هو أحد المخبوئين في ذاكرة النسيان الإعلامي والنقدي على الرغم من الأعمال التي بدَت لغزارتها حدسًا بموته المبكر. كلّنا يعرف «بالساحة تلاقينا» و«باعتلك سلامي» لوديع الصافي، لكن من منّا يعرف اسم ملحّنهما؟ من منّا يعرف أنّ الاخوين رحباني بحثا طويلاً عن مصدر فولكلوري لـ«بالساحة تلاقينا» ظنًّاً منهما أنها من ذاك التراث، فلم يعثرا سوى على روح عفيف المتوهّجة المجبولة بهذه الأرض.1
من منّا يعرف أعمال هذا الملحّن المبدع معرفةً تليق بما قدّم؟ هو سؤالٌ مُرٌّ مرارةَ التهميش الذي قصَر الفنَّ اللبناني على أسماء بعينها كان لها من العناية، ولاحقًا التوثيق، النصيبَ الأكبر، وربما الأوحد، حتى تعاظمت وغدَت دولةً فنيةً لها مؤسساتها الإعلامية والإدارية والترويجية داخل الأجهزة الفنية التابعة للدولة. وقد أدّى ذلك إلى طمس مبدعين آخرين قدّموا للموسيقى اللبنانية أعمالاً جديرةً بالاهتمام، لا سيما أصحاب المواقف السياسية العروبية. من هؤلاء عفيف رضوان والملحّن حسن غندور ونجاح سلام ومحمد سلمان، في بلدٍ كان يصف نفسه بـ«سويسرا الشرق» ويحاول الالتحاق بالغرب والانتساب إلى ثقافته من خلال نفي العروبة عن لبنان و«فَيْنقة» كلّ شيء آنذاك، إذا جاز التعبير. لذا بدا من الإنصاف في الذكرى الخمسين لرحيل عفيف رضوان الإضاءة على شيءٍ من إنتاجه، والغوص في عالمه الفنّي ومحاولة رسم معالم عطائه الإبداعي.
صلابةٌ وهشاشة
قليلة هي المعلومات والمصادر التي توثّق سيرة عفيف رضوان بدقّة لأسبابٍ بعضها خاص، يتعلّق بمعاناته الفردية وربما بشخصيته الميّالة إلى العزلة، وبعضها يتعلّق بالمناخ السياسي العامّ للبلد والانقسام العمودي بين هويتين وثقافتين، كان عفيف جزءًا أصيلاً منه وعنصرًا فاعلاً فيه مدافعًا عن مبادئه العربية في أشد اللحظات التاريخية حسمًا وصدامًا. هو المنتمي إلى القومية العربية، وجمال عبد الناصر، وفلسطين، المثلث الذي شكّل وجدانه الوطني والفنّي وتبّدى في العديد من الأعمال والمواقف والأناشيد الوطنية التي أثّرت في الوجدان العربي وواكبت الأحداث الكبرى كالعدوان الثلاثي على مصر، وملحمة بور سعيد، والثورة الجزائرية، فكان نشيدُ «وطنّا في خطر» عام ١٩٥٦مع رفيقة الدرب نجاح سلام أوّلَ نشيدٍ أُطلق في «صوت العرب» أثناء العدوان الثلاثي، تناقلته الإذاعات العربية بعد القصف الذي حاول إسكات صوت الإذاعة المصرية الرائدة.
