قرّرت الانتظار حتى عودتي إلى لندن بعد زيارة إلى القاهرة في نيسان / أبريل من العام ٢٠١٥ لاختيار موضوع أطروحة الماجستير التي اعتزمت إعدادها. تعلّمت الكثير في الجامعة بعد مضيّ أشهر قليلة على وجودي في العاصمة البريطانيّة، غير أنّني شعرت بأنّ قائمة أولويّاتي أضحت تتّسم بطابعٍ ما بعد استعماريّ، إذ أصحبت قضايا الإسلاموفوبيا والتطرّق إلى الاستشراق والعنصريّة والمركزيّة الأوروبيّة ومفاهيم ووجهات نظر مهمّة أخرى تسيطر على أفكاري.
بيد أنّ هذه المسائل لم تكن القضايا التي كافحت من أجلها ومعها خلال الـ17 سنة الماضية التي عشتها كناشطة في لبنان. كان كفاحنا في بلاد الأرز ضدّ الإسلام ومؤسّساته، والمسيحيّة ومؤسّساتها، والدكتاتوريّين القومويّين والليبراليّين الجدد والفساد، ناهيك عن الاستبداد والإجحاف الهائلين. كانت بُنى الاستبداد تلك كامنة في كلّ قضيّة كافحنا من أجلها، فعلى سبيل المثال حاربنا كلّ هذه البنى حين كنّا نتحرّك لحماية النّساء من العنف الأسريّ. ثمّة العديد من النقاشات والمعارك البارزة هنا وهناك (في الغرب والشرق) مثل الإسلام والنوع الاجتماعيّ، والاستعمار، والعنصريّة، إلّا أنّ الأوساط الأكاديميّة الغربيّة ما بعد الاستعماريّة غالباً ما تحارب الإسلاموفوبيا في الغرب الأوروبيّ الأميركيّ فيما نخوض معركتنا ضدّ الإسلام السياسيّ والاجتماعيّ في هذه المنطقة من العالم.
وعلى الرّغم من إقراري بأنّ التموضعات المختلفة تخلق أولويّات مختلفة، إلّا أنّني مقتنعة بأنّ بعض الباحثين المتخصّصين في مابعد الاستعمار أغفلوا الالتزام الهامّ بمثل هذه التّموضعات ولم يُعدّوا مداخلاتهم بطريقة متناسبة. لذلك أعتقد أنّ دراسة التموضعات بطريقة نقديّة تسمح بإنتاج خطابٍ جوهريّ يدعم المضطهدين ضدّ جميع البنى القمعيّة هنا وهناك (في الغرب وفي الشرق) إلا إذا تمّ اعتماد مقاربة هرميّة لهذه المسألة عن وعي أو من غير وعي.
أرادت باحثةٌ مرموقة في واحدة من أعرق الأوساط الأكاديميّة في العالم الإعراب عن تضامنها مع النساء الأفغانيّات اللاتي تعانين من طالبان، والقاعدة، والفقر، والنظام الأبويّ وعقودٍ من الحروب الاستعماريّة. لهذه الغاية حُصرتْ كرامة تلك النسوة بالبرقع ووجّهت انتقادات حادّة إلى تجمّع نسويّ محليّ لتحدّيه الإسلام. هذا ليس عملاً تضامنيّاً بل تفسيرٌ من أعلى إلى أسفل، اختارت الباحثة من خلاله المشاركة في الخطاب الاستعماريّ الذي يحكم الأوساط النخبويّة عوضاً عن تناول القنابل والقوانين المجحفة التي تحاصر تلك النساء. انجرّت الباحثة مع حماسة الحرب ما بعد الاستعماريّة ضدّ الخطابات الاستعماريّة، وأهمّيّة هذه الحرب ومركزيّتها وعنفها بدل أن تهتمّ بمآسي الحياة في أفغانستان والعراق وسورية ولبنان ومصر وليبيا واليمن وغزّة.
واجهتُ في جامعة أكسفورد المحافظة وفي بعض حلقات النّقاش التي حضرتها في كليّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن، بشكل متكرّر، باحثين مرموقين يدّعون أنّ الإسلامويّة هي ثقافة «تلك المنطقة» وإن رغب أحدهم في أن تحكم هذه النسخة من الإسلام، ينبغي أن يكون ذلك الحكم ديمقراطيّاً وسياسيّاً كما واجتماعيّاً.
يُصار عند ذاك تأطير الإسلام السياسيّ كحقٍّ ممنوحٍ لنا من قبَل الباحثين المتخصّصين في مرحلة ما بعد الاستعمار الذين يستفيدون من أدوات علمانيّة لوضع تصوّرهم حول المنطقة. تتمحور الفرضيّة الاستعماريّة حول حقيقة أنّ الغرب الاستعماريّ تمكّن على الدوام من بناء تحالفات مع البنى الإسلاميّة الاستبداديّة والطغيانيّة من دون أن يكون لديه انطباع بأنّه معادٍ للإسلام. وتمّ الترحيب بعد ذلك بملايين من الجنيهات الإسترلينيّة التي صبّت لشراء قصورٍ قبالة حديقة هايد في لندن أو مطلّة على جادة الشانزليه في باريس من دون الاهتمام بمسألة معاداة الإسلام.
