العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

«داعش» السوري

البطالة، اليأس، عدوى العنف

تحول تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» والمعروف إعلامياً بـ«داعش» إلى واحد من أكثر التنظيمات السياسية للإسلام السياسي تطرفاً وقوةً. وخلال فترة قصيرة نسبياً تمكّن مقاتلو التنظيم من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، وصلت حتى ٣٥- ٤٥٪ من مساحة الأراضي السورية بحسب مراقبين.
وبحسب أحد الباحثين1 «فإن العالم لم يواجه من قبل تنظيماً إرهابياً مماثلاً تمكّن من السيطرة على كل تلك المساحات من الأراضي»، وتأتي سيطرة التنظيم على مطار الطبقة السوري لتؤكد من جديد قدرة هذا التنظيم على التمدد والسيطرة على مزيد من المساحات والمواقع الاستراتيجية، وبسرعة تثير التساؤل أكثر مما تثير الإعجاب، فخلال أقل من شهر تمكن التنظيم من السيطرة على مواقع عسكرية تابعة لنظام الأسد كانت قد صمدت لأشهر طويلة في وجه هجمات مقاتلي الجيش الحر السوري وباقي الكتائب الأخرى، كمقر الفرقة ١٧ واللواء ٩٣ في الرقة وأخيراً مطار الطبقة العسكري.
وبقدر ما يشكل تنظيم «داعش» اليوم خطراً على سورية ككل، فإنه، وفي ظل تسارع انتصاراته العسكرية، بات يشكل خطراً على أمن المنطقة بكاملها، وهو ما دفع دول العالم إلى استصدار قرار مجلس الأمن رقم ٢١٧٠ الأممي والذي يعد مؤشراً إلى التحالف الدولي الجديد الذي استدعاه خطر هذا التنظيم.
وأياً يكن الأمر، فإن تنظيم «داعش» يستثير الكثير من التساؤلات حول منشئه وطبيعته ومصدر تمويله.

المنشأ والسياق
في الوقت الذي يرى فيه العديد من المحللين أن التنظيم هو «خليقة» النظام السوري، وأنه نشأ وتمدّد برعايته وتحت أنظاره، يرى آخرون أن هذا التحليل تبسيطي لا يضيف شيئاً إلى معرفتنا به؛ عدا اتهامهم هذا التحليل بأنه لا يخرج عن إطار «التكهنات»، وأنه قد يكون من الصحيح أنّ نظام الأسد كان قد عمل على توظيفه ورعايته بشكل غير مباشر، وذلك في سبيل توظيفه ضد خصومه من المعارضة السورية، إلا أن المعطيات الواقعية تشير إلى أن للتنظيم استقلالية نسبية، وأن نظام الأسد سيدفع، بل إنه يدفع الآن ضريبة «لعبه بالنار»، وهو ما رأيناه في عجزه عن مواجهة التنظيم في أكثر من موقعة عسكرية آخرها كان مطار الطبقة الاستراتيجي.
كما أن المسألة في تحليل ونقاش بنية «داعش» وآليات اشتغاله لا يمكن إحالتها، أو قل اختزالها، إلى العلاقة مع «الدين الاسلامي». فالنقاش حول إن كان هذا التنظيم هو الإسلام الأول أو لا، لا يعدو كونه محاولة لنقل النقاش من حقله السياسي الذي تنتمي إليه ظاهرة «داعش»، إلى حقل أيديولوجي- ثقافي عابر للتاريخ. وهو ــ أي النقاش ــ لا يعطي أهمية إلى الزمن البنيوي الراهن الذي ينتمي إليه تنظيم «داعش» والتنظيمات التي تشبهه. ويغيب أن الإسلام السياسي، وتحديداً الفصائل الأشد تطرفاً، ومنها «داعش» بطبيعة الحال، هي نتاج التناقضات الراهنة لمجتمعات فشلت نظمها في السير بتنمية مقبولة، كما فشلت في نقل مجتمعاتها إلى عصر الحداثة.
أول ظهور لتنظيم «داعش» في سورية كان في نيسان من عام ٢٠١٣، وكان نتيجة لإعلان التنظيم العراقي الاندماج بين تنظيم دولة العراق الإسلامية التابع للقاعدة وتنظيم جبهة النصرة السورية، قبل أن ترفض الأخيرة هذا الاندماج وتعلن معاداتها لتنظيم «الدولة». وهو ما سيحدد طبيعة العلاقة بين هذين الطرفين كعلاقة صراع، وصل إلى الاحتراب والاقتتال منذ مطلع عام ٢٠١٤ ٢.
يعود تنظيم «داعش» بمنشئه إلى العراق، حيث نشأ هناك تحت اسم «جماعة التوحيد والجهاد» ليصبح في ما بعد تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» بقيادة أبو مصعب الزرقاوي عام ٢٠٠٤ 3. بعد مقتل «الزرقاوي» عام ٢٠٠٦ على يد القوات الأميركية تم تنصيب أبو حمزة المهاجر لقيادة التنظيم والذي سيصبح اسمه تنظيم «دولة العراق الاسلامية» حيث سينصَّب أبو عمر البغدادي زعيماً له، والذي ستنجح القوات الأميركية في قتله هو ونائبه أبو حمزة عام ٢٠١٠، ليتم تنصيب أبو بكر البغدادي في ما بعد في زعامة التنظيم الذي سيصبح تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام».
