انكفأ الإسلام السياسي مطلع القرن الماضي أمام اختراق الحداثة منذ القرن التاسع عشر للإمبراطورية العثمانية. اقتضت المواجهات العسكرية في الخارج والداخل تحديث وتطوير المؤسسة العسكرية وعتادها وعلومها بعد فشل الفرق «الإنكشارية»، التي حضّتها آنذاك الجماعات الصوفية (التكايا والزوايا والطرق المختلفة)، أمام قوة النموذج العصري للجيش المصري في عهد محمد علي، المقلد الأكبر للوسائل الأوروبية ولاسيّما الفرنسية. لكن الهزائم العسكرية أتاحت للغرب الصاعد بثورته الصناعية أن يفرض اتفاقات تعزز مصالحه الاقتصادية وتفتح الأسواق الإسلامية أمام السلع الكثيرة والوكالات ووسائل التعامل، ويفرض حمايات لعملائه من التجار وأصحاب الوكالات، وأن يجعل من التعاون معه امتيازات غالباً ما ذهبت لصالح الأقليات غير الإسلامية في أرجاء الدولة.
تدريجياً أنتجت الغلبة الأوروبية انفتاحاً واستيعاباً إسلامياً لمشروع الحداثة في الاقتصاد والتعليم والقضاء والمؤسسات وفي أفكار النخب الثقافية والسياسية. وانفتح السؤال الذي ما يزال يتكرر عن التراث والحداثة حتى اليوم. أرّخ المفكرون العرب لصدمة العلاقة المفتوحة مع الغرب بوصفها «النهضة العربية» لأنها جلبت معها فكرة القومية والعلمانية والديمقراطية وهي مصطلحات ومفاهيم غريبة عن الإسلام، وحاولوا أن يجدوا لها أشباهاً ونظائر عربية وإسلامية. كانوا بذلك يعتقدون إن اقتباس هذه الأفكار وما تنتجه على صعيد المجتمعات تعزز شرعية مطالبهم في المشاركة السياسية بداية، وفي الاستقلال والانفصال لاحقاً.
النهضة العربية
عرفت حركة النهضة كتلتين رئيسيتين: الأولى جذرية في محاولة الاقتباس من الغرب، والثانية توفيقية تريد اكتساب الخير النافع والمنجزات العملانية والاحتفاظ بمرجعية التفكير الإسلامي والثقافة الإسلامية. وطبعاً ظلت هناك الكتلة المحافظة من العرب والعثمانيين التي حاولت استنقاذ انهيار التجربة العثمانية بالدعوة للاحتفاظ بالرابطة الإسلامية و«الجامعة الإسلامية»، وكل الرموز التي تتبع ذلك وهي التي قاومت تحديث المؤسسات السياسية بصورة خاصة، ودافعت لاحقاً عن تجديد الخلافة. فبعد تفكك الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى (١٩١٤- ١٩٢٣) وإلغاء مصطفى كمال أتاتورك الخلافة في تركيا (١٩٢٤) قامت حركة من عدة مواقع إسلامية لإعلان خلافة جديدة ولم تنجح.
ولطالما كان كتاب المفكر المصري على عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم ثمرة نقاش مع هذا التيار (١٩٢٥). وما ظهور حركة الإخوان المسلمين (١٩٢٨) إلّا أحد ردود الفعل الإسلامية على تنحية الإسلام السياسي عن هوية الدول التي نشأت آنذاك تحت سلطة الانتداب الأوروبي الغربي.
في النصف الأول من القرن العشرين شعر المسلمون بالإحباط من جرّاء العملية الاستعمارية التي أنهت مكانتهم بين الأمم وسلبتهم إرادتهم في تقرير مصيرهم واستقلالهم. لكن التيار الإسلامي تراجع أمام تيار القومية العربية، خصوصاً في المشرق العربي حيث شارك المسلمون عدداً من الجماعات الإثنية الأخرى، وبينما ظلت بلاد المغرب أكثر تعلقاً بالهوية الإسلامية، كان تيار القومية العربية المشرقي يدمج الإسلام في الثقافة القومية ويعتبره أحد مكوناتها وإنجازاتها.