هذه الصلابة الوطنية كانت تقابلها هشاشةٌ عاطفيةٌ عزلتْه خلف أسوارها، منكفئًا على ذاته، مبدِعًا بعيدًا من الصخب الإعلامي. فظلّت سيرته محفوظةً في صدور من عرفه وجايله، وغابت بغيابهم. عمومًا، لا تهدف المقالة إلى رواية السيرة. هي محاولة لاستنطاق أعماله ومحاورتها والبحث في ثناياها لاستثارة الأسئلة الكاشفة عنها. بين العشق والوطنية، قضى ابنُ قرية البابلية الجنوبية عن ٤١ عامًا صريعَ ابتلاءٍ مزّق قلبه بين صورةٍ يكرهها ومثالٍ يرجوه. تراجيديا دفعتنا لولوج عالمه من باب الحبّ لندنوَ ونقتربَ من فهم صحيح لأخيلته المدهشة والتفاتاته اللحنية الموجعة، ونقلاته الفنية المضمّخة بالالتياع، ونغماتٍ لطالما عبّرت عن الإحباط والخذلان، لم يكن للبهجة فيها إلا ظلال. تراجيديا لوحتِه حتى الرمق الأخير بين إرادة الحب وإرادة الخلاص منه، غرام استنزاف، ظنّ سقياهُ من خمرة الموسيقى والنسيان يشفيه، فما زاده اغترافُها إلا وَجدًا حتى هلك، فخسرت الموسيقى العربية جملةً جديدةً في كتابها وبذرةَ تَحوّلٍ لم يرتفع جذعها أكثر من عقدين من عمر أريجها الفنّي.
غزالي
عفيف ملحّن متمرّد يصعب ترويضه، وصاحب أسلوبٍ فريدٍ لا تخطئه الأذن. أضفى على اللحن الشرقي مضامينَ حداثيةً جديدةً من وحي تأمّلاته الخاصة ورؤيته المفتوحة على آفاقٍ لا يشبهها شيء أكثر من توقه إلى الحرّية والانعتاق من أسْر التنميط، والحفر في أعماق المقامات الموسيقية بجرأة، بحثًا عن مواطن عذراء وزوايا مطفأة. يكمن جديده في كسْر التسلسل المنطقي للجمل اللحنية ومآلاتها النغمية بالتفاتاتٍ مقاميّةٍ غير متوقعة، خارجة عن السباق وعن سَرب الصياغة التقليدية، متجاوزًا الكثير من القواعد اللحنية والمعايير الجمالية الرائجة. فقد صاغ المقامات الشرقية بطريقة مبتكرة لخلق أجواء طرائفية مسكونة بالدهشة والغربة عن السائد والمألوف.
لا نغالي إذا قلنا إنّ لعفيف «أوّلياتِه»، منها على سبيل المثال كيفية تناوله لمقام «الصّبا» في أغنية نجاح سلام «غزالي» (١٩٦٣) بشكل تحرّري تقدّمي غير مسبوق. أدهش فيها كبار الملحنين في الوطن العربي وفي مقدّمتهم محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، إلى الحدّ الذي دفع عبد الوهاب إلى القول «ليته يأخذ عَشرًا من ألحاني ويعطيني غزالي»، وإنّ «عفيف رضوان جملة جديدة في الموسيقى العربية». أمّا بليغ فلم يكتفِ بالأمنيات، بل استلهم الأغنية في لحنه الشهير لوردة «وحشتوني» في الكوبليه ومطلعه «خدوني حبايبي خدوني». وكان يرى في عفيف توأمَه على نحو ما قدّم في هذا العمل توليفة مقاميّة جميلة، وظّفها في تظهير وتعزيز مقام الأغنية الأساس، وهو مقام الصبا، ومنحه بُعدًا دراميًّا من خلال الرجوع إليه في انعطافة لحنيّة شبه حادة بعد كل مقطع. والتوليفة المقامية التي قدّمها مجاورة للصبا، أي أنه لم يبتعد، لم يشطح أو يشذّ، فالمقامات التي لامسَها، كالعجم والكورد، أو التي لحّن منها اللوازم والكوبليهات، كالرست والبيّاتي وراحة الأرواح، بعضها من داخل سلّم الصبا، ومع ذلك تشعر بأنك أمام صياغةٍ حديثةٍ بكر وليدة روحه المشتاقة إلى التفرّد والاختلاف.
