العدد ٢٢ - ٢٠١٩

بـدايـــات فـي «فـَرْنـجـة الـتـسـطـيـر»

كيف واكب الشدياق انتقال الكتاب من النخبة إلى العامّة

النسخة الورقية

«اعلم أيّها الواقف على هذا المجموع، الناقده بعين منصفٍ متروٍّ غير زموع، أنّا اصطلحنا لفواصل جمله على هذه العلامات، جرياً على ما يستعمله الإفرنج في كتبهم من الإشارات».

بهذه الكلمات عرّف فارس الشدياق قرّاء كتابه «اللفيف في كلّ معنى طريف» على المصطلحات التي عزم على استخدامها في منشوراته، ثمّ أتبع ذلك بتعريفٍ لها. كان ذلك سنة ١٨٣٩، في مالطا حيث كان لاجئاً يعمل في مطبعة الجمعيّة التبشيريّة الكنسيّة الإنكليزيّة.

 

الفارياق

في تلك الفترة، والطباعة العربيّة ما تزال في أوّل عهدها، كانت الكتب المطبوعة تشبه إلى حدّ كبير، في إخراجها، المخطوطات العربيّة: كلمات متقاربة متلاصقة، جملٌ متواترة لا تُعين القارئَ فيها فاصلةٌ ولا نقطةٌ ولا فقرات، هوامش مثقلة إلى اليمين وإلى اليسار، في الأعلى والأسفل. صفحة من الأحرف المتتالية لا يفطِن لها معنى إلّا من كان فقيهاً مطّلعاً. فكانت الخطوة التي قام بها الشدياق عندما طبّق أساليب التسطير الإفرنجيّة في كتبه خطوةً رائدة، وإن كانت فاشلة.

فمن هو الشدياق وما هو دوره في تحديث الطباعة العربيّة، وكيف تأثّر عمله في هذا المجال بشخصيّته وبمسار حياته؟ وما هي بدايات «فرنجة التسطير» هذه - كما سمّاها المؤرّخ يوسف إبراهيم يزبك - عربيّاً، ولماذا اعتبرها المؤرّخون محاولةً فاشلة؟

ولد فارس الشدياق «سنة 1801 في حارة الحدث بالقرب من بيروت»، وكان أصل والده من حصرون في شمال البلاد. ترعرع بين الكتب، وكان أغلبها في ذلك الحين مخطوطات، حيث إنّ أباه «كان قد أحرز كتباً عديدة في فنونٍ مختلفة»، كما يؤكّد في كتابه «الساق على الساق في ما هو الفارياق». في هذا البيت، عرف الكتابة والقراءة كأسلوب حياة وكحرفة يعتاش منها العديد، معلّمون أو رجال دين أو نسّاخ. ولأنّ والديه لم يكن «في طاقتهما أن يبعثاه إلى الكوفة أو البصرة لتعلّم العربيّة»، ذهب إلى الكتّاب في قريته، فدرس في الزبور الّذي لم يعرف المعلّمون المسيحيّون حينها غيره كتاباً. بعد أن أتمّه، أخرجه أبوه من الكتّاب لـ«يشغله بنسخ الكتب في البيت،... فلبث على هذه الحالة مدّة طويلة فاستفاد منها ما أمكن لمثله أن يستفيد من تجويد الخطّ وحفظ بعض الألفاظ... إلّا أنّه لم يكن قرير العين بهذه الحرفة. إذ كان يعتقد أنّ الرزق الذي يأتي من شقٍّ كشقّ القلم لا يكون إلّا ضيّقاً». خلال عمله في نسخ الكتب، كان له رأي في كلّ ما يتعلّق بتقنيّات الخطّ والنسخ وأدواته، وبعمليّة النسخ بحدّ ذاتها، حيث كان ينتقد الكتبة الّذين يحوّرون النصّ عن طريق «التصحيف والتحريف» خلال نقلهم له، وكان غالباً ما يحاول تقليد الخطوط الجميلة فيتمرّن بذلك على خلق نمطٍ خاصٍّ به في الكتابة.

ومن ميّزات الشدياق أنّه كان جريئاً، متمرّداً على مجتمعه متحرّراً من قيودٍ لطالما هزأ منها. وكان توّاقاً إلى التغيير والتطوير والتطوّر، فيقول عن نفسه أنّه كان «يحاكي في الزيّ والأطوار والكلام من كان متميّزاً في عصره بالفضل والدراية». ويضيف أنّه بينما كان «رأسه ورجلاه في البيت كان فكره يصعّد في الجبال، ويرتقي التلال، ويتسوّر الجدران...».

