ترجمة يزن الحاج.
ثمّة فضيحة كانت تتخمّر أخيراً في الجامعات البريطانيّة بشأن مزاعم تشير إلى أنّ الطّلّاب الأجانب يدفعون لكتّاب ظلٍّ تجاريّين لتأليف أوراقٍ أكاديميّة لهم. تدّعي التّقارير المنشورة في وسائل الإعلام بأنّ الطّلّاب الأجانب يغشّون بمعدّل أربعة أضعاف مقارنة مع الطّلّاب المحلّيّين، وبأنّ الفورة التي شهدتْها صناعة كتابة المقالات المأجورة في بريطانيا قد انتعشت بفعل تزايد عدد الطّلّاب الأجانب. في عام ٢٠١٧، أصدرت وكالة ضمان الجودة في التعليم العالي البريطانيّة دليلاً إرشاديّاً للتّعامل مع مشكلة «الغشّ بالتّعاقد»، حيث يُنهي طرفٌ ثالثٌ عمل الطالب الذي يُقدّمه من ثمّ إلى مؤسّسته التعليميّة على أنّه «عمله»، محذرة من «الخطر» الذي تشكّله هذه الممارسات على المعايير الأكاديميّة في «الأمانة، والنّزاهة، والاحترافيّة» (QAA، 2017: 1، 6).
ولكن، في الوقت ذاته، ثمّة ظاهرة موازية لاقت اهتماماً أقلّ، تحدث أحياناً حينما يسافر الباحثون الجامعيّون البريطانيّون إلى الخارج لإنجاز أبحاثٍ مموّلةٍ بمنح. وبرغم الحفاوة التي تلْقاها أعمال هؤلاء الباحثين في الجامعات البريطانيّة بفعل نجاحها في اجتذاب دخلٍ من المنح، وإصدار منشورات، والإسهام في المعرفة العالميّة، إلّا أنّ بعض أعمال هؤلاء الباحثين تُنجَز خفيةً في الحقيقة على يد مساعدي أبحاث أجانب. وللمفارقة، غيرُ قليل من هؤلاء المساعدين كانوا طلّاباً أجانب سابقاً، وأحياناً في الجامعات البريطانيّة. وقد بات الطّلّاب الأجانب السابقون والمتخرّجون الجامعيّون المحليّون يشكّلون قوّة عمل بحثيّة مُتپرتلة [أي تحوّلت إلى پروليتاريا] أهليّة في الخارج، يُتَّفق معها خفيةً لإنجاز الأبحاث التي يُشرف عليها الأكاديميّون البريطانيّون من بعيد، إذ تفصلهم كما هي الحال غالباً هوّة اللغة، والثقافة، والجغرافيا، والاقتصاد السياسيّ الأوّليّ للإنتاج البحثيّ في قطاع القرن الحادي والعشرين الجامعيّ الذي أمسى سوقاً.
لم تحظَ قضيّة التعاقد من الباطن في إنتاج الأبحاث الأكاديميّة الخارجيّة بالاهتمام الذي تستحقّه. في هذه المقالة، سنتناول دراسة حالة عن آراء وتجارب مجموعة من مساعدي الأبحاث اللبنانيّين والسوريّين، الذين يعملون في مشاريع بحثيّة أكاديميّة بإشرافٍ بريطانيّ حول اللاجئين السوريّين في لبنان بين عامي ٢٠١٢ - ٢٠١٨. تُقدَّم أبحاث اللاجئين السوريّين في الخارج، في بريطانيا، بوصفها مشروعاً نبيلاً ومتنوّراً قائماً على مبدأ العون من أجل «مساعدة المُستضعَفين الأكثر في العالم» (BIS، 2016)، ويُروَّج لمشاركة الكادر المحلّيّ في العمل في هذا المشروع بوصفه فعلاً خيّراً من أفعال «الشراكة العالميّة» و«بناء القدرات» في البلدان الأقلّ دخلاً مثل لبنان (BEIS، 2017). لكنّ وجهات نظر المساعدين المحلّيّين الذين يضطلعون بالقسط الأكبر من هذه الأبحاث مختلفةٌ كلّيّاً في الغالب: فكثيرون منهم يتحدّثون عن تجربة إقصائهم عن المشاريع البحثيّة، وإحساس بالاستغلال خلال السّيرورة البحثيّة، وبالخيبة حيال قطاع الأبحاث الجامعيّة البريطانيّة. ولا تقتصر المحاجّة التي نعرضها من خلال تقديم وجهات النّظر هذه على الحاجة إلى منح اعترافٍ أكبر بعمل، وهموم، ومصالح مساعدي الأبحاث؛ بل أيضاً إلى أهميّة فهم الكيفيّة التي يصوغ فيها الاقتصاد السياسيّ للأبحاث الجامعيّة سيرورات الأبحاث، والنّتائج والآثار التي يمكن أن تشكّلها الأبحاث الجامعيّة على البيئة الاجتماعيّة الأوسع. وقد تكون تلك الآثار أقلّ إيجابيّة بكثير ممّا تُبشِّر به طلبات المنح البحثية.
