العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

التجارة ليست وحدها الاقتصاد: دفاعًا عن الانتاج الصناعي والزراعي

من تاريخ الأوليغارشية اللبنانية - ٢

ترجمة فيفيان عقيقي

 

السلك الدبلوماسي للولايات المتحدة
البعثة الأميركيّة
بيروت، لبنان
٣ تموز/يوليو ١٩٤٦
رقم ١٢٥٨

الموضوع: إحالة مسح عن مشاكل لبنان الاقتصاديّة

يتشرّف الموظف التنفيذي بإحالة النصّ المُرفق لكلمة ألقاها مساعد مدير وزارة الاقتصاد نعيم أميوني في الكلّية الأميركية الإعدادية في بيروت مؤخرًا. أُعدَّ النصّ وسُلّم باللغة الإنكليزية، وخضع لتحرير بسيط من المُلحق التجاري لتصحيح بعض الأخطاء المطبعية.

أحيل هذا النصّ الطويل، نوعًا ما، لاعتقادٍ بأنّ المسؤولين الاقتصاديين في الدائرة مهتمّون بمعرفة رأي أحد مسؤولي وزارة الاقتصاد الوطني في بيروت بالمشاكل الاقتصادية الأساسية في لبنان، وما يجب فعله حيالها. يُعتبر عرضه الأكثر وضوحًا وإيجابيّة بين كلّ ما قدّمه أي وزير أو مسؤول لبناني حتى الآن.

حاول السيّد أميونى إقناع وزراء الاقتصاد المتعاقبين باعتماد برنامج اقتصادي والإعلان عنه رسميًّا، لكن باءت محاولاته بالفشل. يتجاهل هذا النصّ غير الرسمي أي إشارة إلى بعض مشاكل لبنان الإداريّة، لكنّه يُبيّن خطوط السياسة الاقتصادية التي يحاول السيد أميوني ترسيخها. يكمُن الخلاف الرئيسي حول ضرورة مراجعة تجارة الاستيراد في لبنان من أجل المصلحة الوطنية. لكن، بما أنّ الاقتصاد المُوجّه لا يلائم لبنان، من المُرجّح أنّه توسّع في شرح الأمر.

يقترح السيّد أميوني القيام بالمزيد من التنمية الصناعيّة، ورفع معدّل الاكتفاء الذاتي في بعض الواردات الأساسية، وزيادة الصادرات. إنّه مقتنع بضرورة تخفيض قيمة العملة المحلّية لخفض مستوى الأسعار من دون أي تأخير طويل وخطير. تتعلّق هذه المسألة بوزارة الماليّة بشكل رئيسي، والتي لا يمكنه التحدّث عنها. لذلك يُحدّد بعض آثار التضخّم، والتوظيف غير الاقتصادي لكثير من السكّان، والتدفّق السكّاني المفرط نحو المدن، وعدم كفاية الوظائف هناك.

يبدو أنّ تركيزه على الإمكانات الصناعيّة للبنان مبالغ فيه، فيما يقلّل من تقدير قيمة أصوله وفوائده كمركز سياحي ومقصد لقضاء العطلات. على عكس الممارسة السائدة هنا، فإنّه يشير إلى فلسطين باعتبارها من الأمثلة الجيّدة على التنمية الاقتصاديّة، مع افتراض مبالغ به بأنّ الصناعات الفلسطينيّة راسخة. مع ذلك، يقف على أرضيّة أكثر صلابة في معارضة وجهة النظر النموذجيّة للتاجر البيروتي من أنّ لبنان يمكنه الاعتماد بشكل أساسي على التجارة.

هناك ما يبرّر بعضًا من الانتقادات القاسية التي يوجهها إلى وجهة النظر قصيرة المدى لتجّار بيروت. على أنّ شكوكه بالقيمة الاقتصادية لمصافي النفط في لبنان توازنها دعوته إلى معامل التجميع وسواها من المؤسسات الصناعية. ويعكس تركيزه على زراعة المزيد من القمح رغبةَ اللبنانيين العامّة في أن يكونوا أقل اعتمادًا على الحبوب السوريّة. وتنطوي مقترحاته الأخرى عن التنمية الزراعية والتنويع على قيمة كبيرة.

لكن لا يمكن اتّباع حجّته الأساسية بأنّ «استنفاد الاحتياطيات النقدية التي تراكمت من خلال تقشّف آبائنا» و«إفقار السكان الزراعيين»– وكلاهما غير دقيق، أكثر من كونهما غير مرئيين– كانا عامليْ توازن في اقتصادٍ دَعم عجزًا في الميزان التجاري بقيمة ١٠٠ مليون ليرة لبنانية خلال ١٥ عامًا ممتدة بين العامين ١٩٢٩ و١٩٤٤. دخل لبنان تلك الفترة وخرج منها، وهو اليوم، لا مدين ولا دائن على الصعيد الدولي، إلّا إذا تطرّقنا إلى المداخيل «غير المنظورة»، أي التي تراكمت في الخارج من أرباح نصف مليون من مهاجريه أو أكثر، ويعتقد بأنّ العديد منهم لن يعودوا، ولكنّهم سوف يحافظون على العلاقات المالية والتجارية الوثيقة وكذلك العلاقات الأسرية مع الوطن الأم.

في الخلاصة، يختم السيد أميوني بأنّ:

  1. الاقتصاد عِلم جديد في لبنان، ويجب تعلّمه بسرعة.
  2. على الرغم من أنّ الحكم الأجنبي أعاق التقدّم، إلّا أنّ مسؤولية لبنان كبيرة في هذا الصدد.
  3. لا يمكن الوصول إلى الرخاء من خلال التجارة وحدها. الاستيراد العشوائي مضرّ، ومن غير الممكن أن يستمرّ، فضلاً عن أنّ أحدًا ليس مستعدًّا لمساعدة لبنان في الحفاظ عليه.
  4. تتضاءل الموارد الشحيحة بالأساس، وتتناقص تحويلات المهاجرين، وتوقّفت نفقات الجيوش الأجنبية. يجب على لبنان أن يعتمد على موارده الزراعية والصناعية، وأن يطوّرها إلى أقصى حدّ. «إذا فعلنا ذلك، سوف نجد المساعدة والتقدير من الخارج».
  5. من بين العديد من الإصلاحات العاجلة، أكثرها إلحاحًا يتعلّق بالظروف الريفيّة. (لم يُضِفْ، كما يعتقد، أنّ انتشار الشيوعية هو البديل في المدى القريب).
  6. قدّمت دولة مجاورة (فلسطين) أمثلة عن إنجازات واضحة.
  7. تمتلك دول عربيّة أخرى قدرة كبيرة على التنمية، وتحتاج إلى إصلاحات إسوةً بلبنان، وعلى لبنان أن يتعاون معها.

نُشرت أجزاء من كلمة السيد أميوني في الصحف العربية في بيروت ولكن لم يَرِد أيّ تعليق عليها. عبّر في محادثة خاصة عن شعوره بأنّه لا يصل إلى أي نتيجة بأفكاره أو حياته المهنية، وأنه يفكّر في تقديم استقالة مبكرة. قدّم مدير وزارة الاقتصاد في دمشق، والخبير الاقتصادي المتمرّس، أكرم ركابي، استقالته الأسبوع الماضي نتيجة إحباط مشابه.

مُرفق:
ورقة بعنوان «مسح موجز عن مشاكلنا الاقتصادية قبل الحرب وبعدها».
    نسخ إلى:
    قسم شؤون الشرق الأدنى
    البعثة الأميركية في دمشق
    أُرسِلت النسخة الأصليّة وصورة طبق الأصل إلى الدائرة.
    مُرفق بالبرقيّة رقم ١٢٥٨ بتاريخ ٣ تموز/يوليو ١٩٤٦
    من البعثة الأميركية، بيروت، لبنان

مسح موجز عن مشاكلنا الاقتصادية قبل الحرب وبعدها

كلمة ألقاها نعيم أميوني في ٢٣ أيار/ مايو ١٩٤٦ في الكلّية الأميركية الإعدادية في بيروت.

أفترض أنّ الناس، وخصوصًا الطلاب، الذين يجدون مراجع كثيرة في الصحافة عن نقص الغذاء، والتجارة، والقيود، والتنمية الصناعيّة ومواضيع مشابهة، يتوقون أحيانًا للحصول على تقرير مباشر من الرجال الذين يعملون على مقربة من هذه المشاكل. إذا كان هذا شعوركم، فلا بدّ أن أرحّب بالفرصة التي أُتيحت لي للتحدّث إليكم اليوم، ومن خلالكم، أنتم الذين تمثّلون جيل المستقبل، للتواصل مع جميع المهتمين بجدّية بالمستقبل الاقتصادي لبلدهم.