طبعه وخُلقه وثقافته حثّوه على التفاعل الحادّ في كثيرٍ من الأحيان مع مجريات الأحداث في محيطه المباشر. فبينما كانت الكنيسة المارونيّة تهدّد حياة أخيه أسعد بسبب اعتناقه البروتستانتيّة، إذا به يحذو حذوَ أخيه ويلتحق بديانة المرسلين الأميركيّين. بات من الضروريّ عندها أن يبعد عن المخاطر التي أودتْ لاحقاً بحياة أسعد، الذي مات في معتقله في وادي قنّوبين. فركب فارس، بمعاونة القسّيسين الإنجيليّين، باخرةً أقلّته إلى الإسكندريّة حيث بقي مدّةً قبل أن ينتقل إلى مالطا.

 

عمله في مطبعة الإنكليز

خلال السنوات التالية، تنقّل الشدياق بين مصر حيث كان يقرأ وينسخ ويشدرس ويدرس، ومالطا حيث كان يعمل في المطبعة الإنكليزيّة، ويكتب ويترجم ويدرّس. هناك، في مالطا، تعمّق في معرفة اللغة الإنكليزيّة وصار يعرّب منها ويأخذ عنها أنماطاً ومعايير في تحديث الشكل والمضمون وتسهيل تعميمهما للجُموع. وقد كان، في نقله للنصوص الأجنبيّة العصريّة، ينحتُ مفرداتٍ عربيّة جديدةً يعكس من خلالها حضارةً لم تكن بعد قد وصلت إلى العالم العربيّ. فشكّلت بذلك الكتب التي أصدرها بنفسه أو شارك بإصدارها نقطة مفصليّة في تطوير النثر العربيّ.

كانت سياسة الجمعيّة التبشيريّة الكنسيّة الإنكليزيّة، حيث كان فارس الشدياق موظّفاً يعمل في الكتابة والطباعة، تعميمَ الرسالة الإنجيليّة بين المسيحيّين العرب عن طريق نشر نصوصٍ سهلة التناول باللغة العربيّة. لذا كانوا بأشدّ الحاجة لمترجمٍ متقنٍ للّغة الإنكليزيّة، تكون العربيّة لغته الأمّوتكون الدقّة والأمانة متأصّلتين في أسلوبه. خلال عمله مع الإنكليز، تعلّم الشدياق فنّ إنتاج الكتاب، مضموناً وأسلوباً وتحقيقاً وإخراجاً وطباعة. فأبدى في كتابات عديدة شديد إعجابه بالصناعة الإنكليزيّة وفنونها، وبالحرَفيّة الأوروبّيّة بصورة عامّة. كما تأثّر جدّاً بمدارسهم وأساليبهم التعليميّة وكتبهم المدرسيّة. يقول مثلاً، في معرض حديثه عن المعارف في إنكلترا: «إنّ المكاتب العموميّة يُصرف عليها من كيس الجمهور لتهذيب الفقراء ذكوراً وإناثاً»، ثمّ يضيف: «يصعُب عليّ أنّ حال الشرق بخلاف ذلك».

هذه النظرة المتطوّرة للنصّ المكتوب والمطبوع، وهذا التوجّه بالقراءة والمعرفة إلى العامّة، كانا ذوَي تأثيرٍ عميقٍ في فكر الشدياق وعمله. فهو في بداية علاقته بالكتابة، كواضعِ نصوصٍ أو كمترجمٍ، «كان مغرماً بالصياغات والاستخدامات اللغويّة القديمة وبالتعبيرات الغامضة»، فتميّز بأسلوبٍ أدبيٍّرفيعٍ، فيه من الجودة والابتكار والتجديد ما جعل الإنكليز يتحمّسون لمشاركته الفعّالة بتعريب الكتاب المقدّس.

bid22_noon_wal_kalam_hala_bizri_photo1_rgb.jpg


من كتاب الشدياق، «اللفيف في كل معنى طريف»، طبعة 1839، ص 4 - 5

إلّا أنّه استطاع أن يطوّع قلمه كلّما احتاج إلى ذلك ليصل إلى القارئ المبتدئ الجديد، بأسلوبٍ مباشرٍ بعيدٍ عن التكلّف والنخبويّة. نرى ذلك في كتبه التعليميّة التربويّة بوجهٍ خاصّ، حيث ساهم في ابتكار وتطوير لغةٍ سهلة مبسّطة بجملٍ قصيرة يوصل من خلالها المعنى والمعرفة للعامّة.

