كان سقوط الموصل ومناطق سَهل نينوى بأيدي مٌرتَزقة «داعش» (أو الدولة الاسلامية، حسب التسمية الأخيرة) في حزيران ٢٠١٤ وسيبقى نقطة تَحوّل في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي. تشير دلائل السقوط الى فَشَل عملية المحاصصة الإثنية والطائفية التى أسس لها الاحتلال الاميركي عام ٢٠٠٣. ويَتَجسّد هذا الفشل في نواح متداخِلة ومُتَشعِبة، لكنها واضحة لِمَن يصبو الى الموضوعية والشفافية. ولهذا الفشل جذور بنيوية، تساهم في خَلق منظومة مُجتَمَعية وهيكلية ثقافية ستلعب أدواراً مهمّة في رسم الصورة المُستَقبلية لبلاد الرافدين.
الأقّليات الخاسر الأكبر
أثبَتت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، المُتحكِّمة الى حَدٍ كبير بإدارة الدولة لفترة تزيد عن الثماني سنوات، عن خَوائِها الفكري وقصورِها العملي في تسيير أمور البلد، وكذلك جَهلِها بأبسط أمور التعامل المِهني والسياسي. فها هوَ رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، يبرّئ نفسه وحزبه في مقال كتبه في «الأخبار» اللبنانية (١٩ تشرين الثاني ٢٠١٤) من العجز الكبير والتخبط السياسي والعملي في أحداث العراق على مدى ثماني سنوات.
كتبَ المالكي، بدون تردد، أن لحزبه أهدافاً ومسيرة دَعَوية، ودعائية، لبناء «مجتمع إسلامي»، لكنه مارسَ الخلط المُتَعمد في الحديث عن الظروف (الموضوعية) الآنية. طبيعة الأحزاب الاسلامية إقصائية في جوهرها، وممارساتها فئوية وضيّقة كما أكدت الاحداث المتتالية. الخاسِر الأوّل في تَسلّط حزب أو جماعة فئوية عقائدية (سواء حزب الدعوة في العراق أو الاخوان المسلمون في مصر) هم الأقليات. إذ إن الأساس الفكري، والعملي، لممارسات هذه الاحزاب والجماعات هو الإقصاء والتمييز (العنصري أو الإثني أو الطائفي) وبالتالي ليس للأقليات أهمية في الحسابات العقائدية لحزب الدَعوة الشيعي. فلم تُحرِّك الحكومة العراقية ساكناً - ولا فعل ممثلو الشعب (افتراضاً) في البرلمان - عندما احتلت «داعش» الموصل. فالموصل، رغم أنها ثاني أكبر مدينة في العراق بعد العاصمة بغداد، ذات غالبية سُنيّة ولا تدخل أساساً في حسابات حزب الدعوة الفكرية أو المنهجية أو الإستراتيجية. وبالتأكيد لم يُبدِ الداعي الإسلامي - رئيس الوزراء نوري المالكي اهتماماً لمحنة المسيحيين المُهجَرين أو مأساة اليزيديين. فهو ضمنياً يتفق مع «داعش» على أن المسيحيين أهل ذمة واليزيديين كُفار. فلا وجود لمنطق المواطنة الحداثي في حسابات حزب الدعوة أو المجلس الأعلى (لصاحبه عمار الحكيم) أو هيئة علماء السُنة (لصاحبها حارث الضاري) أو الحزب الإسلامي (المُناصِر لحركة الإخوان المسلمين). فالأساس عند هذه الأحزاب والجماعات هي الأمة، وبالتحديد الأمة الإسلامية حسب المرجعية الطائفية. هذا هو واقع العراق: الطائفية أساس الحكم والتنظير والممارسة. ومِن هذا المنطق تَحركت المليشيات الشيعية، بمباركة الحكومة العراقية (أو بالتحديد الجزء الشيعي منها)، مدعومة بما تبقّى مِن فصائل الجيش العراقي (بعد انكسارِه المُبكي وفَشله في الدفاع عن الموصل) لإنقاذ الأقليات الشيعية فقط (الشَبَك والتركمان الشيعة) في سهل نينوى مِن بَطش «داعش».
