كتب محفوظ هذه القصّة - التحقيق خلال زيارته لليمن في عداد وفدٍ من الكتّاب المصريّين لتفقّد ومؤازرة القوّات المصريّة التي كانتْ تقاتل القوّات الملكيّة المدعومة من العربيّة السعوديّة لحماية الجمهوريّة اليمنيّة التي قامت في ٢٦ أيلول / سبتمبر ١٩٦٢. نشرتْ في مجموعة قصصيّة بعنوان «تحت المظلّة» (١٩٦٩). الإشارة في القصّة أنّها كتبتْ بين تشرين الأوّل / أكتوبر وكانون الأوّل /ديسمبر ١٩٦٧، مع أنّ الأرجح أنّ الزيارة كانت قبل ذلك. تنشر «بدايات» قصّة «ثلاثة أيّام في اليمن» هنا بإذن من دار الشروق، صاحبة الحقوق.
1
الأديب
ها هي السّيارة تنطلق والقاهرة تبتعد. تطايرت الهموم وخفقت القلوب في طريق السّويس. وقال في صوتٍ حنون:
- لن نفترق زهاء أسبوعين، كم تمضي أيّام طويلة دون أن يرى أحدنا الآخر...
أحدقت بنا لا نهائيّة الصّحراء من الجانبين فأهدت إلينا هواءً منعشاً رغم حرارة يوليو. وصلنا إلى ميناء الأدبيّة مع المساء. تعلّقت أعيننا بالسّفينة الرّاسية عند الشّاطئ حيناً ثمّ أخذنا سبيلنا بين صفوفٍ من الجند وأكوامٍ من المؤن والذّخيرة. مضى بنا المرشد إلى مركز التّشهيلات. تمّ التّعارف بيننا وبين الضّابط ثمّ جلسنا ننتظر. إنّه ليس بضابطٍ كلا، إنّه دوّامة مكهربة. يحرّك الجنود والموظّفين بأصابعه العشر وبحاجبيه وأنفه وشفتيه ويتكلّم من خلال عشرة تليفونات. وكلّما مرّ بنا بصرُه تفحّصنا باسماً وهزّ رأسه هزّة تدعو للتّساؤل والفضول. آلو... ليتقدّم حملة صناديق الذّخيرة، يا عمّحسنين، أنت مسؤول عن توصيل البطاطس. هات السّاركى، اسمعني يا يسري السّطح الأمامي من الدّور الأوّل للسريّة الثالثة، عليوة راجعت شهادات التّطعيم؟ مرحبا بضيوفنا الأدباء مرحبا... سمعت عبد الوهاب وهو يغنّي قصيدتك يا أستاذ، انتهيتم من التّيفود؟؟... والكوليرا؟... آلو... انتهى التّطعيم؟، أمّا مقالاتك أنت يا أستاذ فهي السّحر الحلال، آلو... أرسل شخصاً لتطعيم الأدباء...
- تمّ تطعيمنا ضدّ الكوليرا والجدري!
- والتّيفود؟
- أكّدوا في البلدية ألّا ضرورة لذلك.
- التّيفود مهم جدّاً... دعوني أتصرّف فأنا منذ الساعة مسؤول عن الحركة الأدبيّة في مصر.
- ولكنّكم تعطون الحقن بطريقة عسكريّة... أعني...
- يا رب السماوات!... أيخاف من الحقن أصحاب «البيداء تعرفني» و«علوّ في الحياة وفي الممات»؟!
استسلمنا. اجتزنا فترةً عصيبةً لم تخلُ من التّأوّهات. ولما انتهى التّطعيم قال:
- انتهينا من الكوليرا والجدري والتّيفود...
ثمّ وهو يتصفّح وجوهنا بطريقةِ غامضة:
- أمّا بقيّة الحمّيات هناك فلم يكشف الطبّ سرّها بعد...
تبادلنا نظرات ارتياب وتوجّس على حين انصرف عنّا في غير مبالاة. وجرى التّهامس بيننا في إشفاق:
- أحقّ ما يقول؟
- يبدو الأمر جدّاً.
- إذن ما معنى هذه الرّحلة؟
- لننفعل بالأحداث.
- أليس من الأسلم أن ننفعل في القاهرة؟
- وهؤلاء الجنود أليسوا بشراً مثلنا؟
- ولكنّهم جنود!
- لعلّه يمازحنا...
وإذا به يلتفت نحونا هاتفاً:
- ستنفعلون أوّلاً وقبل كلّ شيء بالحمّيات المجهولة!