 

بدايات علامات الوقف

خلال عمله في مطبعة مالطا، صمّم الشدياق حروفاً عربيّة جديدة، تجمع إلى جماليّة الحرف العربيّ مقروئيّةً تجعل النصّ المطبوع سهل التناول نسبيّاًلمن لا خبرة طويلة له بالقراءة. كما أنّه عمل على تصميم الصفحة المطبوعة بشكلٍ عصريّ يضيف إلى الجمال وضوحاً كبيراً، جاعلاً فراغاً كافياً بين الكلمات ليظهر كلّ كلمة على حدة ومضيفاً هوامش عريضة تريح عين القارئ. وكان كتابه المذكور آنفاً، «اللفيف في كلّ معنى طريف»، هو أوّل إنتاجٍمطبوعٍ عربيّ معروفٌ اليوم يدخل في صفّه عددٌ من علامات الوقف المستخدمة في المطبوعات الأوروبّيّة منذ بداية عهد غوتنبرغ. فـ«اللفيف»، وهو كما يعرّفه الشدياق كتابٌ «لتعليم القراءة في المكاتب وتمرين الخواطر في المراتب»، يتضمّن مقدّمةً من خمس صفحاتٍ يوضح فيها المؤلّف، بعد أن يشكر ربّه ويعرّف عن نفسه، رغبتَه بجعل «مجاورة [اللغة العربيّة] لما سواها من اللغات الإفرنجيّة المتداولة هنا [في مالطا]، من قبيل الازدواج لا الاتّباع». أمّا كيف يتمّ له رفع شأن لغته بهذه الصورة، فيكون ذلك بوضع كتابٍ «يصغر قِدره، ويكبر قَدره، وتقلّ صحائفه وتكثر لطائفه». يعرّف بعد ذلك عن علامات الوقف هذه دون ذكر أسمائها، فلا يقول «فاصلة» مثلاً، إنّما يرسم شكلها، هكذا «،»، ويُلحِق الرسم بشرح ماهيّة استعمالها.

يذكر في مقدّمة «اللفيف» إذاً سبع إشاراتٍ تغني «عن ارتكابِ كثيرٍ من طرق التأويل» شارحاً دور كلٍّ منها، وهي بالترتيب: الفاصلة والشرطة والنقطتين والتعجّب والاستفهام والمزدوجتان والنقطة. ثمّ ينتقل بعد المقدّمة مباشرةً إلى التعريف بـ«الألفاظ المختصرة التي اصطلحت عليها العلماء»، مضيفاً إليها «مختصر أسماء الشهور» العربيّة. يلي ذلك ما يقارب المئة وأربعين صفحة (من أصل ٣٠٠ صفحة تقريباً) فيها تعريفٌ بالأبجديّة وبكلماتٍ وأفعالٍ عربيّة مقسّمة بحسب تفعيلتها، وجملةً من الطرَف والأمثال القصيرة والتركيبات المعجميّة، مبوّبةً بحسب موضوعها. في هذه الصفحات، لم يطبّق الشدياق ما وعد به من علامات وقفٍ إفرنجيّة بل اكتفى بشكل الشمسة (هكذا «») المتعارف عليها في المخطوطات، بالإضافة إلى الدائرة المنقوطة في آخر الفقرة (وهي عبارةٌ عن شكل قلبٍ ترويسته إلى الأعلى تتوسّطه نقطة).

ثمّ ينتقل، عند الصفحة ١٤٩، إلى النصوص النثريّة، مبتدئاً بفصل «الخرافات»، وفيه قصصٌ قصيرة لكلٍّ منها عنوان. من هنا يبدأ الشدياق بتنفيذ وعده باستخدام علامات الوقف التي قدّمها لقرّائه. في القصّة الأولى، «النسور والأرانب»، يستخدم علامتين هما الفاصلة «للجملة التي يحسن الوقوف عليها» والنقطتان «بعد قال وما اشتقّ منها». إلّا أنّه لا يُلحق النقطتين بالمزدوجتين، تبعاً لما هو معترفٌ به في اللغات الأجنبيّة، مع أنّه في تعريفه لكيفيّة استعمالهما يقول في المقدّمة: «وعلامة «-» للجملة التي وردتْ على سبيل الاستعانة والاقتباس». فنحن لا نراه يستخدمهما في هذا الكتاب إلّا فيما ندر، كأن يحيط بهما كلمات دخيلة مثل «شولم شولم»، وهي رُقية، عند الصفحة ١٩١.