إقصاء إسلاموي بعد إقصاء البعث
الطائفية السياسية سَيف ذو حدّين، فردّ الفعل السنّي يُمثّل صورة مُعاكِسة للنظير الشيعي؛ وكلاهما يتمسك بها على أساس اكتساب (الإسلاموي الشيعي)، أو فقدان (السنّي)، الامتيازات والمصالح. وفي خِضمّ الاحتراب الطائفي على السلطة تفقد الأقليات أبسط حقوقها وأمنها. لحزب الدعوة (كنظرائه الإسلامويين المتحزبين، شيعةً وسٌنّة) هيكلية حداثوية بفكر وتركيبة ثقافية قروسطية - إقطاعية، وبالتالي تظهر ممارساته وخطاباته هجينة ولا تاريخية. لكن لهذه الممارسات نتائج كارثية على المدى البعيد، فالطائفية السياسية الاقصائية في العراق بعد ٢٠٠٣ تُمثّل استمرارية فعلية، بقالب إسلامي، لمنهجية البعث الشوفيني فكراً ومُمارسةً. وإدراك هذه الثنائية ضروري لفهم الحاضر المرير. فاختزال «المواطنة» كوصف للانتماء الى أمّة (عربية أو إسلامية) هو نقض لفكرة المواطنة بحدّ ذاتها. ويأخذ هذا النقض أشكالاً متعدّدة تزداد تعسّفاً مع ازدياد سُلطة الطائفي أو الشوفيني.الطائفية السياسية الاقصائية في العراق بعد 2003 تُمثّل استمرارية
فعلية بقالب إسلامي لمنهجية البعث الشوفيني
ففي سبعينات القرن العشرين هُجِّرَ الكُرد الفيلية كونهم «طابوراً خامساً» (قومياً ومذهبياً)، وفي الثمانينات من القرن نفسه سُحِبَت الجنسية العراقية مِن مجموع من البشر وُلِدوا وعاشوا لجيلٍ أو أكثر في العراق بسبب انتمائهم لمذهب «العدو» (إيران). وبعد ٢٠٠٣ انقلَبت الآية ولم يتغير جوهر التمييز والإقصاء، وإن تنوَّعت الوسائل والطُرق. فأصبحت مناطق بكاملها «حاضنة» إرهاب، ودُمّرت الفلوجة وضُيّقَ على محافظات نينوى وصلاح الدين حسب المنطق السلطوي الإسلاموي الشيعي. فمدينة الموصل والمناطق المُحاذية الغنيّة بتعددها الإثني والديني والمذهبي المُسالِم على مدى قرون أُختُزِلَ بضربة فرشاة أحادية اللون. والخاسر الأكبر - أُكرر - هي الأقليّات، الخارِجة من الحساب الطائفي النفعي.
مافيا الفساد والعنف
العراق، مِن بين ١٩١ عضواً في الامم المتحدة، يُعتَبر الآن أكثر دول العالم فساداً وتَخلٌفاً في إدارة أموره، حَسب تحقيقات منظمات أجنبية غير - حكومية مَعنية بالكَشف عن شفافية التعامل الإداري والمالي في أروقةِ المؤسسات الدَولية. مؤسسات الدولة والوزارات أضحت ملكية خاصة لجماعة أو حزب مَن يَستَوزر، فتتغير الأعلام واللافتات بتغيير الوزير، ويَتَفَنن المسؤولون في النَهب والسَلب العلَني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بعض مَن تركوا الحصار الاقتصادي الظالِم (١٩٩١-٢٠٠٣) بَحثاً عن فُرص عَمَل أفضَل، عادوا متأملين مناصب رفيعة ومنافع مادية كبيرة. فالتحقَ هذا بذاك الدكان السياسي أو هذا الحزب، واستغلّ آخرون نَسَبهم الشيعي بينما راهن البعض الآخر على تاريخٍ سياسيّ أو سِجنٍ لقريبٍ أو صديقٍ ليعتلي هذا المَنصِب او يُؤَمِّن تلك المناقصة التي جعلته مليارديراً.