كلمتي ليست أطروحة عن النقاط الاقتصاديّة المجهدة. إنّها خلاصة بسيطة عن مواضيعنا الاقتصادية الرئيسية، مكثّفة بطريقة توضح الوضع الحقيقي والخطير الذي نواجهه في لبنان. مع ذلك، أنا أعلم أنّ عملي لن يكتمل، لأنّه لا يمكن فصل الاقتصاد عن الجوانب الاجتماعية والسياسية التي يرتبط بها بشكل وثيق، عدا أنّ موقعي لا يسمح لي بمقاربة هذه المواضيع الدقيقة الآن. مع ذلك، في ما يتعلّق بالأسئلة المُلحّة حاليًّا، سأقدم رأيًا واضحًا قدر الإمكان، وسأكمله، إذا لزم الأمر، بإجابات عن أسئلة فرديّة.

سأبقى في حدود الاقتصاد اللبناني. لكن بما أنّ لبنان وسورية يعيشان في حالة من الاتحاد الاقتصادي، ولديهما عملة موحّدة، ومعظم قوانينهما وأنظمتهما الاقتصادية مشتركة، فقد يجد الطلّاب هنا إجاباتٍ عن الأسئلة المتعلّقة بسورية أيضًا. أمّا بالنسبة إلى دول الجوار الأخرى فلن أتمكّن من التعامل معها بالتفصيل. هنا أيضًا، يمكن للطلّاب أن يطرحوا الأسئلة إذا رغبوا في ذلك.

للتمكّن من إظهار مكانة لبنان الخاصّة، ربما من الضروري تقديم ملخّص عن الموارد الاقتصادية للدول العربية المجاورة مقارنةً مع مواردنا. تمتلك كلّ هذه الدول ثروات كبيرة محتملة، سواء زراعية أو معدنية، ويمتلك بعضٌ من هذه الدول كليهما. العراق وسورية ومصر بلدان زراعية بشكل أساسي، ولديها احتياطيات نفطية محتملة. مع زيادة الإمكانات، يمكن لأوّل بلدين أن يعيلا بسهولة عددًا أكبر من السكان مقارنةً بالوقت الحاضر. تمتلك المملكة العربية السعودية احتياطيات نفطية ضخمة، وعلى الرغم من أنّ بنيتها التحتية قد تكون فقيرة، إلا أنه يمكن استخدام ثروتها النفطية لعمل المعجزات في التنمية الاقتصادية. تتشارك فلسطين والأردن الترسّبات الكيميائية الغنيّة للبحر الميّت. وحتى الآن، لا يمتلك لبنان أي ثروة معدنية مهمة أسوةً بجيرانه، ولا تتناسب مساحته وتضاريسه مع التنمية الزراعية واسعة النطاق. من ناحية أخرى، يتمتّع لبنان بظروف مناخية خاصّة توفّر له الإمكانات لتطوير زراعات خاصّة، جيرانه محرومون منها. كما أنّ لديه احتياطيات مياه محتملة يمكن استغلالها لإنتاج طاقة رخيصة لأغراض صناعيّة. بلادنا معنيّة بشكل مباشر بازدهار جيرانها، الذي ينعكس على ازدهارها.

ما مدى قدرتنا على التعامل مع الاقتصاد، وما هي خبرتنا في هذا المجال؟ بالنسبة إلى الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين، وكذلك السوريين، يُعتبر الاقتصاد موضوعًا جديدًا. إنّها تجربة جديدة بالنسبة إلى حكوماتهما، ولا يمكن إتقانها بين ليلة وضحاها. على عكس الإصلاحات السياسية والاجتماعية، التي يمكن إجراؤها في وقت أقصر نسبيًّا، تأخذ التنمية الاقتصادية وقتًا أطول بكثير، لأنّها تتطلّب بناء الزراعة والصناعة وتوفير الوسائل اللازمة، المالية والمادية وغيرها.

بالإشارة إلى هذه النقطة، ليس سرًّا أنّه لم يُسمح للبنان وسورية بمعالجة مشاكلهما الاقتصادية بحرّية حتى العام ١٩٤٣. فكّر الانتداب عنهما وخطّط لهما. لا أهدف إلى توجيه أي نقد في هذا الصدد، لكن يجب أن أذكر الحقائق للمساعدة في شرح الحالة الراهنة. إذا نظرتم إلى تاريخ الانتداب، تجدون أنه حتى العام ١٩٣٧، لم تتضمّن أي حكومة لبنانية وزارة للاقتصاد. ثم فجأة، بعد توقيع معاهدة الاستقلال الفرنسية- اللبنانية، ظهرت بخفوت أوّل وزارة للاقتصاد، لكنّها ارتبطت بشكل مُربك بوزارة العدل، وفي ما بعد بوزارة الشؤون الخارجية والتعليم العامّ . هذا يعني أنّها لم تكن مشروعًا جادًّا. في الواقع، استمرّت سلطة الانتداب بالاهتمام بحياتنا الاقتصادية، تمامًا كما كانت تفعل سابقًا، وبشكل مستقلّ، لوضع الخطط التي تنظّم وسائل حياتنا. لم يُعلَن عن هذه الخطط، ولكن كانت نتائجها واضحة. إحدى هذه النتائج أنّ لبنان وسورية عانيا من عجز منذ العام الأوّل للانتداب وحتى العام الأخير، واستمرّت هذه الحالة للأسف حتى بعد الانتداب.

إلى أي مدى وصل عجز الميزان التجاري، ولماذا؟ لطلّاب الاقتصاد وحتى للآخرين، الجواب هو في الأرقام الواردة أدناه، التي جُمِعت من الإحصاءات الرسمية، وتوضح لماذا نواجه قوّة شرائيّة غير مستقرة ومنخفضة للغاية بعد سنوات عديدة من الازدهار الواضح. خلال ١٤ عامًا، بين العامين ١٩٢٩ و١٩٤٣، بلغ الفارق بين قيمتَي وارداتنا وصادراتنا نحو ٥٥٢ مليون ليرة سوريّة ولبنانية. يجب ألا تحتسب القيمة الدولية الفعلية لهذا المبلغ الضخم بسعر الصرف الحالي، لأنّ معظم قيمتها فُقِدت حين كان الجنيه الإسترليني مُقدّرًا بـ ٥٥٠ قرشًا.

لماذا؟ لأنّنا استوردنا ما شئنا وبالكمّيات التي نرغب بحرّية. استوردنا السلع الأساسية مثل المواد الغذائية، والمنسوجات، والأدوية، والآلات وجميع السلع اللازمة للحياة العصريّة. كذلك استوردنا كميات كبيرة من السلع غير الأساسية والكماليات مثل العطور، والمشروبات، والمفروشات وآخر الصيحات، بدرجة لا تتناسب مع دخلنا القومي. وفقًا للجمارك، يبلغ متوسّط عدد السلع المستوردة نحو الألف (تحديدًا ٩٩١ سلعة)، تمتدّ من الملح إلى الكافيار ومن الحرير إلى أجهزة الراديو، في حين أنّ صادرات البلدين لموازنة الواردات بالكاد تتجاوز عددًا قليلاً من المنتجات الزراعية مثل الحبوب، والتبغ، والحرير، والحمضيّات والخضروات.

عندما يبدأ الناس بالقلق بشأن خسائر الميزان التجاري، يواجَهون بحجّة ثابتة عن تعويض هذه الخسارة بدخل غير منظور يتأتّى من الأموال المُرسلة من المهاجرين إلى الوطن، ومن عائدات السياحة والترانزيت. درست هذا الجانب ووجدت أنه مجرّد وهم. ما لم تكن هذه العوائد غير المرئيّة، التي يسمّيها بعض اقتصاديينا «خدمات»، دائمة وذات حجم مهمّ نسبيًّا، لا يمكن اعتبارها أصولاً أساسية لدخلنا القومي. في حالتنا، تتناقص تحويلات المهاجرين باستمرار، وهذا أمر منطقي لأنّ حركة الهجرة همدت عمليًّا. السياحة إشكالية وغير آمنة. والترانزيت يتغيّر باستمرار. إذا لم نكن حذرين للغاية لن يبقى مصدر للدخل.

فضلاً عن أن المداخيل غير المنظورة المشار إليها، والتي لا تظهر في الميزان التجاري، يقابلها إنفاق ظاهر، الآلاف من تجّارنا وطلّابنا يقضون الشهور والسنوات في الخارج، وأصبحت زيارة مصر أقلّ شعبية بالنسبة إلى اللبنانيين بقدر ما هي زيارة لبنان بالنسبة للمصريين.