وقد بلغ مقام الصبا في هذا العمل ذروة تألّقه وتمام معناه حتى بدا من الصعب أن يضاف إلى خياله خيالٌ وإلى عمقه عمق. نوعٌ من الإشراق الموسيقي والرؤية القلبيّة التي تقبض على سرّ المقام وكنهه، تفجّر طاقاته، تؤصّله وتحرّره في آن. تلك هي روح عفيف الحرّة، وذاك هو اغترابه الشجيّ، اغتراب الفنّان الملهم المبدع الظاهر بجلاءٍ في لغته الموسيقية، واغتراب ابن البابليّة الجنوبي الذي، ككلّ جنوبيّ، عانى من التمييز والاضطهاد والارتحال وتوَّج الحزنَ تيمةً أساسيةً في نتاجه، حتى في ألحانه المعبّرة عن البهجة. حزنٌ عميقٌ يرجع صداه أيًّا كانت المشاعر، تلمحه في ظلال الجملة اللحنية، في قفلات الحزن الحارقة، في إيقاعاته وتحويلاته الملتاعة التي ترجع أصداء كربلائيةَ الروح أحيانًا كثيرة، وإن بشكلٍ غير صريح.
«بحريّ المزاج»
المقامات في خيال عفيف رضوان تخرج من ذاتها وتتحرّر، فلا تعود أسيرةَ التكوين. يعتقها عفيف من التناول التقليدي ويُطلق جناحها لتحلّق في الغريب والمدهش. غربةٌ تشعر بها في جمله وانتقالاته التي تُحدث خفقةً عالية، ثم تختفي كالشهب لتَليها جملةٌ أخرى تمحو الأثر. ومضةٌ من ومضات روحه التي عبَرت فضاء موسيقانا العربية ومضت قبل أن تكتمل دائرة القمر. أتراه كان يشعر بقصر عمره فسعى إلى استنطاق مخزون الخيال في الطقطوقة التي طغت على نتاجه وعلى الأغنية اللبنانية آنذاك ولا تزال؟
عفيف ملحّن تلقائي تعبيري. أعماله تسجيلٌ دائمٌ للحظاتٍ عابرة من دون الجوْر على سلاسة الفصل والوصل في ما بينها. ليس لحنُه حالةً ذهنية عقلانية في المجمل، بل إحساسٌ مباشرٌ وانفعالٌ نفسي لحظوي يتبدّى في تلك النسب الموسيقية الغريبة التي تفاجئنا على الدوام. إنّ المسار النغمي الذي يسلكه اللحن العفيفي ليس «نهريّ» المجرى، بل «بحريّ» المزاج يصعب عليك أن تتوقع لحظة تقلّبه أو انعطافه. هل يعني ذلك أننا أمام فوضى لحنيّة تربك ذائقتَنا وتُغرقنا في التوتر السمعي؟ كلا، بل إنّ هذه التعرّجات المفاجئة والانعطافات الحادّة تجعلنا نتأمّل
معنى الحرّية والانعتاق المسؤول الذي لا يجور على التقاليد الموسيقية إنما يفتح لها مصاريع الخيال.
وقد أوقف موت عفيف المفاجئ تطورًا محتملاً في إبداعه يتجاوز الطقطوقة، لينطلق ربّما إلى رحاب التأليف الموسيقي الذي أرسَل إشاراته الخاطفة في عددٍ من الأعمال السينمائية والأناشيد الوطنية. من تلك على سبيل المثال «نشيد مقاومة» – من كلمات الشاعر معين بسيسو وأداء مذهل لنجاح سلام، راعية بداياته ورفيقة الدرب – ونشيدُ «جميلة» لوردة الجزائرية، وكذلك الاستعراض الختامي والفينالا الموسيقية لفيلم «فداكِ يا فلسطين» الذي أخرجه أنطوان ريمي عام ١٩٦٩، وهو من بطولة سناء جميل ومحمود سعيد.
