الاقتصاديّة. كذلك لا يمكنها أن تدفع باتّجاه تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكيّة المجتمع من دون الحصول على السلطة السياسيّة بادئ ذي بدء».

استهلّ برنامج إيرفورت بإطار «نظريّ» يُقدَّمُ فيه التطوّر الاقتصاديّ للمجتمع البرجوازيّ على أنّه يقود لا محالةَ إلى تضعضع المصالح الصغيرة، واحتكار وسائل الإنتاج أكثر فأكثر من لدن فئةٍ قليلة من الرأسماليّين وكبار ملّاكي الأرض، بحيث يتحوّل «الصراع الطبقيّ بين البرجوازيّة والبروليتاريا الذي يقسّم المجتمع الحديث إلى معسكرَين متعاديين إلى سمةٍ مشتركة لكلّ البلدان المصنّعة»، ليكون التشديد من ثمّ على أنّ المخرج الوحيد يتقوّم في تشريك ملكيّة وسائل الإنتاج والمناجم والأرض والنقل. طرحتْ بعد ذلك الأهداف المباشرة، وفي مقدّمتها الاقتراع العامّ المتساوي والسرّيّ والمباشر، لكلّ مواطني الرايخ دون تمييزٍ في الجنس، والتمثيل النسبيّ، وعدم التمييز في الحقوق السياسيّة، وإفساح المجال للتشريع المباشر من الشعب، وتدريب الجميع على حمل السلاح بحيث يستعاض عن الجيش النخبويّ الدائم بـ«المليشيا»، ويكون للمجالس المنتخَبة مرجعيّة تقريريّة في أمور الحرب والسلم، وإلغاء كلّ القوانين التي فيها إجحافٌ بحقّ المرأة، إلى رزمةٍ من الأهداف الديمقراطيّة، تتضمّن على صعيد العمل تحديد ساعاته بثمانٍ يوميّاً، ومنع عمالة الأطفال.

على الرّغم من محاكاته لغةَ «البيان الشيوعيّ»، وتجاوزه الأفكار اللاسالية، غاب الربط بين قسمَي برنامج ايرفورت «النظريّ» و«العمليّ»، وكان ذلك مدعاةً لتوجيه فريدريك إنغلز سهامَ النقد له. فالبرنامج، وإن جاء متقدّماً على الوثيقة المقرّة في غوتا، إلّا أنّه احتوى مفارقةً خطيرة: حزبٌ ينادي بالصراع الطبقيّ وإلغاء الطبقات من جهة، وبرزمةٍ من الأهداف المباشرة الديمقراطيّة الاجتماعيّة من جهةٍ ثانية، من دون أن يكون بإمكانه في البَين بَين أن يطالب بإحلال الجمهوريّة بدلَ الإمبراطوريّة في ألمانيا. كما أنّه حزبٌ يطالب بالاقتراع العامّ المباشر والمتساوي، فيما تعيش ألمانيا منذ توحيدها على يد بسمارك مفارقة انتخاب الغرفة السفلى في الرايخستاغ بالاقتراع العامّ المتساوي للرجال فقط، وبنظام انتخابيٍّ أكثر تقدّماًفي ذلك الوقت من المعتمَد في بريطانيا، في مقابل بقاء مجلس الشيوخ من جهة، وبرلمانات الممالك والإمارات التي منها يتشكّل الرايخ ككلٍّ من جهةٍثانية، بعيدة كلّ البعد عن مفهوم الاقتراع العامّ، لا سيّما في المملكة - القاعدة لهذا الرايخ، بروسيا، التي بقيتْ جمعيّتها التمثيليّة «اللاندتاغ» تنتخب على أساس «نظام الطبقات الثلاث» حتى سقوط الإمبراطوريّة عام ١٩١٨. لم يتطرّق برنامج إيرفورت إلى هذا التفاوت الرهيب الذي يحمي الطبيعة العسكريّة للملكيّة البروسيّة وسيطرة الأرستقراطيّة على مفاصل الدولة. هذا بخلاف إنغلز، الذي شدّد في نقده على أنّ هذا النوع من الفدراليّة يتعارض تماماً مع التطوّر الديمقراطيّ لألمانيا، مطالباً بتبنّي نموذج «الجمهوريّة الواحدة التي لا تتجزّأ»، وداعياً مباشرةً إلى حلّ الكيان الملكيّ - العسكريّ البروسيّ: «ينبغي ألّا تستمرّ بروسيا نفسُها في الوجود، وأن تجزّأ إلى أقاليم مستقلّة عن بعضها البعض، كي تتحرّر ألمانيا من هذه الروح المحض بروسيّة التي تنوء تحت ثقلها».

غابت «الوصلة الجمهوريّة» بين الأهداف الديمقراطيّة والاجتماعيّة المباشرة وبين النظرة الشاملة إلى التطوّر الاجتماعيّ التاريخيّ تبعاً لمقولة الصراع الطبقيّ. ارتبط ذلك بواقعة صدور البرنامج مباشرةً بعد كفّ التعقّبات بحقّ الاشتراكيّين، إنّما مع بقائهم قَيد النبذ السياسيّ من طرف الرايخ ومعظم الأحزاب الأخرى، كما ارتبط بالتوسّع المتواصل للحزب وتنامي نجاحاته الانتخابيّة. من جهةٍ، لا يريد الاشتراكيّون - الديمقراطيّون العودة إلى زمن الملاحقة القانونيّة لهم، ومن جهةٍ ثانية يريدون أن تبقى معارضتهم متّصفةً بالثوريّة لكنّهم يشتكون من استمرار وضعيّة النبذ.

 

النزعة الإصلاحيّة ومعادلات «الرايخ الثاني»

عكستْ معضلة الاشتراكيّة الديمقراطيّة مفارقات نموذج التحديث على الطريقة الألمانيّة. تطوّرٌ صناعيّ متسارع في نهاية القرن التاسع عشر، في مقابل هيمنة العلاقات شبه الاقطاعيّة شرق نهر الإلبا. ملكيّة دستوريّة وعسكرية في الوقت نفسه. رايخستاغ منتخبٌ لا يمكنه عزل المستشار ولا تنبثق الحكومة منه، بل يكتفي بالمراقبة. سلطة تنفيذيّة شبه مطلقة، وسلطة تشريعيّة محدودة. مجلس فدراليّ يرأسه الإمبراطور ويضم ملوك الرايخ وأمراءه، ضامن لسطوة بروسيا، ويمكنه أن يعطّل كلّ مبادرة تصدر عن الرايخستاغ. دولة هرميّة يمسك الأرستقراطيّون بأهمّ الوظائف الإداريّة والعسكريّة فيها، لكنّها المبادر الأساسيّ للتشريعات الاجتماعيّة منذ ١٨٨٠. في تركيبةٍ كهذه، لم تكن الأحزاب تبتغي الوصول إلى السلطة، بل أن تمارس تأثيراً على من هم في السلطة، كما لو أنّها تسلّم بالهوّة العميقة بين الحاكم والمحكوم.