لذلك، فإنّ الآثار الإفقاريّة لعجز الميزان التجاري حقيقية، وما زالت. يمكن لتدبير واحد أن يكون قادرًا على التخفيف من حدّتها، أي تطوير مواردنا الاقتصادية الزراعية والصناعية على حدّ سواء، من أجل إمداد سوقنا المحلّية بأكبر قدر ممكن من السلع الاستهلاكية، وتصدير سلع بما يوازي، أقلّه، قيمةَ الواردات التي لا نزال نحتاجها على الرغم من تنظيمها. لكن ربّما هذا ينطوي على تطلّب الكثير، فتلك السياسة تقتضي تنفيذ إصلاحات جادّة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. عدا أنّ تنمية الموارد الطبيعية وتنظيم الاقتصاد بالمعنى الحديث يعني تجميع القوى من خلال الثروة وتطلّب التقدم الاجتماعي. وهو ما لا يتماشى مع السياسة العامّة التي كانت متّبعة.

هكذا تُرك لبنان وسورية يغرقان بالواردات التي حالت دون نمو اقتصادهما الإنتاجي؛ من الغذاء الذي يمكن زراعته، والقماش الذي يمكن نسجه في مصانعهما الخاصة، ومئات المواد الاستهلاكية التي ثَبُتت قدرتهما الكبيرة على التصنيع إذا أُتيحت لهما الفرصة والمعدّات. أدّت التخفيضات العديدة للعملة الفرنسية، التي ترتبط بها عملتنا، إلى زيادة الضرر المتأتي بالأساس من تأثيرات الميزان التجاري. وسوف يلاحظون بالتأكيد حجم هذا النزيف المالي الذي لا يمكن تعويضه وعواقبه الوخيمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

خلال فترة ما قبل الحرب، تساءل الاقتصاديون كثيرًا عن القدرة على الاستمرار طويلاً من دون الوصول إلى حالة الإفلاس الكامل. رأى بعض الخبراء أنّ الميزان التجاري قد يكون خضع لتعديلات من خلال التدفّقات الماليّة غير المنظورة التي ينفقها الجيش الفرنسي. لا تزال هذه المسألة في خانة الشكّ. أميل إلى الاعتقاد بأنّه إذا تمكّنا من الصمود لفترة طويلة والحفاظ على وضعيّة ماليّة صحية، فذلك لأنّنا كنّا نعيش ونستنزف، ببطء ومن دون وعي، الاحتياطيات النقدية التي تراكمت في أيام آبائنا المتقشّفين الذين لم يعرفوا شيئًا عن كماليات الحياة المعاصرة. خلال هذا المسار الاستنزافي، أصبح توزيع الثروة غير متكافئ بشكل متزايد من خلال إفقار السكان الزراعيين وتهجيرهم من أراضيهم نحو المدينة. وهو ما نشعر به الآن من خلال موارد أريافنا غير المطوّرة إلى حدّ كبير، بالتوازي مع سحب العاطلين من العمل من الأراضي الشاسعة إلى المدن.

هناك مصدر آخر للأموال يوازن الخسارة مؤقّتًا، وهو الحقيقة غير المعلنة الكامنة بمسارعة ملّاك الأراضي والصناعيين المفقرين إلى رهن ممتلكاتهم من خلال المصارف الأجنبية، ما أدّى تدرّجيًّا إلى تحوّل المواقع القيّمة في البلاد إلى ملكيّات أجنبية.

في تلك المرحلة، كان الجزء الأكبر من حجم التداول الاقتصادي مدفوعًا بالاستيراد، وأصبح المستوردون الشريحة الأغنى من السكان، وأكثرها نفوذًا. هذا هو السبب في استمرار الخلط بين الاقتصاد واستيراد البضائع. لكن في كلّ مرّة تخطّط السلطات المسؤولة لإجراء إصلاحات، يُصرّ المستوردون على أن تكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة .

كانت الحرب الممتدّة بين العامين ١٩٣٩ و١٩٤٥ مفيدة للبنان وسورية. أوقفتْ تدفّق جميع السلع غير الأساسية التي هُدِرت عليها الأموال في السابق، وأعادت إحياء الصناعات المحلّية القليلة، وزادت الإنتاج الزراعي، إذ تحوّل لبنان إلى انتاج الفاكهة والخضروات، وسورية إلى زراعة الحبوب. وأدّى الإنفاق العسكري الأجنبي إلى تعويض جزء من الخسائر المالية الموروثة من الواردات الوفيرة قبل الحرب. هل استفدنا بشكل كامل من هذه الفوائد غير المتوقعة؟ تُظهِر الأزمة الآنيّة أنّ لبنان على الأقل لم ينتهز تلك الفرصة.

صعوبات الحرب وما بعدها

بعد العام ١٩٤٣، بدأنا بإدارة مواردنا بأنفسنا، لكنّنا وجدنا صورة مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتدناها، وفهمنا أنّ ظروف الماضي السهلة اختفت. أمّا جوانب الوضع الجديد فهي:
 - ندرة السلع الاستهلاكية
 - عدم الاستقرار المالي
 - تقييد الواردات والصادرات والتجارة الداخلية
 - ارتفاع تكاليف المعيشة

لا يحتاج النقص في السلع الاستهلاكية إلى أي تفسير مستفيض من جانبي. لقد كان ذلك بسبب انخفاض الواردات، وكنز التجّار المحلّيين المخزونات الحالية، وعدم قدرتنا على إنتاج معظم السلع المطلوبة. سوف أَحِيد عن المشكلة المالية لأنّ التعامل معها أمر معقّد وصعب للغاية الآن. لكن الضوابط وارتفاع تكلفة المعيشة تحتاج إلى شرح، لأنها لا تزال تعيق تعافينا العامّ، وقد تستمرّ لفترة طويلة إذا لم يتمّ التعامل معها بشكل مناسب.

فُرضت الرقابة على الواردات خلال الحرب، أوّلاً لأنّ الدول المصدّرة، ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية والإمبراطورية البريطانية، كانت لديها كميات محدودة جدًّا من السلع المتاحة للتصدير، وثانيًا لأنّ لدينا كمية محدودة من العملات الأجنبية لتوفير كلّ هذه الواردات، ولم تعدْ قيمة عملتنا كما كانت في عصر التجارة الحرّة. قُيّدت الصادرات من بلدنا كيلا نُحرم على الأرجح من حاجاتنا الضئيلة من المواد الغذائية والمواد الخام. ولاستكمال الرقابة على وارداتنا وصادراتنا، فرضت السلطات الرقابة على التجارة الداخلية لتنظيم أسعار السلع الأساسية وتأمين استقرار كلفة المعيشة عند مستويات معقولة.

لسوء الحظ، نظرًا إلى الطاقة المتفجّرة للثروة الفردية من ناحية، وعدم قدرة القوانين الجديدة على التكيف مع الظروف المتغيّرة بسرعة، من جهة أخرى، لم تثبت الضوابط فاعليتها، ما أدّى إلى ارتفاع غير مسبوق في تكلفة المعيشة.

تكلفة المعيشة

غلاء المعيشة هو سبب معظم مشاكلنا. لقد تسبّب في تضخّم موازنة الدولة، ومنعنا من التصدير نظرًا لارتفاع سعر التكلفة على المستوردين الأجانب. ثم إنّه يبعِد السيّاح عن شواطئنا لأنّنا واحد من أغلى البلدان من حيث ارتفاع تكلفة المعيشة في العالم. وثمة العديد من الأضرار الأخرى الناتجة من ارتفاع تكلفة المعيشة.

بدأ تضخّم الأسعار بسلعتين أساسيتين: الخبز والنسيج. ووجِهت الحكومات بواحد من خيارين منذ بداية الحرب: القيود الكاملة أو لا قيود البتة. أدّى تطبيق الإجراءات الواقعة بين هذه وتلك إلى انعدام الفاعلية. جرى تثبيت السعر المرتفع للخبز على معدّل التضخّم العالي للعام ١٩٤٣، وعلى الرغم من ضمان توفير الخبز، فقد ساهم سعره في استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادتها. من جهة ثانية، لم يتمّ التحكّم في الأنسجة أو تقنينها، كما أنّ ارتفاع أسعارها باضطراد، بسبب المضاربة، ألقى بعبئه على إنفاق الطبقات العاملة، المثبتة في أعمالها، وأثّر على نحو غير مباشر في تكلفة إنتاج الغذاء.

قد يرغب الطلّاب في تدوين هذا الأثر الغريب: انخفضت أسعار المنسوجات إلى حدّ كبير مؤخّرًا، لكن هذا لم ينجم عن توافر السلع فقط. كان بسبب التدني المفاجئ في القوة الشرائيّة للسكان. كثير من الناس الذين احتاجوا إلى المنسوجات قبل بضعة أشهر ما زالوا في أمسّ الحاجة إليها، لكنهم لم يعودوا قادرين على شرائها. اسألوا مالكي الأسهم في الشركات، قد يكون لديهم ما يقولونه عن هذا الموضوع.