وضحكنا طويلاً ضحكنا وكأنّنا نتسوّل تكذيب الظّنون. ضحكات هي الأصوات المسموعة للقلق المتطاحن في أعماقنا. ولكنّه استقبل هدنة راحة في زحمة العمل فرمقنا بنظرةٍ جادّة حقيقيّة لأوّل مرّة. جادة وودودة. ثم قال بنبرةٍ أخويّة:
- أهلا بكم فرصة طيّبة وسعيدة، وهنيئاً لكم زيارة بلد شقيق ثائر، ستجدون له مذاقاً خاصّاً وجمالاً ذا سحرٍ غير منكور، فاذهبوا بسلام آمنين...
شددنا على يده بامتنان وذهبنا وراء حقائبنا المحمولة إلى السفينة. ودعانا القبطان إلى العشاء. وطيلة الوقت ترامى إلينا غناء الجنود من سطح السّفينة الأمامي، ودار حديثٌ عن ميعاد الإبحار والجوّ، وأعلننا الرّجل الكريم الظّريف بأنّنا سنكون ضيوفه طوال الرّحلة.
وفي أثناء ذلك اختفى من الصّحاف الدّجاج والشّواء والملوخيّة والبطاطس والسّلطة الخضراء والمش والبطيخ. ودعانا إلى قضاء السّهرة في جناحه المطلّ على البحر ثمّ مضى إلى عمله. أطفأنا المصباح واهبين اللّيل أنفسنا. أنعشنا شراب البرتقال ونسمةً معبّقة بجوّ الميناء. وما زالت أغنية تتردّد متهادية إلينا من معسكر الجنود فوق مقدّم السفينة.
- ترى فيم يفكّرون حول بنادقهم؟
- الحرب... إنّها الحرب...
- أقْدم حرفةٍ في الوجود.
- لكنّها تنشب هذه المرّة في سبيل التحرير والحرّية.
- إنّها الحرب، وهي ككل حدث خطير تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود، وجهاً لوجه...
- وتذوّقنا حيناً النسمة الملاطفة. استسلمنا بكلّ قوانا للحظةٍ طيّبة خالية من الكدر، ثم تفرّق الحديث واختلف كأنّما يدور بين أجيال. وأوشك أن يستقلّكل اثنين بفكرة ما.
- ستكون الحرب القادمة خاتمة الحروب!
- ولكن هل تستعر الحضارة بلا حروب؟
- الحقّ أنّ العالم مقبلٌ على عضوٍ عليه أن يخلق فيه كل شيء من جديد.
- وربما وجد أنّ عليه أن يعتاد الحياة بلا معنى ولا آمال كبيرة!
- الحقّ أنّ العالم مقبلٌ على عضوٍ عليه أن يخلق فيه كل شيءٍ جديد.
- وربّما وجد أنّ عليه أن يعتاد الحياة بلا معنى وبلا آمال كبيرة!
- أظنّه بسكال الذي قال إنّنا مبحرون في هذا العالم، ليس لنا خيار في أمر السّفر فلم يبقَ لنا سوى اختيار السّفينة.
- ولكن كيف تختار سفينةً مناسبة إذا لم يكن لدينا فكرة عن الرّحلة؟
الأفكار مغلقة ولكنّ الأصوات راضية تندّ عنها غبطة المستمتع بعشاء لذيذ وشرابٍ منعش. والغناء لا يتوقّف يحمل إلينا أنغاماً وحماساً وحنيناً. وثمّة تساؤلات عمّا ينتظرنا هناك عند المأكل والمشرب والمنام. ومخاوف أوشكت أن تتضخّم لولا أن ارتفع صوتٌ قائلاً:
- ما هي إلّا أيّام ثم تنقضي بسلام... دعونا نشارك الجنود حياتهم ولو بدون قتال...
شعرت برغبةٍ في الحركة. غادرت جناح القبطان إلى السّطح ماضياً حتّى الشّرفة المطلّة على مقدّم السّفينة. رأيت الجنود على ضوء الكلوبات ما بين مستلقين وواقفين وجالسين. جال بصري بينهم في جِدٍّ وانفعال. اجتاحني طوفانٌ من الذّكريات الوطنيّة حماسيّة وأليمة على السّواء، لكنّه طوفانٌحمل في النّهاية هذه السّفينة، الّتي تحمل بدورها هؤلاء الجنود، ثملة بنشوة النّصر والأمل، ملوّحة براية الأخوّة والكرامة، فأيقنت أنّ تاريخنا الطّويل المثقل بأحلك الذّكريات يتكشّف عن صفحةٍ جديدةٍ بيضاء. وخُيّل إليّ أنّ اسمي يتردّدُ في نداءٍ صاعدٍ من بين أمواج الغناء. حقّاً! أجل إنّ صوتاًيناديني. تحرّك رأسي هنا وهناك حتّى رأيت جنديّاً يشقّ طريقه نحو أسفل الشّرفة ملوّحاً بيده. أمعنتُ النّظر فيه بدهشة. تذكّرته. انحنيتُ من فوق السّور في غايةٍ من الابتهاج. لوّح لي بيده تحيّةً فلوّحتُ له بيدي.