وكما كانت قصص القمع تنتشر أسرع مِن سرعة الصَوت أيام الديكتاتور البعثي صدام حسين وأخذت أنماطاً وأشكالاً تتحدى المنطق، دارت الدورة لنستمع للّامعقول الطائفي - الإثني بعد ٢٠٠٣. فهذا وزير الكهرباء الأول، البعثي السابق والليبرالي الحالي الداعم لما كان يُسمى بالمقاومة المسلحة بالرغم من كونه وزيراً في حكومة الاحتلال، يُنتَشل مِن قِبَل القوات الاميركية لبرّ الأمان في الولايات المتحدة بعدَما اتضحَ أنه مسؤول عن اختلاس ما يزيد عن بضع مئات مِن ملايين الدولارات. ويستوزر بعده مهندس كهرباء بسيط، هُجِّرَ مِن العراق زمن البعث بتهمة الانتماء لحزب الدعوة، فلم يَنهَب وزير الدعوة للكهرباء هذا سوى مليوني دولار كندي - حسب ما يُقال - ليشتري بها مَنزلاً في حي راقٍ في ضواحي تورنتو الكندية. وبينَ هذا الدعوچي وذاك البعثي – الليبرالي - الداعم للمقاومة المسلحة، عدد هائل يصعُب استيعابه مِن الحرامية والمُزوّرين والمنافقين مِن حاشية رئيس الجمهورية ورؤساء الوزارة والوزراء والمُديرين بدون أي استثناء إطلاقاً.
من هذا الواقع الطائفي - العشائري نَمَت طبقة طفيلية تعمَّقت في صُلب هذا الثنائي وامتهنت العنف وسيلة لضمان مُكتسباتها الجديدة. إذ لم يَعُدْ النهب والسلب والقتل مُقتصراً على المنتمين للثنائي الطائفي - العشائري بل أخذ نطاقاً أوسع، أربكَ التعامل المحلي وأخرجَ اللعبة الى المحور الإقليمي، وحتى العالمي. وتذكر جريدة النيويورك تايمز أخباراً تبدو خيالية (في أعدادها الصادرة شهري أيلول وتشرين الاول 2014) عن نَقل مليارات الدولارات من العراق إلى لبنان جواً وإيداعِها في صناديق مُحكَمة وتخزينها تحت الأرض بعد إبرام صفقات أسلحة وهمية. تكَشَفَ هذا الكمّ اللامعقول من السرقة والاحتيال بعد سقوط الموصل المهين بيد مُرتزقة «داعش»، إذ تبيّنَّ أن أكثر من ثلث الجيش كان وهمياً (يتسلم الضباط ذوو الرُتب العالية مرتبات مُجندين وهميين) وتسليحه رديء بصورة خيالية. لقد ولّدت الثنائية الطائفية - العشائرية ظاهرة مافيوية بامتياز، لها تبعاتِها وتعقيداتها التي سيصعب فرزها لأمدٍ بعيد.