من هنا، يخلُص كريستيان بايشلر إلى أنّ الأحزاب في الإمبراطوريّة الألمانيّة لم تكن سياسيّة «بل إمّا طائفيّة وإمّا طبقيّة اقتصاديّة»، وهذا يصح بخاصّة بالنسبة إلى أكبر حزبَين من حيث عددُ الأصوات نهاية القرن، الحزب الاشتراكيّ - الديمقراطيّ وحزب الوسط (الكاثوليكيّ). الحزبان تعرّضا للنبذ بوصفهما «أمميَّين»، مشكوكاً في ولائهما للرايخ. وفي حين نُظر إلى حزب الوسط على أنّه يتحدّى الاستبلشمنت البروتستانتيّالمسيطِر، بدا حزب الطبقة العاملة أشبهَ بحركةٍ خلاصيّة لا يتردّد بايشلر في تعريفها «كحزب شعبيّ بروتستانتيّ بأكثريّة عمّاليّة ساحقةٍ».

كحركة خلاصيّة، لم يكن بمقدور الحزب أن يتخلّى عن مفهوم الثورة، وبحكم أنّ مرحلةَ ما بعد تصفية كومونة باريس كانت مرحلة انقطاع الثورات عن التاريخ الأوروبيّ اتّشح هذا المفهوم بمسحة دينيّة أكثر من أيّ وقتٍ سابق، في الوقت نفسه الذي كانتْ فيه هذه المسحة تكتسي بلباسٍ وضعيّ. من هنا، أتاح برنامج إيرفورت قراءتين مختلفتين له، فكما يلاحظ المؤرّخ الأميركيّ كارل إميل شورسك (ت ٢٠١٥) جاء هذا البرنامج ليقول للثوريّين «صبراً، لم تأت الساعة بعد. تذكّروا فقط أنّ التاريخ إلى جانبكم»، وليقول للإصلاحيّين «تذكّروا أنّ عليكم النّضال من أجل الإصلاحات، والإيمان بإشراقة مجتمع جديد هو سلاحٌ في نضالكم هذا. لا تتجاهلوه». وفقاً للمنظار الذي يعتمده شورسك، طالما بقي الحزب منبوذاًسياسيّاً وغير ملاحَق قانونيّاً كانت التسوية النصّية المعمول بها في إيرفورت بين الإصلاحيّين والثوريّين قابلةً للاستمرار، فما أن أخذت الأمور تتطوّر على نحوٍ مختلف حتى أخذتْ هذه التسوية بالتفسّخ، بالشكل الذي اتجهتْ فيه الأمور أكثر فأكثر نحو الاستقطاب داخل الحركة الاشتراكيّة. يميّز شورسك بين ثلاثة مصادر مختلفة للنزعة الإصلاحيّة التي صارت تتعامل أكثر فأكثر مع إبقاء الحزب على المفهوم الثوريّ من دون أيّ سبيل إلى ترجمته العمليّة كوطأة.

فمن جهةٍ، أخذ الجناح الجنوبيّ للحزب يَضيق ذرعاً أكثر فأكثر بمقاربة المركز للمسألة الزراعيّة التي كانتْ ترى أنّ الملكيّات الصغيرة في طريقها إلى الزوال، الأمر الذي كان يعاكسه تماماً الواقع الزراعيّ في بافاريا. الجناح الجنوبيّ أراد حماية مصالح الفلّاح، مرتكزاً على أنّ ثمّة أنماطاًجديدة من الزراعة أكثر فاعليّة مع تملّك قطَع الأرض المحدودة، وثمّة أيضاً مصالحة في الانفتاح على القوى الليبراليّة في بافاريا. ومن جهةٍ ثانية، شكلت النقابات العمّاليّة قاعدةً أساسيّة للتفكير العملانيّ، الإصلاحيّ، الذي لم يكن بمقدور الحزب احتواؤه إلّا بالموافقة على استقلاليّة النقابات الصديقة له وحيادها السياسيّ، سواءٌ لأجل اتّساعها لغير الاشتراكيّين أو لتعاونها مع النقابات غير الاشتراكيّة. أمّا المصدرُ الثالث للنّزعة الإصلاحيّة فجسّدتْه المراجعة التي قام بها إدوارد برنشتاين، نهاية القرن، للمقولات الماركسيّة الأساسيّة، إذ رأى برنشتاين أنّ الرأسماليّة طوّرت قدرةً على التكيّف وعلى ضبط أزماتها لا يمكن من بعدها الرهانُ على انهيارها بنتيجة تناقضاتها، وأنّه ما عاد بالإمكان النظر إلى الاشتراكيّة على أنّها تستمدّ ضرورتها من التطوّر الرأسماليّ نفسه، بل فقط من المثل الأخلاقيّة وملَكة التقرير العقلانيّ والحرّ، وهذه الملكة لا يمكن أن تُحصر في طبقةٍ اجتماعيّة دون سواها. اعتبر برنشتاين أنّ الماديّة التاريخيّة تُخفي نزعةً دينيّةً متناقضة «كالفينيّة من دون إله»، ولا بدّ من إنقاذ البرنامج الاشتراكيّ بإعادة الغَرف من فلسفة إيمانويل كانط.

bid22_malaf_wissam_saade1_rosa_fi_azmeh_photo1_rgb.jpg


الثورة‭ ‬الروسية في ‬‮٥‪١٩٠، ايفان‭ ‬فلاديميروف

 

لوكسمبورغ: استعادة الأمميّة الأولى في زمن الثانية

لمع نجم روزا لوكسمبورغ القادمة حديثاً إلى ألمانيا، بخوضها السجال ١٨٩٨ - ١٨٩٩ بشكل منهجيّ ضدّ «تنقيحيّة» برنشتاين. بخلاف المدافعين الآخرين عن الأرثوذكسيّة الماركسيّة، لم تكتف لوكسمبورغ بإظهار استفحال تناقضات الرأسماليّة، بل أدخلت «الوعي الطبقيّ» بقوّةٍ إلى عمق السجال، وربطتْ هذا الوعي بالديناميّات التاريخيّة الخلّاقة. الثورة الاشتراكيّة ضرورةٌ مزدوجة: بحكم استفحال التناقضات الموضوعيّة للرأسماليّة، وبحكم تنامي الوعي الطبقيّ للبروليتاريا. بدتْ روزا وكأنّها تستعيد المقولة المفتاحيّة للأمميّة الأولى (تحرّر العمّال من صنع العمّال أنفسهم) في شروط الأمميّة الثانية، الأمر الذي سيجعلها تتصادم مع برنشتاين من جهة، ومع تعريف لينين للثوريّ الاشتراكيّ - الديمقراطيّكـ«يعقوبيٍّ ملتحمٍ بالبروليتاريا». لئن دار تناقضها مع لينين لاحقاً حول مفهوم الحزب ودوره، فقد تعلّق تناقضها مع برنشتاين قبل أيّ شيءٍ آخر بدور النقابات. فالأخيرة، «هجوميّة» عند برنشتاين، بمستطاعها انتزاعُ مكاسب على حساب أرباح أصحاب المشاريع، والإسهام في تحسين الأجور الفعليّة للعمّال وحصّتهم من الرأسمال الاجتماعيّ. أمّا بالنسبة إلى لوكسمبورغ، فالنضال البرلمانيّ كما النقابيّ يظلّ في نطاق إعداد العنصر الذاتيّ(الوعي الطبقيّ) للثورة الاشتراكيّة، ونتيجة ذلك وظيفة النقابات «دفاعيّة» محض، بل لم تتردّد روزا في تشبيهها بـ«عمل سيزيف» الذي يحاول - في الأسطورة - أن يدفع الصخرة إلى القمّة بلا جدوى، وهذا تشبيهٌ أثار استياءً في الوسط النقابيّ. يبقى أنّ هذه التناقضات، سواءٌ بين النقابات والحزب أو بين تصوّر روزا عن النقابات وعملها والنقابات نفسها، بقيت «تحت السيطرة» طالما أنّ مفهوم الثورة نفسه في مقال الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة لم يخضع للاختبار بعد، وطالما أنّ آخر حدَث ثوريّ «يقتات» عليه مخيال الاشتراكيّة الأوروبيّة عموماً كان كومونة باريس.