في الصفحات التالية يُدخل القوسيَن، ثمّ الشرطة وعلامة الاستفهام - وهي ما تزال بوضعيّتها الأجنبيّة، أي فتحتها يساراً - إلى آخره. ثمّ يُضيف هامشاً عند الصفحة ٢١٨ (للتعريف باسم حيوانٍ)، فيلفت إليه بإشارة الشمسة ذاتها، ويجعل الهامش في كعب الصفحة تحت سطر كما كان معتاداً في المطبوعات الأوروبّيّة حينها، وهو الشكل المعتمد حتّى اليوم في الكتب العربيّة أيضاً.

كما أنّه يعطي في هذا الكتاب اهتماماً كبيراً لإخراج الصفحة بشكلٍ عامّ، فيبدو شكلها مريحاً للنظر بفضل الهوامش العريضة والبنط الكبير نسبيّاًوالمباعدة بين الكلمات والعودة إلى سطرٍ جديد مع كلّ فقرة. الهدف من هذا المجهود الكبير الذي بذله في إعداد كتابه واضحٌ للعيان، وهو المقروئيّة القصوى وتجنّب أيّ إمكانيّةٍ للالتباس أثناء القراءة.

 

إسقاط علامات الوقف

كان ذلك التحديث، إذاً، عام ١٨٣٩. بعد سنواتِ عملٍ في مالطا، وسَفَرٍ إلى مصر وفرنسا وإنكلترا وتونس وغيرها، استقرّ الشدياق في أستانة حيث أنشأ مطبعته وجريدته «الجوائب». سنة ١٨٨٢ أعاد إصدار الكتاب ذاته، «اللفيف في كلّ معنى طريف»، إنمّا بحلّةٍ جديدة. تظهر الاختلافات بين الطبعتين من الصفحة الأولى: الافتتاحُ «بسم الله الرحمن الرحيم»، بعدما كان في الطبعة الأولى «بسم الله المبدي المعيد»، ثمّ حمدٌ لله وصلاةٌ على نبيّالمسلمين. فالشدياق حينها كان قد انتقل إلى الإسلام بعدما خبِر كلّاً من المارونيّة والبروتستانتيّة والكاثوليكيّة. إلّا أنّ ذلك كان أقلّ التبديل. فهو بعدما استعاد الصفحات الأولى من نصّ مقدّمة طبعة مالطا، معدّلاً فيها أشياء بسيطة لا تتعدّى التصحيحات اللازمة، توقّف عند الصفحة الرابعة ناهياً كلامه، مقتطعاً بذلك التعريف بعلامات الوقف وحتّى ذِكر موضوعها من أصله. وبدل استخدام الفاصلة والمزدوجتين وغيرها في النصّ، اكتفى بالشمسة لمعنى النقطة وبالفاصلة، وبالقوسين المزهّرين في بعض الأحيان، وألغى كلّ ما عدا ذلك من نقطتين وعلامة تعجّب أو استفهام أو غيره. هذا دون أن يأتي بكلمةٍ توضح سبب تعديله الأساسيّ في سياسة عملٍ كان قد وعد بالالتزام بها قبل أكثر من أربعين سنة. وأضاف، علاوةً على ذلك، علامةً جديدة في الفصل المسمّى «نوادر وحكايات» (وهو فصلٌ مضافٌ لم يكن موجوداً في طبعة ١٨٣٩): هي شرطة تأتي فوق كلمةٍ أو كلمتين لتدلّ على بدء جملةٍ أو فكرةٍ جديدة، وتأتي تحتها الشمسة لتأكيد المعنى المقصود. فيبدو بذلك الكتاب للقارئ أشبه بالمخطوطات العربيّة التقليديّة، خاصّة أنّه استخدم أيضاًالتعقيبة، وهي لم تكن موجودة في الطبعة الأولى. لكنّه بالرغم من هذه التبديلات المهمّة، حافظ في الطبعة الثانية على الفقرات وعلى المباعدة بين الكلمات، فبقيت الصفحة مريحةً للنظر، يسهل على القارئ أن يجد فيها بداية الجملة ونهايتها.