الجندي
دعتْني للجلوس فجلست. توقّفَتْ عن الكتابة على الآلة الكاتبة وقالت لي مجاملةً:
- شكلك طريفٌ في البذلة العسكريّة. نفخني السّرور، رحّب بي الزّملاء القدماء في الإدارة. على مكتبي الجديد المجاور لمكتب خطيبتي جلس شابٌّجديدٌ هو الذي حلّ محلّي بعد تجنيدي، سألتني:
- هل اعتدتَ الآن الهبوط بالبارشوت؟
همستُ في أذنها:
- عندما أقذف بنفسي أبَسمِل وأتذكّر وجهكِ فيتمّ الهبوط على أحسن حال. س
وناقشنا بعض المشاكل التي تلابس زواجنا كالأثاث والمسكن فاتّفقنا على الإقامة مدّةَ في بيت والديها وبذلك نؤجّل مشكلة السّكن ونكتفي بتأثيث حجرةٍواحدة. وتركتها واعداً بزيارتها في القريب في بيتها. مضيتُ من فوري إلى الثّكنة بالمنشيّة البكرى. ولم أكد أمكث ساعةً هناك حتّى صدرت أوامر بتجهيز سفريّات الميدان. تجمّعنا في الحال. سألتُ جاري عمّا هناك فقال لي علْمي علمك. اصطفّت سريّتُنا الثّالثة. وُزّعت علينا البنادق. انتقلنا إلى السّيارات فانطلقتْ بنا إلى هايكستب. كان ثمّة قطارٌ في انتظارنا، وثمّة حركة نشيطة لنقل الذّخيرة. همستُ في أذن صاحبي:
اليمن!
هزّ رأسه فخُيّل إليّ أنه يوافقني على رأيي. تحرّك القطار. اجتاحني شعورٌ بالغربة والحيرة. لم أودّع خطيبتي ولم أودّع أمّي. منذ عام كنتُ موظّفاً، مجرّد موظّفٍ على مكتب. وبفضل شبابي وصحّتي أحببت وخطبت ثمّ جُنّدت. ها هو القطار يحملنا إلى الميدان. سنهبط من الطّيارات إلى ميدان حربٍحقيقية... لا تمرين ولا مناورة. يوم دُعيت إلى التّجنيد قال لي رئيس السّكرتارية «ها أنت ذاهب... وها هو تدريبنا لك يضيع في الهواء... ساء حظّالرّئيس الّذي يوظّف شابّاً قبل تجنيده بعد اليوم». كنتُ موضع تجنيده وكنت بذلك فخوراً. أنا طول عمري من المتوكّلين على الله المعتمدين على دعاء الوالدين. والحبّ عجيبٌ كالقدَر نفسه فذات يومٍ عُهد إليّ بتدريب موظّفةٍ جديدة. لم تكن أوّل فتاةٍ أدرّبها في السّكرتارية ولكنّها كانت الأولى في حياتي.
ساءلتُ زميلي مرّةً أخرى:
- اليمن... أليس كذلك؟
- أظنّ ذلك.
- متى نعرف؟
- كلّ آتٍ قريب.
إذن هي الحرب. كما نراها أحياناً على شاشة السّينما. وحتّى في السّينما لم أشاهد معركة بارشوت إذ إنّني أفضّل عادةً أفلامنا الغنائيّة. كانت الأولى في حياتي فلم أعرفها الحبّ بصفةٍ جدّيّة وقلتُ لها عليكِ بالانتباه فإنّ رئيس القلم يمزّق أيّ خطابٍ لأقلّ هفوة! ما أحلى ارتباكَها إذا ارتبكت. ما أجمل نظرتها وهي ترنو إلى مدرّبها. وهي تستهديه المعونة والثّقة فيهدي إليها قلبه ومستقبله.
وقال زميلي:
- القطار يهدّئ من سرعته. ستعرف كلّ شيء.
وقف القطار. أكثر من صوتٍ ردّد اسم الأديبة أجل... أجل. غادرنا القطار. انتظمنا الصّف. سرنا إلى الميناء. جرى تطعيمنا ضدّ الكوليرا والجدري والتّيفود. وكلٌّ حمل لوازمه ومضى نحو سفينةٍ راسيةٍ بالميناء. تناولنا العشاء. أناسٌ استغرقهم النّوم وآخرون راحوا يغنّون. الحقّ أنّني لم أركب سفينةً من قبل. لا في البحر ولا في النّيل. بل إنّي لم أرَ البحر قطّ. ولم أستطع أن أرى منه شيئاً في الظّلام.