طالتْ فترة انتظار اندلاع ثورة جديدة بعد الكومونة. بدت «الثورة» مجرّدة، منقطعةً عن الزمن الراهن، حتى في مقال المدافعين عن ضرورتها وحتميّتها في وجه «التحريفيّة» البرنشتاينيّة. بيدَ أنّ كتاب كارل كاوتسكي «الثورة الاجتماعيّة» ١٩٠٢ مثّل مفترقاً في هذا المضمار، إذ شدّد على أنّ الاستيلاء على السلطة هو العنصر الذي يفرّق الثورة الاجتماعيّة عن تراكم الإصلاحات، كما أنّ الثورة السياسيّة يمكنها أن تتحوّل إلى ثورةٍ اجتماعيّة عندما تقوم بها طبقةٌ اجتماعيّة مضطهَدة. في الفترة نفسها، كتب كاوتسكي في «الإيسكرا» (الشرارة) الروسيّة، يستشرف فيها «أنّمركز الثورة ينتقل من الغرب إلى الشرق. ففي النصف الأوّل من القرن التاسع عشر كان المركز في فرنسا، وأحياناً في إنكلترا. وفي سنة ١٨٤٨ انضمّت ألمانيا أيضاً إلى صفوف الأمم الثوريّة... إنّ القرن الجديد يبدأ بوقائعَ تبعث بفكرة أنّنا نواجه انتقال مركز الثورة، وبالضبط: انتقاله صوب روسيا... إنّ روسيا التي استوعبتْ من الغرب مثل هذا القدْر من المبادرة الثوريّة قد تكون نفسُها الآن مصدراً لإمداده بالطاقة الثوريّة. وقد تغدو الحركة الثوريّة الروسيّة المتصاعدة أقوى وسيلة لاستئصال روح ضيق الأفق الهزيلة والمماحكة السياسويّة التي بدأتْ تنتشر في صفوفنا». استندتْ هذه الكلماتُ إلى المتابعة الدؤوبة من قبل كاوتسكي لديناميّة الإضرابات في روسيا، واختلاف الأهداف الاقتصاديّة بالشعارات السياسيّة فيها، وتحدّيها القمع الوحشيَّ ببسالة. لكنّ الحرب الروسيّة اليابانيّة ١٩٠٤ - ١٩٠٥ جاءت تغلّب الحميّة القوميّة وتشي بمنحىً مختلف كليّاً، إلى أنْ جاءتْ هزيمة روسيا بالحرب لتفجّر الثورة الشعبيّة الروسيّة الأولى.

 

استئناف الثورات من بوّابة روسيا وانعكاساته

حيال ثورة ١٩٠٥ الروسيّة انقسم الرأي. ثمّة مَن رآها ثورةً برجوازيّة وبالتالي تعود قيادتُها للبرجوازيّة على أن تكتفي الطبقةُ العاملة بالضغط الثوريّ على الشرائح الأكثر تقدّماً من البرجوازيّة، وهو ما سبَق للمنشفيّ ألكسندر مارتينوف أنْ شدّد عليه قبل اندلاعها، في كرّاسته «ديكتاتوريّتان» (١٩٠٤) الذي رفض فيه ما اعتبره «الزواج غير الشرعيّ الذي يعقده لينين بين الماركسيّة واليعقوبيّة». بالضدّ من منظار مارتينوف هذا، تقاطع البلاشفةَ وتروتسكي ولوكسمبورغ وكاوتسكي في ثورة ١٩٠٥ على اجتراح دورٍ للبروليتاريا يتخطّى مساندة البرجوازيّة في وجه النظام الأوتقراطي، إلى التطلّع للاستيلاء على السلطة، ولو كان للنهوض بادئ ذي بدء بمهامّ الثورة الديمقراطيّة البرجوازيّة، وأنّ الثورة آيلةٌإلى الفشل إذا لم تتمكّن البروليتاريا من الظفر بالسلطة.

استند هذا التقاطعُ إلى نظرةٍ لتاريخ الثورة الفرنسيّة، بأنّها لم تنجح إلّا بفضل الديكتاتوريّة اليعقوبيّة، ذاتِ الجذر العاميّ، التي أخذت السلطة بالضدّ من البرجوازيّة نفسها، وأنّ ثورة ١٨٤٨ فشلتْ في ألمانيا لأنّ البرجوازيّة أصابها الهلع من البروليتاريا. وفي هذا الإطار، كان لافتاً ما كتبتْه لوكسمبورغ في كانون الثاني / يناير ١٩٠٥: «الثورة الروسيّة ترتدي طابعاً طبقيّاً بروليتاريّاً أكثر من كلّ الثورات السابقة. بالتأكيد، الأهداف المباشرة للانتفاضة الحاليّة في روسيا لا تذهب أبعد من صياغة دستورٍ ديمقراطيٍّ برجوازيّ، ويبدو أنّ الحصيلة النهائيّة للأزمة، التي يمكن أن تستمرّ والأرجح أن تستمرّ سنواتٍ إضافيّة في صعودٍ وهبوط - لن تكون إلّا دستوراً بائساً. على الرّغم من ذلك، فإنّ الثورة المحكوم عليها أن تولّد مثل هذا المسخ السياسيّ هي الأكثر بروليتاريّةً من أيّ ثورة سابقة عليها».

ساهمت الـ«١٩٠٥ - ١٩٠٧» الروسيّة في الدفع قدماً بالاستقطاب داخل الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، بحيث صارت ثنائيّة «إصلاح أم ثورة» أكثر ملموسيّة. ففي الفترة السابقة على اندلاعها، ساد التوتّر والجدل بين خطّ النقابات الذي يميل إلى الإضراب الموضعيّ، حيث يُضرب خطّ إنتاج معيّنٌ ويضمن خطّ إنتاجٍ آخرُ الدعم الماليَّ للمُضربين، وبين دعاة «الإضراب السياسيّ الجماهيريّ» وقد اعتبره النقابيّون شعاراًمستورداً من البلدان «اللاتينيّة»، ضارّاً بالنضال المطلبيّ الألمانيّ، ويفسد التضامن الطبقيّ المتحرّك الذي يضرب من خلاله قسمٌ من العمّال ويتبرّع لهم بالمال القسم الآخر، وعلى هذا الأساس رفضوه في المؤتمر النقابيّ بكولونيا ١٩٠٤.