تضافر المشروع الغربي مع التيارات القومية شبه العلمانية على تنحية الإسلام السياسي عن صدارة الأنظمة باستثناء شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية) وإمارات الخليج التي ظلت حتى السبعينيات من القرن الماضي تحت الوصايات الأجنبية. لكن أياً من الدول ذات التوجه القومي لم تحرر دساتيرها من المرجعية الإسلامية بل عقدت تسوية بين الإسلام وثقافة الغرب تفاوتت مقاديرها من بلد إلى آخر. قاوم الإسلام السياسي حركة التحديث والفكر القومي واليساري وأنشأ أحزاباً سياسية في معظم البلدان العربية، ومارس نشاطه الحركي بما يتلاءم مع ظروف كل بلد والإمكانات المتاحة للعمل الدعوي والتنظيمي.
في السبعينيات بدأت موجة من العنف السياسي تركَّز حول القضية الفلسطينية، لكنْ في السياق نفسه لنضال حركات التحرر الوطني.
تخلخل النظام السياسي العربي بوجهه القومي المدني مع هزيمة ٥ حزيران/يونيو١٩٦٧. كان الإسلام السياسي يعيش تحت جلد الأنظمة فطغى على السطح بتواطؤ مكشوف لكي يمتص آثار الهزيمة بواسطة «الإيمان على أن ما حصل كان مقدراً وأن النصر سيأتي لا محالة من عند الله لأمة رسوله». تقاطعت تيارات فكرية ذات اليسار وذات اليمين بالتركيز على توصيف بنية المجتمعات العربية نختصرها بين عنواني: التخلّف (الفكر المدني) والجاهلية (الفكر الديني).
الإسلام يتحول إلى قضية
استشعرت الأنظمة الخطر عن يسارها لا عن يمينها. ففي حين زادت من إغلاق الأبواب أمام النخب الثقافية والسياسية ذات التوجه العصري والعقلاني والتقدمي وحجبتها عن الجمهور بوسائل مختلفة، منها السجن ومنها النفي، قامت بالتساهل مع الدعوات الدينية ووسعت لها المنابر وحرية النشاط في إطار المؤسسات التقليدية.
لكن الحدث المفصلي كان تصدر المملكة العربية السعودية لمشروع القيادة في العالم العربي بتأثير تراجع الأنظمة القومية والطفرة النفطية. وجاء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ثم الثورة الإيرانية، ليشكلا معاً تهديداً لأمن الخليج، فقامت المملكة باستثمار علاقاتها التاريخية مع باكستان ذات التوجه الإسلامي الأصولي كذلك، وجعلت منها قاعدة لتنظيم المواجهة العسكرية فضلاً عن دعم العراق في حربه مع إيران.تحول التوافق الفكري بين إسلام المودودي مع إسلام قطب مع الوهابية الحنبلية وتراثها القروسطي مع ابن تيمية إلى منظومة تعبئة لنشر الإسلام الجهادي التكفيري
تحول التوافق الفكري بين إسلام أبو يعلى المودودي مع إسلام السيد قطب مع الوهابية الحنبلية وتراثها القروسطي مع ابن تيمية وابن قيّم الجوزية إلى منظومة تعبئة لنشر الإسلام الجهادي التكفيري، واستخدمت المملكة كذلك كوادر حركة الإخوان المسلمين الذين لاذوا إليها بعد مطاردتهم خصوصاً في مصر وسورية.