- أين الأمواج التي يقال إنّها كالجبال؟
- نحن في الميناء يا رجل يا طيّب...
لفحَني هواءٌ لطيف فملأتُ صدري ثمّ سألته:
- وماذا تعرف عن دوار البحر؟
فسألني بدوره:
- لماذا لا نغنّي مع من يغنّون؟
تمشّيتُ مستطلعاً. لاحت منّي نظرةٌ إلى أعلى. رأيتُ على ضوء كلوب وجهاً ينظر إليّ أو بدا كذلك. من؟! أستاذي القديم. أستاذي بمدرسة مكارم الأخلاق الإعداديّة بشبرا. هو دون غيره. ترى ماذا جاء به إلى سفينتنا... وجعلتُ أنادي وألوّح بيدي وأنا أشقّ طريقي بين البنادق والنّيام. وأخيراًعرفني فلوّح لي بيده. التقينا عند منتصف السّلم تماماً فتصافحنا بحرارة.
- أنت جنديّ؟!... ما تصوّرتُ ذلك.
- جنديّ منذ عام فتركتُ وظيفتي إلى حين.
- متزوّج؟
- كلا ولكنّي خاطب.
- مبارك (ثمّ وهو يتفحّص ملابسي) لا أعرف لغة ملابسكم.
- من قوّة المظلّات يا فندم.
- فرصة طيّبة، أتمنّى لك حظّاً سعيداً.
- وماذا جاء بك يا أستاذي؟
- رحلة... زيارة... في ضيافة الجيش.
- أهلا أهلا... إنّني أقرأ مقالاتك... هل تركتَ التّعليم؟
- نعم
وتصافحنا مرّةً أخرى وهو يقول:
- أرجو أن أراكَ كثيراً.
انفصلنا. عدتُ إلى مقدّم السّفينة وصعد إلى السّطح.
2
الأديب
أخيراً تراءت لنا ميناء الحُديدة.
تهادت سفينتنا في الممرّ المائي الذي شقّه الروس في الصّخر. عقب رحلةٍ طويلةٍ أذابتنا فيها الحرارة وأنهكتنا الأحاديث. فوق سطح بحرٍ عظيمٍ صامت، تحت سماء باهتة تترامى في الآفاق بلا تعبير، بين جماعاتٍ متواثبة من الدّرافيل. لا تسلية لنا إلا الكلام والسّجائر والذّكريات ولا عملَ لنا إلا الاستجمام وتجفيف العرق.
أخيراً تراءت لنا ميناء الحُديدة. تطلّعنا بشغفٍ نحو الأرض الّتي ظلّت دهراً طويلاً متقوقعة. حتّى ثارت ثورتها فحطّمت القشرة الصّلبة الّتي تحسبها فيما وراء التّاريخ.
- تذكّروا أنّ وطننا تلقّى موجاتٍ في إثر موجات من مهاجري هذا البلد!
- لا يبعد أن نصادف أجداداً وأصولاً ونحن لا ندري.
- قلّبتُ وجهي في مجموعتنا فوجدتُ وجوهاً تشي بأكثر من أصلٍ تتراوح جذورها ما بين البلقان والسّودان مارّاً بالشّام ومصر. قلتُ لنفسي إنّ أضمن وأعرق أصلٍ للإنسان هو الأرض.
استقبلَنا مندوبا القيادتين العربيّة واليمنيّة. انتقلنا إلى مركز قائد الميناء حيث قُدّمت لنا المرطّبات. قائدٌ ضخمٌ كتمثال، وطرازٌ جديدٌ من الرّجال يضيف أصلاً جديداً إلى مجموعتنا المتعدّدة الأصول. دعانا لمشاهدة خريطة لليمن.
- أرض مجهولة لا يعرفها إلّا المرشدون...
انتقل المؤشّر من الشّمال إلى الجنوب ومن الشّرق إلى الغرب.
- جميع هذه المدن ثائرة وموالية أمّا الجبال فلا تخلو من جيوب!
- اعتقدنا أنّ الحرب قد انتهت.
- هي كذلك بالمعنى العسكريّ ولكن علينا أن نطهّر الجبال من المتسلّلين!
دعانا إلى جولةٍ في المدينة. زرنا المستشفى. تجوّلنا في أحياء ردّتْنا بقدرة قادرٍ إلى أزقة القاهرة وحاراتها القديمة. شاهدنا دكاكين حافلة بسلع من جميع أنحاء المعمورة. طالعتْنا وجوهٌ صامتةٌ مغلقةٌ غامضة، لا ينظرون نحونا، وإذا نظروا لم يرَونا.
- يا حضرة القائد... أهم يكرهوننا؟
- كلّا يا أستاذ ولكنّنا في عزّ وقت التّخزين!