بين كتابَي «اللفيف» كتبٌ عديدة أشرف الشدياق على نشرها أو هي كانت من وضعه، في مالطا ولاحقاً على مطبعته «الجوائب». في هذه الكتب نلاحظ كم أنّه لم يستقرّ على مخطّطه باستخدام علامات الوقف كما كان قد صمّم عليه، بل اختزله، وأحياناً استبدل أجزاءً منه وأتى بغيرها، وكأنّه يقوم بتجارب طباعيّة.

سنة ١٨٤٠ نشر على مطبعة مالطا «كتاب المحاورة الأنسيّة»، واستخدم فيه الفاصلة، وأحياناً القوسين، بالإضافة إلى الشمسة في موضع النقطة. أمّا باقي علامات الوقف فأُسقِطت، باستثناء بعض علامات التنصيص النادرة التي تبدو وكأنّها أتت صدفةً (في الصفحة ١١ مثلاً).

وفي الطبعة الأولى من «كتاب الرحلة الموسومة بالواسطة إلى معرفة أحوال مالطة»، الصادر في تونس سنة ١٢٨٣ [١٨٦٦م]، أي بعد سنوات عديدة وخبرة اكتسبها في شتّى المجالات، خاصّةً المجالات المرتبطة بالكتابة والطباعة، إذا به يستبدل الفاصلة ويضع الشمسة مجدّداً، وفي بعض الصفحات يستبدلها عشوائيّاً ويأتي بالنقطة (كما نعرفها اليوم) ولكن في موضع الفاصلة، وكأنّه لم يعد يأبه للفرق بينهما. ثمّ لا تلبث الشمسة - الفاصلة أن تضؤل في النصّ وتأخذ مكانها النقطة.

في هذا الكتاب، استغنى الشدياق أيضاً عن الفقرات والمسافات بين الكلمات والهوامش العريضة. فشكلُ الصفحة عاد إلى سابق عهده قبل «اللفيف» الأوّل، مكتنزاً أفقيّاً وعموديّاً، وإن أتى ذلك بصورةٍ مقبولة نسبيّاً تسمح بقراءة النصّ من دون عناءٍ يُذكر. أمّا في كتاب «الجاسوس على القاموس»، الذي صدر في مطبعته «الجوائب» سنة ١٢٩٩هـ [١٨٨١م]، فهو لم يحافظ إلّا على القليل القليل ممّا كان قد أزمع عليه، كالمباعدة بين الكلمات والفصل بين الأفكار، مستخدماً لذلك شكلَ المعيّنٍ.

وهكذا، دون شرحٍ أو تبرير، أُسقطت من أعماله اللاحقة معظم علامات الوقف التي كان الشدياق قد عمل على إعدادها في خلال إقامته في مالطا.

 

أسباب فشل الاستخدام الأوّل لعلامات الوقف بالعربيّة

لماذا، بعدما أطلق بفخرٍ وحماسة مشروعه لاستخدام الإشارات الخطّيّة الأجنبيّة الموضّحة للكلام المطبوع، والتي كان يرغب بشدّةٍ في إدخالها إلى عالم النشر العربيّ، تراجع أحمد فارس الشدياق وكأنّه فشل؟ وهل فشل بنظر نفسه، على الرّغم من قناعته بوجوب تطوير وتحرير شكل الصفحة العربيّة لجعلها في متناول أكبر عدد ممكنٍ من القرّاء، وهو الشكل الذي بات من البديهيّات اليوم بعد مئة وثمانين سنة على استخدامه الأوّل بالعربيّة، عند الكتابة والطباعة في كافّة أنحاء العالم العربيّ، ولو بنسَبٍ وأساليبَ ونتائج متفاوتة؟ أم أنّه امتنع عن الاستمرار في مشروعه بسبب رفض قرّائه له؟

bid22_noon_wal_kalam_hala_bizri_photo2_rgb.jpg


‮«‬فرنجة‭ ‬التسطير‮»‬‭ ‬كما‭ ‬شرحها‭ ‬يزبك‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬شباط‭ ‬1 9 5 5‭ ‬من‭ ‬مجلّته‭ ‬‮«‬أوراق‭ ‬لبنانيّة‮»‬

bid22_noon_wal_kalam_hala_bizri_photo3_rgb.jpg


علامات الوقف في كتاب «ماية حكاية قصيرة للأولاد»، المكتبة العموميّة في بيروت، 1903

