يوم الخميس في ٧ شباط / فبراير من هذا العام، أقدم المواطن اللبناني جورج زريق على إحراق نفسه أمام مدرسة أولاده. خسر جورج عمله فقرّر نقل أولاده من مدرسةٍ خاصّة إلى المدرسة الرسميّة لعجزه عن الاستمرار في دفع أقساط الأولى. رفضَت مديرة المدرسة الخاصّة منح الأولاد إفادةً عن أدائهم الدراسيّ قبل أن يسدّد الوالد الأقساطَ المتبقّية عليه.
لم يطلق انتحار جورج زريق في منطقةٍ طرفيّةٍ من شمال لبنان حركة احتجاجٍ كالتي أطلقها انتحارُ محمّد بوعزيزي في منطقةٍ طرفيّة من وسط تونس، لكنّه ذكّر بأنّ القضايا والمشكلات والصراعات التي أطلقتْ أوّل موجة انتفاضاتٍ عربيّة العام ٢٠١١ لم يَخمد أوارُها على الرّغم من الردّات المضادّة للثورات واندلاع الحروب الأهليّة وتكالب التدخّلات الإقليميّة والدوليّة.
جاء انطلاق الحراكَين الشعبيّين الأخيرين في السودان والجزائر للتّذكير بأنّ زلزال العام ٢٠١١ لا يزال يرسل موجاتِه الارتداديّة. وما الحراكان إلّا ذروةٌ جديدة في سلسلةٍ من حركاتٍ شعبيّة تتشارك في الاحتجاج على أنظمة الاستبداد ذات الركيزة العسكريّة - الأمنيّة التي تتزاوج مع أصحاب المليارات والمنتفعينَ من المال العامّ، وعلى النتائج الكارثيّة للتطبيقات النيوليبراليّة خلال ثلاثة عقودٍ من الزمن. ومن أبرز تلك الحركات:
انتفاضة الريف المغربيّ ٢٠١٦ - ٢٠١٧ ضدّ التهميش الجهويّ والاجتماعيّ الذي واجهه القمعُ السلطويّ والاعتقالات والأحكام بالسجن القاسية على المناضلين،
الحراك الاجتماعيّ الأردنيّ العامَ الماضي الذي فرض التراجعَ عن قرار رفْع الدّعم عن الموادّ الغذائيّة والمحروقات ومراجعة قانون ضرائب يلقي أعباءَ ثقيلةً على المواطنين،
انتفاضات الأطراف التونسيّة العام ٢٠١٦، في القصريْن وسيدي بوزيد، التي انتقلتْ إلى الأحياء الشعبيّة في تونس العاصمة، والإضراب العمّالي العامّ لموظّفي القطاع العامّ، بقيادة الاتّحاد العام التونسيّ للشغل من أجل زيادة الأجور،
الحراك العراقيّ المستمرّ بين مدّ وجزرٍ منذ العام ٢٠١٥ ضدّ نهب الأحزاب الحاكمة للمال العامّ («باسم الدِين باكونا الحراميّة») وللاحتجاج على اهتراء الخدمات العامّة وتفشّي البطالة، إلخ.
انطلق الحراك الشعبيّ في السودان ضدّ تعديلاتٍ دستوريّةٍ تجيز ترشّح عمر البشير لولايةٍ جديدة في الانتخابات الرئاسيّة العام ٢٠٢٠. والرجل قد اتمّ العقد الثالث في حكمٍ هو أسوأ ما شهده تاريخ السودان الحديث، عرف الحروب الأهليّة، وحملات القمع الحكوميّة، وارتكاب الجرائم ضدّ الإنسانيّة، وانفصال الجنوب، وأزماتٍ اقتصادية واجتماعيّة أطلقتْ حراك العام ٢٠١٣ عندما بدأت الخرطوم تنفيذ إجراءات التقشّف والخصخصة ورفع الدعم الحكوميّ على الموادّ المعيشيّة التي أملاها صندوق النقد الدولي.
تحت شعار «تسقط، بس»، انطلقت التظاهرات الشعبيّة من عطبرة، المدينة العمّاليّة، ومنها إلى أمّ درمان وسائر المدن والبلدات. كسرَت التظاهرات حالةَ الطوارئ التي أعلنها البشير مطلع مارس. فسلّط على المتظاهرين الشرطة والأمن وعصابات الجنجويد (مرتكبة جرائم دارفور). وقع في المجابهات عشراتُ القتلى واتّسعت حملة الاعتقالات لتشمل الشباب والنساء والصحافيّين ومناضلي الحزب الشيوعيّ.