أجل... إنّه القات! الدّنيا تنساب في حلمٍ كبيرٍ يرفرف فوق المدينة ولم نعد إلّا أشباحاً لا حقيقة لها. وثمّة تاجرٌ مستلقٍ على أريكةٍ أمام دكّان سأله القائد عن مكانٍ ما ولكنّه لم يُبدِ حراكاً ولم ينبس بكلمة... ما فعَل إلّا أن رفع يده ببطءٍ مشيراً نحو المكان كأنّما هي صورة متحرّكة مصوّرة بالتّصوير البطيء، أمّا ظاهر الرّجل اليمنيّ فيتلخّص في لحية وخنجر وبندقيّة. والتّجوّل بين الحوانيت مثيرٌ للغاية. وكان مدعاةً للتّساؤل عن بدل السّفر ومتى يصل. وقال القائد:
- ستجدون في صنعاء سلعاً أطرف وأجمل. أمّا تعز فحدّث عنها...
ولفتت الأنظارَ الحقائب والأقمشة، ثمّ احتكرتها الهرمونات والمقوّيات. وتسلّل من القائد إلى النّفوس إعجابٌ ودود. تضاعف عندما دعانا إلى العشاء في مقرّ القيادة اليمنيّة. اجتمعنا هناك بكهولٍ وشبّانٍ من اليمن، منهم من يرتدي البدلة ومنهم من يرتدي الزّي الوطنيّ. تبادلنا الأحاديث عن الحرب والثّورة والتّاريخ والأدب. كشفت الرّوح اليمنيّة عن كنوزها فاستعدْنا شعورنا بالأنس والألفة وتفتّحت قلوبنا بلا حدود. وملتُ نحو زميل هامساً:
- أشعر كأنّما رأيتُ هذا المكان من قبل!
فردّ عليّ هازئاً:
- هذه نتيجة عقدة نفسيّة سأحدّثك عنها فيما بعد.
وُضعت الموائد حول بركةٍ كانت مسبحاً للجواري ذات يوم. وعزفت لنا جوقةٌ موسيقيّةٌ وغنّى لنا مهرّج الإمام. وقال لنا القائد ونحن عائدون:
- ستبيتون اللّيلة في الباخرة وغداً صباحاً تذهبون إلى صنعاء.
وتساءلنا عن وسيلة المواصلات فقال:
- ثمّة طريقٌ جديدةٌ شقّها الصينيّون في الجبل، تقطعها السيّارات في ثماني ساعات، وسوف ترافقكم قوّةٌ مسلّحة.
ولدى سماع هذه العبارة الأخيرة ساورنا القلق، وسأله سائل:
- وما الداعي لمرافقة القوّة المسلّحة لنا؟
فأجاب موارياً ابتسامة:
- تعرّضت الطّريق لهجمةٍ عدوانيّةٍ فاشلة منذ أسابيع!
وأكثر من صوتٍ قال في نفس واحد:
- حدّثنا يا قائد عن وسيلة مواصلات أخرى.
فضحك ضحكةً عظيمةً وقال:
- ستأخذون الطيّارة وستصل بكم في ساعةٍ أو أقلّ.
عدنا إلى الباخرة. سهرنا في جناح القبطان في جوٍّ حارٍّ رطب خرق المألوف لنا. ولمّا أويتُ آخر الليلة إلى القِمرة قلتُ لزميلي فيها:
- أشعر من الحرّ والرّطوبة بأنّني سأموت عمّا قليل.
فأجابني بصوتٍ ملؤه النّعاس:
- لكلّ أجلٍ كتاب!
الجندي
السّفنية تقترب من الشّاطئ. جمهورٌ ضخمٌ ينتظرنا. ولكن أيّ جمهور؟! نساء! أجل نساء لا حصر لهنّ في أزياء مزخرفة بالحمرة والزّرقة.