صار للإسلام السياسي «قضية» وصارت له شبكة تنظيمية عنكبوتية في العالم كله ترعاها أميركا ودول الغرب، واكتسب تقاليد وخبرات وإمكانات هائلة. حين تقلص دوره في أفغانستان أعاد الانتشار في العديد من الدول العربية واتخذ لنفسه هوامش استقلال عن الدول التي رعته بحكم التناقض بين أفكاره المعلنة وسياسات تلك الدول. ومن علائم ذلك اصطدام بن لادن مع المملكة العربية السعودية ورفضه للوجود الأميركي في أرض شبه الجزيرة ذات القداسة الإسلامية. ومثل كل جسم سياسي بلغ هذا الحجم من الانتشار، تعرض إلى صراعات متنوعة وتجاذبات واختراقات. فكان يعيد تشكيل نفسه تبعاً لظروف كل بلد وطموحات قادة الجماعات وعلاقاتها. وبعد أن واجهت حركة حصار غربي تخصيصاً وفشلاً في تجربة الجزائر في التسعينيات، جاءت الثورات العربية لتعطيها فرصة جديدة ومناخاً وبيئة وحوافز غير مسبوقة، فحيث انهارت الدول والقبضة الأمنية فيها سادت الفوضى التي جذبت هذه الحركات والجماعات إلى ساحاتها.
شكّل الاحتلال الأميركي للعراق الميدان الأكثر خصوبة لنمو وتطور وفاعلية حركات الإسلام الجهادي الذي حظي بتسهيلات عربية جديدة في مواجهة النفوذ الإيراني. كانت الفوضى في العراق مطلباً أميركياً للقضاء على عناصر القوة فيه التي يمكن أن تعيد بناء الدولة القوية الواحدة. فكان القرار الأميركي بحل الجيش واجتثاث البعث ورعاية الانفصال الكردي وإباحة الدور لإيران والميليشيات الطائفية التابعة لها لكي تكون الطرف الأقوى في صياغة النظام السياسي.
استفزت هذه السياسة دول الخليج العربي كما الجماعة السنية، وأعطت لسورية فرصة التدخل في تلك المواجهة حتى لا تستقر سلطة أميركا وتتوسع باتجاهها. فكانت هذه كلها تدعم «المقاومة» على اختلاف أهدافها. ولم تكن إيران حتى ذاك الوقت في أولوية الحركات الجهادية السنية التي تقاطعت بعض مصالحها ومواقفها مع إيران تحت عنوان «الصحوة الإسلامية» من جهة وبدواع عملانية ميدانية حيث لإيران مصلحة في استنزاف الأميركيين في أفغانستان والعراق. لكن السياسة الإيرانية في العراق تظهّرت تدريجياً عن تعاون مع الأميركيين لحظة صار هؤلاء بحاجة إلى الخروج من هذه الفوضى والحد من خسائرهم وفشلهم في ما كانوا يطمحون إليه في المنطقة وفق إيديولوجية المحافظين الجدد.
كانت مراجعة السياسة الأميركية في أواخر عهد بوش الابن وتقرير بيكر- هاملتون (نهاية٢٠٠٦) الذي دعا بوضوح إلى الحوار والتعاون مع إيران. وفي العام ٢٠٠٨ حصل التغيير داخل الإدارة نفسها بانتخاب الديمقراطي باراك أوباما على أساس برنامج الانسحاب من أفغانستان والعراق ووقف التدخل الحربي الأميركي.
عصر الثورات
شكلت الثورات العربية مجالاً مفتوحاً للمداخلات الإقليمية والدولية. فما كان يعتمل من نزاعات على القيادة والنفوذ، ظهر إلى العلن في دعم القوى والحركات التي انخرطت في الصراعات الأهلية. فلا هذه الدولة كانت تمتلك خبرة إدارة حركات شعبية ولا الحركات السياسية القادرة على التعبئة والتنظيم إلّا تلك الحركات الإسلامية. ولم يكن هناك من دول فاعلة وطامحة لدور القيادة إلّا منظومة الخليج العربي. وهي دول شبكت مشروعها مع أميركا والغرب وتركيا في السعي إلى تصفية إرث المرحلة القومية نهائياً والتخلّص من ضغوط وتحديات المحور الآخر بزعامة إيران.