وعلى الرغم من أن أبو بكر البغدادي كان شخصية مغمورة من بين قيادات تنظيم القاعدة، إلا أن مبايعة القائد حجي بكر4 له لخلافة التنظيم بعد مقتل أبي عمر البغدادي، قد سهّلت وصوله السلس إلى قيادة التنظيم. وحجي بكر، الرجل الذي لعب دوراً محورياً في صعود أبو بكر البغدادي، هو عقيد ركن سابق في الجيش العراقي. وتشير المعطيات إلى أن مبايعة المجلس العسكري لأبو بكر البغدادي أميراً للتنظيم كانت بمبادرة من حجي بكر الذي اعتبر صاحب المرحلة الجديدة في حياة «الدولة» والقائد في الظل5.
منذ عام ٢٠١٣ والتنظيم يتخذ من العراق وسورية مكاناً لنشاطه وعملياته العسكرية والسياسية، ومن المعروف أن التنظيم كان قد خرج من عباءة تنظيم القاعدة في العراق، والذي سيتنصل منه في ما بعد ويصبح واحداً من أشد التنظيمات الجهادية تطرفاً، وعداءً لتنظيم القاعدة ذاته أيضاً، وهو ما يجعل من تنظيم «داعش» الجيل الأحدث للتنظيمات الجهادية في العالم.
في عام ٢٠١١ اعتمد تنظيم دولة العراق الإسلامية على محمد الجولاني في سورية، وكان أحد قادة التنظيم الموثوق بهم، والذي كُلف بالإشراف على السلفيين الجهاديين في سورية وتنظيم صفوفهم، وفي عام ٢٠١٢ تم الإعلان لأول مرة عن تشكيل «جبهة النصرة»، والتي باشرت بتنفيذ مجموعة من العمليات الانتحارية داخل سورية وتحديداً في العاصمة دمشق، مستهدفة مقرات أمنية وحكومية تابعة لنظام الأسد.
بعد فترة قصيرة من إعلان تشكيل «جبهة النصرة» نشأ أول خلاف بين الجولاني وأبو بكر البغدادي، عندما طلب الأخير من الجولاني في اجتماع في اسطنبول توجيه ضربات ضد الجيش الحر، وهو ما رفضه الجولاني في تلك الأثناء، ما أسس لخلافات جذرية بين القيادتين، والتي ستفضي في ما بعد إلى الاقتتال بينهما؛ حيث انتهى الأمر وكما هو معروف، برفض الجولاني الاندماج مع تنظيم أبو بكر البغدادي مطلع عام ٢٠١٤.
تكمن قوة هذا التنظيم في عدة نقاط أهمها قدرة خطابه الأيديولوجي على التعبئة والدفع بالكثير من الشبان من مختلف أصقاع العالم إلى الالتحاق به والانخراط في عملياته العسكرية، وبحسب ريتشارد باريت6 «إذا كنت شاباً يريد الفعل، فستذهب مع البغدادي»، في إشارة إلى الدينامية التي بات يمتلكها التنظيم والممارسة العملية التي باتت تستقطب العديد من الشبان المقاتلين.
وبحسب عدة مصادر، فإن الكثير من مقاتلي التنظيم هم من الأجانب الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، منهم أكثر من ألفي مقاتل من أصل مغربي، انضموا للقتال في صفوف التنظيم، بينما العشرات من القادة الميدانيين للتنظيم هم من الخارج ممن اكتسبوا خبرات قتالية في العراق والشيشان وأفغانستان.
لا جدال اليوم في أن تنظيم «داعش» هو واحد من أقوى التنظيمات المتطرفة في العالم، إن كان من حيث القدرة التنظيمية أو من جهة التمويل والقوة الاقتصادية، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول مصادر تمويل التنظيم لعمليات عسكرية يرى الكثير من المحللين أنها تقترب من طبيعة العمليات العسكرية التي تتولاها دول بأكملها.

مصادر التمويل: النفط والمعابر
يقترب الحديث حول مصادر تمويل تنظيم «داعش» من الخرافات والأساطير، إذ لا وثائق تثبت وجهات النظر ولا مصادر موثوقة يمكن أن يركن إليها ولا حتى شهادات، كل هذا يجعل من البحث في مصادر تمويل التنظيم أقرب إلى التكهنات المحكومة بالسياسة في كثير من الأحيان.
لذا ساد اتهام تنظيم «داعش» بتلقّي التمويل من قبل نظام الأسد وإيران التي تقف خلف حكومة المالكي العراقية، حيث يرى هؤلاء أن تنظيم «داعش» أشبه بحصان طروادة بالنسبة إلى نظام الأسد وحليفه الإيراني لضرب قوى الثورة السورية. بينما يرى آخرون، أن السعودية تقف خلف تمويل التنظيم، وذلك بحجة أن السعودية لها مصلحة فعلية في خلق كيان قادر على مواجهة المد الشيعي في العراق، والوقوف في وجه التوسع الإيراني في المنطقة، وخصوصاُ بعدما سلّمت الولايات المتحدة الأميركية العراق للنفوذ الإيراني؛ عدا أن السعودية كانت تموّل القاعدة في ما مضى ضد السوفيات والحكومة الموالية لهم في أفغانستان، فلما لا تموّل تنظيم «داعش» لضرب أعدائها؟
إضافة إلى كل ما سبق هناك تكهّنات حول وقوف بلدان أخرى خلف تمويل تنظيم «داعش»، كالكويت وقطر وتركيا وحتى إسرائيل، حيث يقف خلف جميع هذه الاحتمالات المصالح السياسية والجيوسياسية التي يمكن أن يوفرها دعم تنظيم كتنظيم «داعش» لهذه البلدان.
