العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

«بدايات» تختتم عيدها العاشر

وتعلّق الصدور مؤقتًا

بهذا العدد تختتم مجلة «بدايات» عامها العاشر.

مطلع الانتفاضات العربية، التقى أربعة رفاق من مناضلي اليسار في لبنان ــ زهير رحّال وغسان عيسى والراحل سليمان تقي الدين وكاتب هذه السطورــ واتفقوا على إطلاق فصلية فكرية- ثقافية تشكل منبرًا للإنتاج والتفاعل على طريق إعادة تأسيس وتوحيد اليسار اللبناني بما يرقى إلى مستوى التحديات التي فرضها انهيار الكتلة السوفياتية ودخول المنطقة العربية عصر العولمة النيوليبرالية وخروج لبنان من الحرب الأهلية. وقد رأوا في الانتفاضات العربية فرصة لا تعوّض أمام اليسار لكي يبلور رؤاه ويعيد تأسيس قواه ويجدّد صلته بقواعده الاجتماعية.

انطلقت المغامرة بصدور العدد الأول في أيار/ مايو ٢٠١٢ تحت شعار «بدايات لكل فصول التغيير». عهد المؤسسون رئاسةَ تحرير المجلة إلى كاتب هذه السطور.

كنا مقتنعين بأنه لا يزال يوجد مكان لمجلة فصلية ورقية تطمح إلى الانتشار العربي وتعيد الاعتبار للمجهود الفكري والثقافي غير المحكوم بالزائل والمتسرّع، يحدوها القلق والجهد لإنتاج المعارف، كما أعلنّا في تقديم العدد الأول. وقد التقطنا ما نبّهت إليه الانتفاضات الشعبية من تلازم بين الاقتصاديات النيوليبرالبية والأنظمة الاستبدادية العربية فعُنينا بإفساح المجال واسعًا لدراسة وقع النيوليبرالية وثقافة الاستهلاك على المجتمع والدولة والسياسة والثقافة في لبنان والعالم العربي. وفي الآن ذاته، أولينا أهمية خاصة للتعرّف إلى تجارب ونضالات شعوب «الجنوب الكوني» وحركاتها الاجتماعية والنقابية والسياسية في هذا العصر الجديد.

تعددت أقسام المجلة وتنوعت من القسم النظري إلى المتابعة الحدثية. وقد أولينا عناية خاصة لمهمّتين صحافيّتين: تعريب الأعمال الجادة والنقدية من الإنتاج المعرفي عن المنطقة العربية الصادرة عبر العالم؛ وتنمية ثقافة العين والذائقة البصرية، في سعي إلى أن تكون المجلة أيضًا مختبرًا للابتكار الفني والتشكيلي.

*****

أفردت «بدايات» أكثر من عشرة أعداد للانتفاضات العربية في موجتها الأولى (٢٠١١–) والثانية (٢٠١٩–). وقد تعددت المساهمات والمقاربات وتنوعت من حيث التوثيق والتحليل والشهادة والتعبير الفني والغرافيكي والأدبي. لكنها ظلّت دائمة السعي إلى إثارة النقاش والتقييم واستخلاص الدروس. نشرنا أكثر من عدد خاص وملف عن مقاومة الشعب الفلسطيني والنزاع العربي الإسرائيلي. وفي قسم الذاكرة، أفردنا أعدادًا خاصةً لاتفاقية «سايكس – بيكو» ١٩١٦، ومئوية تأسيس لبنان ١٩٢٠ ومئوية الثورة الروسية ١٩١٧، وغيرها. وفي الفكر والنظرية نشرنا ملفات لأعمال كارل ماركس وروزا لوكسمبورغ ولنتاج المفكرين الإسلاميين علي شريعتي ومحمود طالقاني ومحمود محمد طه، وخصصنا ثلاثة أعداد لنشر أبحاث ودراسات وتحليلات مستفيضة عن النيوليبرالية ومجتمع الاستهلاك في لبنان والمنطقة.

إلى هذا، عُنينا بافتتاح وتغذية أقسام ليست مألوفة في الصحافة الثقافية: «الحق في المدينة» للعمارة وتوابعها، و«ثقافة الناس للناس» للثقافة الشعبية، و«نهوند» للموسيقى العربية. في قسم «نون والقلم» نشرنا ملفات عن عبد الرحمن منيف وإدوارد سعيد وجون برجر، وكانت أعمال إتيل عدنان حاضرة في معظم الأعداد. وفي قسم «يا عين» خصصنا ملفات ودراسات لكل من دييغو ريفيرا وأمين الباشا اللبناني.

ولعلّ المجالات التي لم نفها حقها أو كان التقصير فيها واضحًا هي الدراسات الشبابية والنسوية والمواد الصحافية المشغولة وخصوصًا المقابلات والندوات. وهذا على سبيل الاختصار.

لم تخلُ مسيرة المجلة من العقبات والعوائق. فهي لا تزال ممنوعة في العربية السعودية ودول الخليج وسورية. توقّف توزيعها في اليمن بسبب الحرب. وبعد أكثر من سنة من طبعها وتوزيعها في مصر، بما هي كتاب غير دوري يصدر عن «دار المرايا»، منعتها السلطات بصفتها «مطبوعة أجنبية»! ومؤخرًا، طلب الموزّع في تونس وقف إرسال المجلة لأسباب لم يفصح عنها. بالرغم من ذلك، لا تزال المجلة توزّع تجاريًّا في لبنان والعراق والأردن وبواسطة «مؤسسة محمد بن سعيد آية إدير» اليسارية الثقافية في المغرب، ولها حضور منتظم في عدد من المكتبات في لبنان وألمانيا وبلجيكا وفي جميع معارض الكتب العربية في أجنحة «دار المتوسط» و«دار رياض الريّس» و«دار صنوبر بيروت». وغنيّ عن القول إن عائدات المبيع والاشتراك على امتداد تلك السنين بقيت أشبه بعائدات رمزية قياسًا إلى المصاريف.