تُضاف إلى ما سبق عشراتُ الألحان السينمائية المعبّرة عن المواقف الدرامية للمخرج محمد سلمان الذي شكّل مع عفيف ونجاح ثلاثيًّا فنيًّا ناجحًا، فكان عفيف الملحّن الأول والقاسم المشترك لغالبية أفلام سلمان، مع حسن غندور وزكي ناصيف وآخرين. من تلك الألحان السينمائية اللافتة قدّم عفيف «أنا صيّاد» لفهد بلّان من فيلم «يا سلام على الحب» (١٩٦٣) في صياغة لحنيّة بديعة وتناولٍ جميل ومميّز لمقام الرَّسْت من درجته الأصلية (دو) لكن بحساسية جديدة ووقع مغاير، وأغنية «مش موجود اللي يلوّعني» من فيلم «بدويّة في روما» (١٩٦٥) لسميرة توفيق في خروجٍ غير مألوف عن لونها البدوي ومناسبٍ للمشهد الذي تدور أحداثه في حانة ليلية. وقد جاء اللحن غربيّ الإيقاعات شرقيّ الميلودي في استخدامٍ عالي الذوق لآلات النفخ والآلات الإيقاعية ولحظات الصمت الخاطفة والمؤثرة بين اللوازم ودخول اللحن الجميل جدًّا ما يؤكد مرةً أخرى احتمالية التأليف الكامنة في قدرات هذا الملحن الموهوب. وعفيف من الملحنين اللبنانيين القلائل الذين قدّموا أعمالاً ذات طابع غربي منذ بداية مسيرته تغنّت بها زوجته جاكلين التي اشتهرت بتقديم ما اصطلح على تسميته بالفرانكوأراب. من تلك الأعمال أغنية «بليز» من فيلم «مرحبا أيها الحب» (١٩٦٢) والتي تُذكّر بأعمال قدّمها من قَبل محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، ومنير مراد، ومحمود الشريف، لم يقدمها افتتانًا، بل كانت في غالبيتها أعمالاً سينمائيةً تحاكي مشاهد بعينها.
«القفلة العفيفيّة»
تُشكّل قفلة أغنية عفيف رضوان، أو ما يمكن تسميته بـ«القفلة العفيفية»، ركيزةَ اهتمامه. هي دائمًا مفاجئة وحرّاقة (بلغة الموسيقيين)، ومصبّ شلّاله المفاجئ والمفارق للسياق اللحني في أحيان كثيرة، فيبدو كأنه يلحّن لأجلها، ويبذل في سبيلها كلّ خيال. لا تخضع قفلته لمنطق المسار اللحني بالضرورة، والمسارُ اللحني في كثير من الأعمال لا ينبّئ بالنهايات بل ربما يؤسس لبدايات جديدة من خلال قفلات درامية مستقرة وأخرى معلّقة وحُبلى بالأسئلة.