وأياً يكن الأمر لتنظيم «داعش» من مصادر تمويل ذاتية تعدّ جزءاً أساسياً من آليات عمل التنظيم وهيكليته التنظيمية، ولها أهمية حاسمة تجعل من البحث عن مصادر تمويل أخرى بلا معنى، حيث يوضح هذا الشكل من التمويل عدم الحاجة الفعلية إلى مصادر أخرى.
ومنذ تسلّم أبو بكر البغدادي زعامة التنظيم، عمد، وبالتنسيق مع حجي بكر سابق الذكر، إلى إعادة هيكلة التنظيم بالكامل؛ فتم تشكيل «خلية» أمنية مهمتها حماية التنظيم من أي اختراق أمني محتمل، تحت إمارة ضابط سابق يُدعى أبو صفوان الرفاعي يتبع مباشرة قيادة التنظيم. ومهمة هذا الجهاز هي تصفية من ينشقّ أو يعصي أمير الدولة سواء من القادة الميدانيين أو القضاة الشرعيين.
وعلى صعيد تأمين تمويل عمليات التنظيم واحتياجاته المالية، فقد حرص الاثنان – أبو بكر وحجي بكر ــ «على ضمان توفير الموارد المادية الدائمة؛ فتواصل العمل بما قرره أبو عمر البغدادي من مصادرة أموال الشيعة والمسيحيين وغير المسلمين، وعملاء النظام، حتى لو كانوا من السنة، إضافة إلى الاستيلاء على مصادر النفط ومحطات توليد الطاقة والوقود، وأي مصادر مالية حكومية في «دولة العراق»، وما لا يمكن الاستيلاء عليه بالكامل يجبَر صاحبه على دفع معلوم شهري تحت مسمّى ضريبة. كما أن موارد الدولة المالية تأتي من عائدات نقاط تفتيش على الطرق البرية مكلفة بتحصيل أموال من الشاحنات التجارية».
ومع تمدد التنظيم داخل العراق وداخل الأراضي السورية تمكّن من إحكام سيطرته على آبار النفط من جهة، والمعابر الحدودية وطرق الترانزيت من جهة أخرى، وهو الشيء الذي وفر للتنظيم مصادر تمويل لا تنضب – وصلت الضريبة على الشاحنات حتى ٢٠٠ دولار ــ وخصوصاً بعد اعتماد التنظيم على سياسة بيع النفط الخام بأسعار مخفضة ولكن بكميات كبيرة، وفّرت له ملايين الدولارات التي لا تنتهي.
وقدّرت عدة تقارير استخباراتية حجم الأموال الطائلة التي استولت عليها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» من المصارف العراقية بما يصل إلى ٤٩٥ مليون دولار7، يقول جيفري وايت الباحث في معهد واشنطن للدراسات: خلال العمليات العسكرية الأخيرة التي شنّها تنظيم «داعش» في العراق تمكّن من «الاستيلاء على كميات كبيرة من المعدّات العسكرية، ونهب مئات الملايين من الدولارات من المصارف العراقية، والبدء بتكوين نفوذه كسلطة حاكمة على مساحة كبيرة من الأراضي السنية»8. وهو أمر لا يشكل في حقيقة الأمر إلا جزءاً يسيراً من الأموال التي استولى عليها التنظيم خلال السنوات القليلة الماضية، والتي ستزداد باطراد مع كل توسع للتنظيم في سورية ومع كل استيلاء جديد على خطوط الإمداد وحقول النفط السورية. ففي ٢ فبراير/شباط ٢٠١٤ على سبيل المثال تمكن «داعش» من الاستيلاء على حقل غاز «كونوكو» الذي يدر مئات آلاف الدولارات أسبوعياً، بينما يشكل حقل غاز «شاعر» الذي تمكّن التنظيم من الاستيلاء عليه مؤخراً واحداً من أضخم حقول الغاز في سورية.
على صعيد مالي واقتصادي، يعتقد الباحث أن تنظيم «داعش» تمكّن عبر سنوات نموّه وتشكّله من تحقيق اكتفاء ذاتي سمح له عبر قنوات مالية متعددة بتأمين تكاليف عملياته الباهظة، ودفع مستحقات مقاتليه وما إلى ذلك، بيد أن ذلك لا يعني على الإطلاق استقلالية التنظيم، فالاستقلالية الاقتصادية – إن وجدت ــ لا تقود إلى استقلالية سياسية، وهو ما يعدّ مربط الخيل بالنسبة إلى تنظيم «داعش».