سرعان ما نشأ تنافس قوي بين الدور التركي والقطري الداعم لجماعة الإخوان المسلمين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية التي وجدت في مشروع الإخوان وهم تنظيم دولي يهدف إلى منافستها على قيادة العالم العربي. وفي مصر تجلّى هذا الصراع بوضوح ثم انتقل إلى مواقع أخرى. وكان فشل مشروع الإخوان في مصر أحد الأسباب التي ظهّرت الحركات الجهادية المتطرفة كما في تجربة الجزائر من قبل.
في تاريخ الإسلام الطويل كل الظواهر والأفكار والممارسات التي نشهدها اليوم، تعاقبت كما هو حال جميع الديانات الأخرى. المفاجأة الكبرى أو الصدع الخطير يكمن في هذا الزمن بالذات مقارنة بصورة الإسلام في القرن الماضي. هناك فشل لما يمكن أن نعتبره إسلاماً وسطياً معتدلاً منفتحاً متكيّفاً مع حاجات العصر، فشل في إثبات وجوده أمام تيارات التكفير والعنف وإلغاء الآخر والقدرة على الحوار. ليس مهماً البحث في فكر الحركات السلفية الجهادية فهي ليست أفكاراً مستحدثة أو حديثة. يمكن استخراج قائمة كبيرة من المصادر والمؤلفات والفقهاء ومن الوقائع التاريخية التي يرتكز عليها هذا الفكر والتي أخمدت في الدولة والمجتمع، ولكنها لم تخرج من وعي المسلمين خروجاً كاملاً. فالإصلاح الديني لم يحصل خلال هذا الصراع التاريخي بل الغلبة السلطوية لهذا التيار أو ذاك، لهذه الأفكار أو تلك.
المسيحية في العالم ليست واحدة ولا اليهودية إلى حد ما. ولا الديانات الآسيوية غير السماوية، وكذلك هو الإسلام. المسألة كيف وجدت هذه صيغة للتعايش خارج الصراعات الدينية ولم يجد الإسلام تلك الصيغة؟
الجواب البسيط والعاجل أنها لم تنطلق من «وحدة اللاهوت بل وحدة الناسوت». المشتركات ليست في وحدانية التفكير الديني بل وحدانية المصالح الإنسانية. الوحدة جاءت من المستقبل لا من الماضي. من الحاجة إلى العيش المسالم في مواجهة تحديات الطبيعة والمجتمع لا من التفاهم على «العالم العلوي الميتافيزيقي» الاتحاد في الأرض لا في السماء. هذا التحول كلّف الكثير من الدماء والدموع لكنه حصل أخيراً ولو أنه لم يلغ نهائياً من علاقات البشر فكرة الهويات الدينية وغير الدينية. بل إن العنصرية مازالت كامنة والتمييز العرقي والديني والاجتماعي يطل برأسه مجدداً في الكثير من المواقع العالمية.
قيل إن القرن العشرين هو قرن الإيديولوجيات العلمانية، وإن القرن الواحد والعشرين هو قرن «موت الايديولوجيا ونهاية التاريخ»، وفي الهامش من ذلك انبعاث الهويات الحضارية وصراعها أو الهويات الدينية والفئوية الأخرى. يحتمل هذا التشخيص الكثير من الواقعية ولكنه يغفل أو أنه يخفض من الأهمية الإيديولوجية لما «بعد الحداثة» فكرياً، ولزخم الليبرالية الجديدة التي وجدت تعبيرها في ظاهرة المحافظين الجدد في أميركا وفي ردود الفعل القومية الممزوجة بالثقافة الأرثوذكسية الروسية، أو في العثمانية الجديدة الممزوجة بنزعة إسلامية محافظة، ويمكن إعطاء المزيد من الأمثلة.