تُجبرك «القفلة العفيفية» على التلفّت والانتباه والتأمّل في محاولةٍ لخلخلة أساليب الإصغاء الخامل والاستماع السلبي وغير الفاعل. لا مناصَ حينئذ من السؤال: كيف خطرتْ له ومن أيّ منهلٍ شعوريّ بعيد نهل حتى خرجت غريبة وجميلة وعصيّة إلى هذا الحد؟ «القفلة العفيفية» متمرّدة وقصِيّة كروحه المحلّقة خارج السرب، تقوم على الانعطاف المدهش والمفارق. هي تجلٍّ من تجلّيات ثلاثيّته المقدسة «العتق والعشق والغربة»، تنزع الآه من عمق انجذابك إلى عمق الشجن. يدّخرها عفيف للأصوات المتمكنة القادرة على التحكم بتقنية أدائها الصعب. ولعلّ أغنية «يا ساكن قلبي كان خالي» لوداد تصلح نموذجًا توضيحيًّا لتقنيات «القفلة العفيفية» المبتكرة. هي عمل فنّي بسيط من حيث التركيب البنيوي والصياغة اللحنية، طقطوقة بالغة العذوبة من مقام الكورد وإيقاع الرومبا في مذهبٍ ومقطعين. اختار لها عفيف آلتَي البيانو والقانون ليعزفا تبادليًّا لازمةَ المقدمة بقدرات تعبيرية خاصة بكلّ آلة، واحدة شرقية وأخرى غربية في دلالةٍ غير مقصودة ربما على وحدة المشاعر الإنسانية واختلاف التعبير عنها اجتماعيًّا وثقافيًّا، وبالتالي موسيقيًّا. ثم يختفي البيانو بدايةً من الكوبليه الثاني مفسحًا المجال أمام الوتريات كي تعزف اللازمة نفسها التي تصل المقاطع بعضها ببعض، ويعود القانون إلى وظيفته التقليدية مصاحبًا غناءَ وداد في الخلفية ليضفي بنغماته الرقراقة بُعدًا تعبيريًّا يشبه البكاء.
يعتمد عفيف إذًا على أحاسيس ثلاثة للتعبير عن اللازمة الأساسية التي بُني عليها العمل؛ صولو البيانو ثم صولو القانون وأخيرًا الوتريات. أي أنه يتدرّج في نقل الإحساس من النقر المتقطع المنفرد عبر البيانو إلى النقر الرقراق المتداخل والمتّصل والمنفرد أيضًا عبر القانون، وصولاً إلى الإحساس الجماعي الشامل عبر الوتريات. ويتّخذ في هذا اللحن مسارًا متدرّج الصعود في دفع هادئ للشحنة الشعورية نحو الذروة ثم الهبوط في نسبٍ متباعدةٍ كمن يقفز أو يهوي لهفةً إلى القفلة التي جاءت غير متوقعة وغريبة وصعبة أدائيًّا. ويتمّ ذلك من خلال قفزة مقاميّة خاطفة تلامس مقام العجَم وقفزتين متتاليتين في الدرجة، فتشكّلان معًا مقوّمات القفلة التي أدّتها وداد باقتدارٍ وجمالٍ وحرفيّة.
ما نلحظه في هذا العمل القصير هو وحدة المقام ملامسًا النهوند في الكوبليهات في انعطافة لحنية تضيف إلى إيحاء المعنى إيحاءات نغمية تصوّر حالة التساؤل والاستغراب. أما اختيار النهوند فهو لأسباب موسيقية تتعلّق بإحساسه الشخصي وذوقه الفني لا بطبيعة المقام التعبيرية، ليعود ويستظلّ المناخ الكوردي الذي يظلّل الأغنية من البداية حتى النهاية. لقد أراد عفيف أن يجعل التنويع اللحني من داخل المقام وفي خدمته حفاظًا على وحدة الموضوع في محاولة لتعميق الأثر وتكثيف الحالة الشعورية الدرامية المسيطرة، وقد ساعد انتفاءُ التوزيع على توهّج المقام وبلوغه الدرجة الحارقة.
كذلك آثر عفيف الخروج من ثنائية التناغم الدلالي الحرفي بين الشكل والمضمون/ الكلمة واللحن إلى بُعدٍ أرحب وأخلص للموسيقى ووظيفتها المتمثّلة في إحداث الأثر الجمالي والروحي، وتحريرها من سطوة اللغة إلى التعبير عن الحالة العامّة التي تُحدثها الكلمات في النفس، أي استلهام روح المعاني والخضوع لشرارة الإبداع واحتمالات الفكرة بجمالية جديدة ورؤية مختلفة. غير أنّ عفيفًا لم يُغفل هذه الثنائية كليًّا وحاول أحيانًا الاقتراب من إشعاع الكلمة كمفردة وجسّ نبضها وترجمتها موسيقيًّا. والأمثلة كثيرة، في تكرار كلمة «يدق» في أغنية «قلبي يقول لي افتاح» لنجاح سلام، وفي أغنيتَي «مثل الأطرش بالزفة» و«خالة يا خالة» لصباح في مد كلمة «بعاد» وتكرار كلمة «قراب» في الأخيرة. في المحصلة، إن الفكرة الموسيقية وارتباطها بصدق العاطفة والإحساس الذي يصل الخيال بالانفعال غاية بذاتها في اللغة الموسيقية للملحّن المجدد عفيف رضوان.