فهل للتنظيم استقلالية سياسية توازي استقلاليته الاقتصادية والمالية؟
أمراء «داعش»
ككل التنظيمات السياسية، ينقسم تنظيم «داعش» إلى طبقتين أساسيتين: الأولى هي القيادات السياسية العسكرية والدينية للتنظيم، والثانية هي القاعدة العريضة التي يتشكل منها التنظيم والتي تضمّ جميع المقاتلين الشبان على الجبهات، والدعاة والإعلاميين وغيرهم؛ وهذا التمييز يكتسي أهمية حاسمة خصوصاً عندما نعلم الطبيعة الشمولية لتنظيم «داعش» والتي تضع حداً فاصلاً بين القيادات، والتي تبادر باتخاذ جميع القرارات الحاسمة للتنظيم، وقاعدة التنظيم والتي في مطلق الأحوال تبقى بمعزل عن صناعة القرارات وتكتفي بتلقي الأوامر وتطبيقها. وهي ملاحظة سنكتشف لاحقاً أهميتها.
يحيط بالعديد من قيادات تنظيم «داعش» الرفيعة الكثير من الشكوك وإشارات الاستفهام، حول درجة ارتباطها المباشر أو غير المباشر مع أجهزة استخبارات دول مختلفة وفي مقدمتها الأجهزة الاستخباراتية التابعة للنظام السوري.
وعلى سبيل المثال، المدعو أبو أحمد حاووط، وهو واحد من أهم القيادات في التنظيم ويشغل منصب مسؤول أمن حلب، كان أثناء الثورة السورية يشغل منصب ضابط في مخابرات أمن الدولة التابع للنظام السوري في حلب، ولم ينشقّ إلا بعد مضي حوالي العامين ونصف العام على الثورة، وبعد انشقاقه بفترة قصيرة ــ حوالي الشهر ــ وبحسب وكيليكس «داعش»: «التحق بـ«داعش» وتسلّم المهمة نفسها، وهي مسؤول أمن «داعش» في حلب، وارتكب المجازر مثل أيام خدمته للأسد، حتى أنه أعدم بيده ابن أخيه «نور» بعد تعذيب طويل له ولأصحابه ممن اعتقلوا معه لاشتراكهم بالثورة، وقد عذّب الحاووط كثيراً من الشباب السوري وأصدر أحكام إعدام بحقّهم وأغلبهم وجدت جثثهم في مقبرة جماعية عند انسحاب «داعش».
وبحسب أحد الذين كانوا معتقلين في سجون تنظيم «داعش»، وتمكّن من الفرار فإن: «أبو أحمد الحلبي – وهو اللقب الآخر لأبو أحمد حاووط ــ رئيس مخابرات حلب وهو رجل يُعرف بانتمائه لحزب البعث سابقاً، وانضوى تحت تنظيم الدولة بعد ظهور الأخيرة بشهر من انشقاقها عن جبهة النصرة، وقد كان قبل هذا ينتمي لدولة النصيرية، وقد كان مسجوناً معي أنا وابن أخيه نور حاووط وشاب آخر اسمه مجد مستو، وهم يعرفون تاريخه السابق، فهو ممن كان يعطي المعلومات للشبيحة عن مواقع المجاهدين والثوار، فكيف أصبح رئيس مخابرات حلب للدولة؟»9.
والأمر لا يقتصر على تنظيم «داعش»، بل يتعداه ليطال أغلب التنظيمات المشابهة، فأبو خالد السوري، وهو واحد من أبرز قيادات تشكيل أحرار الشام الإسلامي، والذي كانت «داعش» قد وضعته على رأس قائمة المطلوب تصفيتهم من قبلها، والذي فعلاً تم تصفيته لاحقاً، هو محمد بهايا، مواليد حي البيّاضة بحلب عام ١٩٦٣، انتسب للطليعة المقاتلة سنة ١٩٧٩، ثم انتقل الى الباكستان ملتحقاًً بعبد الله عزام الذي أسس هناك «بيت الأنصار»، وتحول في ما بعد الى «بيت قاعدة الجهاد» الذي أصبح أبو خالد أميراً له، ثم أصبح مدرباً للمقاتلين. ثم تنقل عام ١٩٩٢ بين تركيا ولندن وإسبانيا، ليعود من جديد إلى أفغانستان ليصبح مرافقا شخصياً لأسامة بن لادن، حتى عام ٢٠٠١ حيث غادر الى باكستان لتعتقله القوات الاميركية في عام ٢٠٠٥، سنة كاملة، وتقوم بترحيله الى سورية، ليعتقل في صيدنايا حتى ١٧ كانون الاول ٢٠١١ حين أفرج عنه في سياق حملة الإفراج المنظمة عن معتقلي صيدنايا الجهاديين.
