عرفت الجزائر منذ أسابيع مسيراتٍ غير مسبوقة في تاريخ البلد من أجل معارضة العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة. غطّت التظاهرات الضخمة كلّ التراب الوطنيّ حتى أصغر بقعة مأهولةٍ فيه.
مؤلمٌ أنْ أكون بعيدةً ووطني يمرّ بلحظاتٍ على هذا القدر من الأهمّيّة. لكنّ معايشة هذه الأحداث من خلال وسائل الاتّصال المجتمعيّ والصحافة والمراسلات مع أصدقاء وأفلام الفيديو والصور المتداوَلة، بالنسبة إلى باحِثةٍ في التاريخ، تعني أنْ تشاهد ولادةَ موارد سوف تسمح غداً بتدوين الحدث في التاريخ.
منذ ما قبل يوم ٢٢ شباط / فبراير 2019 جرى تداول أفلام فيديو وزّعها المرشّح للرئاسة رشيد نكّاز، أحد كبار هواة وسائل الاتّصال المجتمعي، خلال حملة تجميع التّوَاقيع اللازمة لإعلان ترشيحه، يظهَر فيها مئات الأشخاص، من مؤيّدين أو فضوليّين، في قسنطينة أو في ساحة الأمير عبد القادر بالجزائر العاصمة. ولا شكّ في أنّ هذه الصور لعبتْ دوراً في إطلاق مسيرات يوم الجمعة في ٢٢ شباط / فبراير التي جاءت تلبيةً لنداءاتٍ متواصلةٍ للتظاهر يصعب تعيين هويّتها. وفي حين كانت تظاهرات ذاك اليوم ذكوريّةً في الغالب، في بلدٍ متعلّم حيث للنساء حضورٌ وازن في الجامعات، نجحتْ مسيرات الطلاب يوم ٢٤ شباط / فبراير في إخراج حشودٍ مختلطة، على الأقلّ في المدن الجامعيّة.
اختيار الشعارات، استعادة الشعارات القديمة وتحويرها، إهمال شعاراتٍ أحْدث عهداً. كان لا يكفي إشهارُ المطالب بل كيفيّة التموضع إزاء مروحةٍ واسعةٍ من الأحداث الماضية. لم نسمع كثيراً شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو واحدٌ من الشعارات الرائدة لانتفاضات الربيع العربي، ومثله شعار «جزائر حرّة وديمقراطيّة»، وهو شعارُ نهاية الثمانينيّات من القرن الماضي وحقبة الانتقال السياسيّ التي أعقبت اضطرابات تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩٨٨ وأعمال القمع الذي تعرّضت له، هذا أيضاً ندَر تداوُله وإنْ لم يَغِب كلّيّاً. مع ذلك يُسمع هذا الشعارانِ في الجزائر العاصمة أكثر من أيّ مكانٍ آخر. وسُمع منوّع آخر للشعار الأخير، عندما تظاهر صحافيّو وسائل الإعلام الحكوميّة ضدّ غياب تغطية محطّاتهم للأحداث الجارية، فهتفوا في محطّة الإذاعة الوطنيّة «إذاعة حرّة وديمقراطيّة».
فيما بعد، تمحورتْ شعارات ٢٢ شباط / فبراير والأول من آذار / مارس مباشرةً ضدّ الرئيس بوتفليقة والعهدة الخامسة. تواترتْ في كلّ مكانٍ شعارات «الجمهوريّة ليست مَلَكيّة»، «هذا الشعب لا يريد بوتفليقة ولا أخاه سعيد» أو «هيه، بوتفليقة، لن تكون لك عهدة. أرسِل فوج التدخّل البوليسي، أطلق مغاويرك علينا، لن تكون عهدة خامسة».
تعطي المسيراتُ الانطباع بجموعٍ متماسكةٍ جدّاً: تعبّر عن سعادةٍ محسوسةٍ لأنّها تسير وأنّها تسير معاً، سعادة الإبداع، والشباب الذي ربّما يتفارق مع شعار «سلميّة، سلميّة» الحاضر أبداً. سيّان كنّ فتياتٍ يافعاتٍ ذواتٍ شعورٍ طويلة يعبُرن شارعاً من شوارع العاصمة يوم ٢٤ شباط / فبراير، أو رجالاً يتظاهرون في مدينةٍ ما من مدن الجنوب يومَ الاول من آذار / مارس: الكلّ يكرّر اللازمة إيّاها «سلميّة، سلميّة» الأمر الذي يضفي فكرة «المدنيّة»، بل حتى التهذيب، على رفض العنف. ويا له من شعارٍ لافتٍ عندما يتعلّق الأمر بمسيراتٍ مليونيّة! وسوف تلقاه ينعكس في الممارسات المدهشة للمتطوّعين الشباب الذين يلتقطون النفاياتِ في أعقاب مسيرة الاول من آذار / مارس، أو يكْنسون ساحة الأوّل من أيّار في العاصمة، في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل.