قد يكون الجواب على هذا التساؤل في جملةٍ وضعها الشدياق في معرض حديثه عن تقدّم الإنكليز على العرب، حيث يقول: «الحقّ أنّا قد أهملنا العلوم في هذه الأيّام إهمالاً يُحزَن له وفقدنا كثيراً الفنون، والذي بقيَ منها إنّما هو عند بعض أفرادٍ قليلين يحسبون انتشارها للنّاس لا يجديهم نفعاً». هو إذاً، وإن لم يعتبر نفسه قد فشل في جعل الكتابة العربيّة تتقبّل بسلاسةٍ وجماليّةٍ شكلاً مفيداً ولو غير مألوفٍ، إلّا أنّه في كلامه هذا عبّر عن تأسّفه للرفض الذي جوبهت به والذي جعله يتخلّى عنها. والسبب، كما يقول، أنّ النخبة المثقّفة لم تتقبّل أن تبسَّط الكتابة بشكلٍ يجعلها مقروءة. بل هي على الأرجح سخرت وهزأت من كتابٍ تعليميٍّ صادرٍ، على يد نصرانيٍّ متقلّبٍ، في مطبعةٍ إفرنجيّةٍ، احتاج طابعوه أن يوضحوا إيقاعاته بإشاراتٍ لولاها لما عرفوا كيفيّة قراءته. هذا بالإضافة إلى مخاوفَ، كان قد عاشها مثقَّفو الغرب أيضاً في بدايات الطباعة، من أن يصبح الكتاب بمتناول العامّة فتتضاءل وتتلاشى امتيازات الخاصّة المادّيّة والمعنويّة.

وقد يكون لتحفّظ القرّاء العرب عند الاطّلاع على تحديثات الشدياق سبباً مختلفاً له علاقة مباشرة بتركيبة اللغة العربيّة. فالوقف في اللغة العربيّة إنّما هو موسيقيٌّ شفويّ، مرتبطٌ بلحن الكلام أكثر منه بمعناه. قد نقرأ في القرآن الكريم آيةً فُصل فيها الفعل عن الفاعل بإشارةٍ قد توحي للقارئ أنّ الجملة أو الفكرة قد تمّت، بينما في الواقع المعنى لم يتمّ بل تستكمله الآية التالية، بينما أتت إشارة الوقف لتوضح للقارئ أنّ عليه، أو بإمكانه، الاستراحة خلال التلاوة. لذا بدتْ علامات الوقف المستحدَثة دخيلةً شكلاً ومضموناً على اللغة العربيّة. فاحتاج القرّاء العرب إلى منشوراتٍ عديدةٍ وسنين طويلةٍ من مطالعةِ الكتب المطبوعة بطرقٍ عصريّةٍ لتقبّلها والاعتياد عليها.

 

الوقف ما بعد الشدياق

استمرّت مطبعة مالطا، وكذلك معظم المطابع العربيّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة، بإنتاج الكتب العربيّة المطبوعة بأساليب تختلف يوماً بعد يومٍ عن الأساليب المتداوَلة في المخطوطات العربيّة، وتبعد عنها رويداً رويداً. إلّا أنّ علامات الوقف بقيت خجولةً نادرةً خلال القرن التاسع عشر.

ظلّ الوضع على حاله في مطلع القرن العشرين، على الرّغم من معرفة المثقّفين العرب بعلامات الوقف عبر اطّلاعهم على المطبوعات الأجنبيّة. ففي عام ١٩٠٣ على سبيل المثال، أصدرت المكتبة العموميّة في بيروت كتاب «ماية حكاية قصيرة للأولاد»، وهو من تعريب صاحب المكتبة وابن مؤسّسها سليم إبراهيم صادر. في هذا الكتاب التعليميّ باللغتين العربيّة والفرنسيّة الموجّه للصغار، يفاجأ القارئ بأنّ المجهود الذي قام به الناشر اللبنانيّ لإدخال علامات الوقف المألوفة في الغرب إلى النصّ الفرنسيّ، من نقطة وفاصلة وشرطة وعلامة سؤال وغيرها، إنّما هو مجهودٌ موجّهٌ للقسم الفرنسيّ فقط من الكتاب. أمّا الصفحة المقابلة للصفحة الفرنسيّة، وفيها الترجمة العربيّة، فهي خالية تماماً من كافّة علامات الوقف المدوّنة بالفرنسيّة، إلّا من المساحات البيضاء ومن العودة إلى سطرٍ جديدٍ عند اللزوم. قد يعود السبب في هذا الفرق إلى قناعة الناشر بأنّ القارئ العربيّ سيدرك المعنى دون حاجةٍ إلى معونة. وقد يعود إلى خوفه من سخرية القرّاء العرب عند رؤيتهم لإشاراتٍ تبدو بديهيّةً بالنسبة إليهم، خاصّةً وأنّ على القارئ العربيّمواجهة صعوبةٍ أكبر عند المطالعة، وهي التحريك الغائب غياباً شبه كليٍّ عن مطبوعات تلك الفترة.