دفعت مشكلة الخبز الاقتصاد اللبناني إلى حالة هشّة جدًّا. قبل أيام قليلة، أدى نقص الخبز، ولو جزئيًّا، إلى التأثير على مروحة كاملة من أسعار السلع الأخرى، وبدأ في زعزعة الهيكل الاقتصادي والاجتماعي بأكمله. وهذا ما ثبت مرّات عديدة خلال هذه الحرب، ولا يوجد أدنى شكّ في أنّ حلّ مشكلة الخبز لدينا يعني حلّ معظم همومنا الاقتصادية. سوف أتناول هذه النقطة بشكل موسع عند مناقشة مسألة الزراعة لاحقًا في هذه الكلمة.

في ما يتعلّق بمراقبة الأسعار، من الخطأ تبرير بعض فشلنا بالنظر إلى البلدان التي فشلت أكثر أو أقل منّا، والأحرى النظر إلى البلدان التي واجهت الحقائق وفرضت ضوابط ونجحت في اجتياز حالات طوارئ مستبعدة التصديق، وهناك العديد من الأمثلة عن هذه الأخيرة.

الموارد والدخل القومي

بعد أن شرحت الظروف التي سبقت الحرب، والأرباح والأضرار التي لحقت بنا بسبب الحرب، سوف أرسم صورة مؤقّتة عن مواردنا الحالية وأحاول تقديم اقتراحات ليس لحلّ مشاكلنا، ولكن على الأقل لإيجاد أرضيّة لخطة عمل.

يعتمد مستوى معيشتنا ومستقبل شعبنا على دخلنا القومي وطريقة توزيع هذا الدخل أو الثروة. إذا كان هذا الدخل منخفضًا أو يوزَّع بشكل غير صحيح، فسوف ينخفض مستوى معيشتنا ويتعطّل التقدم الإجمالي للاقتصاد، والعكس صحيح. لكن الدخل القومي ليس مسألة ثابتة. يمكن زيادته حسب موارد البلد وقدرة السكان على تطوير تلك الموارد. سوف ينخفض الدخل القومي إذا أُهمِلت الموارد الطبيعية، فتكون العواقب الاجتماعية والاقتصادية كارثيّة. ما هي مواردنا الحالية، وما هي إمكانيات تطويرها؟ أولاً: الإمكانات البشريّة.

bid35_p.30-31.jpg


مستودعات تبريد في بيروت.

 

السكان

يبلغ عدد سكان لبنان نحو مليون و١٠٠ ألف نسمة؛ ومنهم ١٤٠ ألف عامل؛ من ضمنهم ١١٠ آلاف فقط يعملون في الزراعة والصناعة (قبل الزيادات الأخيرة في معدّل البطالة): هذه هي الوظائف المنتجة. ويعلن ٢٢٥ ألفًا عن أنهم تجّار وملّاك أراض ومستخدمون وموظّفو دولة ومحامون وأطباء: هذه فئة الوظائف غير المنتجة. وهناك ٧٣٥ ألفًا لا يمتلكون وظائف (من ضمنهم القسم غير النشط من السكان). تُظهر هذه الأرقام أنّ نحو عُشْر السكان يساهمون في تكوين الثروة المادية، وتوفير وسائل العيش لبقية المجتمع، والقسم الأكبر منهم منخرط في العمل الإداري أو المضاربة أو هم متعطلون من العمل.
(لإدراك أضرار المضاربة، وهي إحدى أكبر مشاكلنا، لا يمكن إعطاء مثال أفضل من أسعار الفواكه والخضروات بالتجزئة. يسلّمها المزارعون بأسعار معقولة، لكن لا يمكن أن تصل إلى المستهلك قبل مرورها بالوسطاء، الذين لا يفعلون شيئًا سوى زيادة سعر الشراء بنسبة ١٥٠ إلى ٢٠٠٪).

قد تكون حالتنا المتعلّقة بتشغيل السكان النشطين غير موجودة في أي دولة حديثة. فرنسا، التي تقارن بشكل غير مؤاتٍ مع الدول الأفضل تنظيمًا، يعمل ٣٨٪ من سكانها في الزراعة والصناعة. أمّا بلجيكا فإنّ ٤٣٪ من سكانها النشيطين يعملون في الصناعة، والنسبة نفسها تقريبًا في الزراعة. أمّا عندنا فالنسبة هي ١٠٪.

بالنسبة إلى لبنان، يؤثّر هذا التوظيف الناقص للسكان النشطين كثيرًا على توزيع الثروة، والقوّة الشرائية، والتجارة العامّة والتقدّم الاجتماعي. وأحد الأسباب الرئيسية لهذا الوضع هو الهجرة من الريف إلى المدينة بسبب الاختلاف المعروف في المعايير والافتقار إلى التحسينات الريفية وانعدام الأمن. السبب الرئيسي التالي هو عدم وجود صناعات كافية لاستيعاب القوّة البشريّة المهاجرة.

لحسن الحظ، على الرغم من عوامل الضعف المفروضة عليهم لقرون، لم يفقد سكان البلد كامل حيويّتهم، وعند أخذ المهارة والذكاء بالاعتبار، يتبيّن أنّهم حافظوا على بعض المعايير الجيّدة التي تنكشف بمجرّد أن يتمكّن الأفراد من تحقيق الرخاء المادي.

الزراعة

أرضنا الزراعية غير مطوّرة وفقيرة جزئيًّا بسبب الاستنزاف المستمرّ لعناصرها المغذّية من دون تجديدها بالوسائل العلميّة. يُعتبر القمح القزم الموجود في حقولنا، وضعف إنتاجية التربة (بمعدّل يراوح بين ثمرة إلى ٦ حبّات لكلّ بذرة)، دليلاً واضحًا على ضعف تغذية الأرض.

المياه وفيرة لكنّها تحتاج إلى أنظمة ريّ إضافية وأنظمة توزيع أفضل، والتي لا تقتصر فوائدها على كبار الملّاكين، بل تشمل صغارهم والعمّال الزراعيين أيضًا.
من المعروف أنّ مناخنا يوفّر الظروف المناسبة لزراعة أفضل أنواع الفاكهة والخضروات في العالم.

منتجاتنا الرئيسية هي زيت الزيتون والحمضيّات والحرير، لكن الإنتاج الفعلي لا يتوافق مع القدرة الإنتاجية للبلاد عند تطبيق الأساليب المُحسّنة والإنتاج المنظّم. يكفي تقديم مثال واحد لتوضيح ذلك. قبل حرب ١٩١٤-١٩١٨، كانت الحمضيّات التي تنمو في شرق البحر الأبيض المتوسّط تتركّز في طرابلس وصيدا ويافا. كان محصول فلسطين مساويًا تقريبًا لمحصول طرابلس وصيدا معًا. مع إدخال أساليب الإنتاج الحديثة، ومكافحة الآفات والتسويق العلمي، وصل محصول فلسطين في العام ١٩٣٩ إلى ٧٠٠ ألف طن ، وهي كمّية ضخمة. حاليًّا، يُقدَّر إنتاج الحمضيّات في لبنان بنحو ٧٠ ألف طن. كان محصول فلسطين قبل الحرب أكبر بعشر مرّات من محصولنا، ولا يزال أكبر بخمس مرّات الآن، على الرغم من الإجراءات والقيود التي فرضتها الحرب. لا يمكن احتساب الخسارة التي تكبّدناها من هذا الركود. لم تكتفِ فلسطين بتحقيق ثروة وغذاء وعملات أجنبية تشتدّ الحاجة إليها فحسب، بل أطلقت أيضًا صناعات جديدة لعصير الحمضيّات والزيوت الأساسية، واكتسبت أسواقًا جديدة وشهرة تجاريّة مع كلّ ما تتضمّنه من أرباح.

في ما يتعلّق بأغذيته الرئيسية، ينتج لبنان الآن نحو ٣٠٪ من الحبوب اللازمة لتغذية سكانه. يبلغ متوسّط الواردات السنوية نحو ١٠٠ ألف طن من القمح والشعير بنحو ٣٥ مليون ليرة، دفعها لبنان نقدًا إلى المورّدين الخارجيين حتى العام ١٩٤٢. بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يفهمون كثيرًا بالإحصاءات، يجب أن أقول إنّ هذا المبلغ يتجاوز بكثير السعر الإجمالي لمحاصيلنا الرئيسية من زيت الزيتون والحمضيّات والحرير مجتمعة. لكن هذا ليس كلّ شيء. نحن لا نتغذّى من الحبوب فقط، بل نستورد كمّيات من الأرز والتمر والدهون ومنتجات الألبان تزيد قيمتها على ٦ ملايين ليرة. أخشى أنّه لا يوجد في دخلنا المرئي أو غير المرئي ما يمكن أن يوازن هذه النفقات لشراء السلع الغذائية الأساسية وتخصيص الموارد للحصول على سلع أخرى تتطلّبها الحياة العصريّة.

يذكّرني هذا الموقف المأساوي بقول جبران الشهير: «ويلٌ لأمّة تلبس ممّا لا تنسج، وتأكل ممّا لا تزرع». لا تزال مشكلة الغذاء بالنسبة إلى لبنان خطيرة كما كانت دائمًا.