انطلق الحراك الشعبيّ الجزائريّ هو أيضاً للاحتجاج على ترشيح رئيس الجمهوريّة عبد العزيز بوتفليقة لولايٍة (عُهدة) خامسة، ومعروفٌ أنّ الرجل العجوزَ والمريض يختبئ خلفه فريقٌ حاكم خفيّ من عسكريّين وأمنيّين ورجال أعمال مستفيدين من المال العام. يقول عنه الجزائريّون، بكثيرٍ من الشعور بالاذلال، إنّه يحكمهم من القبر.
ردّاً على أوّل موجةٍ من التظاهرات، أعلن بوتفليقة عزوفه عن الترشّح، وعَزل رئيسَ وزرائه، وعيّن رئيسا جديدا لم يستطع تشكيل حكومة بعد ووعَد الرئيس بتشكيل ندوةٍ للحوار الوطنيّ تدرس الإصلاحاتِ المطلوبة. تصاعد الرفضُ الجماهيريّ بدلاً من أنْ يهدأ لِما اعتبره المتظاهرون لا أكثر من تمديدٍ للعهدة الرابعة. أيّام الجمعة طوفانٌ من تظاهراتٍ مليونيّة لم تشهدْها الجزائر في تاريخها غطّت الولايات كافّة، اختلط فيها عربٌ وأمازيغ، رفعوا شعاراتٍ بالفرنسيّة والعربيّة والأمازيغيّة، واحتشد بها ريفيّون ومدينيّون، وأبناءُ مهنٍ حرّة وطبقات متوسّطة، واعتصم الطلّاب في مدارسهم ينظّمون تظاهراتِهم الخاصّة أيّام الثلثاء، ووصَل الحراك إلى أعماق الصحراء بمشاركةِ عمّال النفط والغاز في حاسي مسعود.
هكذا انتقل الاحتجاج ضدّ العهدة الخامسة إلى الدعوة لرحيل الفريق الحاكم وتغيير النظام. رفض المتظاهرون عقْد ندوة الحوار وأدانوا مسبقاً أيّ تدخّلٍ خارجيّ. هاجموا الدبلوماسيّ المخضرم الأخضر الإبراهيمي، لاتّصالاته الفرنسيّة والأميركيّة، ووزير الخارجيّة رمطان لعمامرة، لزيارته موسكو.
سريعاً برزت التصدّعاتُ في جسم النظام. بدأتْ حركة انسحابات نوّابٍ وقادةٍ وموظّفين من جبهة التحرير الوطنيّ، الحزب الحاكم ومن الحكومة، أخذ بعضُهم يشارك في التظاهرات لتستقبلهم يافطاتٌ تقول «نريدكم أن ترحلوا لا أن تأتوا إلينا». ثمّ جاء دورُ «النقد الذاتيّ» والاعتذاراتِ العلنية التي توالت من قيادات جبهة التحرير وحليفها التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ (هذا الأخير استقال رئيسُه) على أمل ركْب موجة الاحتجاج، فتلقّفهم شعارُ المتظاهرين «نحن تسونامي ليغرقكم، ولسنا موجةً لتركبوها».
في تقدير التطوّرات اللاحقة، يتوقّف الكثير على سلوك القوّات المسلّحة في البلدين. هل يلبّي الجيش السودانيُّ، وكبارُ ضبّاطه من الإسلاميّين، مطلبَ الانتفاضة الشعبيّة السلميّة بتنحيَة البشير وتأمين الانتقال السلميّ والديمقراطيّ للسلطة؟
إلى أيّ مدىً تبقى هذه العمليّة بمنأى عن التدخّل والتأثير الخارجيَّين، علماً أنّ الأزمة السودانيّة مدوّلة، بسبب الملاحقة الجزائيّة الدوليّة بحقّ البشير، التي ترعاها الإدارةُ الاميركيّة، ومعرّبةٌ بالدعم السعوديّ والمصريّ للبشير. لكنّ هذه التدخّلات تبدو أقربَ إلى ترتيبِ خروج البشير أكثر منها دعم بقائه. فقد بدأ تداول فكرة تنحيَته مقابل وقْف الملاحقات الجزائيّة الدوليّة ضدّه. ويجري، في المقابل، تجهيزُ البديل بشخص مدير الأمن صلاح القوش، وقد تداول الإعلامُ أنباءَ اجتماعٍ بين ممثّلين عن السعوديّة ومصر وممثّلين عن الحكومة الإسرائيليّة لتسويق الرجل.