ما الّذي أخرجهنّ من البيوت؟ وفي لهفةٍ حزم كلّ جنديّ متاعه وعدّته وحمل بندقيّته. ورأينا ضيوفنا من الأدباء وهم يهبطون وراء حقائبهم. وبحثتْعيناي عن أستاذي السّابق حتى رأيته. وددْت أن أودّعه لكنّ الزّحام والنّظام حالا دون ذلك. وصدرت لنا الأوامر بالنّزول فسرنا نحو السّلّم في ترتيبٍ عسكريّ. ها أنا أستقبل بلداً غريباً بعد أن ركبت السّفينة لأوّل مرّة. وفوق الأرض تكشّفت لي حقيقة المتجمهرين. إنّهم رجال لا نساء كما توهّمتُ من بعيد. يرتدون لباساً كالجونلة ويطلقون اللّحى. تنغّص حماسي وفتر فرحتُ أتمشّى فوق رصيف الميناء. وتذكّرتُ أمّي التي لم أودّعها. وتذكّرت خطيبتي التي زرتُها ولم أودّعها أيضاً. وقلتُ لو أنّني ودّعتُ أمّي لتلقّيتُ من دعواتها ما ينفعني. ونودي علينا فهرعنا إلى الصّف. ثمّاتّجهنا إلى سيّاراتٍ معدّة لتوصيلنا إلى صنعاء. وخرجت السيارات من حاراتٍ متربة حتّى اجتزنا بوّابةً كبيرة. وإذا بنا ندخل في طريقٍ ممهدّة، تأخذ في الارتفاع كلّما تقدّمنا. وسألتُ زميلي:
- أين مملكة سبأ؟
فسألني بدوره دون اهتمامٍ بسؤالي:
- أنحن ذاهبون إلى الميدان؟
وجذبت الجبال المتشابكة عينيّ، ألقيت بنظرةٍ إلى أسفل فأدركت مدى الارتفاع الذي نصعد إليه بلا توقّف. ومضت الحرارة تخفّ والجوّ يلطف والدّنيا تتغيّر. وتساءلنا حتّى متى نواصل الصّعود فأجاب دليلنا اليمنيّ:
- سنصعد فوق الجبل.
لا فرق بين السيّارة والطيّارة في هذا البلد. ودار بنا طريقٌ دائريّ فتطالعنا الشّمس المائلة حيناً وتغيب عنّا حيناً آخر. وبهرنا السّحاب وهو يزحف نحونا حتى روعنا. ودخلنا فيه فغاب الوجود وبتنا من أهل السماء. حتّى أنفسُنا غابت عنّا. وارتفعت الأصوات وتبادلنا الألقاب الضّاحكة. ولما خرجنا من السّحاب استوى الجبل إلى يسارنا على شكل مدرّجاتٍ تكسوها الخضرة المتألّقة فهتفنا في دهشة. لم أكن رأيت من الجبال إلّا المقطم فيما وراء مسجد الحسين رضي الله عنه فتلَوت فاتحة الكتاب. أمّا إلى اليمين فينحدر الجبل صانعاً مدرّجاتٍ واسعةً من السّهول تنبت في جنباتها القرى، وتتناثر الأكواخ، وتهيم القطعان والأطفال، من تحتها خضرة ومن فوقها قطَع من السحب متفاوتة الشفافية تتلاقى في احتدام وتنتشر كقبّة هائلة ثمّ تلاطم سفح الجبل تحتنا فتفور كالأبخرة، وها نحن ننطلق فوق السحاب كأنّما تقلّنا إليوشن المظلّات. قال الزميل:
- ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
فقلتُ بوجد:
- صدق الله العظيم.
قبيل الغروب اجتزنا بوّابة صنعاء. وعلمنا أنّنا ذاهبون إلى كليّة الطيران للمبيت فاستبشرنا خيراً ومنّينا أنفسنا بليلة نومٍ ناعمة. غادرنا السيّارات ومضينا نحو الكلّيّة دون أن نتبيّن المبنى من الخارج لغلبة الظلام على الدّنيا. ولكنّنا وجدنا أنفسنا في مكانٍ هو أشبه ما يكون بالإصطبل. لا مقعد ولا فراش ولا حتى حصيرة. وقفنا ذاهلين نتبادل النّظرات. وأمرنا أن ننام كيفما كان الحال حتّى الصباح. نمنا ليلتنا على الأرض بكامل ملابسنا. وفي الصباح صدرتْ أوامر أن ننشئ معسكراً حول مطار صنعاء فانهمكنا في العمل. ولم يكن بين أيدينا من الطعام إلّا القليل ومن الماء إلا النادر. وندرة الماء أزعجتنا بصفةٍ خاصّة. ونمنا ليلتنا في المعسكر. وفي الصّباح صدرت الأوامر بالتّوجّه إلى مدينة عمران. خرجنا من بوابة صنعاء الخلفيّة. وترامى أمامنا طريقٌ صخريّ يتنقّل بين جبالٍ عاتية. إني أغوص في المجاهل. أصبح الماضي بعيداً جدّاً. ترى هل علمت أمي بأمري وهل علمت به خطيبتي؟ إنّهما أعزّ ما يشدّني إلى عالمي القديم. أمّا العالم الصّخري المكفهرّ المترامي أمامي فلا أدري شيئاً عمّا يخبّئ لي من أقدار الغيب. ورأيت عن بُعد سيّارة مدرّعة تقود قافلتنا فتطلّعتُ نحوها بثقة ولكنّي قلت لنفسي إنّ الله وحده يحفظنا ويرعانا.
- كلّ شيء غريب هنا.
- وقافلتنا العسكريّة تسير كما كنّا نشاهد في السّينما.