من جهةٍ أخرى، كانت المطبعة الكاثوليكيّة التابعة للكلّيّة اليسوعيّة في بيروت متأثّرةً بأساليب الطباعة الغربيّة، إذ كان القيّمون على أعمالها على علاقةٍ وطيدةٍ، دينيّاً وثقافيّاً، بالحضارة الفرنسيّة وسياستها ولغتها. وكانت علامات الوقف تُستخدم أحياناً كثيرة في مطبوعاتها في بداية القرن العشرين. فنرى على سبيل المثال، في كتابٍ صدر سنة ١٩١٢، تحت عنوان «تفنيد التزوير»، أنّ علامات التعجّب والقوسين والمزدوجتين كانت مستخدَمة في مكانها وبمعناها، كذلك الأمر بالنسبة إلى القطْع بين الفقرات، ما عدا الفاصلة والنقطة التي لم تكن حتّى تختم المقطع.

وفي السنة ذاتها، ١٩١٢، أصدر أحمد زكي باشا عن المطبعة الأميريّة في القاهرة رسالةً عنوانها «الترقيم وعلاماته في اللغة العربيّة»، شارحاً فيها استخدام تلك العلامات مع الأمثلة، بالإضافة إلى مقدّمة عن أصل علامات الوقف (وهي ما سمّاه «الترقيم» في رسالته) في الغرب ووضْعها في العالم العربيّ. وكان لهذه الرسالة، المدعومة من وزير المعارف في مصر أحمد حشمت باشا، الأثرُ الأكبر في المطابع وعند الأدباء العرب، فباتت المرجعَالأساسيّ لكلّ من أراد استخدام علامات الوقف في كتبه المخطوطة أو المطبوعة، واعتبرها الكثيرون بداية عهد العرب بهذه الحداثة. فباتت سنة ١٩١٢ تاريخ أوّل استخدامٍ لعلامات الوقف في الطباعة العربيّة. وانطمست جهود الشدياق ووقعت مبادرةُ هذا العلّامة «اللامنتمي، أو قل متضارب الانتماءات» طيّ النسيان. فكتابات الشدياق «مجهّلة أكثر ممّا هي مجهولة، وقعت ضحيّة التعتيم والرقابة والمنع، وحتّى التحريم»، دون أن تجد معهداًإنجيليّاً أو بطركيّةً مارونيّةً أو أزهر سنّيّاً ينصفها.

سنة ١٩٥٥، أي بعد أكثر من مئة عامٍ على أوّل محاولةٍ لإدخال علامات الوقف إلى النصوص العربيّة، كتب المؤرّخ يوسف إبراهيم يزبك مقدّمةً لمقالةٍتتضمّن رسالةً موجّهةً إلى الأمير بشير الثاني أراد أن ينشرها في العدد الأوّل من مجلّته «أوراق لبنانيّة». قال: «وهو ذا الكتاب التاريخيّ، ننشره بحروفه، «على علّاته»، بعد أن فَرْنَجْنا تَسْطِيرَه، ووضعنا بين قوسين مثلّثين كلّ كلمة مبهمة صعبتْ علينا قراءتُها فرجّحنا صحّتها». وفي العدد الثاني كتب شارحاً مقصده من عبارة «فرنجنا التّسطير»، ردّاً على سؤالِ قرّائه:

«كان الكتبة والنسّاخ في لبنان، وفي جميع العالم العربيّ، يخطّون كتاباتهم حتّى أواخر القرن التاسع عشر بالأسلوب القديم، أي إنّهم يُتبعون السطور بعضها ببعضٍ، لا يفصلون بين جملها، ولا يقطعون السطر عند اكتمال الفكرة، ولا يبدأون الموضوع الجديد في فقرةٍ مستقلّة. فكانت الرسالة أو المقالة تبدأ في أوّل الصفحة، وعباراتها ومواضيعها تتواصل بلا فصلٍ، ولا وقفٍ، ولا قطع، حتّى تنتهي الصفحة. ثمّ تبدأ صفحة جديدة وتنتهي كأختها، والجمل فيها متتابعة... وهكذا دواليك! ولم يكن عندهم للاستفهام أو التعجّب أو التفسير أيّة علامة، فكان على القارئ أن يجهد ذهنه حتّى يتفهّم المعاني في تتابع السطور. ولمّا انتشرت المدارس الأجنبيّة في لبنان، تعلّم تلاميذها قواعد «التنقيط» وأصوله المتّبعة في التسطير الفرنجيّ وصاروا «ينقّطون» ويسطّرون على غرار الفرنجة. وقولنا: إنّنا فرنجنا تسطير هذه الرسالة، يعني أنّنا فصلنا بين جملها، وقطّعنا أسطرها عند انتهاء الفكرة، إلخ... ولا مُشاحة في أنّ هذا الأسلوب يسهّل القراءة» .