كانت مسيرات ٢٢ و٢٤ شباط قد فاجأت، لكن توقّعات يوم الجمعة في الثامن من آذار / مارس رجّحتْ موجاتٍ عاتيةً من البشر، وقد اختلط التوقّع بالقلق. الهاشتاغ «#لا-للعهدة-الخامسة» الذي سمح بمتابعة الحراك على تويتر، عبّر عن زمن الانتظار هذا. صباح الجمعة، نشر كثيرون صوَر شوارع فارغة تحت شمس الشتاء الرائعة، حيث سوف يتقرّر مصير كلّ شيءٍ للتّوّ. الفرح، الأمل، القلق (مع التضرّعات كي لا يصيب البلدَ أيُّ سوء، وبعض الصلوات أيضاً) تتواتر مع الرهبة التي اتّخذتْ شكل إحالاتٍ تاريخيّة: صور أبطال الثورة، والإشارات إلى أعياد الاستقلال في تمّوز / يوليو ١٩٦٢، تشاهدها في ذلك الفنّ المميّز الذي هو وسائل الاتّصال المجتمعيّة، على شكل مناشير مصوّرة: صور تظاهرات اليوم، منشورةٌ بالأسود والأبيض، لتأكيد التّواصل مع صورٍ يعرفها الجميع عن الماضي التأسيسيّ للبلد.
الجمعة بعد الظهر، باتت الإحالات التاريخيّة سافرة: هذا هو شعار العام ١٩٦٢ «بطل وحيد هو الشعب» مخطوطاً على يافطةٍ عريضةٍ في مقدّمة تظاهرة سيدي بلعباس. الرغبة في البدء من الصفر، أو استعادة البلد من اللصوص الذين أكلوه، تسمع عنها أو تقرأها هنا وهناك. إرادة الارتقاء بحدَث اليوم إلى مستوى الاحتفالات بولادة الدولة، تعني تكريس الحدث الراهن بما هو منعطفٌ تاريخيّ. واحدٌ يعلن على يافطته موت «جبهة التحرير الوطنيّ»، لا يعلن موت الثورة، بل موت الحزب الأوحد الذي توَلّد عن الاستقلال، كأنّما تعبيراً عن الرغبة في العودة إلى تلك اللحظة.
ومع ذلك، لم يرِدْ في التظاهرات أيُّ ذكرٍ لـ«ثورة» جديدة، أو التطلّع لحلم مستقبليٍّ مُشرق. اللافتُ هو لجمُ الحماسة تضارعُه سعادةٌ عامرة تغمر المشاركين معاً في المسيرة. كلّ ما يُقال ويكتَب محْورُه الحاضرُ أو الغد المباشر. كثيرون يفكّرون بالتجارب الأخيرة في تونس ومصر، وأيضاً بالتجارب الجزائريّة الأقدم عهداً، وخصوصاً قطْع العمليّة الانتخابيّة في كانون الثاني / يناير ١٩٩٢. في ما يقال وما لا يقال، في الآمال التي يُراد لها أن تكون متحفّظةً، محتمَلةً، عاقلة، وفي إرادة تفادي الأخطار المعروفة معرفةً تامّة - تحضر تجربةٌ تاريخيّةٌ كاملة.
من بعيد، يُغري طرْح السؤال عن مستقبَل الحركة ومستقبل البلد. والمَيل عند الخبراء - في فرنسا خصوصاً - هو التعبير عن التشكّك، وإطلاق التنبؤّات الكارثيّة، كأنّما ليقالَ لاحقاً: ألم نقل لكم ذلك؟
أمّا في شوارع الجزائر، فالرسالة مكتوبةٌ بالقلم العريض: شاغل المتظاهرين هو مجابهةُ مستقبلٍ مباشر يرفضونه، وهم يحاولون فتح الحاضر من أجل تغيير وتيرة الزمن، دون أن يَغرقوا في استعجالٍ رومنطيقيّ. إنّ التظاهر بالتعاطف يُقلق، وإن يكن صادقاً، وهو يتوقّع للجزائر، من الخارج، مستقبلاً يرجّح أنّه قاتم، يغلق أبواب هذا الحاضر الذي يعمل المتظاهرون الجزائريّون على فتْحها. إنّ تبنّي مثل هذا الموقف يعني اتّخاذ موقفٍ ضدّ هؤلاء.
بناءً على مجريات الأمور الحاليّة، كلّ ما نقول ونكتب، بما فيه هذه السطور، قد يمرّ عليه الزمن في الساعات المقبلة. إنّه مجازفَة صغيرة جدّاً بالنظر إلى هذا الزمن الذي ينفتح، منذ مسيرات برج بو اريج، وسيدي بلعباس، ووهران، ولغوات، أو الجزائر العاصمة، بأقلام وأصوات المتظاهرات والمتظاهرين.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.