لكن الليبرالية الجديدة هي بالضبط إيديولوجية النخب السياسية والاقتصادية المسيطرة في العالم ولم يبق للمحكومين والمهمشين والمستغلين إلّا الإحياء الديني في نسخته المتشددة والمتطرفة والعنفية ضد عالم لا مكان فيه لممارسة الصراع الاجتماعي المنظّم، ولا مكان فيه للحوار بين الطبقات الاجتماعية كذلك حول أي نظام بديل أفضل، خصوصاً مع انهيار التجربة الاشتراكية.
فشل الإسلام القومي
نشأ تواطؤ كبير على تحوير مشكلات وأزمات العالم، ففي الأعلى وفي الأدنى من السلّم الاجتماعي هناك فاشية تتخذ أشكالاً متلونة. فتصدّرت قضايا العالم مسألة الهويات القومية والإثنية والدينية والطائفية بينما ظلّت معركة الرأسمالية العالمية وقطبها الأميركي المسيطرة تنتج ثقافة مضادة لكل هذه المشكلات تحت مسمّى العولمة وصراع الحضارات ونهاية التاريخ وانتصار الليبرالية.
فالعرب المسلمون لم ينجزوا مشروعهم القومي ولم يجدوا من خيارات أمامهم إلّا الاستنجاد بهويتهم الدينية في مواجهة التحديات الجديدة من العولمة إلى ثقافة ما بعد الحداثة والليبرالية الجديدة والهجمة الأميركية العسكرية وتعرض بلادهم لاحتلال مباشر وغير مباشر، وفشل دولهم ليس فقط في حل مشكلات الماضي بل في الدفاع عن سيادتها وإصرار أنظمتهم على تدفيعهم الأثمان الباهظة للاحتفاظ بالسلطة.
ملأ الإسلاميون فراغاً سياسياً كبيراً، وكانوا الأكثر قدرة على التنظيم والاستجابة لحاجات المواجهة مع الأنظمة بما توافر لهم من مؤسسات ومساعدات ارتبطت بالهيئات الدينية. وكانوا على تواصل مع دول الخليج التي موّلت حركة «القاعدة» بداية ثم استمرت في تمويل حركاتهم ومنظماتهم. وقد أجروا حوارات مع دول الغرب وقدموا مشروعهم على أنه البديل الشعبي من الأنظمة السياسية الفاقدة للشرعية، خصوصاً في مرحلة الانكفاء الأميركي والفوضى التي سيطرت على المنطقة.
تضافرت عدة عناصر لتكوين حركة بحجم «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام) التي تفرّعت وشقيقتها «النصرة» من بلاد الشام للعراق.
في الجانب السياسي
فشل حكومة المالكي في إقامة حكومة وطنية وجيش وطني لا طائفي متوازنٍ فضلاً عن سلوكه المذهبي وتخلّيه عن دور العشائر السنية.
حاجة الأميركيين وحلفائهم من تركيا إلى دول الخليج لإيجاد توازن ميداني بعد الإنجازات المتواصلة للنظام السوري المدعوم بميليشيات إيرانية عراقية ولبنانية.
حاجة الأميركيين إلى الضغط ميدانياً واقتصادياً وسياسياً على إيران على أبواب اقتراب انتهاء مهلة التفاوض حول الملف النووي الإيراني.
حاجة تركيا بشكل خاص للعودة إلى دور خاص بها تراجع مع فشل سياستها في سورية ورغبتها في خلق حزام أمني متعاون ومحاصرة الأكراد.
هكذا تم الإفراج عن شتات «القاعدة» وتقديم التسهيلات لهم في تجميع صفوفهم من عدة بلدان لكي يمثلوا الحركة الضاغطة، وإنشاء وقائع ميدانية جديدة.
لذلك لم تكن حركة «داعش» مجرد حركة «فدائية» تقوم بمهمة حرب العصابات، بل هي تنظيم تم إعداده وتجهيزه في نوع من مساعدة استخباراتية واسعة لكي يسيطر على الأرض ويتوسع فيها ويمارس حرباً تقليدية ولو كانت ميليشيوية وقد حصلت على أنواع متقدمة من السلاح فضلاً عن الموارد.