تفاقم إهمال الأرياف والأطراف
غَدَت ظاهرة الطائفية السياسية المنظِّمَ الفعلي للعمل الإداري اليومي، وبالتالي أصبح الإقصاء يُمارَس يومياً بشكل علَني وفي كل الجوانب. فالطائفية السياسية أصبحت الحيّز الوحيد الذي يُمارِس فيه السياسيون عملهم. وهنا يجب التمييز، بما لا يقبل الخلط، بين الانتماء للطائفة والطائفية السياسية. المُندَرجون في الصف الثاني يجهلون ما يُعانيه أفراد الطائفة فعلياً. فإذا سلَّمنا، موضوعياً، بالإهمال المُتعمَّد لحكم البعث الشمولي (سواء فترة أحمد حسن البَكر، خلال ١١ عاماً، أو صدام حسين، ٢٤ عاماً إلا أربعة أشهر) لمناطق الفرات الأوسط والجنوب، ابتداءً مِن انعدام خطط التنمية أو التطوير الزراعي أو المعماري وصولاً إلى توفير الخدمات، الطبية مثلاً، نَرى أن هذا الإهمال تفاقَمَ خلال فترة الحكم الطائفي الإسلاموي - الشيعي. فعلى سبيل المثال، وبالتأكيد لا الحَصر، مدينة الناصرية والتي تعدّ تاريخياً مَعقل التنظيمات العلمانية واليسارية والقومية - العربية (فيها أسَّس الراحل يوسف سلمان يوسف أول خليّة للتنظيم العمالي الشيوعي، ومنها انطلَقَ فؤاد الركابي لتأسيس نواة الحركة القومية - العربية في العراق، وبها كانت بداية حزب البعث العراقي)، وهي أيضاً المدينة التي كان لها تأثيرها المهم على مسيرة الفنون والآداب في العراق، هذه المدينة المهمة في تاريخ العراق السياسي والثقافي والجغرافي تعاني اليوم مِن فَقر وتهميش وتَخلف إداري يصعب تخيّله.
هدنة لعامين فقط
الخَيار لا يَجوز أن يكون بين النخبة المحليّة وحكوماتها القَسريّة الشمولية المنحى، إسلاموية كانت أَم عسكرية أَم قومية الهوى، وبين التدخل الأجنبي لخدمة مصالحه الاستراتيجية والجيوبوليتيكية. تَصوير البعض لاحتلال العراق كتحرير يَدخل في جوهر الفشل الأخلاقي والمعرفي. (للمناسبة، كانت الحكومة الاميركية وقواتها المسلحة وإعلامها على وضوح، على الأقل، بإن قواتهم ذهبت لاحتلال العراق لتحقيق أهدافهم المُعلنة ولم يكُن التحرير واحداً منها.) وهكذا استغلَّت «النُخبة العراقية المثقفة»، التي روَّجت للاحتلال، الوضع المأساوي للإنسان العراقي بعد حَربين عنيفتين راحَ ضحيتَها ما يزيد على المليون وقمع سُلطَوي وحصار مُميت. ولَمْ يكتفوا بالتأجيج، بَلْ اعتبر البعض أن أصوات سقوط القنابل والصواريخ على بغداد «شبّه بعزفٍ موسيقي سمفوني مُبهِر» - انظر كتابات وتعليقات كنعان مكيّة، أحد أهم دُعاة الحرب واحتلال العراق.
تنَفسَ العراقيون الصُعداء، نوعاً ما، لعامين بعدَ انتهاء حرب الاستنزاف مع إيران، واحتفل الناس رقصاً وغناءً في الشوارع عقب إعلان وَقف الحرب في ٢٠ آب ١٩٨٨ متأملين مستقبلاً بدون حروب ودماء. لكنْ تناثرت الآمال ودخلَ العراقيون دوامة شائكة جديدة مِن القَمع والاضطهاد البعثي المتَمرس مصحوباً بالقَصف الهمَجي الجوّي للقوات الاميركية وحُلفائها الذي أجهَزَ على البُنية التحتية للبلد؛ ثم تبعَ ذلك حصار اقتصادي جائر دمَّر الطبقة الوسطى وأنهى مُساهمتها في البناء (والحُلم بغَدٍ أبهى). وكانت انتفاضة شباط/آذار ١٩٩١ محاولة الإنسان البسيط لاستعادة إنسانيته المُهمّشة، إذ أدرَكَ الكثير مِن العراقيين، إن لم نَقُل كُلهم، أن مغامرة الكويت الغبيّة ستجلب لهم وضعاً مأساوياً لا مَثيلَ له. واندلَعت الانتفاضة بدأءاً بطلقةٍ مِن جندي تركَ الكويت مشياً، مُنهكاً ومُحبَطَ الآمال، الى البصرة المُعذبة؛ وانتشرت في ١٤ مِن بين ١٨ محافظة عراقية مِن الجنوب الى الشمال. وهنا كانت بداية استغلال الطائفية - والإثنية، أيضاً - كلعبة سياسية. انتفاضة ١٩٩١ كانت تعبيراً صادقاً للإنسان المقموع والمُستَغل والمُنهَك حروباً همجية أنّ الحياة لا تُطاق في هذا الجو، ولا سيّما بعد القصف الكيمياوي لمناطق كُردستان العراق عامي ١٩٨٧- ١٩٨٨ مِن قبل قوات الحكومة العراقية وإبادة الآلاف مِن الناس العُزَّل، وإبادة الجيش العراقي نفسه بعد انسحابه مِن الكويت. الخَيار للجندي المُهمَش أضحى بديهياً: الموت أو الثورة!