لا يقلّ خطورة التحذير الذي تطلقه الطبيعة عن تدمير عناصر الحياة في هذا البلد، وأعني الغابات والأتربة. لا شكّ أنّ الطلّاب، الذين يملكون بعض المعرفة عن تأثيرات تآكل التربة، انتابهم الشعور المؤلم الذي أشعر به بعد هطول الأمطار الغزيرة التي تُلطِّخ مصبّات الأنهر على طول أميال بلون بني داكن، هو نفسه لون التربة التي تغذّينا وتُجرَف بعيدًا إلى البحر. تنجرف التربة بسهولة بسبب الأمطار، لأنّ الغابات التي تشكل العائق الرئيسي أمام انجراف التربة قد دُمِّرت، ولا يزال تدميرها جاريًا. لا تقلِّل خسارة التربة المحاصيل الزراعية المتوقعة فحسب، بل تقلِّل أيضًا إمدادات المياه التي تغذّي التربة والغابات. وإلى جانب قيمتها الاقتصادية، تشكّل الغابات الجسم الرئيسي للمشهد الطبيعي الذي يجعل لبنان بلدًا جميلاً.

خلال الحرب العالمية الأولى، تسبّب الجيش التركي، في سعيه للحصول على الوقود، بخسائر فادحة في غاباتنا المفتوحة. لحسن الحظ، كانت الطرق لا تزال نادرة ومرافق النقل أكثر ندرة، وإلّا لكان الدمار أكبر بكثير. لكن خلال هذه الحرب، سهّلت الطرق والمواصلات حصول المجزرة بحقّ آلاف الأفدنة من الغابات الجميلة، التي كان ينبغي إنقاذها بكلّ الوسائل، أو على الأقلّ استبدالها على الفور بمساحات مزروعة جديدة وتأمين حماية كافية لضمان نموّها الكامل.

إنه تناقض مؤلم عندما نلاحظ أنّ الرغبة بالحصول على أرض تدفع الناس إلى تغطية الأسطح الصخريّة بالتربة، التي يتمّ الحصول عليها لقاء سعر باهظ من مناطق بعيدة، بينما ننظر ببعض اللامبالاة إلى أرضنا المجرّدة من كلّ ما يجعلها مكانًا مناسبًا للعيش.

قبل الحرب بوقت قصير، أنشأت حكومة الولايات المتحدة إدارات خاصّة لتجديد الغابات وصيانتها، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة ليست في وضع يائس. يستدعي وضعنا المأساوي بذل أي تضحية من الشعب والدولة. ولحماية المناطق التي جُدِّدت حديثًا لا شيء أفضل من إنشاء محطّات جبليّة دائمة لوحدات الجيش اللبناني لأنّ ذلك لن يترتّب عليه أي نفقات إضافية.

لمكافحة تآكل التربة، أنشأت الدول الحديثة إدارات خاصّة تراكمت لديها المعرفة والخبرة في هذا المجال. وواجبنا في معالجة هذا الضرر غير المرئي والمُقلق لا يقل إلحاحًا عن واجب معالجة مشكلة الغذاء.

bid35_p.36-37.jpeg


توربين مياه في القرعون، آذار/مارس ١٩٦٤

 

الصناعة

على اللبنانيين الذين يحبّون تسمية بلدهم «سويسرا الشرق» في إشارة إلى مناظرها الطبيعية، أن يتذكروا أنّ سويسرا الحقيقية هي أولاً دولة عالية التصنيع، لا تأتي ثروتها الرئيسية من السياحة بل من الصناعة . تجدر الإشارة إلى أنّ عدم امتلاك سويسرا المعادن والوقود، دفعها إلى تكوين ثروة اقتصادية من الصناعات بشكل أساسي، والتي تجعل ميزانها التجاري أعلى بنحو ١٥ مرّة من لبنان وسورية معًا، وبنفس عدد السكان تقريبًا. أين نقف في الواقع في ما يتعلّق بالصناعة؟

قبل عشرين عامًا، كان من المعتاد وصف عجزنا الصناعي بادّعاء عدم قدرتنا على تصنيع مسمار. ثمّ بدأ بالعمل عدد قليل من الرجال الذين يؤمنون بالقوّة الصناعية. حاربوا سياسة الركود التي اتّبعها الانتداب وبنوا المصانع. لا يزالون يقاتلون ضدّ نزاعات ذات طبيعة مختلفة، واليوم يقدّر رأس المال المستثمر في مختلف المؤسسات الصناعية في لبنان بنحو ١٠٠ مليون ليرة لبنانية.

في العام الماضي، على الرغم من نقص المواد الخامّ والآفاق المستقبليّة غير المستقرّة، صنع لبنان أكثر من خمسين سلعة صناعية، كان يجري استيرادها من الخارج مقابل نقود ثمينة. غطّت الصناعات الغذائية بشكل رئيسي المعلّبات والمربّيات والبسكويت والمعكرونة والنشاء والغلوكوز والشوكولا والدهون والبيرة والكحول. في قطاع البناء، هناك الإسمنت، وألواح الخشب، والمسامير، والدهان، والبلاط، وأجهزة الصرف الصحّي والتدفئة. في المنسوجات، هناك الغَزْل والسلع القطنية، والملابس الداخلية، والجوارب، والحرير والصوف. وثمة منتجات أخرى مثل النعال الجلدية والمطاطية، والأحذية الجلديّة والمطاطيّة، وأعواد الكبريت، والصابون، والكرتون، والزجاج، والأجهزة الصناعية والمنزلية. لكن بينما كنّا نصنّع نحو ٥٠ عنصرًا بشقّ الأنفس، كانت فلسطين تتقدّم بقوّة وبسرعة مع أكثر من ٥٠٠ سلعة من بينها مواد كيميائية مهمّة وأدوات وآلات دقيقة. لذلك، إذا كنّا فخورين بالإنجازات الصناعية في لبنان، فلا يمكننا اعتبارها الهدف النهائي، لأنّها ليست أقصى ما يمكننا فعله أو ما يجب أن نفعله في المجال الصناعي. تذكّروا أننا نستورد نحو ألف سلعة، وإذا استطعنا التخلّي عن استخدام بعضها لتوفير المال، فلا يمكننا التخلّي عن معظمها لأنّ لا غنى عنها للحفاظ على المعايير الحديثة ومواكبة التقدّم.

من دون إنتاج صناعي ملائم، لا يمكننا حفظ استقرار اقتصادنا ورفع معاييرنا. أنا مضطر لإجراء بعض المقارنات مع فلسطين لأنّ الناس هناك أدركوا هذه الحقيقة الاقتصادية، وبنوا قوّة صناعية من الأرباح الهائلة التي جنوها من الإنتاج في زمن الحرب، بينما لا يزال شعبنا يتساءل عما إذا كان استثمار رأس مالهم في التجارة التقليدية أفضل وأسهل وأكثر أمانًا. لطالما رغِبتُ بزرع الوعي بأهمّية الصناعة داخل كلّ رجل في هذه البلاد.

اعتاد الناس جني الأموال بسهولة من خلال المضاربة أو التجارة، ولذلك روّجوا لاعتقاد سائد بأنّ لبنان لا يمكن أن يصبح بلدًا صناعيًّا لأنّه يفتقر إلى المواد الخام. جعلت الإنجازات هؤلاء الاقتصاديين الزائفين يصدّقون هذه الكذبة. عناصر الصناعة ليست فقط المواد الخام، فهذه يمكن استيرادها. في الواقع، تتطلّب صناعاتنا المزدهرة استيراد بعض المواد: تستخدم مصانع النسيج القطن والصوف المستورد، وتستخدم المدابغ الجلود المستوردة.

في الواقع، لدينا مواد خام أكثر مما لدى فلسطين التي تُعتبر صناعاتها أقوى بعشر مرّات على الأقل من صناعاتنا، وكانت تتغذّى جزئيًّا من المواد الخام من لبنان: الفاكهة لمصانع التعليب، والأخشاب لمصانع الكبريت وألواح الخشب، والرمل للزجاج، والطين للطوب، والمُغْرَة للألوان، وغيرها.

الخيال والمهارة والشجاعة هي التي تخلق القوّة الصناعية. بإمكان سويسرا أن تكون مثالًا على ذلك، والعديد من البلدان الأخرى أيضًا. لكن لنتحدّث عن فلسطين مرّة أخرى، حيث نشأت صناعة قويّة مؤخّرًا، تقطيع الألماس، ووفِّرت لها العمالة الماهرة. لا تنتج فلسطين الألماس الخام، ولا تشكّل سوقًا للألماس: فهذه المواد الخام تُستورد من جنوب أفريقيا، وتُصنع في فلسطين، وتُصدّر إلى العالم. من خلال المهارات الموجودة فيها، أصبحت فلسطين من مراكز قطع الألماس القليلة في العالم، ويقدّر أنّها تدرّ عليها نحو ٣٠ مليون دولار سنويًّا.