وأياً يكن الأمر، سنلاحظ أن العديد من المصادر والتقارير الاستخباراتية تشير إلى تورط العديد من قيادات «داعش» بعلاقات مع عدة أجهزة استخباراتية في العالم، ومنهم على سبيل المثال المدعو أبو أحمد العلواني وهو المسؤول المباشر عن لجنة الأمنية التي نفذّت الاغتيالات، والذي تم تزكيته بالأصل من قبل حجي بكر الذي سمح بانخراطه بتنظيم «داعش» وسلمه الكثير من المناصب. وبحسب عدة مصادر فإن العلواني ضابط بعثي سابق ومعتقل أثناء الاحتلال الأميركي للعراق، تمكّن من الفرار من المعتقل و«له ارتباطات بقيادة حزب البعث في سورية قبل الثورة وبعدها، وهو على رأس التنسيق مع النظام، وهناك إثباتات على عمالة العلواني للنظام السوري وتسليمه لما يقارب ١٠٠ مجاهد من مهاجرين وأنصار»10.

دور النظام السوري
ولا شيء يمكن أن يثبت عكس ذلك بالنسبة إلى تورط نظام الأسد في تغذية التنظيمات الإرهابية والتلاعب بها من أجل ضرب خصومه أو الضغط عليهم لأسباب سياسية وغيرها، وبحسب بيتر نيومان فإنه «في سنوات ما قبل الانتفاضة، تشكلت قناعة لدى الأسد ومخابراته بأنه يمكن رعاية الجهاد والتلاعب به لصالح غايات النظام. وكان ذلك هو الحين الذي دخل فيه الجهاديون الأجانب إلى سورية وساهموا في بناء الهياكل وخطوط الإمداد التي تستخدم اليوم في قتال النظام. إلى ذلك الحدّ، الأسد شريك في خلق العدوّ الذي يقاتله اليوم»11.
اكتسب نظام الأسد خبرات كبيرة بالعلاقة مع التنظيمات الإسلامية، فمنذ أواخر السبعينيات وحتى انفجار الصراع في سورية في شباط ١٩٨٢ سيتمكن نظام الأسد من تطوير خبرات أجهزته الأمنية، والتي ستتمكن من بناء صلات واسعة مع التنظيمات الإسلامية والقيادات المعروفة فيها. وفي «أحداث الثمانينيات» ستتعلم الأجهزة الأمنية للنظام السوري درسها جيداً في كيفية التعاطي مع هذه التنظيمات وكيفية احتوائها وتحويلها إلى أدوات يسهل التلاعب بها عوضاً من أن تكون أخصاماً لها.
وكان الغزو الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣ فرصة مناسبة كي توظف الأجهزة الاستخباراتية السورية خبرتها وصلاتها في سبيل نشر الفوضى في العراق وإفشال التجربة الأميركية هناك، وذلك لأسباب عديدة أهمها قناعة راسخة عند نظام الأسد أن دوره سيكون التالي بعد نظام صدام حسين. ومن يعد إلى أحداث عام ٢٠٠٣ وما تلاها سيتذكر جيداً الشخصيات الإسلامية البارزة التي وظفها نظام الأسد في سبيل التشجيع على الجهاد في العراق ضد الأميركان، كشخصية أبو القعقاع الحلبي والذي كان واحداً من أهم الدعاة من أجل الجهاد في العراق، والذي ساهم في تأمين سفر عشرات القوافل الذاهبة لقتال الأميركيين، والذي قتل بظروف غامضة عندما انتهت مهمته.
وبحسب الكثير من التقارير فإن نظام الأسد نجح في تكوين شبكة واسعة من المهربين الذين كانت مهمتهم تقوم على إيصال الجهاديين إلى العراق مروراً بالأراضي السورية. وعبر هذا التنسيق نجح نظام الأسد في بناء صلات مهمة وراسخة نسبياً مع التنظيمات الجهادية في العراق على وجه التحديد، وبشكل خاص مع ما سوف يصبح لاحقاً تنظيم «داعش».
عبر هذه العلاقة تمكن نظام الأسد من تحقيق اختراقات واسعة داخل هذه التنظيمات، وبحسب بيتر نيومان فإن12 «السلاح السري» للنظام ضد الجهاديين كان التسلّل إلى شبكاتهم وتحويل المشبوهين إلى متعاونين. وحسب ويكيليكس الخارجية الأميركية، قال رئيس أحد فروع المخابرات لمسؤولين أميركيين في سورية «نحن لدينا الكثير من الخبرة والمعرفة بهذه المجموعات»، وتابع: «لا نهاجمهم ولا نقتلهم… نحن نتداخل بهم وفقط في اللحظة المناسبة نتحرك».
وأياً يكن، فإن تنظيم «داعش»، وكباقي التنظيمات الجهادية المتطرفة، أحيط تاريخه بالكثير من الشبهات التي أحاطت بأغلب قياداته من الصفين الأول والثاني، والذين في مجملهم تنقّلوا بعلاقاتهم بين عدد من الأجهزة الأمنية، وغيّروا في هذا السياق من حلفائهم وأعدائهم، وكانوا في كل الحالات يتقنون لعب السياسة والتي لا تشترع سوى إلى المصالح.
وقد يكون من الصحيح أن نظام الأسد كان قد جنّد العشرات من المقاتلين في صفوف تنظيم «داعش»، وأنه تمكن من اختراق التنظيم ذاته عبر العديد من القيادات التي تسلّمت مناصب رفيعة فيه، إلا أن ذلك لا يمنع من انقلاب السحر على الساحر وتحوّل هذا الوحش، الذي ساهم نظام الأسد في نموّه واشتداد عوده، إلى واحدا من ألدّ اعدائه، وكما يقول بيتر نيومان عن حق إن «النظام كان قد خلق ظاهرة لم يعد يستطيع التحكم بها».