في الصفحات التالية ستُناقَش تجارب الاغتراب، والاستغلال، والخيبة لدى مساعدي الأبحاث الميدانيّين العاملين في هذه الصناعة البحثيّة. يستند التّحليل إلى مجموعة مقابلات أُجريت شخصيّاً في لبنان في صيف عام ٢٠١٧، ولندن في شتاء عام ٢٠١٨، مع اثنين وثلاثين مساعد أبحاث وُظِّفوا من خلال نموذج كرة ثلج متراكمة بالاعتماد على العلاقات الشخصيّة.
صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين
منذ عام ٢٠١٤ حتى ٢٠١٨، قُدّم ما لا يقلّ عن ثلاث وثلاثين منحة بحثيّة لمشاريع تركّز كلّياً أو جزئيّاً على اللاجئين السوريّين في لبنان، بمبلغ إجماليّ يتجاوز٢٨.٢ مليون جنيه إسترلينيّ، لأكاديميّين بريطانيّين، من مجالس الأبحاث البريطانيّة، ومجلس الأبحاث الأوروبيّ، والأكاديميّة البريطانيّة، وإدارة التنمية الدوليّة البريطانيّة (DfID)، ومؤسّسات مثل ليفرهيولم ووِلْكَمْ. وكانت نصف هذه المنح تقريباً (خمس عشرة منحة) تصل إلى مئة ألف جنيه أو أكثر، أمّا أكبرها فتصل إلى ملايين الجنيهات. ولا بدّ أن يكون مبلغ التمويل الإجماليّ المتعلّق بهذا الموضوع أكبر، بما أنّ مبالغ مكافآت التأسيس والمكافآت الداخليّة لا تُنشر علناً دوماً.
باتت صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج مورد بزنس بارزاً لكثير من الأكاديميّين والجامعات البريطانيّة: فالتّقديم إلى منح الأبحاث ليس محصوراً بالخبراء الإقليميّين، بل إنّه مفتوح أمام آخرين لا يمتلكون خبرة مسبقة حيال سورية أو لبنان، وذوي مستوى معدومٍ أو ضئيلٍ من القدرة على التحدّث بالعربيّة أو فهمها أو قراءتها. كما أنّ الفوز بمنح الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين أصبح حدثاً سياسيّاً واجتماعيّاً. فعلى سبيل المثال، كان إطلاق مركز مشروع «ريليف RELIEF» (اللاجئون، التربية، التعليم، تكنولوجيا الاتّصالات، ومشاريع من أجل المستقبل) التابع لجامعة مدينة لندن في لبنان، والذي يبلغ تمويله ٤.١ ملايين جنيه، في تشرين الأوّل / أكتوبر ٢٠١٧، تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء اللبنانيّ في مقرّ إقامته في السّراي الكبير، بينما حضر إطلاق مركزه في لندن في نيسان / أبريل ٢٠١٨ رؤساء الجامعة الأميركيّة في بيروت، والجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، وجامعة مدينة لندن، والمدير التنفيذيّ لمجلس الأبحاث الاجتماعيّة والاقتصاديّة [البريطانيّ]، والسّفير اللبنانيّ في المملكة المتّحدة. كما تخلّلتْه قراءاتٌ شعريّة، وعروض موسيقيّة ومأدبة غداء (UCL، 2017، 2018).