التناوب على الإلغاء
ثمَّ أخذَ الترويج الطائفي يزداد شدّة مع صعود الفضائيات المُموَلة خليجياً، وكثرة الأقلام المُومس. وقد استغلّ نظام صدام حسين ثنائية الطائفية - الإثنية لكَسب وِد الشارع العربي التائه والمَصدوم مِن الاحتراب العربي - العربي (شبه الدائم) والتراجع الثقافي المُستَمِر وصعوبة الحياة وازدياد القمع مِن المحيط الى الخليج. فَلَم تَرفَع قوات صدام لافتة «لا شيعةَ بعد اليوم» على الدبابات التي كانت تَقمع الانتفاضة اعتباطاً، وإنما لإضفاء صِفَة الخيانة، والطابور الخامس، على الناس الثائرة (بعدَما شَككت في انتماء الكُرد العراقي). عِلماً أن قياديين كِباراً في حزب البعث والحكومة والجيش كانوا مِن أُصول شيعية - ولكن هؤلاء كانوا الصِنف الجيّد حسَب التوصيف الرسمي. وانقلَبت الآية بعد ٢٠٠٣ ليَرفع الإسلامويون الشيعة الشعار ذاته معكوساً. فأضحت الموصل والفلوجة والرمادي وسامراء وتكريت، وما بينها، مناطق حاضِنة للإرهاب فقط، وذاقت الأمرّين مِن قِبل القوات الحكومية (الجديدة) والمليشيات الشيعية. ومَن كان يُوصَف بالغوغاء مِن قِبل أجهزة البعث قبل ٢٠٠٣، أصبح يستخدم النعوت نفسها، وبدون حياء، ضد سكان المناطق الغربية والوسطى ذات الغالبية السُنيّة. و مِن هنا أضحى تقسيم العراق مسألة يُروِّجها ويُخطط لها السياسيون الطائفيون، سُنّة وشيعة، كُلٌ مدعومٌ مِن طرف إقليمي مُحدد - تركيا ودول الخليج للفئة الأولى، وإيران للثانية. وتزداد اللعبة الطائفية تَشعباً وتعقيداً بدخول المصالح الإقليمية، وباكتشاف آبار نفط وغاز في كل شِبرٍ تقريباً مِن أرض السواد.
لَمْ يكن سقوط الموصل بيد مُرتزقة «داعش»، وتهجير الأقليات واستباحة أعراض النساء اليزيديات وبَيعهن في سوق النخاسة الإسلاموي، مؤامرة. كما لم يكن ظهور وحوش «داعش» مؤامرة بحد ذاتها. المؤامرة الكبرى هي الغيبية التي تتحكم بالصغيرةِ والكبيرةِ من حياة الناس، وتجعل البشر مكائن آلية مُسيَّرة لا تعي ما تفعل. ويؤدلَج التاريخ ويُمسَخ لتسويغ أهداف طائفية -إثنية. فمِن الاستعباط أن نًستَخِف بمطامع تركيا بزعامة الشرق الأوسط كمثال حيّ للإسلام السياسي المُعتَدل، أي الرأسمالي والمُنفَتح اقتصادياً وثقافياً على الغرب واسرائيل، لا سيّما أن محاولات تركيا الانضمام للمجموعة الأوروبية باءت بالفشل. وبينَ إيران التي كانت تأمل الزعامة للشرق الأوسط كراعٍ إسلامي، ولكن نفسها تُعاني مِن سَخط شعبي وتَحرّك شبابي للمطالبة بالانفتاح الثقافي والاجتماعي بعيداً عن التزمت الديني ورعونة رجال الدين في التضييق على فُرص ومطامح الشباب في الحياة والعمل.