عناصر الصناعة

ما هي آفاق لبنان لتطوير الصناعات، وما هي العناصر التي يمكننا الاعتماد عليها؟

  • العمالة: يتمتّع العمّال اللبنانيون بسمعة طيّبة، وقدّموا دليلاً على قدرتهم على التأقلم مع أساليب العمل الحديثة بسرعة، وبناء تقليد صناعي رفيع.
  • الطاقة: احتياطياتنا المحتملة من الطاقة الكهرومائيّة كبيرة، وتمثّل أحد الآمال التي نعتمد عليها في الانتعاش الاقتصادي، لأنّه ليس لدينا احتياطيّات نفطيّة قيّمة، سائلة أو صلبة. بالفعل، أصبح إمداد الطاقة من المحطّات القائمة غير كافٍ. الضغط الحالي من المراكز السكنيّة والصناعيّة، وكذلك النموّ المستقبلي، يتطلّب مشاريع طاقة إضافية. في هذا الصدد، هناك واقع يجب أن نواجهه؛ لا يمكن توقّع تطوّرات مشرقة في الطاقة من دون رفع المعايير في الريف. على الرغم من أنّ المراكز المزدهرة نسبيًّا، مثل بيروت وطرابلس، يمكن أن تستخدِم المزيد من الكهرباء، إلّا أنّ المناطق الريفية الفقيرة غير قادرة على استقبال هذا العنصر الحضاري الذي لا غنى عنه. أظهر مسح حديث في شمال لبنان أنّ من بين ٥٥ ألف نسمة، هناك بضع عشرات من العائلات تستطيع دفع تكاليف الكهرباء.
  • الوقود: يُعتبر الوقود السائل مادة أساسية في صناعاتنا ووسائل نقلنا، لكن تكلفته أعلى في لبنان من تكلفته في أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. نظرًا إلى التكلفة المتراكمة التي ارتفعت بعد تزايد سحوبات الخزينة وبالتوازي مع ضعف أنظمة الإيرادات السابقة - أصبح سعر الوقود السائل مضرًّا للغاية. إليكم مقارنة أسعار بين لبنان ودول الشرق الأوسط الأخرى:
    • الكاز (لكل لتر): مصر: ٢,١٩ ليرة فلسطينية - فلسطين: ١,٩١ ليرة فلسطينية - لبنان: ١٦,١ ليرة لبنانية.
    • البنزين (لكل لتر). مصر: ١٥,٧٩ ليرة فلسطينية- فلسطين: ١٤,٨٠ ليرة فلسطينية - لبنان: ٢٩,٥٩ ليرة لبنانية.
    • الفيول أويل (للطن). ليرة لبنانيّة. مصر: ٥,٢٦ ليرات لبنانية - فلسطين: لا شيء - لبنان: ٣٤,٨٤ ليرة لبنانية.
  • إن صناعاتنا غير قادرة على مواجهة المنافسة بمثل تلك الإعاقة لإحدى المواد الرئيسيّة. ومن الواجب الوطني إيجاد مصدر آخر من الدخل من أجل تخفيف العبء عن وسائل الإنتاج.
  • النقل: لم يشهد لبنان أو سورية إنشاء أي خط سكة حديديّة جديد لأغراض اقتصادية خلال الـ٣٦ سنة الماضية. بُنِيت تفرّعات صغيرة في سورية تحت ضغط عسكري (السويداء في العام ١٩٢٧، تل كوجك في العام ١٩٣٩) أما فرع الناقورة- طرابلس، فقد أنشئ العام ١٩٤٢ لأغراض عسكريّة هو أيضًا. وهذه علامة على الركود الاقتصادي.
    على الرغم من توافرها في المراكز السياحية المفضّلة، إلّا أنّ الطرقات كانت رديئة وغير متوافرة في المناطق الزراعية الرئيسية.
    ربما تكون رسوم المرافئ والتخزين في لبنان هي الأعلى في شرق البحر الأبيض المتوسّط، كما أنّ رسوم تفريغ البضائع المفروضة على وكلاء الشحن خياليّة، وهو ما يضرُّ كثيرًا بالتجارة والصناعة.
    شهدت طرابلس إنفاق مليون ليرة لإنشاء كاسر أمواج بطول ثلاثة ارباع المِيل، من دون أن يكون له أي غرض واضح. وأصبحت السفن في طرابلس أكثر ندرة ممّا كانت عليه بعد بناء كاسر الأمواج.
  • الشحن: تقليديًّا، يُفترض أن تعجبنا هذه الصناعة التي تتراجع في لبنان. سوف يؤدّي تطويرها إلى امتصاص الكثير من فائض العمالة، وتقليل الكثير من كميات الشحن التي تنقلها السفن الأجنبية، وأيضًا تغطية جزء من العجز في الميزان التجاري. أليس مفيدًا للآفاق المستقبلية التأكيد على أنّ أحواضنا شيّدت بعضًا من أفضل البوارج لأساطيل الحلفاء خلال الحرب؟
    بعد تعداد الموارد الاقتصادية، سأشرح الآن موقفنا المتعلّق بمصادر الدخل غير المنظور، التي تُناقش حاليًّا بشكل مكثّف، لكن مع فهم القليل عنها.
  • التجارة: كما ذكرت سابقًا، لا يزال الخلط قائمًا بين التجارة والاقتصاد بشكل خاطئ. التجارة هي وسيط للاقتصاد، وليست الاقتصاد نفسه. أدّى نجاح عدد من تجّارنا خلال عصر التجارة الحرّة إلى الترويج للاعتقاد السائد بأنّ التجارة تحقّق النجاح بمعزل عن الشكل الذي يتخذه الاقتصاد أو طبيعة الظروف. لذلك، ينمو عدد التجّار في لبنان، المحترفين منهم والهواة، بشكل هائل، لكن بدلاً من أن يكون ذلك النمو ميزة حسب الاعتقاد الشائع، أصبح التجار يشكّلون خطرًا على اقتصادنا. أظهرت التطوّرات الأخيرة المتعلّقة بالاستيراد العشوائي جهلاً تامًّا بالحسّ التجاري وانعدامًا في البصيرة، لا سيّما من الوافدين الجدد إلى التجارة، عدا أنّ غياب الضوابط الصارمة في حالة مماثلة هو أمر خطير على التجّار والتسليف الوطني الموضوع في تصرّفهم.
    في رأيي، تقع على التجّار مسؤولية إيجاد المكان الأفضل لتوظيف طاقاتهم ومهاراتهم، وتنظيم أسواق جديدة لمنتجاتنا، بدلاً من استيراد وعرض البضائع غير الضرورية مقابل الحجم الضئيل من الائتمان المتبقي لدينا.
    من العلامات المحبطة التي لوحِظت مؤخّرًا الاتجاهُ الذي أظهره كبار الملّاكين إلى سحب استثماراتهم الضخمة في الأرض وتحويلها إلى التجارة واستيراد سلع مثل الدرّاجات والنظّارات الواقية وأجهزة الراديو، بدلاً من إعادة استثمارها في الطاقة الإنتاجية أو استخدامها في تحسينها. من ناحية أخرى، أحد الجوانب المشجّعة هو ميل التجّار الناجحين إلى توظيف رؤوس أموالهم في التنمية الزراعية وفق أسس حديثة. الاتجاه الأخير هو بالطبع أصغر من السابق.
  • السياحة: السياحة هي أحد مواردنا، ويجب تطويرها على نطاق واسع وفق الاتجاهات الحديثة. يوافق الجميع على هذه الحقيقة، وتكرّس الحكومة جهودًا كبيرة لتحقيق هذا الهدف. بما أنّ السياحة تغطّي البلاد، ويجب أن تترافق مع الكثير من الدعاية، فهي تخلق انطباعًا بأنّها تمثّل مواردنا الرئيسية. هذا بعيد عن الحقيقة، ويخفي بشكل خطير الأصول الحقيقية لاقتصادنا، وهي الزراعة والصناعة. السياحة غير آمنة ولطالما كانت كذلك، وهي لم تشكّل إلى الآن مصدرًا دائمًا وهامًّا للدخل في هذه البلاد. بالإضافة إلى ذلك، من خلال تركيز جميع الجهود في المجالات الزراعية والصناعية، يبرز الخطر الفعلي الناجم عن تحويل قسم كبير من السكان إلى فئة من المستخدمين، مع خفض المعايير العامّة، وتقليل الناتج الاقتصادي.
    أُجرِيت مقارنة بين عائدات السائحين وبعض السلع المنتجة. مع مجيء نحو ٣ آلاف أجنبي لزيارة لبنان خلال الصيف الماضي، قُدِّرت التدفّقات الوافدة إلى البلاد بنحو ٤ ملايين ليرة لبنانية. درّت سلعتان صناعيتان، غزل القطن والمدابغ، نحو ١٥ مليون ليرة. وأنتجت صناعة ثانوية، أعواد الثقاب، نحو ٢.٥ مليون ليرة في العامين ١٩٤٤ و١٩٤٥. في الزراعة، درّ تصدير الفاكهة المزروعة في المرتفعات بمفرده نحو ٤ ملايين ليرة.
    لا شكّ أنّ مستقبل اقتصادنا يعتمد على الرجال في الحقول والمصانع. السياحة ليست موردًا رئيسيًّا، أقلّه ليست موردًا دائمًا.
  • الترانزيت: تعرّضت أهمّية هذا العنصر للتضخيم بشكل غير ملائم. صحيح أنّ لبنان هو أرض عبور، وقد استُخدِم على هذا النحو. لكن لا يوجد هنا أيضًا أي أثر لدخل أساسي، وهذا ما تُثبته الإحصاءات. أسوةً بالمداخيل غير المنظورة الأخرى، تُعدّ مداخيل الترانزيت إشكاليّة، ولا تسمح بتوجيه كلّ جهودنا نحوها حصريًّا، فقط لأنّها النشاط الأسهل.
    يجب أن أعطي مثالاً عن بلدان لم تعتمد كثيرًا على موقعها كأراضٍ للترانزيت. بلجيكا هي المثال. وهي مثلنا بلد صغير وممرّ لنصف تجارة ألمانيا الغربيّة ولوكسمبورغ وشمال فرنسا. لكن بدلاً من الاعتماد على هذه الموارد الهامّة، طوّرت بلجيكا مواردها الصناعية والزراعية إلى حدّ لم يحقّقه سوى عدد قليل من البلدان في العالم، ونتج من ذلك ارتفاع في مستويات المعيشة. تُظهر لكم الكتب الدراسيّة مدى ضآلة مداخيل الترانزيت في بلجيكا بالمقارنة مع إنتاجها الصناعي والزراعي عالي التخصّص.
  • التسهيلات: في سياق تعداد المصادر الإضافيّة للدخل، لا ينبغي إغفال التسهيلات المقدمة للمؤسسات الأجنبية التي نوقشت كثيرًا، مثل تأجير المطارات، ومناطق التجارة الحرّة، ومصافي خطوط الأنابيب. إذا لم نقدِّر القيمة الحقيقية لمثل هذه المشاريع، وإذا حكمنا عليها بالاستناد إلى حجمها فقط، فسوف نصاب بخيبات أمل مريرة.
    وطرابلس دليل حيّ على خيبات الأمل تلك. منذ العام ١٩٢٠، عاشت ثاني أكبر مدينة في لبنان، والتي كانت ذات يوم ميناءً تجاريًّا مزدهرًا، على أمل الحصول على نفط العراق. بعد أن عانت من ركود اقتصادي حادّ بسبب التعريفات التمييزيّة للسكك الحديدية وأسباب أخرى، رأت طرابلس أنّ حلم النفط يتحقّق، ويحمل معه آفاقًا لوظائف كثيرة وأرباحًا هائلة. أُنشِئ خطّ الأنابيب وبُنِيت مصفاة صغيرة بالقرب من مصب الأنبوب. حاليًّا، يتدفّق مليونا طن من النفط سنويًّا عبر طرابلس، لكن ما الذي تمثّله هذه البنى الضخمة في اقتصاد المدينة؟ ربّما يعرف قليلون أنّ معمل غزل ونسج القطن الوحيد في طرابلس يوظّف أربعة أضعاف العمالة التي توظّفها محطّة ومصفاة نفط العراق معًا. بالطبع، ليس خطأ الشركة الأجنبية أنّها لا تستخدم عمالة أكثر ممّا تتطلّبه مصانعها الحديثة، وليس خطأ الشعب اللبناني، بل مثال عن الأوهام التي يتغذّى عليها الناس، بدلاً من تكريس اهتمامهم للموارد الملموسة.
    نعم، قد تكون التسهيلات جيّدة عندما تأتي على شكل شركات منتجة أو مصانع تجميع، وتوظّف عددًا من المواطنين في كلّ المراتب بما يضاهي حجم المؤسسة، وأيضًا عندما تمهّد الأرضيّة للتعليم الصناعي والإداري لعمّالنا، ولا شيء غير ذلك.