في المقابل، نجح الحراكُ السودانيّ في عزل النظام سياسيّاً وثمّة اّتجاهٌ واضحٌ لتجميع قوى المعارضة حول مطلب تنحّي البشير، بمبادرةٍ من «تجمّع المهنيّين السودانيّين»، انشط طرف في الحراك. وأبرزُ القوى المتألفة «نداء السودان»، الذي يضمّ حزب الأمّة والشباب المستقلّين وحركات معارضة مسلّحة، و«قوى الإجماع الوطنيّ»، التي تضمّ أحزاب الشيوعيّ والبعث والناصريّين، بالإضافة إلى تحالفٍ لمنظّمات المجتمع الأهليّ.
في الجزائر ثمّةَ ما يؤكّد أنّ الجيش نفسَه لا يتحمّل منازلةً جديدة مع شعبه بعد عقدين من الزمن على «العشريّة السوداء». يضاف الى ذلك المَشاهد المؤثرة لتآخي بين أفراد الشرطة والمتظاهرين.
يُقال إنّ لكلّ ثورةٍ وكلّ حركةِ تغيير مرجعيّةً، سلبية او إيجابية، في الثورات أو الحركات التي سبقتْها.
يلجأ الحراك السودانيّ إلى مرجعيّة الحركات الشعبيّة السلميّة التي أسقطتْ عهدي الديكتاتورين إبراهيم عبّود العام ١٩٦٤ جعفر النميري العام ١٩٨٥، وأسّست لفسحاتٍ من الحكم المدني الديمقراطي.
من جهته، اعتمد الحراكُ الجزائريّ مرجعيّة الثورة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ. منذ البداية، رفع المتظاهرون شعار «بطلٌ واحد هو الشعب» العائد لتلك الفترة، وقدّموا حراكهم على أنّه هادفٌ إلى تحرير الجزائر من بقايا الاستعمار الفرنسيّ، في إشارةٍ واضحة إلى رعايةِ فرنسا للعسكر الحاكم، ثمّ أخذوا يستعيدون ذكرى شهداء الثورة يعاهدونهم على مواصلة الكفاح والتحلّي بصبرهم والعناد.
آثار ٢٠١١ لم تكن غائبة. اضمحل في الجزائر خصوصا، الابتزاز السلطوي بمصائر انتفاضات ذلك العام والقول الشائع «بدأ الربيع العربي في سورية بالورود وانتهى بالدماء». أبرز الدروس عدم الانجرار إلى شعاراتٍ ومطالبَ لا قِبَل للحراك بأن يحقّقها، والإصرار على الطابع السلميّ والمدنيّ للحراك. وإذا كان لا بدّ من ذِكر الثورة فلتكن «ثورة الابتسام» كما سمّى الجزائريّون حراكَهم.
ولكن ماذا يعني التغييرُ في السودان والجزائر؟ بل ما هو التغيير الذي يتناسبُ مع حجم قوى الاحتجاج وتطلّعاتها ونضارة لغتها وفتوّة من تمثّل وجدّة وابتكار وسائلها؟
المتداوَل أشبه بخريطة طريق: تنحّي الرئيس، تسلّم طرفٍ حياديّ الإشراف على مرحلةٍ انتقاليّة، سنّ قانونٍ انتخابيّ جديد، عقْد جمعيّةٍ تأسيسيّة والانتقال، عبر دستورٍ جديد، نحو «جمهوريّة ثانية». وما الأولويّات في التنفيذ؟ ومَن، عندما يصير وقتُ التنفيذ، سوف يمثّل الملايين الهادرة في الشوارع؟ أيّ طاقاتٍ جديدة سوف تبرز في خضمّ هذه المهرجانات التي تضجّ بالفرَح والتصميم على الوحدة والتضامن والعناد والسيطرة على النفس في آنٍ معاً؟
ولعلّ أبرزَ الاسئلة في القريب العاجل ستكون كيفيّة تأمين حياد الطرَف الذي سوف يشرف على المرحلة الانتقاليّة واستقلاليّته.
فكيف يمكن إبعاد مؤسّسات النظام الحاليّ، قوّاته المسلّحة وأجهزته الأمنيّة وأحزابه، عن أن تكون «فيها الخصام وهي الخَصم والحكَم»، كما تسعى لأن تكون؟ وهل يمكن ابعاد كل هذه الاطقم القديمة من المشاركة في الحل وبلورة البديل؟
في نهاية الأمر، يتوقّف التغيير، من حيث نوعه ومداه، على ما سوف يسمح به توازنُ القوى بين قوّة الحراك وقوّة السلطات القائمة، ومَن يقف وراءها. فهل سوف نشهد في هذا البلد وذاك انتقالاً سلميّاً للسلطة يعبّر عن الارادة الحرّ للمواطنين، أيْ عن سيادة الشعب؟
البدايات في أوّلها. والأمل لا شفاءَ منه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.