«مِن الجحيم الى المجهول»1
تَبَدَدت الأحلام، أو بالأحرى الأوهام، عن مستقبل العراق. فالتعايش بين الأديان والقوميات والمذاهب أصبحَ ضَرباً مِن الخيال صعبٌ مَناله، لا سيّما أن للفكر الغيبي كَبْوَته في مجتمع عانى الكثير من الدمار المادي والروحي. وأثبتت أحداث الموصل وسَهل نينوى أن العراقيين لا يجمعهم العراق، وإلا فكيف يُفَسَّر تخوين مدينة بكاملها يسكنها ما يزيد على المليون ونصف المليون مِن البَشر - بينهم الشيوعي والاشتراكي والليبرالي والإسلامي والبعثي والقومي والكاتب والفنان والجامعي والخبّاز والعامل والإسكافي والمُتَسكِع؟ وإذا قَبِلنا أن القمع والاضطهاد البعثي مَنعا أن يَفهم البعض (القليل أو الكثير) مأساة أهل الجنوب والوسط والشمال، فكيف نَقبَل أن يَستَمِر آخرون بتخوين وتجريم وتهميش الآخر - أياً كان - ويتَحمَل هذا «الآخر» فشل نظام المحاصصة الطائفي -الإثني في توفير أبسط متطلبات الأمان والعَيش الرغيد؟ عراقيو الجنوب يجهلون طبيعة وتَنوع ولهجة أهل الموصل، والعكس صحيح؛ والكل يُهمِّش، بَل يُلغي، الأقليات. التيار الإسلامي الشيعي يتظاهر بالتقرب من المسيحي على أساس أنه مُضطَهد مِن السنّي السَلَفي، ولكن يتناسى كيف شَرَّدَت المجاميع الشيعية المتطرفة (أو السَلَفية الشيعية) أهل البصرة والناصرية المسيحيين والأرمن والصابئة خلال السنوات الأخيرة. ونجهل مصير الأديرة والكنائس في كربلاء والنجف والبصرة والناصرية المتواجدة منذ ما يزيد على ١٨٠٠ عام.
المُستَعمِر قَدْ يَستغِل أي اختلاف مجتمعي لغرضٍ يخدم مصالحه، ولا توجد بقعة على هذه الأرض لا تَحوي تنوّعاً عِرقياً أو إثنياً أو دينياً أو مذهبياً (بلجيكا، واحدة مِن أصغر الدول جُغرافياً، تملك تنوّعاً إثنياً ومذهبياً ودينياً يفوق التنوع في العراق أو أي بَلَد عربي آخر). الاختلاف مِيزة لا يُمْكِنُ إزالتها، لكن التمييز على أساس الاختلاف هو ما يجب مَحوُه حتماً؛ وإلّا فَلَن تنتهي الحروب والتقسيمات. العراقيون، والعراق، عاشوا جحيماً على مدى نصف قرن أو ما يزيد والمستقبل يخفي الكثير في طياته.
- 1. «من الجحيم إلى المجهول» اقتباس من رواية المبدع سنان أنطون وحدها شجرة الرمان (٢٠١٠) عن التأثيرات المجتمعية في العراق بعيد الاحتلال الأميركي، وتستعرض بعمق آثار الدكتاتورية والحروب والحصار الاقتصادي عليه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.