لقد سمعت العديد من التعليقات حول التجارة والترانزيت والسياحة من كلّ فئات السكان، وتركت لديّ انطباعًا بأنّ الرأي العام لا يعلم شيئًا عن هذه المواضيع. لذلك حاولت تبديد بعض الأوهام التي ابتُلينا بها نتيجة الجهل بالحقائق، خصوصًا أنّ المبالغة في تقدير الموارد المساعدة أو شبه الدائمة أو المتخيلة تستدعي تحويل الجهود الوطنيّة عن تنظيم الموارد الرئيسية والأساسية.

ما هي احتياجاتنا الفوريّة؟

لقد حاولت إظهار هشاشة وضعنا الاقتصادي وأظنّ أنني قلت الحقيقة. قد لا يوافق آخرون. قد يقول المموّلون والاقتصاديون الجدد الذين ينظرون من زاويتهم الخاصّة إنّه لا يوجد سبب للقلق. آمل أن يكونوا على حقّ، لكنّني ما زلت أعتقد أنّ التعافي والتقدّم ليسا في متناولهم: إنّهما في أيدي المزارع العصري والمهندس والباحث.

إذا كنتم متفقين معي، فما الذي يجب فعله؟ قال مراقب أجنبي مرّة إنّ ما يميّز أهالي هذه البلاد هو عدم عجزهم أمام الأمور المجرّدة. إذا واجهنا هذا الصيت وأثبتناه بالحقائق، يمكننا إنقاذ أنفسنا. تدفع المشاكل المصيريّة الأمم إلى تحقيق إنجازات عظيمة. مشكلتنا مصيريّة، وأي إجراءات يتّخذها لبنان في هذه الوقت لإنقاذ اقتصاده من الانهيار سوف تقابل بالتقدير والإعجاب في كلّ مكان. لقد حذّرنا ممثّلو القوى الأجنبية مرارًا من أنّ التجارة ليست عملًا خيريًّا، وأيّدوا دائمًا استيرادنا للآلات والمعدّات الإنتاجيّة بدلاً من الكماليّات والسلع غير الضرورية، على الرغم من أنّ النتيجة هي نفسها بالنسبة لحجم تصديرهم.

ما هي إذن أكثر قضايانا إلحاحًا وخطورة؟ أولاً وقبل كلّ شيء الزراعة.

ماذا يجب أن نزرع، وكيف وأين؟ الجواب هو زراعة المزيد من القمح وأفضله، والذرة والحبوب الأساسية، في عكار والبقاع وجنوب لبنان، وفي كلّ بقعة من الأراضي المتاحة، وبطرق محسّنة وعبر استخدام الكثير من الأسمدة. يجب الحصول على الأسمدة من أي مكان وبأي وسيلة، ومساعدة المزارعين على إيقاف العملية الانتحارية المتمثّلة في حرق السماد الطبيعي. ففي حين تُعدّ زيادة خصوبة التربة عبر إضافة المواد الكيميائية أمرًا ضروريًّا، فإنّها تحرمها من مصدرها الوحيد المتبقي من الغذاء. إنهم يحضّرون لمجاعتهم ومجاعة الأمّة من خلال استنزاف الأرض.

أيضًا، يجب تنظيم توزيع الوقود على المراكز الريفيّة الفقيرة حتى يتمكّنوا من إنقاذ السماد الطبيعي من الحرق. لقد أصبح الشرق الأدنى أرضًا نفطيّة، وسوف يؤدّي توزيع النفط على الفلّاحين إلى إنقاذ مصدر آخر للحياة، وهو الغابات، التي دمّرها الفلّاحون أيضًا من أجل الحصول على الفحم والوقود.