في حصيلة حركة «داعش» وممارستها نوع من «إدارة التوحش» ومن الإرهاب المنظم الذي نجح في بسط سلطته ونفوذه على أراضٍ واسعة في مدى زمني قصير.
حققت «داعش» لأفكارها ولحلفائها جزءاً مهماً من المهام والوظائف. وكان عليها أن تقدم الصورة التي قدمتها عن الإسلام وحكم الخلافة تبريراً لهذا الدور. لكنها بذلك تجاوزت حدوداً ومصالح لحلفائها في الوقت نفسه الذي أعطتهم فيه وقائع جديدة للتفاوض. هي حركة ترهب الغرب والخليجيين لكنها تقدّم لهم مادة مهمة لكي يواجهوا التوسع الإيراني من جهة، ولكي يصبح دورهم مطلوباً من جديد على نحو ما ظهرت فيه حركة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب و«داعش» تخصيصاً. وبقطع النظر عن نية الأميركيين العودة بقواهم البرية إلى المنطقة، فقد استطاعوا أن يعززوا وجودهم في العراق وأن ينشئوا قواعد عسكرية في كردستان. كذلك استفاد الخليجيون من تعديل التوازن في العراق حيث رد عليهم الإيرانيون بواسطة حركة الحوثيين في اليمن.
لن تنتهي آثار هذه العاصفة الهوجاء التي تضرب العالم العربي في مدى زمني قصير، ربما تدوم لسنوات ولعقود. قد لا تتشكل دولة بالمعنى المتعارف عليه تتمتع بالثبات والاستقرار، لكن سلطات هذه الجماعات ستظهر هنا وهناك من الدول. المناعة الأمنية على أهميتها ليست كافية لإزالة هذا النوع من الحركات التي يمكن أن تعود إلى ممارسة العمل السري. لكن الاختراق الأمني ليس الخطر الوحيد أمام «الحالة الوبائية» التي نشرتها هذه الحركات في استقطابها لفئات واسعة من هذا الجيل العربي الشاب باتجاه هذا النوع من التديّن الممزوج بإلغاء الآخر والعنف. فالمؤسسات الدينية تلعب دوراً متزايداً في التربية والتعليم كما في مؤسسات الدعوة والتوجيه. والمؤسسات الرسمية هي الأخرى تخضع في كثير من الأحيان لهذه الوطأة الدينية أو إنها لا تتوافر على برامج مدنية وعلمية سليمة. وها نحن الآن أمام طوفان من الإعلام الخاص ووسائل التواصل الاجتماعي التي تضاعف ملايين المرّات القدرة على التأثير في الرأي العام. أما العناصر الاقتصادية فمن الصعب توافرها لخطط تنمية بشرية بل قد تتوافر لتقوية اقتصادات استهلاكية تزيد المشكلات والأزمات والارتهانات المرتبطة بالليبرالية الجديدة.
لا ندري كم من المليارات ستنفق على معركة مكافحة الإرهاب، وخصوصاً في سوق السلاح، وما هي كلفة الأمن وكم سيستغل لكي يشكل قيداً على الحريات وتبريراً للانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان. إننا أمام مرحلة جديدة نجد فيها التنافس على تفسير الإسلام وتأويله أقوى بكثير من العمل الجاري للفصل بين المسائل الإيمانية الدينية ومسائل الاجتماع السياسي البشري. بل إننا قد نكون أمام طوائف تتشكل في دول وتصبح كيانات فاقدة لمقومات الحياة، بينما تتولى الدول الاستعمارية والدول النافذة اقتسام خيرات العرب وثرواتهم.
إذا كانت الثورات العربية قد صارت ضحية معوقات ذاتية وموضوعية داخلية وخارجية ولم تنجز التحوّل الديمقراطي المطلوب، فهي تأخذ جزءاً من شرعيتها من سلوك القوى المضادة، وسيكون أمام الشعوب العربية شرعيات أكبر لمواجهة تحديات إعادة بناء ما تهدم مادياً ومعنوياً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.