 

إقرار «الإضراب العامّ» لأغراض دفاعيّة

بيد أنّ النمساويّ رودولف هيلفردينغ كان قد أسهم أواخر ١٩٠٣ بتحديد إطارٍ للنّقاش حول الإضراب العامّ في البلدان الناطقة بالألمانيّة، من خلال مقاربةٍ ترى أنّ تنامي القوّة العمّاليّة سيقود الطبقات المسيطِرة إلى الانقلاب على الاقتراع العام، وبالتالي لحماية الاقتراع العام ينبغي أن تتّصف الطبقةُ العاملة بالجهوزيّة للإضراب العامّ دفاعاً عنه، فيعتَمد هذا الإضراب كشعار دفاعيّ وليس كشعارٍ ثوريٍّ زائف، للانقضاض الوهميّ على البرجوازيّة، على ما كان دارجاً في منابر الاشتراكيّة الفرنسيّة.

جاءت الأنباء الواردة من روسيا من جهة، واندلاع إضرابٍ واسعٍ متفلّتٍ من الأطر النقابيّة في حوض الروهر من جهةٍ ثانية، لتقوّي شوكة يسار الحزب الذي يرى في الإضراب السياسيّ الجماهيريّ عنوان المرحلة. استفزّت لوكسمبورغ النقابيّين من خلال دمجها إضراباتِ الثورة الروسيّة وإضراب حوض الروهر في منحىً واحد ينظر إلى العمّال غير المنظّمين نقابيّاً على أنّهم تحوّلوا إلى العنصر الحيويّ للحركة العمّاليّة. استخدم كاوتسكي في المقابل لهجةً أكثر تحوّطاً تجاه النقابيّين، لكنّه اعتبر أنّ التريدونيونيّة الصرفة ما عادت تفي بالحاجة، والمرحلة لتسييس النضال الاقتصاديّ، وبالتالي لإعادة النظر في مبدأ الحياد السياسيّ للنقابات. في المقابل، ميّز برنشتاين بين المصلحة التشاؤميّة للحزبيّين والتفاؤل الضروريّ بالنسبة إلى النقابيّين لكنّه كان من جملة الذين دعَوا إلى تبنّي مقولة «الإضراب العامّ» كخيارٍ دفاعيّ.

بَتّ مؤتمر الحزب في فيينّا (أيلول / سبتمبر ١٩٠٥) في المسألة، مُقرّاً لأوّل مرّة منذ برنامج إيرفورت ١٨٩١ بأنّه مستعدّ، في ظروفٍ معيّنة، للّجوء إلى الإضراب العامّ. اجترح الزعيم التاريخيّ للحزب أوغست بيبيل المَخرج في ظلّ الاستقطاب الحادّ بين النقابيّين - الإصلاحيّين، أنصار الإضرابات القطاعيّة، وبين مَن يرى إلى الإضراب السياسيّ الجماهيريّ على أنّه طبيعة المرحلة، وإلى الثورة المندلعة في روسيا على أنّها مصدر إلهامٍ حيويٍّ للفكرة الثوريّة. انتقد بيبيل النزعة لدى يسار الحزب للتأثر بالنموذج الروسيّ، كما أوجد صيغةً للمواءمة بين مفهومَي التطوّر والثورة: الحزب ماضٍ في تحقيق أهدافه «التطورّية»، لكنّه لن يلجأ إلى الثورة إلّا في حال أرادت البرجوازيّة معاكسة هذا المنحى التطوّري بالقوّة. بالتالي، الإضراب السياسيّ الجماهيريّ هو أداةٌ دفاعيّة، تَخضع للتخطيط في ألمانيا، ولا تترك الأمور للعفويّة والعشوائيّة كما في روسيا. على الرّغم من أنّ موقف بيبيل هذا كان مناقضاً تماماً لطروحات المرجعيّة النظريّة الماركسيّة الأهمّ في الحزب، كارل كاوتسكي، وكتابه «الثورة الاجتماعيّة»، إلّا أنّ إقرار المؤتمر، بنتيجةٍ لموقف بيبيل، للإضراب العام كخيارٍ دفاعيّ، عُدّ انتصاراً ليسار الحزب، بل اعتبرتْه لوكسمبورغ مؤشّراً إلى قدرة الحزب على التطوّر في الاتّجاه الثوريّ. بعد عامٍ بالتمام، سيظهر كم كانت مخطئة، ففي مؤتمر الحزب بمانهايم (أيلول / سبتمبر ١٩٠٦) انتقلت النقابات، موئل الإصلاحويّة، من الدفاع عن استقلاليّتها بإزاء الحزب إلى التحكّم بالحزب نفسه. يومها سيكتب كارل كاوتسكي بأنّ عشر سنوات من النضال ضدّ التحريفيّة داخل الحزب ضاعتْ سدى.

 

روزا على جبهتين: فرصوفيا ١٩٠٥ - ١٩٠٦

ما بين المؤتمرَين، جسّدت لوكسمبورغ القادمة أساساً من الاشتراكيّة الديمقراطيّة البولونيّة إلى تلك الألمانيّة، صلة الوصل بين الثورة الروسيّة في نطاقها البولونيّ وبين فكرة «الإضراب السياسيّ الجماهيريّ» التي أخذتْ تشكّل هويّةً كفاحيّة ليسار الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة. ففي كانون الأوّل / ديسمبر ١٩٠٥، قرّرت روزا التي كانت محرّرة في جريدة الحزب الألمانيّ «الفورفرتس» وقياديّةً في «الاشتراكيّة الديمقراطيّة لمملكة بولونيا وليتوانيا» أن تنتقل سرّاً إلى فرصوفيا المنتفضة. كانت التوتّرات في بولونيا الروسيّة (رسميّاً ولاية «بلاد الفيستول» في ذلك الوقت) قد ظهرتْ فور اندلاع الحرب الروسيّة اليابانيّة مطلع العام ١٩٠٤. كذلك، بعد أيّام قليلة على «الأحد الدامي» في سانت بطرسبرغ الذي فجّر الثورة، نجح الإضراب العامّ في بولونيا الروسيّة، باستجابة ٤٠٠ ألف عامل لنداءٍ وجّهَه الحزبان الاشتراكيّان، «الاشتراكي البولونيّ» الذي يعطي الأولويّة للاستقلال الوطنيّ، و«الاشتراكيّ الديمقراطيّ» الأصغر منه، والذي يعطي الأولويّة لوحدة الصراع الطبقيّ في الإمبراطوريّة الروسيّة، والذي ينظر إلى لوكسمبورغ كمنظّرة أساسيّة فيه، هي التي خلصتْ في أطروحتها للدكتوراه «التطوّر الصناعيّ في بولونيا» أنّ ما من طبقة اجتماعيّة أساسيّة ترفع مطلب الاستقلال الوطنيّ في بلدها، وأنّه تمّ تجاوزه كهدف.

سيظهر أنّ حمْل «الحزب الاشتراكيّ البولونيّ» بقيادة جوزيف بيلسودسكي لواء الاستقلال الوطنيّ سيتيح له التحوّل إلى حزبٍ جماهيريّ خلال فترة الثورة. هذا بخلاف «الاشتراكيّين الديمقراطيّين» بقيادة ليو يوغيشيس وروزا لوكسمبورغ. كان «الحزب الاشتراكيّ البولونيّ» التشكيل الأساسيّالذي أنجح الإضراب العامّ في بداية انتفاضة فرصوفيا ١٩٠٥، لكنّه آثر بعد ذلك الانكباب على الكفاح المسلّح، وزار زعيمه طوكيو بهذا القصد بغية تشكيل «فيلقٍ بولونيّ» من سجَناء الحرب لدى اليابان.