توأمة فنيّة
يبقى الحديث عن عفيف مجتزأً إن لم نذكر توأم روحه وزميله ورفيق الدرب الملحّن الكبير حسن غندور (١٩٢٥- ١٩٧٨). لقد شكّل حسن مع عفيف ثنائية تلحينية تقاسمت الأصوات والألحان والأعمال السينمائية، وواكبت باقتدارٍ التحولات الفنية والثقافية والاجتماعية والوطنية الكبرى التي رافقت ثورة ٢٣ يوليو وأثرها المزلزل في المنطقة بأسرها. بينهما قصة كفاح وعذابات وأواصر روحية وجغرافية ومهنية، فكلاهما من الجنوب الذي شكّل وجدانهما وملأ خزان الروح بالانتماء الوطني والقومي العروبي. وبينهما توأمة جعلت غيابَ عفيف المبكر فاجعةً بالنسبة لحسن والفقدَ يتمًا واغترابًا. ثنائية تشبه إلى حد كبير ثنائية الموجي والطويل في مصر جيل الخمسينيات والستينيات، الثنائي الذي استطاع أن ينسحب برفق من تأثير عبد الوهاب الطاغي وأناقته وحداثته ومن كلاسيكية السنباطي وشرقيته وحداثته، ليحفر رافدًا جديدًا لا يقطع أواصر الوصل مع التراث، وفي الوقت نفسه يُعبّر عن ذاته المتفردة وروح عصره الوثاب الممتلئ عملاً وأملاً وتحديات.
بين عفيف وحسن قواسم موسيقية مشتركة تصل أحيانًا إلى حدّ الالتباس. وفي الوقت نفسه، ثمة فروقات واضحة وكبيرة، إذ بدا تأثيرُ عبد الوهاب أشد وضوحًا في أعمال حسن، فيما استطاع عفيف أن يتمرد ويغترب أحيانًا بشكل حاد. كما اهتمّ حسن بالموشح اهتمامًا أكبر وقدّم في هذا القالب أعمالاً لافتة، من أهمها موشح «يا سميري» لنجاح سلام ومجموعة أخرى لسعاد محمد وموشح «ناجِ الهوى» بصوته الوهابي الرخيم وقصائد لنازك ونور الهدى ووديع الصافي ونصري شمس الدين ومحمد غازي وعادل مأمون ووداد وآخرين. وحسن من الملحّنين الذين اتّسعت مروحة أعمالهم وتوزّعت بين القوالب الموسيقية، إذ قدّم الطقطوقة بكل أنواعها (الشعبية الخفيفة والجبلية والرومانسية والوطنية) وقدّم الموشح والقصيدة والاستعراض والدويتو. وهو من الملحنين الجديرين بالتوقف عندهم ودراسة أعمالهم وتوثيقها وانتشالها من التهميش الذي عانى منه أولئك الملحنين الخارجين عن طاعة «اللبننة والفيْنَقة» برغم موهبتهم وجدارتهم.