الهوامش

1 راجع مقالة جوفري روبر «فارس الشدياق والانتقال من ثقافة النسخ

إلى ثقافة الطباعة في الشرق الأوسط» في عالم المعرفة، رقم 297،

أكتوبر 2003، ص 189 - 209

2 عماد الصلح، أحمد فارس الشدياق، آثاره وعصره، بيروت، دار النهار، 1980، الصفحتان 23 - 24. يرجع الصلح إلى رسالتين للشدياق يحدّد

من خلالهما تاريخ ميلاده مؤكّداً: «لا مجال للتخريج والتعليل، فقول

الشدياق نفسه وتكراراً كان فصل الخطاب»

3 فارس الشدياق، كتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق، باريس، 1855، ص 22

4 الساق على الساق...، ص 14

5 الساق على الساق...، ص 17

6 روبر، المرجع السابق، ص 192

7 روبر، المرجع السابق، الصفحتان 191 و192

8 الساق على الساق...، ص 18

9 الساق على الساق...، ص 41

10 الصلح، المرجع السابق، ص 29

11 تقول مثلًا رضوى عاشور في كتابها الحداثة الممكنة، القاهرة، دار الشروق، 2012، ص 12: «تدين له اللغة العربيّة الحديثة بمصطلحات عديدة

وضعها واستخدمها فشاعت بين الناس، منها: الاشتراكيّة والجامعة

ومجلس الشورى والانتخاب والجريدة والباخرة والمستشفى والصيدليّة والمصنع والمعمل والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد والملاكمة والممثّل والسكّة الحديد وغيرها». لمزيد من الشرح راجع الصلح،

ص 158 - 164

12 ج. ب. بادجر وفارس الشدياق، كتاب المحاورة الأنسيّة في اللغتين الإنكليزيّة والعربيّة، مالطة، 1840، ص 104

13 روبر، المرجع السابق، ص 201

14 روبر، المرجع السابق، ص 201

15 فارس الشدياق، اللفيف في كلّ معنى طريف، مالطه، 1839، من صفحة العنوان

16 اللفيف، 1839، ص 2

17 اللفيف، 1839، ص 5

18 اللفيف، 1839، ص 6

19 اللفيف، 1839، الصفحتان 4 و5

20 اللفيف، 1839، ص 5

21 إنّ تحليل فكر الشدياق وأعماله يتطلّب الكثير من الدراسات، ويتطلّب بالدرجة الأولى عملا تحليليّاً دؤوباً على جريدته «الجوائب»، قبل البتّ بأسبابه ومعوّقاته ومبرّراته

22 المحاورة الأنسيّة...، ص 103

23 ماية حكاية قصيرة للأولاد، ترجمة سليم صادر، المكتبة العموميّة، بيروت، 1903

24 تفنيد التزوير، لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1912

25 الترقيم وعلاماته في اللغة العربيّة، أحمد زكي باشا، القاهرة، المطبعة الأميريّة بمصر، 1912

26 أحمد فارس الشدياق، فواز طرابلسي وعزيز العظمة، بيروت، رياض الريّس، 1995، ص 7

27 أوراق لبنانيّة، مجلّة شهريّة تعنى بتاريخ لبنان، يوسف إبراهيم يزبك، الجزء الأوّل، كانون الثاني 1955، ص 37

28 شاعت في لبنان تسمية «تنقيط» لعلامات الوقف، وهي ترجمة المصطلح الفرنسيّ ponctuation

29 أوراق لبنانيّة، الجزء الثاني، شباط/فبراير 1955، ص 90

العدد ٢٢ - ٢٠١٩
كيف واكب الشدياق انتقال الكتاب من النخبة إلى العامّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.