- ولكنّ الفرجة شيء وخوض المعارك شيءٌ آخر.
- لا يوجد إنسيّ.
- ولا جان!
وأخيراً تراءت لنا عن بعد بوابة حجريّة تقوم على مبعدة منها إلى اليسار قلعةٌ ذات أسوار وأبراج للمراقبة. تبودلت كلماتٌ لم نسمعها بين السيّارة المدرّعة ورجال الأبراج فتح على أثرها باب البوابة فتهادتْ منه قافلتنا.
- مدينة عمران؟
- أجل... لعلّنا نجد مقهىً أو ملهىً.
وجدنا قريةً كقرانا في الرّيف. تقع وسط سهلٍ ومراعٍ تطوّقها سلسلة من الجبال الصخريّة من ثلاث جهات.
- مدينة عمران.
- مدينة عمران!
غادرنا السّيارات. تناولنا الطعام من العُلب وشربنا بحيطةٍ وحذر. أحاط بنا الغلمان والأطفال شبه عرايا. حملقوا في وجوهنا بأعين داهشة ثمّ تبادلنا الابتسام. ومرح الأطفال حول السيارات وتحتها. رغم البؤس أطلّ علينا من الأعين البريئة جمالٌ فطريٌّ ونظراتٌ ذكيّة. ترى مَن مِن هؤلاء تربطني به صلة قربى ترجع في تاريخها إلى ألف عام؟
ولم نمكث في عمران إلّا ساعات ثمّ صدرت الأوامر بالذهاب إلى حَجّة. تحرّكت القافلة دون أن تترك وراءها ذكريات. دخلنا في السحاب مرّة أخرى حتّى غاب عنّا كلّ شيء. وندّت أصوات متفرّقة في المسيرة الطويلة.
- أهي أرضٌ عدوّة أم صديقة؟
- ربّما انهال علينا المطر أو الرّصاص.
- قريباً من هنا هبط سيّدنا آدم إلى الأرض.
تلوت الفاتحة والصّمدية. ولمّا انجاب السّحاب عنّا ترامى أمامنا الطّريق الصّخريّ مرّة أخرى. ثمّ انفسح فيما يشبه الدّلتا عن أرضٍ رمليّة تغطّي الحشائش بعض رقعاتٍ منها متباعدة. وتوقّفت القافلة فجأة فاشرأبّت القلوب. دارت السيارة المدرّعة في حركة مناورة. وجرى التّهامس من سيارة إلى أخرى كمين... كمين. تناولنا البنادق في حركة استعداد. برز علمٌ أبيضُ من وراء أكياس الرّمل المطوّقة للكمين. خرج جنديّ يمنيٌّ ملوّحاً ومرحّباً. نزل إليه من السيّارة المدرّعة ضابط فتصافحا. زار الكمين ثمّ عاد إلى السيارة. دخلنا حجّة، القرية الجديدة، يا للقرى! إنّ قلبي يحلم بشيءٍ لا يتحقّق. التقينا بجنودٍ مصريّين من المشاة. تفرّقنا في الخلاء والشّمس على وشك المغيب. الجوّ مائلٌ للبرودة كأيّام الخريف يا مصر.
- جنود مظلّات؟
- نعم
- صرواح!
- صرواح؟
- هبط الجنود في وادٍ ضيّق تكتنفه الجبال.
- في صرواح؟
- نعم... ثمّ انهال عليهم الرّصاص من الجبال!
- في أيّ وقت؟
- الفجر.
- وقتٌ يسهل فيه الاختفاء، هل وقع ضحايا كثيرون؟
- غير قليلين لكنّهم طهّروا المنطقة.
- ليرحم الله الشهداء.
بلد كأنّه شبكة من الجبال المتقاطعة. من كان يتصوّر ذلك؟! كحارات خان الخليلي، كحجرة حجا كالتّعليمات الماليّة والإدارية. السّحاب يركض وعمّا قليل تختفي السّماء. وقيل إنّ المطر سينهمر. وارتفع النّداء داعياً إلى إقامة المعسكر.
3
الأديب
استيقظتُ بعد نومِ ساعتين. غادرنا السفينة إلى مطار الحُديدة. اتّخذنا مجالسنا في طيّارة إليوشن ناقلةٍ للجنود. نسري اليمن من فوق. صحراء وجبال ومراعٍ. أمّا المنظر الجديد حقّاً فهو منظر الوديان الخضراء في سفح الجبل. وقال أحدهم للمرافق لنا:
- الجبال عالية جدّاً.
- وتنطلق الطيّارة بحذاء بعض القمم أحياناً.
- لو أنّ عدوّاً ربض فوق جبل فلن يتعذّر عليه إصابة الطيارة بالبندقيّة العاديّة؟
فضحك قائلاً:
- ولا يخلو بعض طيّاراتنا من آثارٍ عديدةٍ للرّصاص.