أولوية العوامل الداخلية
إذا كان تاريخ أغلب قادة تنظيم «داعش» مشكوكاً بنزاهته، ويثير العديد من علامات الاستفهام حول درجة ارتباطهم بأجهزة المخابرات المحلية والإقليمية العالمية، فإن ذلك لا ينطبق على مقاتلي التنظيم، والذين غالباً ما يكونون في الصفوف الأمامية في المعارك الأشد ضراوة وفي تنفيذ العمليات التفجيرية وما يشبهها.
هؤلاء المقاتلون، والذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة (أوروبا، أميركا، الباكستان، الشيشان.. وغيرها الكثير)، مختلفون عن أولئك المقاتلين من الجنسية السورية، لذا سيجري التركيز على هؤلاء الأخيرين في ورقتنا هذه مهملين عن قصد طبيعة المقاتلين الأجانب والبيئات الاجتماعية والثقافية التي ينتمون إليها.
بحسب ما أفاد به رامي عبد الرحمن، مؤسس المرصد السوري، شبكة «رويترز»، فإن الدولة الإسلامية جنّدت ما لا يقل عن ٦٣٠٠ رجل في يوليو/ تموز من ٢٠١٤ الجاري، وهي زيادة كبيرة عن تقديرات سابقة تشير إلى أن عدد مقاتلي التنظيم بلغ حوالي ١٥ ألفاً. وأضاف عبد الرحمن أن أكثر قليلاً من ألف مقاتل هم من الأجانب وأن الباقين من السوريين13.
على الرغم من أن تنظيم «داعش» عرف بجذبه الكبير للمقاتلين الأجانب، إلا أن تواجد المقاتلين السوريين في صفوفه لا يستهان به، والسؤال الذي من الجدير طرحه هنا: من هم هؤلاء السوريون المنضوون تحت إمرة تنظيم «داعش»؟ وما هي بيئاتهم الاجتماعية والثقافية؟ وما هو تحديدهم الطبقي؟
في مطلع العام الجاري قام تنظيم «داعش» بتشكيل «جيش الأنصار» في محافظة الرقة الواقعة تحت سيطرة التنظيم، ويضم هذا «الجيش» مسلحين من عشائر عربية في مدينة الرقة وبلدة سلوك ومدينة تل أبيض، التي بايعت الدولة الاسلامية في العراق والشام بحيث يجري تجنيد شاب من كل عائلة، أو أن تقوم العائلة التي لا يُجنَّد منها أحد، بتسليح شاب من الجيش المشكَل.
من العشائر التي بايعت التنظيم: المنيف، حلاوة، داوود، الجميلة، قيس، قسم من المشهور، الصيالة، النعيم، عشائر الفدعان وشمر وعنزة، الطي، البو ضاهر، العفادلة، المجادمة في الرقة بالإضافة إلى أبناء العشائر الموجودة في منطقة تل أبيض وناحية السلوك.
وبحسب رومان كانييه، فإن «داعش» «تحظى بدعم سكان القبائل الذين يشاركونها الثقافة نفسها سواء في الرقة أو دير الزور أو الحسكة»، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، ربما أهمها بالنسبة إلى هذه العشائر «الانتهازية الكامنة خلف ولاءاتها السياسية، التي كانت تتحالف مع نظام بشار الأسد سابقاً، وتبحث عن جهة تحميها حالياً، كما تسعى هذه القبائل إلى الاستفادة من عوائد تجارة النفط في دير الزور بشكل خاص»14. وفي كثير من الحالات كانت العوامل الاقتصادية تقف خلف انضمام المقاتلين أو الموالين لتنظيم «داعش» فرادى وجماعات.
أدّت الحرب الدائرة في سورية عبر الأعوام الماضية إلى انهيار الاقتصاد السوري بشكل دراماتيكي، وتزامن مع ذلك انتشار للبطالة بمعدلات لا سابق لها، كما خسر العديد من السوريين مصالحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم، كل هذا جعل أكثر من نصف سكان سورية يرزحون تحت وطأة الفقر والفاقة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، أجبر الآلاف من الشبان السوريين على الانضمام إلى التشكيلات العسكرية المعارضة وتحديداً تلك التي تدفع أجوراً لهم ولعائلاتهم.
وفي الوقت الذي تلكأت فيه الكثير من التشكيلات المعارضة في دفع مرتبات مقاتليها، وذلك لأسباب عدة في مقدمتها نقص التمويل وتجفيف منابعه، كانت الفرصة سانحة أمام تنظيم «داعش» الذي تمكن من استقطاب المئات من الشبان المفقرين الذين لا يملكون قوت يومهم.
وبحسب عدة مصادر، فإن تنظيم «داعش» كان وما زال يدفع بسخاء مرتبات مقاتليه، حيث «يتقاضى المقاتل السوري راتباً شهرياً مقداره ٤٠٠ دولار. أما المقاتل السوري المتزوج، فيتقاضى مبلغاً قدره ٥٠ دولاراً عن كل طفل و١٠٠ دولار عن كل زوجة، إضافة إلى الراتب الشهري الأساسي، كما يجري تأمين مسكن له، إذا لم يكن يملك مكاناً للسكن، بالإضافة إلى تأمين وقود لسيارته من محطات الوقود التي يديرها تنظيم «داعش»، ووقود للتدفئة»15.