وحتى قبل ظهور الدولة الإسلاميّة في الشام والعراق (داعش)، لم يعد شعار «هذا ليس الإسلام الحقيقيّ» مجرّد خطاب ما بعد استعماريّ إذ أصبح شعاراً يرفعه الملوك والدكتاتوريّون العرب كما ورؤساء الدول الغربيّة وحكوماتها. وهو يتناسب تماماً مع شعار «أنا شارلي» (Je Suis Charlie) ويتناغم بشكل مثاليّ مع الانقسام القطبيّ الذي يشهده العالم منذ العام ٢٠٠١.
هذه القطبيّة قائمةٌ وتسيطر على العالم الذي تحكمه العولمة، ولكنّني لا أعتقد أنّها تميّز بين الخير والشرّ، وبين الشرق والغرب، وبين الإسلام والحداثة العلمانيّة أو بين أي ثنائيّة بارزة أخرى بعد الآن. هناك بالفعل استقطاب أو انقسام، لكنّه يفصل الاقتصادات العالميّة عنّا ويحميها من العدالة الاجتماعيّة. إنّ الباحثين المتخصّصين في مرحلة ما بعد الاستعمار يدركون ذلك. فهم يعلمون أنّ الإسلام هو عبارة عن بنية تتسّم في بلداننا بنسبةٍ عالية من الاستبداد والأبويّة والاضطهاد.
إنّ ما يتسبّب بالفجوة بين الباحثين في الغرب والناشطين في الشرق هو «نعرف ولكن سنصمت في الوقت الحاضر» أو «نعرف لكنّ الموضوع مبالغ به أو غير ملائم» أو «نعرف أكثر ممّن يعانون من الطغيان نفسه» وهي فجوة يستدعي رأبُها تحمّل هؤلاء الباحثين حصّتهم من المسؤوليّة في تشجيع أو الترويج للخطابات التبريريّة تجاه الدّين الذي اكتسى طابعاً مؤسّساتيّاً. يحتاجون إلى مراجعة الدّور الذين تمّ تضليلهم للقيام به من دون التخفيف من الامتيازات إلى درجة خسارتها. على العكس من ذلك، فقد تعزّزت مسيرتهم المهنيّة. أظنّ أنّ الوقت قد حان للعمل على رأب الفجوة لأنّ الحاجة برزتْ لدى هؤلاء الباحثين إلى تحديث نهج محاربة الإسلاموفوبيا أو الخروج عنه للاقتراب من صياغة خطابٍ قادرٍ على معالجة العنصريّة والدولة الإسلاميّة في الشام والعراق في آن.
إنّ هذا الخطاب جوهريّ لميثاقيّتهم وضروريّ لإنتاج المعرفة في الوقت الرّاهن. في الواقع لن يقدّم هذا الخطاب أيّ جديد إنّما سيعالج واقع الظّلم والاستبداد كشبكة عالميّة من البنى المترابطة بشكل وثيق وذات الطابع المحليّ. تُتّخذ القرارات بشأن السياسات الدوليّة عالميّاً وتُدار الاقتصادات في أسواقٍ أكبر، وأصبحت التحالفات الدوليّة هي التي تدير الحروب، فأضحى التعذيب في مصر ضمن الأخبار العبر وطنيّة، فيما يقوم داعش بإعادة رسم حدوده وهويّاته.
لذلك أؤمن بضرورة تنظيم مقاومة هذه البنى بطريقة متقاطعة أيضاً. إنّها بنية استبداديّة كبيرة واحدة تختلف من حيث الحدّة والواقع والمبرّرات، وبالتّالي فإنّ وجود خطاب يؤطّرها على هذا النّحو أمر طبيعيّ.
أعتقد أنّ الرأسماليّة وسياساتها وأسواقها الاستعماريّة تمكّنت من السيطرة على الكثير من المواقع والخطابات ومنصّات الناشطين من خلال آليّات لا رجوع فيها. وأؤمن بأنّ ثنائيّة الـ«إمّا / أو» ومقاييس الديمقراطيّة والحداثة الناجمة عنها، سيطرتْ منذ زمن طويل على النقاشات الأكاديميّة.
كانت مناقشة الخطاب الاستعماريّ حول المرأة المسلمة مهمّة ولكن هل كان من المناسب تبجيل الحجاب في أفغانستان لهذا الغرض؟ هل كان من الملائم إسكات أو تشويه أعمال فرقة «دام» التي تناولتْ جرائم الشرَف في فلسطين واتّهام الفرقة بخدمة الأجندات / الخطط الاستعماريّة الإسرائيليّة والغربيّة؟ وعلى صعيد آخر فإنّ مكافحة الإسلاموفوبيا محقّة في أوساط المغتربين والمنتشرين، لكن هل تعتبر المعتقدات الدينيّة السبب الأوحد لاضطهاد المسلمين هناك؟ وهل من المناسب أكاديمياًّ مقاربة الإسلام هناك بطريقة غير سياقيّة باعتباره مختلفاً عن الواقع الإسلاميّ في منطقتنا؟
أختم بأنّ الجثث الغارقة في البحر المتوسّط كانت عالقة بين ضفّتين وليس ضفة واحدة!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.