قبيل انضمامها إلى نضال رفاقها في فرصوفيا، تناولتْ لوكسمبورغ مسألة العلاقة بين الحزبَين الإشتراكيّين البولونيّين، وكرّست جهداً لظاهرةٍاعتبرتْها ذات دلالة بالغة: انتقال الإضراب السياسيّ الجماهيريّ الكبير في كانون الثاني / يناير ١٩٠٥ إلى سلسلةٍ متفرّقة من الإضرابات الاقتصاديّة. رأتْ في هذه الظاهرة انعكاساً للسّمة المزدوجة للثورة، كثورةٍ برجوازيّة (بمقدار تمحْورها حول الحرّيّات السياسيّة والشكل البرلمانيّ من السلطة السياسيّة) وذات سمة بروليتاريّة في الوقت نفسه (نظراً إلى الدور القياديّ فيها للطبقة العاملة التي تفرض الأشكال النضاليّة الخاصّة بها). هذه السمة تعبّر عن نفسها بالضرورة من خلال النضال المباشر ضدّ رأس المال لأجل تحسين الأوضاع العمّالية، وليس للاشتراكيّة الديمقراطيّة أن تعارض هذه الإضرابات الاقتصاديّة بذريعة أنّها ضغوط على البرجوازيّة الحليفة في الصراع ضدّ الأوتقراطيّة، بل أن تسعى لتأطير هذه الإضرابات في منحىً ثوريّ.

bid22_malaf_wissam_saade1_rosa_fi_azmeh_photo2_rgb.jpg


بيبيل، ليبكنخت، ماركس، تولكي، ولاسال

الإضرابات الاقتصاديّة تحمل معها إذاً مدىً توسيعيّاً للنضال، وعلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة الإسهامُ في إبراز المطالب الجامعة بين المُضربين. ابتغت روزا من وراء ذلك دحض التفسير الذي ينتهجه «الاشتراكي البولونيّ»، المتأسّف لأنّ الثورة انكفأت إلى حركةٍ مطلبيّة. بخلاف ما واجهتْه روزا في ألمانيا من جناح يمينيٍّ للاشتراكيّة الديمقراطيّة يجد موئله في النقابات العمّالية ويعبّر عن نفسه بالنزعة الإصلاحويّة، وبالضبط ضدّ«الإضراب العامّ»، فإنّها تواجهتْ في الوضع البولونيّ مع التشكيل الأكبر في ذلك الوقت للاشتراكيّين، تشكيل اتّهمتْه بالشوفينيّة القوميّة. لكنّهذا التشكيل كان يعتبر نفسه الأكثر ثوريّة، ويفصل بين الإضراب السياسيّ الجماهيريّ الذي يتبنّاه كليّاً، وبين الإضرابات الاقتصاديّة التي يشارك فيها على مَضض. كانت هذه هي الحال في أيّار / مايو ١٩٠٥. بعد أسابيع قليلة، ومع تراكم إلاضرابات الاقتصاديّة المتفرّقة في اتّجاه إحداث إضرابٍ شامل جديد، انقلبت الآية، وصار «الاشتراكي البولونيّ» يعطي الأولويّة للفصل بين حركة الاستقلال الوطنيّ لبلاده وبين الثورة الروسيّة، مؤْثراً الكفاح المسلّح لهذا الغرض. سمح ذلك في المقابل لـ«الاشتراكيّين الديمقراطيّين» بممارسة تأثيرٍ أقوى في صفوف العمّال، وشكّل النطاقُالبولونيّ للثورة الروسيّة مدرسةً كفاحيّة لأسماء برزتْ لاحقاً إمّا في الثورة البلشفيّة وإمّا في ثورة ١٩١٨ - ١٩١٩ الألمانيّة، أو في كلٍّ منهما، شأن فليكس دزرجنسكي، المسؤول العسكريّ للاشتراكيّة الديمقراطيّة البولونيّة، ويوليان كارسكي وكارل راديك وليو يوغيشيس.

اعتُقلتْ روزا في 4 آذار / مارس ١٩٠٦، بعد ثلاثة أشهر على مجيئها إلى فرصوفيا، وكذلك اعتُقل يوغيشيس. اكتُشفت الهويّة الحقيقيّة لروزا بعد اعتقالها بأسبوع، وتأخّر اكتشاف حقيقة يوغيشيس أشهراً طويلة، وفيما كانت المساعي قد نجحتْ في إطلاق سراح روزا في 28 حزيران / يونيو، نظراً لجنسيّتها الألمانيّة، وبمساعي حزبها الألمانيّ، في حين يشير بول فروليش إلى أنّ وراء سرعة إطلاقها تخوّف جهاز «الأوخرانا» (الشرطة السرّيّة) الروسيّ من ردّة فعل التنظيم القتاليّ للحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ. تمكّنتْ روزا إثر ذلك من السفر إلى العاصمة الروسيّة ثمّإلى كيوكالا بفنلندا التي كان يقيم فيها عددٌ من الثوريّين الروس في تلك الفترة بينهم لينين (وقد التقتْ به). وفي كيوكالا كتبتْ روزا كرّاسة «الإضراب الجماهيريّ والحزب والنقابات»، لترجع بعدها إلى ألمانيا على عتبة مؤتمر مانهايم الذي مثَّل خيبةً كبيرة بالنسبة إليها.

الإصرار على أنّه ليس للألمان ما يتعلّمونه من الروس والبولونيّين هو الذي انتصر في الحزب. لم يُحدث كرّاس «الإضراب الجماهيريّ» الصدى المرجوّ منه، لكنّه تحوّل إلى منصّة الافتراق مع الاشتراكيّة الديمقراطيّة. بيّنتْ فيه روزا أنّه إذا كانتْ معارك المتاريس هي الشكل المناسبَ للنّضال في الثورات البرجوازيّة الأولى، فقد تحوّل الإضراب الجماهيريّ إلى السبيل الطبيعيّ لتجنيد أوسع الشرائح البروليتاريّة للنّضال، وأنّ من الخطأ الفاحش اعتبار الثورة الروسيّة خصوصيّة روسيّةً، وأنّ نتائج الثورة الروسيّة ستكون ذاتَ بالٍ وغير مهمّة إطلاقاً لو أنّالبروليتاريا الألمانيّة لم تستخلصْ منها الدروس.

 

نضال لوكسمبورغ ضدّ الحرب من داخل «الأمميّة»

واجهتْ روزا الخيبة من رؤية الحزب الألمانيّ يستلهم تجربة ١٩٠٥ الروسيّة بالانخراط في التدريس في مدرسة الحزب، وفي إيلاء موضوع الإمبرياليّة ومخاطر الاحتراب بين الدول الأوروبيّة شأناً أكبر في كتاباتها ونضالها، وكانتْ أزمة المغرب الأولى المعروفة بأزمة طنجة، الناشبة عام ١٩٠٥ أيضاً على خلفيّة مَطالب «الرايخ الثاني» بأقصى الشمال الأفريقيّ، قد أثارت المخاوف بشأن اندلاع حربٍ شاملة.