لم تقتصر التوأمة على الثنائي حسن – عفيف، إذ انطلق الأخير أيضًا مع المطربة القديرة نجاح سلام إلى حالة من التوأمة أو الثنائية والانسجام الروحي الفني والسياسي الذي تجلّى في نصيب نجاح الأكبر من ألحانه العاطفية والوطنية. اكتشفت نجاح عفيف خلال عمله في الإذاعة وقدّمته في لحنه الأول «قلبي يقول لي افتاح افتاح». وقد انتقل خلال منتصف خمسينيات القرن الماضي من الكورال إلى التلحين. رأت نجاح في عفيف فتحًا جديدًا ونضجًا فنيًّا مبكرًا لشاب لا يزال في مقتبل خطواته، ولفتتها روحُه الجريئة، كما استوقفها في لحنه الأول اللوحةُ البياتية الموشاة بالتلاوين والنسب التي سلطنت المقام في اتّساقٍ وبساطة، ولم تحمّل النص الشعري للشاعر ميشال طعمة (وهو من اكتشافات نجاح أيضًا) ما لا يحتمل. ومثلما كانت نجاح ترى في عفيف بعثًا لروح جديدة في الأغنية الشعبية اللبنانية، كان عفيف يرى في صوتها الكبير قدرة فائقة على أداء ألحانه.
وبين عفيف ونجاح ومحمد سلمان أيضًا قصةُ كفاح وجهد وانتصارات وانكسارات وأحداث شيّقة لا تخلو من حكايات جديرة بأن تُروى، لاسيّما تلك التي رافقت الانقسامات السياسية بين الناصريين، دعاة القومية العربية من جهة، وبين دعاة الانعزالية اللبنانية الفينيقية من جهة ثانية. وكان ذاك الثلاثي الأشدَّ نشاطًا وفاعليةً وحماسةً ومساهمةً في معارك الأمة العربية وصراعها مع الاستعمار والعدو الصهيوني، فيما انقسم باقي الفنانين بين مؤيد ومعارض ومحايد نسبيًّا.
دولة الرحابنة والآخرون
وسط هذه الأجواء، وقف الأخوان رحباني في منأى عن الصراعات والانقسامات ليكونا جسرًا للقمر الذي «بيضوّي على الناس اللي بيتقاتلوا». هكذا هم «ناس» المدرسة الرحبانية بلا ملامح ولا أسماء، فقط «الناس». نوعٌ من التجريد المقصود ليظلوا في المنطقة الرمادية بعيدًا من الصراع والتدافع، فتكون موسيقاهم ملاذًا للجميع وهويةً متخيلةً مبتكرةً تصل بين الشرق والغرب، والسهل والجبل، والريف والمدينة، وما اختلف وما ائتلف. هوية «كوزموبوليتية» موسيقيًّا، عربية جغرافيًّا، لبنانية لغويًّا وثقافيًّا، موسيقى تشبههم وحدهم إلى درجة يصعب على أيّ باحث أو ناقد أن يضعهم في سياق اتجاه موسيقي يضمّ سواهم. دولة فنية مستقلة سعوا إليها منذ البداية ليخلقوا ريادةً خاصةً بهم من كلّ هذا التنوع ويؤسسوا لنهضة فنية في لبنان تُميّزه عن محيطه العربي وتقرّبه منه في الوقت نفسه.
أما عفيف رضوان ورفاقه حسن غندور، وشفيق أبو شقرا، وسامي الصيداوي، ونقولا المني وخالد أبو النصر وغيرهم، فكانوا خارج هذه المشاريع والتطلعات. لقد أبدعوا فرادى وماتوا فرادى، بلا ظهير إعلامي أو سياسي أو مؤسساتي ينجّم فنّهم أو يحيي ذكراهم بما يليق. أعلامٌ على الطريق مرّوا خفافًا ورحلوا متدثّرين بلذّة الموسيقى.