مع ذلك، قد لا يتمكّن لبنان، لبعض الوقت، حتى مع استخدام الوسائل الحديثة، من إنتاج كلّ القمح اللازم. فما هي الخطوة التالية في هذه الحالة؟ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وإذا كنا نستهلك الكثير من الخبز، فذلك لأنّ غالبية السكّان يفتقرون إلى السلع الغذائية الأخرى التي يمكنهم إنتاجها بسهولة أكبر من القمح. واجهت دول أخرى المشكلة نفسها تقريبًا، وتعاملت معها بنجاح عبر استخدام الخيال والقرارات الجريئة. خلال الحرب، طوّرت بريطانيا زراعة البطاطا واستخدامها كطعام وحوّلتها الى ما يشبه العقيدة. قبل بريطانيا، طوّرت أوروبا الوسطى والشرقية البطاطا التي تنمو بمعدّل يزيد عن طن لكلّ فرد. أنتجت بولندا وألمانيا وروسيا مئات ملايين أطنان البطاطا. في الشرق الأدنى، لبنان هو أرض البطاطا بامتياز. لكن محصوله السنوي صغير للغاية، ويبلغ متوسّطه نحو ٣٠ ألف طن، مع ذلك، يعيش المزارعون في حالة قلق بشأن تصريفه. يمكن مضاعفة هذا المحصول بسهولة أو حتى زيادته إلى ثلاثة أضعاف. وسوف يؤدّي جزء منه إلى تحسين النظام الغذائي للسكان، الذين يجب تدريبهم وتثقيفهم لهذا الغرض، ويمكن أن تخصّص الكميات الباقية لإطعام الخنازير والماشية، التي سوف تتحوّل إلى اللحوم والأجبان والزبدة التي يزداد الطلب عليها. ويمكن مضاعفة محصول زيت الزيتون بأساليب وأسمدة أفضل، ومع زيادة صادرات الزيت سوف يتحسّن الميزان التجاري. كذلك يمكن زيادة إنتاج الحمضيّات ثلاث مرّات على الأقلّ، وإعادة تنظيم الصادرات، وتنويع الصناعات، وخلق فرص العمل. ويمكن تصنيع الأسمدة النيتروجينيّة في لبنان بفضل الطاقة الكهربائية الرخيصة.

يمكنني الحديث عن المشكلة الزراعية بشكل أوسع، لكن يجب أن أترك الأمر للخبراء الأكفّاء الذين لدينا الكثير منهم، صدّقوني. يمكنهم صنع المعجزات. إذا كانوا عاطلين من العمل الآن، فذلك لأنّهم عانوا من خيبات أمل متكرّرة، لكن الأمر متروك للدولة لتستدعيهم لتولّي وظيفة التعافي. عندما يحين الوقت يجب إعلان أسمائهم ونشر أعمالهم.

بالتوازي مع التطورات الزراعية، هناك التحسينات الريفيّة التي هي أساس المشروع. لقد أشرت للتو إلى أحد الجوانب العديدة للبؤس والجهل في الريف: تدمير الأسمدة الطبيعية. هناك جانب آخر يكمن بخسارة الفلاحين نحو ١٥٪ من محصول الذرة من خلال أسلوب الطحن البدائي بسبب عدم وجود مطاحن حديثة في مراكزهم. يمكن مضاعفة الأمثلة، وهي تؤثّر على الثروة العامّة للأمّة، ثروتكم وثروتي. التحسينات الريفية، المادية والاجتماعية، هي حاجة ملحّة. وضعت بعثتان اقتصاديتان أجنبيتان حديثتان أصابعهما على الجرح، وأوصتا باتخاذ إجراءات فوريّة كشرط أساسي للانتعاش الاقتصادي.

مشكلتنا العاجلة التالية هي الصناعة. لا حاجة لتأكيد أهمّية هذا القطاع الاقتصادي في توفير مستويات معيشة عالية للأمّة، ماديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. لا حدود للإنجازات عندما توضع قوّة الشعب ومهاراته في خدمة التصنيع. لقد رأينا مؤخّرًا شعوبًا تنهض من الزراعة البدائيّة إلى النموّ الصناعي العالي. لدينا صناعات ناشئة تواجه الاختناق والموت. ولقد عدّدتها. من الضروري السماح لها بالاستمرار والتطوّر . يجب تحريرها من الضرائب التي تعيق نموّها وتزيد تكلفة إنتاجها، ويجب رفع الرسوم الجمركيّة عن المواد الخام والآلات والمعدّات اللازمة لها. لن يسمح لهم أي بديل آخر بالبقاء.

بدءًا من السلع الاستهلاكية، يجب أن يتطوّر الدافع إلى التصنيع ليصبح عقيدة وطنيّة، وأن يُعمَّم عبر المطبوعات والمحاضرات وجميع وسائل الدعاية المتاحة.

أحد العناصر المهمّة هو توصيل الكهرباء إلى كلّ منزل في لبنان، وإطلاق الصناعات الصغيرة: التطريز، والزخرفات، والألعاب والقطع المنزلية الصغيرة، من الخشب والحرير والعظام والزجاج وغيرها من المواد. لكن، هنا أيضًا يجب أن أترك الكلمة للمتخصّصين. إنّها إحدى وسائل وقف الهجرة من الريف إلى مدينة وتجديد حبّ العمل.

لكن من سوف يبدأ بذلك، وكيف؟ إذا فشلنا في الإجابة، أعتقد أننا لن نكون مخوّلين للعيش بكرامة. أنا واثق من أنّ الدولة، التي يتوقّع الجميع أن تقوم بدور نشط في تنظيم الاقتصاد، لن تفشل في ذلك. يجب أن نجد حلولاً جديدةً خاصّةً بنا لمواجهة الظروف الجديدة، لأنّه لم يعد بإمكاننا انتظار الآخرين لإيجاد حلول لنا.

bid35_p.42-43.jpg


مصنع هولسيم لبنان للإسمنت.

 

سورية

لأسباب جغرافيّة وغيرها من الأسباب، تبدو سورية، التي نحن في اتحاد اقتصادي معها، أكثر اهتمامًا بالناحية الاقتصادية، وبأي حال لديها وعي صناعي أكثر منّا. سورية بصدد البدء في برنامج تصنيع واسع، ووضعت الخطط لإنشاء مصانع للمنسوجات، والمعلّبات الغذائيّة، والكيميائيات، والسكر، والورق والزجاج كبداية. ولم تضيّع أي وقت لجمع الأموال اللازمة لإنجاز هذا البرنامج.

تقوم سورية بهذه الخطوة على الرغم من أنّها، على عكسنا، مكتفية ذاتيًّا بسبب إنتاجها الجيّد، ولا تخاطر باستنزاف مواردها المالية وتعريض مستقبل سكانها للخطر.

ما تفعله سورية ليس منطقيًّا فحسب، بل ضروري للغاية. تُعتبر رغبة التصنيع عالميّة حاليًّا، لأنّها تعني القوّة والتقدّم والاستقرار.

أدرك العراق أيضًا أهمّية التصنيع، وأحرزت مصر تقدمًا كبيرًا في هذا المجال، لكن أود العودة إلى فلسطين مرّة أخرى. هناك تجربة تستحق دراسة دقيقة، لأنّها أُجرِيت في أرض مشابهة لأرضنا، وهي بمثابة خلاصة بحث اقتصادي مُتقن. على الرغم من أنّ الطبيعة لم تمنح فلسطين الموارد والظروف المناخية المميّزة التي يتمتّع بها لبنان، إلّا أنّ فلسطين أصبحت نموذجًا في الإنجازات الزراعية والصناعية. خلال الحرب، تمكّنت الصناعات الفلسطينية، بمساعدة مراكز الأبحاث والمختبرات المجهّزة جيّدًا، من تصنيع كلّ ما تمّ توفير المواد الخام له.

لا ينبغي أن يوقفنا شيء عن وضع خطط كبيرة وأكثر جرأة وتحويلها إلى حقائق.

يمكنني تلخيص هذه المداخلية بالعبارات الآتية:
إن الاقتصاد علم جديد بالنسبة لنا. وعلينا أن نسرع الخطى من أجل إتقانه بسرعة.
تركت العقود الثلاثة الماضية مواردنا في أزمة، لكن مسؤوليّتنا عن الوضع الحالي كبيرة.

لا يزال الكثير من الناس ينظرون إلى الازدهار من الزاوية الضيّقة للتجارة وحدها. يجب أن يدركوا أنّ الواردات العشوائية مضرّة. لا نمتلك القدرة لتحمّل المستوى السابق، ولا أحد مستعدٌّ لمساعدتنا على القيام بذلك.

تتضاءل مواردنا الزهيدة بالأساس، وتتناقص عوائد المهاجرين منطقيًّا، ويتبدّد إنفاق الجيش الأجنبي. يجب أن نعتمد على مواردنا الزراعية والصناعية، وأن نطوّرها إلى أقصى حدّ. إذا فعلنا ذلك، سوف نلقى المساعدة والتقدير من الخارج.

عمليًّا، الإصلاحات العاجلة مطلوبة في كلّ جانب من حياتنا، لكن الظروف الريفية هي الأكثر إلحاحًا.

لدينا أمثلة عن إنجازات واضحة حصلت على مقربة منا، في بلد أفقر من بلدنا في الموارد الطبيعيّة. ولدينا العديد من الأمثلة الأخرى في العالم.

 لدى الدول العربية الأخرى قدرات هائلة على التنمية. إنهم بأمسّ الحاجة إلى إصلاحات مثلنا، ويجب أن نتعاون معهم.

هناك حاجة إلى الخيال والشجاعة والمغامرة لإنجاز هذه المهمّة. فهل نفتقر إليها؟

 

العدد ٣٥ - ٢٠٢٢
من تاريخ الأوليغارشية اللبنانية - ٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.