آخر تأثيرٍ سياسيّ حقيقيّ لروزا لوكسمبورغ ضمن إطار «الأمميّة الثانية» تمثّل في نجاحها في المؤتمر السابع لـ«الأمميّة الثانية» (شتوتغارت، آب / أغسطس ١٩٠٧) بإدخال تعديلٍ على الاقتراح المقدّم من القياديّ التاريخيّ في الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة أوغست بيبيل بخصوص تنامي النزعة العسكريّة في أوروبا. جاء التعديل ممهوراً بتواقيع روزا لوكسمبورغ والروسيّين «البلشفيّ» فلاديمير إيليتش لينين و«المنشفيّ» يوليوس مارتوف، وينصّ على أنّ «من واجب الاشتراكيّة - الديمقراطيّة عندما تقع الحربُ النضالَ من أجل إيقافها في أسرع وقتٍ ممكن، والسعي بأسرع ما أوتي لها من قوّةٍ لأجل استغلال الأزمة الاقتصاديّة والسياسيّة التي تتسبّب بها الحرب لأجل تحريض أعمق الشرائح الشعبيّة، وبما من شأنه تسريع الإطاحة بالسيطرة الرأسماليّة». أمكن تمريرُ التعديل بعدما كانتْ مسألة الحرب بين الدول الأوروبيّة، والخطط الواجب اعتمادُها من قبل الاشتراكيّين حيالها، قد استأثرتْ بقسطٍ وافرٍ من النقاشات في المؤتمر، إذ احتدم الجدال تحديداً بين المندوبين الفرنسيّين والمندوبين الألمان.

كان الاشتراكيّون الفرنسيّون منقسمين للغاية فيما بينهم، سواءٌ بين الخطّ الرافض للمشاركة في الحكومات البرجوازيّة أو المسوّغين للمشاركة، أو بين من يقلّل من أهمّيّة الرابطة الوطنيّة - شأن غوستاف هيرفيه في تلك المرحلة، وبين من ينْظر إلى الأمميّة كتعاضدٍ بين وطنيّات، ويرى إلى الرابطة الوطنيّة بوصفها البيئةَ التي تنمو فيها الحركةُ العمّاليّة بخصائص مختلفة في كلّ بلدٍ - وهذه كانت وجهة جان جوريس وادوار فايان. الأخير من رموز كومونة باريس ١٨٧١، لكنْ سيتحوّل إلى أحد رموز «الاتّحاد المقدّس» مع البرجوازيّة الفرنسيّة ضدّ ألمانيا في حرب ١٩١٤. أمّا جوريس فبدأ نشاطَه السياسيّ كنائبٍ جمهوريّ برجوازيّ، وتطوّر تدريجيّاً نحو الفكر الاشتراكيّ، لكنّ اعتداله في هذا الفكر لم يمنعْه من أن يدفع حياته ثمناً لموقفه المضادّ للحرب عشيّة وقوعها إذ اغتاله قوميٌّ متطرّف. في المقابل، غوستاف هيرفيه، رمز الجحود القصويّ بالفكرة الوطنيّة، والمنادي بالتمرّد في اللحظة نفسها الذي ينهمك فيها الجيش على الجبهة، فلم تمرّ بضعُ سنوات على مؤتمر شتوتغارت حتى انقلب رأساً على عقب على غلوّه الأمميّ هذا، واستبَقَ حرب ١٩١٤ بشعار «الدفاع الوطنيّ أوّلاً»، والْتَحَق لاحقاً بالفاشيّة الفرنسيّة.

على الرّغم من انقسامهم، واختلاف المصائر، توافق رموز الاشتراكيّة الفرنسيّة في مؤتمر شتوتغارت على دعم فكرة الإضراب العامّ في وجه شبح الحرب. تبرّم المندوبون الألمان، وعلى رأسهم بيبيل، في المقابل، من عبثيّة المناداة بالإضراب العامّ لمواجهة المناخات الحربيّة. بيدَ أنّ بيبيل لم يكن لديه ما يقترحه في المقابل سوى الدّعوة الهلاميّة لـ«بذل ما في الوسع» كي لا تقعَ الحرب. تعرّض التزامُه الأمميّ للمطاعن، هو الذي برهن في شبابه عن تجذّر هذا الالتزام، يوم حوكم هو ورفيقُه فيلهلم ليبكنخت (المخضرم - إذْ كان إلى جانب ماركس وإنغلز في «عصبة الشيوعيّين») في لايبتزيغ عام ١٨٧٢، وكانا عضويْن في الرايخستاغ، لتنديدهما بالغزو البروسيّ لفرنسا ووقوفهما إلى جانب كومونة باريس وضدّ ضمّ ألمانيا الموحّدة للإلزاس واللورين، وسجنَا لعامين ونيّف. في حينه، استخدَم بسمارك هذه المحاكمة للتشهير بالاشتراكيّين خوَنة الأوطان، الأمر الذي تكرّس في قوانين الاستثناء ضدّ الاشتراكيّين ١٨٧٨ - ١٨٩٠. لعبتْ فترة الملاحقة والتضييق هذه دوراً في تعزيز خطاب «الصراع الطبقيّ» داخل الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة التي ظلّتْ تتوسّع وترتفع نسبة التصويت العمّالي لها، بمثل ما فرضتْ نفسها بوصفها القوّة الأكثر ثقلاً وتنظيماًفي «الأمميّة الثانية» المؤسَّسة في باريس عام ١٨٨٩.

وقف بيبيل ضدّ نزعة إدوارد برنشتاين «التنقيحيّة» الداعية إلى إحلال مقولة «التطوّر» مكان مقولة «الثورة» في برنامج الحزب، لكنّه كان سياسيّاً أقربَ إلى تمثيل «نقطة الوسط» في الاشتراكيّة - الديمقراطيّة إلى حين وفاته عام ١٩١٣. فقد تحوّل مع الوقت إلى موقفٍ «احترازيّ»، يريد تجنيب الحزب الجماهيريّ شديد التنظيم، والذي أخذ يتعزّز فيه عديد الموظّفين الدائمين في أجهزته ومؤسّساته والنقابات التابعة له، أيّاضطهادٍ سياسيّ أو أمنيّ جديد، فضلاً عن الرغبة في الخروج من وضعيّة «النبْذ» المستمرّ له بتصويره على أنّه «عدوّ الإمبراطوريّة» سواءٌمن قبَل البلاط والسلطة، أو من قبل الأحزاب الأخرى. وعندما فَرض سؤال الحرب المقبلة على أوروبا نفسَه أكثر فأكثر، كان بيبيل من جملة الذين يشدّدون على أنّ «البربريّة الروسيّة» تُمثّل خطراً وجوديّاً على الطبقة العاملة الألمانيّة، الأمر الذي من شأنه إفساح المجال لخطابٍتسويغيٍّ للحرب.