وفي المدن والبلدات السورية التي سيطر عليها التنظيم، فقد سعى قدر الإمكان إلى توفير ما أمكن من مستلزمات للسكان بدءاً بالسلل الإغاثية وصولاً إلى نشر الأمن ومنع السرقات والتعدي على السكان، وبحسب رومان كاييه سابق الذكر «على صعيد السكان، فإن المحسوبية هي التي تنتصر نظراًً لأن الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام هي التي تؤمن الخبز وسلسلة كاملة من الخدمات العامة ابتداءً من الشرطة وانتهاءً بالعدالة، مروراً بمكتب حماية المستهلك. يحصل السكان على نوع من الأمن على الرغم من هذا النظام القاسي».

جزّ الأعناق والأتاوات والخدمات
واللافت في الأمر، أنه وفي الوقت الذي فشلت فيه أغلب تشكيلات المعارضة، العسكرية منها والمدنية، في بلورة تجربة لائقة على صعيد إدارة المدن والبلدات التي سيطرت عليها، وتامين المستلزمات الأولية للسكان المدنيين، فإن تنظيم «داعش» تمكن بل نجح في بناء تجربة غاية في الأهمية في محافظة الرقة التي سيطر عليها منذ عام تقريباً. «فالتنظيم الذي اشتهر بجز الأعناق والصَلب والإعدامات الجماعية، أصبح يوفر الكهرباء والمياه ويدفع الرواتب وينظم حركة المرور في الشوارع ويدير كل شيء تقريباً من المخابز إلى البنوك والمدارس والمحاكم والمساجد. ويقول سكان يعيشون في المحافظة ومقاتلون في التنظيم ونشطاء معارضون إن «داعش» أقام هيكلاً مشابها لحكومة حديثة في أقل من عام تحت قيادة زعيمه أبو بكر البغدادي».
وبحسب العديد من الشهادات، فإن التنظيم عمد إلى الإبقاء على الكثير من الموظفين في مواقعهم الوظيفية التي كانوا يشغلونها في زمن حكم الأسد، كعمال سد الفرات ومؤسسة الكهرباء والمطاحن وغيرها الكثير، ويتلقى هؤلاء الموظفون رواتبهم أسوة بغيرهم من العاملين في صفوف تنظيم «داعش».
وبحسب شهادة أحد المعارضين الذين ما زالوا مقيمين في الرقة: «المدنيون الذين ليس لهم أي انتماءات سياسية تكيّفوا مع وجود «داعش»؛ لأن الناس سئموا وملّوا... وللأمانة، لأنهم يقومون بعمل قائم على المؤسسات في الرقة». وأضاف أنه منذ ذلك الحين «استعاد التنظيم كل المؤسسات المرتبطة بالخدمات وأعاد هيكلتها، بما في ذلك مكتب حماية المستهلكين والقضاء المدني»16. وأكثر من ذلك، اعتمد التنظيم على كفاءات علمية خبيرة قدمت من بلاد أجنبية مختلفة؛ «فالرجل الذي اختاره البغدادي على سبيل المثال لإدارة قطاع الاتصالات في الرقة وتطويره، تونسي يحمل الدكتوراه في هذا التخصص كان قد غادر تونس وانضم للتنظيم».
وأياً يكن الأمر، فإذا ما أخذنا جملة العوامل والشروط التي يخضع لها السوريون اليوم في ظل الحرب الدائرة وما ولّدته من فقر وجوع وغياب للأمن والأمان، فإننا سنلاحظ أن جملة هذه العوامل مجتمعة تقف خلف «القبول» الاجتماعي لتنظيم «داعش»، وهو يشكل، شئنا أم أبينا، الحاضنة الاجتماعية للتنظيم في المناطق التي يسيطر عليها؛ وإن قسماً كبيراً من الشبان السوريين الذين انضموا إلى «داعش»، هم من بيئات فقيرة أصلاً وازدادت فقراً وتهميشاً في ظل الحرب الدائرة اليوم.
من جهة أخرى، يقف الشعور باليأس والإحباط من أداء قوى المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، كأحد العوامل التي لا تقل أهمية عن سابقتها في دفع العديد من الشبان إلى الالتجاء إلى مشروع تنظيم «داعش»، والذي شكل بديلاً مقبولاً بالنسبة إليهم عن معارضة اخترقها الفساد من رأسها حتى أخمص قدميها، وتشكيلات عسكرية كانت مستعدّة لأن ترتكب مجازر بحق رفاق الأمس بسبب اقتسام «الغنائم» سيئة الصيت؛ عدا عن اتهام العديد من التشكيلات العسكرية بالسرقة وما بات يعرف «بالتشويل» في أماكن و«التعشيب» في أماكن اخرى، في إشارة إلى سرقة المال العام والخاص تحت تبريرات شتّى.
هذا الشعور بالإحباط دفع بالكثير من الشبان السوريين إلى أن يروا في مشروع «داعش» مشروعاً يمسهم ويعبّر عنهم، كما ويقدم إجابات حول تساؤلاتهم المصيرية التي راحت تفرزها ظروف الحرب.