ولما رأى وجومنا استطرد:
- لا تزيد نسبة الإصابة القاتلة عن واحد في الألف.
أسلمتُ ناظريّ إلى الجبال تحتنا. القرى الخضراء والفجاج الملتوية. حتى لاحتْ صنعاء. من الجو بدت مدينة عمران ومجمع أحياء ومقرّ قباب ومآذن. وعندما حملتْنا السيارة من المطار إلى الفندق خاضت بنا زمناً موغلاً في القِدَم. وتراصّت على جوانب الطّرقات المتربة بيوتٌ غريبة مزركشة. زركشتْها أيدي أطفال فنسجتها من خيوط الأحلام وألقتْ بها في قلب مدينةٍ سحريّة. انشقّ سطح الأرض عن دنيا عامرةٍ تطوف بها القلانس والوزرات والخناجر والبنادق واللّحى. لفحتنا غربة، لاطفتنا نسمة، تجاذبتنا عواطف مبهمة، ثمّ لذنا أخيراً بأطيب المشاعر البشريّة التي جئنا بها. وفي الفندق ارتددنا إلى ذكريات الطّفولة، درجات السّلّم العالية، رائحة الكلس العطنة، الأسقف العالية. فندق قديم كقلعة بالية يديره غلام ذكيّ. جلسنا على الأسرّة في عنبرٍ جمعَنا. وتبادلنا أحاديث لا نهاية لها. وإذا بالغلام يجلس على كرسيّ على باب العنبر بلا استئذان. جعل يقلّب عينيه اللّمّاحتين فينا بهدوءٍعجيب. ولما تركّزت الأبصار عليه قال:
- أنتم مصريّون؟
- نعم يا أخا اليمن.
- أتريدون فطوراً؟ عندي بَيضٌ من اليمن وفولٌ من مصر ومُربّة من أوروبا.
- أأنت صاحب الفندق؟
- ابن صاحبه ولكنّي مديره.
- كم عمرك؟
- اثنا عشر عاماً.
- إذا غالطناك في الحساب؟
- إنّي أغالط الجن.
- عفارم عليك، وما رأيك في الثورة؟
- كلّنا متجمهرون وثوار واللّعنة على الأعداء.
ودخل رجلٌ غامق السّمرة مترنّح المشية، يرتدي بدلةً ويطالعنا بنظرة مسطولة من عينين جاحظتين. قدّمه الغلام باعتباره عمّه ثمّ ذهب تأدّباً. وقال الرّجل إنّه من عدن لكنّه في الأصل يمنيّ، وإنّه شريك في ملكيّة الفندق. وجلس على الكرسيّ الّذي أخلاه الغلام.
- حضرتك مقيّت [مخزّن نبتة القات]؟
- كلا
- مسطول؟
فضحك وأجاب بالنفي. سرعان ما أغرانا مظهره بممازحته فأثبت أنّه أوسع صدراً ممّا تصوّرنا.
- إن كنتَ حقّاً من عدن فهل تعرف لغةً أجنبيّة؟
- عشت في عدن ومصر وسوريا وإنجلترا وفرنسا.
- هل تستعمل القات؟
- كلّا فإنّه يضعف القوّة الجنسيّة.
- إذن فأنت حريصٌ على قوّتك الجنسيّة؟
- إنّ قرّة عيني في التّجارة والفسق!
ضحكنا طويلاً. وانطلق يتكلّم عن الفسق في شتّى أشكاله وألوانه ومتناقضاته، وعقد مقارناتٍ عنه في البلاد التي عاش بها، ولكي يقيم الدّليل لنا على صحّة مَراجعه حدّثنا عن مصر حديثَ العارف الدّائر، حتى قال له شيخنا:
- إنّك معجم فسق البلدان!
غادرنا الفندق لزيارة القائد العامّ ورئيس الجمهوريّة. طفْنا بمخازن الإمام وبيت الرّهائن ثمّ شهدنا في المساء ندوةً أدبيّة بالقصر الجمهوري. وقابلْنا بعض الموظّفين المصريّين المنتَدبين لعمل أوّل ميزانيّة للجمهوريّة اليمنيّة وإقامة نظامٍ ماليٍّ كأساس لحياتها الاقتصاديّة. وقد دعوني لزيارة جناحهم في القصر فذهبت معهم وأنا أداعبهم قائلاً:
- إذن فأنتم أوّل من بشّر بالروتين في أرض اليمن.
وجلسنا نتحدّث وأصوات الشّعراء في الندوة تترامى إلينا. وقال أحدهم:
- لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختفِ منها الشّعر ولكنّ المشكلة الحقيقيّة هي متى يغزوها العِلم؟!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.