كما يلاحظ جيمس مول «لئن كان بيبيل وبقيّة الزعماء الاشتراكيّين الألمان خائفين من روسيا، فإنّهم كانوا يخشوَن أكثر سلطةَ الدولة الألمانيّة نفسها. لم ينسوَا يوماً الاثنَي عشر عاماً من قوانين مكافحة الاشتراكيّة في ظلّ بسمارك». من هنا، ضاق بيبيل ذرعاً في مؤتمر شتوتغارت بلهجة كارل - ابن فيلهلم - ليبكنخت، الحادّة ضدّ العسكرة، وأسف لأنّه كان يعقد الآمال على هذا الشابّ كي يكون في موقع قياديٍّ مثل والده - علماً أنّ كارل انتُخب لقيادةِ أمميّة الشبيبة الاشتراكيّة في مؤتمر شتوتغارت - لكنّ هذه اللهجة العنيفة من شأنها أن تستثير السلطات العسكريّة البروسيّة. وبالفعل، بعد شهرين على المؤتمر، حوكم ليبكنخت بتهمة الخيانة العظمى وسُجن لعامٍ على الكرّاس الذي كان أصدره قبل ذلك بعام «العسكريّة والأنتي - عسكريّة» الذي نَقل فيه إلى الشباب العمّاليّ الألمانيّ تجارب الشبيبة البلجيكيّة والسويديّة في النضال ضدّ العسكرة. كما يشير بول فروليش، كان لمحاكمة كارل ليبكنخت في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٠٧ وقْع الصدمة في صفوف الحزب، إذ كانت الملاحقات ضدّ الاشتراكيّين - الديمقراطيّين نادرةً في ذلك الوقت، بعد زهاء العقدين على انتهاء قوانين الاستثناء ضدّهم. إلّا أنّ نجم ليبكنخت ارتفع بعد تجربة السجن هذه، فدخل بعدها إلى لانغدتاع (برلمان) بروسيا عام ١٩٠٨، ثمّ إلى الرايخستاغ عام ١٩١٢. هذا في مقابل عزلةٍ سياسيّةٍ تعرّضت لها لوكسمبورغ في السنوات التي أعقبت مؤتمر شتوتغارت، الأمر الذي يردّه المؤرّخ جيلبير بادْيا إلى موقفها في المؤتمر نفسه، من خلال التعديل الذي نجحتْ بتمريره هي ولينين ومارتوف على مشروع قرار الأممية بشأن الحرب الذي صاغَ اقتراحَه الأوّل أوغست بيبيل.

إذ أنّ الجدال المحتدِم حول الحرب العتيدة وكيفيّة مواجهتها دار أساساً بين المندوبين الألمان والفرنسيّين (زائد الإنكليز) على كيفيّة الضغط لتفادي اندلاعها، في حين أنّ التعديل المقدّم ركّز بالأحرى على كيفيّة بلْورة الردّ الاشتراكيّ على الحرب في حال وقوعها. ويبدو، على ما يذهب إليه جورج هوبت، أنّ يمينَ «الأممّية الثانية» ووسطَها لم يتوقّفا كثيراً أمام هذا التعديل، إذ اعتبراه افتراضيّاً، ولا يتطلّب منهما شيئاً ملموساً في الأمد المنظور، وهكذا نُظر إلى القرار الختاميّ للمؤتمر مأخوذاً ككلٍّ على أنّه يُرضي الجميع. بالنسبة إلى الثوريّين، اعتبروا أنّهم فَرضوا أجندتهم على الإصلاحيّين. بالنسبة إلى الإصلاحيّين، اعتبروا أنّهم تفادَوا ربط العمل ضدّ الحرب بمفهوم الإضراب العامّ. أمّا الفرنسيّ جان جوريس فسيعتبره «انتصاراً للاشتراكيّة الفرنسيّة في سياستها الدوليّة». مع هذا، يعتبر هوبت، أحد أهمّ المؤرّخين لـ«الأمميّة الثانية» أنّ مؤتمر شتوتغارت شكّل منعطفاً، ضعفتْ فيه مرجعيّة الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة على صعيد الأمميّة، في مقابل تقدّم الاشتراكيّة الفرنسيّة. وهكذا، تجدّد التوتّرُ بين الاشتراكيّين الألمان والفرنسيّين في المؤتمر الثامن للأمميّة بكوبنهاغن ١٩١٠، الذي كان محوره الأساسيّ كيفيّة محاربة شبح الحرب. ولّد ذلك الشعورَ بأنّ الاشتراكيّين في البلدان الآيلة للاحتراب لا يتحرّكون بنفس الوتيرة والحماسة ضدّ الحرب، الأمر الذي تبيّن لاحقاً أنّه سيلعب دوراً إضافيّاً في تسويغ الحرب ما أن وقعتْ. وهكذا، من بعد قرارات مؤتمر شتوتغارت ١٩٠٧، وكوبنهاغن ١٩١٠ وبازل ١٩١٢، لم تستطع الأمميّة عقْد مؤتمرها في فيينّا ١٩١٤ بسبب اندلاع الحرب، وجارتْ معظم أحزابها سريعاً الحكومات المتحاربة، كلٌّ يدافع عن وطنه.

 

الجماهير العمّالية سبقت قياداتها إلى الحرب

التزم نواب الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ في الرايختساغ كلُّهم يوم ٤ آب / أغسطس ١٩١٤، بمن فيهم المعترضون مثل كارل ليبكنخت وهوغو هازيه، على إجازة الاعتمادات الحربيّة. اغتيل جوريس في فرنسا قبل اندلاع النزاع، وتسابق الاشتراكيّون إلى التداعي للدّفاع عن فرنسا الثورة والجمهوريّة، ضدّ اليونكرز الإقطاعيّين الألمان. وحدَهم البلاشفة والمناشفة، معاً، وقفوا ضدّ الحرب في الدوما الروسيّ، لكنّ أبا الماركسيّة الروسيّة بليخانوف سارع لمناصرة القيصر في حربه ضدّ «البربريّة البروسيّة». استعاد الألمان أقوالاً لماركس وإنغلز ضدّ الاستبداد الروسيّ. اكتشفوا أنّ تأييدهم الحرب يلغي بين ليلة وضحاها تاريخاً من نبذهم السياسيّ. سبقَهم رفاقُهم الفرنسيّون إلى دخول حكومة «الوحدة المقدّسة». خرجت التنظيرات من كلّ حدْب تنظر إلى الحرب على أنّها ثورة من نوعٍ آخر. حربٌ اجتماعيّة لمصلحة الطبقة العاملة في البلد المعنيّ. أمام كلّهذه الانعطافات بدا موقفُ كارل كاوتسكي وهو يتأنّى في تحديد طبيعة الحرب رخواً ومكشوفاً، سواءٌ بالنسبة إلى الذين كانوا لا يزالون يعوّلون عليه في قيادة يسار الأمميّة، مثل لينين، أو الذين كانوا قد يئسوا منه منذ فترةٍ (روزا لوكسمبورغ).

بخلاف لينين الذي ركّز على «خيانة» الأمميّة الثانية لنفسها، ذاهباً عام ١٩١٦ إلى أنّه «يستحيل تفسير »الخيانة« بدون ربطها بالانتهازيّة بوصفها تياراً له تاريخ طويلٌ، هو تاريخ الأمميّة الثانية كلّها»، ومقترحاً تعميم القسمة بين بلاشفةٍ ومناشفةٍ لتصبح قسمةً متجذّرة في كل البلدان، على الرّغم من كون معظم المناشفة ضدّ الحرب، فقد امتازت مقاربة روزا بالتوقّف مليّاً، وبحزنٍ شديد، أمام واقعة تبخّر كلّ الأفكار الأمميّة التي كانت تسري في الجماهير بين ليلةٍ وضحاها. الجماهير العمّاليّة بدتْ متعطّشة للقتال أكثر من قياداتها.