مختارات من ألحان عفيف رضوان
وديع الصافي: بالساحة تْلاقينا (مهرجان فرقة الأنوار ١٩٦٠)، باعتلك سلامي، قدّيش حلوة هالشيبة، عالقادوميّة، عا طريق العين، شعرك حلو، خدودك يا حَبّ الرمان، لملمت كلّ حوايجي، يا كروم بلادي، بتحبني وبحبها (مع نور الهدى)
نجاح سلام: كتّرلو كتّرلو، يا قلبي الله يجازيك، نداء العروبة، مقاومة، زلغوطة، يا ماما من باب الطيّارة، هالأسمر، مشْ هَيّن، قلبي بيقللي فْتاح فْتاح، غزالي، جوز عيني جوز، قصة حبيبي، نام يا حبيبي، مَبْحوحة، بدّي عريس، نعم نعم شو بتريد، شهر العسل، لولو يا لولو، نشيد الجزائر، وطنّا في خطر، من أجل أولادي، عا نُصّ الدرب، دولاب، طنّة ورَنّة، استعراض قاضي الغرام، اسكتش انقر يا دفّ الطارة (مع نصري شمس الدين ومحمد سلمان)، اسكتش أهلا بالضيف (فيلم مرحبا أيها الحب ١٩٦٢).
صباح: متل الأطرش بالزفة، ياما وياما، زفّوني، يامّ العيون القتّالة، بتعاديني بسيطة، بتحب بتكّة، خالة يا خالة، رايحة قابل حبيبي، ما بدّي توصاية (مهرجان الأنوار في بعلبك ١٩٦٤)، شكرًا شكرًا، الله يقصف عمر الحُبّ، تشهد النجمات، البيّا البيّا، أبو سمرة زعلان، رَحْ حزّرْكم حزّورة، غربِلْ يا غِربال، يا قلبي استحلي الحلوين، يا حسرتي عليك، على أونا على دوّي، قمحنا الغالي، ليالي الحُبّ (مع محمد سلمان وجاكلين)، عَيْن وقلب (مع فهد بلان)، يا صاحب هالصورة، أرضي الحبيبة.
جاكلين: بليز، بحبّك قدّ عيوني، يا دل دِلّي، ما بحبّو حلو
نازك: لو نعرفك جايي، فتاة الروابي، طلّة جْبينك
سميرة توفيق: مش موجود اللي يلوّعني، انشروها بالجريدة، ودّيني مشوار
نصري شمس الدين: مش من زمان كثير، تْمَرْمَرْ يا قلبي، يا منديلها، يا بيتنا الغالي، كان الولف، يا ملاكي، من عينيها طَلّ الحُبّ، يا بلادي، شو حلوة هالتنّورة
فهد بلّان: الغلّة (مع صباح)، أنا صيّاد، مَرْمَرْ زماني
محمد سلمان: الساعة ستّة، بوليس السيْر، يا دلّي يا دلّي، عالدبكة، رح جِنّ، يا زينة، بْرَمْت الدنيا، زيدوني
سعاد محمد: لا أحلى ولا أجمل، يا زعيم يا جمال، طيف الحبيب
وداد: يا ساكن قلبي، يا حبيب الكل
مائدة نزهت: لو ما الحب
محمد غازي: نشوة الحب (موشح)
زكية حمدان: حكاية الندى
وردة الجزائرية: جميلة، على مفرق درب الحبايب، سهرانة إيدي على خدي
محمد عبد المطلب: أنا الأمل
محمد قنديل: يا ريّس البحرية
هناء الصافي: القبطان
محرم فواد: مين وفين
الثلاثي المرح: يامّ المنديل
رندة: صحتين، اللي عبالو، مسا الورد، يا سلام عليك
سمورة: جانم امان
المجموعة: رمضان بالخيرات، ما أحلى الفَيّات
- 1. تنويه: الشكر واجب للباحث الأستاذ أكرم الريّس (باحث في أنثروبولوجيا الفنون) لدعمه هذا العمل في ظلّ التهميش وشحّ المعلومات والمصادر التي تتناول السيرة الذاتية والفنية للملحّن عفيف رضوان.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.