موّلنا السنوات الأولى بواسطة البقية الباقية من ميزانية نادي «اللقاء» الذي كان يترأسه الرفيق غسان عيسى ومن تبرّعات عدد من الأصدقاء، لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، رعوا المجلة ودعموها منذ البداية وبقدر من الانتظام ولم يشاؤوا ذكر أسمائهم. تلقينا أول مساعدة مالية بقيمة ٢٥ ألف دولار من «المبادرة العربية للإصلاح»؛ ثم أمّنت مؤسسة «هنريش بول» صدور بضعة أعداد؛ واستقر التمويل وانتظم من خلال شراكة «بدايات» مع «مؤسسة روزا لوكسمبورغ» خلال السنوات الأربع الأخيرة.

للجميع جزيل الشكر على الدعم وعلى علاقات ميسّرة احترمت استقلال المجلة وحرية خطها وقراراتها.

وقفنا خلال العام المنصرم أمام تجربة الصدور والمستقبل. ولم يقتصر الأمر على ختام السنة العاشرة فقد قررت «مؤسسة روزا لوكسمبورغ» خفض مساعدتها المالية من ١٢٠ ألفًا إلى ٧٠ ألف يورو سنويًّا، من ضمن خفضٍ طاول كامل موازنتها. هكذا اضطررنا إلى الاقتصار على الصدور ثلاث مرات بدل الأربع لهذا العام وخفض علاوات العاملين جميعًا بنسبة أربعين في المئة وتقليص موازنتَي الطباعة والترجمة. فبات بديهيًّا أنّ مثل ذلك المورد المحدود لن يسمح بالاستمرار ونحن لم نوفَّق بعد بمصدر دعم إضافي.

إلى هذا نضيف اعتبارات جديدة تتعلق باستئناف الصدور عندما يكون ممكنًا. فقد شهدت السنوات الأخيرة تطورًا في سمعة المجلة والإقبال عليها، ما يعني أنّ أيّ بحث في الصدور من جديد يستوجب ميزانية من نوع جديد تضمن تعزيز فريق المجلة من حيث العنصر البشري ورفع ميزانية النشر والترجمة. والأهم اتخاذ قرار بالتعويض عن أتعاب الكتّاب. ثم إنّ تلبية الطلب المتزايد على المجلة يتطلّب دخول الأسواق عن طريق شركات التوزيع ومضاعفة الكمية المطبوعة والتحسّب لأسعار شحن وبريد شاهقة بسبب ارتفاع الأسعار العام في لبنان.

بناءً على كل هذا، اتخذنا القرار المؤلم بتعليق صدور المجلة خلال العام المقبل والبحث عن مصادر تمويل لسد متطلبات النقلة الضرورية المذكورة أعلاه. ونحن هنا أمام خيارات ثلاثة: تطوير إنتاج المجلة الورقية؛ البحث في الانتقال إلى الصحافية الرقمية؛ وفي حال عدم التوفّق في الحالتين، اختتام عقد من هذه المغامرة، غير آسفين إلا على عدم التمكن من متابعتها.

*****

حظيت «بدايات» منذ البداية بفريق تحرير متعاون ومتضامن جمع الموهبة إلى الاحتراف وضمّ الزميلات والزملاء جنى طرابلسي وخاجاك آبليان وفيليبا دحروج وآلاء منصور للإدارة الفنية والإخراج، وزينب سرور للتحرير، وأيمن سنّو للتدقيق اللغوي، ونوال عبود طرابلسي للإدارة وعدنان نجّار للمالية وعماد زكي للتوزيع، ومنصور عزيز للموقع الالكتروني. إلى جانب هذا الفريق، نشطت «أسرة تحرير الظل» التي ضمّت ميسون سكّرية وسينثيا كريشاتي ورشا السلطي وأكرم الريّس في مجال طرح الأفكار واقتراح المواضيع ودعوة الكتّاب والمساهمة المباشرة في التخطيط والكتابة. لهنّ وله المحبة والامتنان العميق.

شكر خاص للصديق حسّان الزين الذي يتحمل مسؤولية المدير المسؤول تجاه الدولة. ولفتة إلى ديما شريف وجمانة فرحات اللّتين رافقتانا في سكرتاريا التحرير خلال سنوات.

ولم يكن لهذه المجلة أن تستمر من دون عشرات الكاتبات والكتّاب الذين غذّوها بنتاجهم التطوعي، علمًا أنّ كثرتهم تعتمد على الكتابة لتحصيل المعيشة. لهم الشكر من القلب باسمي واسم فريق التحرير.

وأودّ أن أشكر أيضًا أعضاء «مجلس التحرير الاستشاري» لدعمهم المعنوي وأقدّم لهم الاعتذار لعدم تمكننا من تنظيم التواصل معهم بسبب نقص الإمكانات والوقت.

لقد عاشت «بدايات» طوال تلك السنوات على عوامل عديدة لا تكتسب معنًى لها لولا الأمل. فعلى أمل أن نجد ما يكفي من الأمل الكافي لتحقيق النقلة الصحافية الجديدة. وإلا فعلى أمل أن نلتقي في مواسم تغيير جديدة.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
وتعلّق الصدور مؤقتًا

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.