ما لم تقرّ به لوكسمبورغ في المقابل أنّ هذه الجماهير العمّاليّة كانت متعطّشةً للحرب أكثر من البرجوازيّة نفسها. تعاملتْ روزا مع «ديكتاتوريّة البرجوازيّة» كما لو كانتْ قائمة بالفعل في ألمانيا، وهذه أساساً الخلفيّة الفعليّةُ لبرنامج إيرفورت ١٨٩١: تجاوز الوقائع الماثلة لاستمرار نظامٍملَكيٍّ يعتمد أساساً على أرستقراطيّةٍ مسيطِرة على البيرقراطيّة والجيش، ومتكئة على علاقاتٍ شبه إقطاعيّة شرق نهر الإلبا، لأجل اختصار الاستقطاب بين بروليتاريا وبرجوازيّة. كانت البرجوازيّة الألمانيّة أكثر الطبقات تردّداً حيال الحرب، والأرستقراطيّة أكثرها انغماساً، تليها الطبقة العاملة، أكثر من الفلّاحين أنفسِهم الميّالين في ألمانيا للتّيّارات المحافظة. في مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي، قدّم المؤرخ الأميركيّ أرنو مايير مساحةً وافية لإعادة تقويم الصورة حول ألمانيا وأوروبا عشيّة الحرب الكبرى من خلال كتابه «استمراريّة النظام القديم». بالنسبة إلى مايير، مرحلة ١٩٠٥ - ١٩١٤ كانت حتى مرحلة الهجوم المضادّ التي شنّتْه قوى النظام القديم لإعادة التحكّم بالمجتمعات الأوروبيّة، وتنامي النزعة الحربيّة يفسّر في هذا المنحى، وهو يعتبر أنّ أوروبا حافظتْ على الطابع ما قبل البرجوازيّ حتى ١٩١٤، وأنّ الثروات العقاريّة استمرّت المصدر الأوّل للمداخيل، وأنّ البرجوازيّة هي التي كانت تتكيّف مع الأرستقراطيّة وتبحث عن نَيل الألقاب، والنبالة لم تكن فقط أكثر عدداً من البرجوازيّة، بل أكثر تضامناً وثقةً بنفسها. في وضعٍ كهذا، بدت الأمّة أشبه بمشروع تلاحمٍ أرستقراطيّ - بروليتاريّ حيث يمكن أن تقصى البرجوازيّة، أو أن يجري ترهيبها بهذا الأمر على الدوام.

لم ترَ روزا لوكسمبورغ المشهدَ التاريخيّ نفسَه الذي أعاد أرنو مايير تركيبه. لكنّها رأتْ جزءاً أساسيّاً منه، عندما أدركتْ أكثر من سواها على يسار الأمميّة، حماسة الجماهير للحرب، مباشرةً بعد سنواتٍ من حماستها لمناهضة الحرب. كيف أدركتْ ذلك وكيف تعاملتْ معه؟

صدمة لينين كانت بكاوتسكي ورخاوته حيال الحرب. أمّا صدمة روزا فكانت من الجماهير البروليتاريّة نفسها، على الرّغم من أنّها خبرت الموقف سابقاً في النموذج الروسيّ، لكنّها خبرةٌ ما كانت لتكفيها لفهم الحاصل عام ١٩١٤. تبدو هذه نقطةَ ارتكاز أساسيّة لفهم كتابات ومواقف روزا لوكسمبورغ خلال الحرب الكبرى وصولاً الى الثورتين الروسيّة ١٩١٧ والألمانيّة ١٩١٨، وهو القسم الثاني من هذا البحث في أزمة الأمميّة الثانية.


الهوامش

1 في مقالته «الأمميّة الثالثة ومكانها في التاريخ» (أيّار / مايو 1919) يقابل لينين بين نموذج الأمميّة الأولى(1864 - 1864)التي «أرستْ أسس تنظيم العمّال على نطاقٍ عالميّ بغية تحضير هجومهم الثوري على الرأسمال» وبين الأمميّة الثانية (1889 - 1914، التحقيب كما يعتمده) من حيث هي «منظّمة عالميّة للحركة البروليتاريّة تنامت أفقيّاً، الأمر الذي أدّى إلى هبوط موقّتٍ في المستوى الثوريّ، إلى اشتداد موقّت في الانتهازيّة، ممّا أدّى في آخر المطاف إلى إفلاس هذه الأمميّة افلاساً مخزياً». لينين، المختارات 8، دار التقدّم، موسكو، ط1977، ص 514

2 حمل اسم «الحزب العماليّ الاشتراكيّ لألمانيا» بعد المؤتمر التوحيدي في غوتا 1875، وعدّل الاسم إلى «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» عام1890

3 https://www.marxists.org/history/international/social-democracy/

1891/erfurt-program.htm

4 F. Engels, Critique du programme du programme social - démocrate de 1891

https://www.marxists.org/francais/engels/works/1891/00/18910000.htm

5 Christian Baechler, L’Allemagne de Weimar 1919 - 1933,

Paris, Fayard, 2007, p. 36 - 41

6 Carl E. Schorske, German Social Democracy 1905 - 1917:

The Development of the Great Schism. Harvard University Press;

Reprint edition, 1983, p. 6

7 يورد لينين في «مرض اليسارية» الطفوليّ في الشيوعيّة مقاطع من مقالة «السلافيّون والثورة» لكاوتسكي التي نشرتها «الإيسكرا»

8 Paul Frolish, Rosa Luxemburg, Paris, Maspero, p. 123

9 C. Schorske, op.cit. p. 34

10 Idem, p. 44

11 Norman Davis, God’s Playground. A History of Poland, volume II,

Colombia University Press, New York, 2005, p. 273

12 P. Frolish, op.cit. p. 146

13 Idem, p. 155

14 يشير جيلبير باديا الى حصول هذا اللقاء السري بين لينين وروزا لوكسمبورغ في فنلندا، فيما لا تأتي السيرة التي كتبها بول فروليش على ذكره

15 Rosa Luxemburg, Textes, Edition réalisée par G. Badia,

Editions sociales, Paris, 1982, p. 190

16 James Joll, The Second International and War,

In: Opinion publique et politique extérieure en Europe. I. 1870 - 1915.

Actes du Colloque de Rome (13 - 16 février 1980) Rome: École Française de Rome, 1981. pp. 245 - 262. (Publications de l'École française de Rome, 54 - 1);

17 Paul Frolich, op.cit, p. 226

18 Georges Haupt, Le Congrès manqué. L'Internationale à la veille

de la première guerre mondiale. Étude et documents,

«Bibliothèque socialiste», 1965, p. 26

19 Idem, p. 27

20 Arno Mayer, La persistance de l’Ancien régime.

L’Europe de 1848 à la Grande Guerre. Paris, Flammarion, 2010

العدد ٢٢ - ٢٠١٩
في أزمة الاشتراكيّة الديمقراطيّة ومفارقات الطبقة العاملة الألمانيّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.