أما على صعيد الجماعات والتشكيلات العسكرية المعارضة التي اختارت مبايعة تنظيم «داعش» والانضواء تحت إمرته، كما حدث بالنسبة إلى «لواء داوود» العامل في منطقة إدلب، والذي يعدّ واحداً من التشكيلات القوية في المنطقة، فالأسباب التي تقع خلف هذه الخيارات لا تبتعد كثيراً عن تلك التي تقع خلف خيارات الأفراد الذين اختاروا مبايعة التنظيم. فمنذ مطلع عام ٢٠١٣ وبالاستناد إلى عدد من المصادر، باشرت الجهات الداعمة للكثير من مجاميع المعارضة العسكرية بتطبيق سياسة تجفيف منابع الدعم؛ وهو ما أثر سلباً، وبشكل مباشر، على تلك التشكيلات ضعيفة التمويل أصلاً، حتى باتت خلال أشهر قليلة تعجز عن دفع مستحقات مقاتليها، وهو ما دفعها، بحسب زعمنا، إلى الاضطرار إلى الانضمام إلى تشكيلات وتجمعات عسكرية كبرى ومنها تنظيم «داعش» بطبيعة الحال.
ويشكل كل هؤلاء المقاتلين وحتى الموظفين المدنيين، العمود الفقري والركيزة المحورية التي يقوم عليها تنظيم «داعش». وكما رأينا أعلاه، فإن طبيعة هؤلاء الشبان وتركيبتهم ودوافعهم للعمل في صفوف التنظيم تختلف جذرياً عن طبيعة ودوافع قيادات التنظيم من الصفين الأول والثاني. وهو ما يشير بطبيعة الحال إلى الشروط الموضوعية التي دفعت بالشبان للالتحاق بتنظيم «داعش»، بخلاف الأسباب السياسية والأيديولوجية التي تحكم خيارات قادة التنظيم.

عنف النظام يغذّي عنف داعش
نشأ تنظيم «داعش» وتمدد داخل الأراضي السورية بسرعة قياسية، وتمكن بالوقت نفسه من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، وتزامن مع كل هذا تمكنه من تكوين حاضنة شعبية له، وجذب المئات من الشبان السوريين للقتال في صفوفه. وسعينا في بحثنا إلى أن نحيط بأهم العوامل والشروط المعقدة التي ولدت «داعش» من أحشائها، حيث لاحظنا أن للعوامل الداخلية التي نشأت في ظل الحرب الدائرة في سورية الدور المحوري في هذا النشوء. فالعنف الذي قوبلت به انتفاضة السوريين من قبل نظام الأسد ساهم في بلورة المناخ الذي تغذت منه «داعش»، وتمكّنت عبره من التغلغل داخل خلايا المجتمع السوري.
فالعنف المنفلت من كل عقال كان قد استدعى لغة وممارسة متطرفة اعتمدها الخطاب الإسلاموي الذي انتشر بين صفوف المنتفضين. وتبيّن أن ما أنتج قبل «داعش» لم يكن كافياً لتصاعد التطرف والأحقاد، وولدت التنظيمات الأشد تطرفاً لتلبي رغبة الضحايا بالثأر والانتقام وصولاً لحالة «الاكتمال» التي يمثلها تنظيم «داعش».
فانخرط في صفوف التنظيم شباب يائس من حركة التغيير التي طال زمنها. ولبّى «داعش» كل ما في أعماق الشبان من غضب ورغبه بالانتقام، وتساوت الضحية التي تمثلت أفكار التنظيم مع الجلاد. وصار السؤال المطروح: ما الحد الفاصل بين نظام الأسد المجرم ونقيضه الثوري؟ وكيف السبيل إلى الخروج من موجة العنف والعنف المضاد؟
عبر سنوات الصراع السابقة تغذت «داعش» من همجية نظام الأسد وما ولّدته من ردود أفعال لدى ضحايا هذه الهمجية، وستنتعش فرصها بالاستمرار مع كل مجزرة ترتكبها قوات الأسد بحق المدنيين. وتبين أنه لا سبيل إلى كسر هذه الدوامة من العنف بطائرات أميركية ولا بتحالف دولي ضد الإرهاب، إنما بإزالة الشروط والظروف الموضوعية التي ولدت ظاهرة «داعش» في المجتمع السوري. ذلك أن الفقر والتهميش وغياب الفرص واستمرار طغيان نظام الأسد هو المناخ الخصب لنمو وترعرع التشكيلات الجهادية شديدة التطرف.
من هنا كان أقصر طريق للتخلص من كل أشكال التطرف، ومنه «داعش»، يكمن في فتح أفق على المستقبل، أفق يقدم إجابات مقبولة لأولئك الأكثر تضرراً من الوضع الراهن، ويعيد المعنى إلى حياة الآلاف من الشبان المخذولين.
عندها، وعندها فقط ربما يصح الحديث عن القضاء على تنظيم «داعش» وأخواته، وعندها فقط ربما يمكن الحديث عن عبور سلس للمجتمع السوري نحو حداثة ما.

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
البطالة، اليأس، عدوى العنف

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.