أمّا السؤال الذي ينبغي طرحُه فهو لمَ ضخّ الأموال هذا، التي يُنفَق قسمٌ كبير منها بالتّنسيق مع الحكومة البريطانيّة، من أجل الأبحاث في هذا الموضوع، على الأخصّ في ظلّ سياق سياسات التقشّف والتّقييدات على الإنفاق الحكوميّ على الأبحاث. مع تزايد عدد اللاجئين السوريّين الذين هاجروا إلى أوروبا منذ عام ٢٠١٥ طلباً للّجوء، أُعيد تشكيل الأزمة السوريّة من جانب الزعماء السياسيّين ومعلّقي وسائل الإعلام في أوروبا بوصفها «أزمة أوروبيّة بشأن اللاجئين»، ففي المملكة المتّحدة، كانت السياسة الحكوميّة حيال أزمة اللاجئين السوريّين متّسقةً بصرامة بشأن الحدّ من تدفّق اللاجئين إلى بريطانيا، وتركّز جهدها في الإغاثة على إبقاء اللاجئين السوريّين في بلدان شرق المتوسّط أو أولى البلدان الأوروبيّة التي يصل إليها اللاجئون (McGuiness، 2017). ومع كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٧، قبلت المملكة المتّحدة لجوء حوالى تسعة عشر ألف لاجئ سوريّ، وهو أحد أقلّ الأرقام الإجماليّة والتناسبيّة (مقارنةً بعدد السكّان المحليّين) من اللاجئين السوريّين الذين استقرّوا في أيّ بلد أوروبيّ كبير (Eurostat، 2018؛ Home Office [وزارة الداخليّة البريطانيّة]، 2018).
وإنّ تصاعد صناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج مرتبطٌ بقوّة مع أجندة السياسة الخارجيّة البريطانيّة هذه. ففي عام ٢٠١٥، أنشأت الحكومة صندوق أبحاث التحدّيات العالميّة (GCRF)، لخمس سنوات، وبميزانيّة ١.٥ مليار جنيه لإنتاج أبحاث تساهم في تحقيق استراتيجيّة المساعدات البريطانيّة: ويتحقّق هذا عبر إقامة شراكات «على مستوى عالٍ»، و«على قدَم المساواة» مع كوادر أكاديميّة في الجنوب العالميّ لخلق «مجتمع عالميّ للباحثين» الذين سيكون بمقدورهم معاً تناول تحدّيات التّنمية العالميّة (BEIS، 2017: 3، 6، 7). ويشكّل هذا الصّندوق بحدّ ذاته مصدر تمويل، حيث يتبع لإدارة التّنمية الدوليّة البريطانيّة، ويكون مُلزَماً قانونيّاً بدعم أجندة المساعدات الخاصّة بالحكومة. وكذلك، عام ٢٠١٥، أعيد تعريف أجندة المساعدات هذه على يد الحكومة بحيث أن تصبّ المساعدات الخارجيّة كلُّها مباشرةً في مصلحة «السياسة الخارجيّة والأمن القوميّ» البريطانيّ: أي أنّ ضبط تدفّقات الهجرة التي أشعلَها النّزاع السوريّ يُعدّ بكلّ وضوح أولويّةً من أجل هذه المصالح (HM Treasury، 2015: 3). كما أنّ الصندوق هو مصدر التمويل الأكبر للأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج، حيث يساهم بنسبة سبعين في المئة من التمويل الإجماليّ حيال هذا الموضوع للأكاديميّين البريطانيّين منذ عام ٢٠١٥. والأمر الجدير بالذّكر هو أنّ الإنفاق البريطانيّ على الأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين في لبنان (ودول شرق المتوسّط كلّها) يُقزّم المبلغ الذي يُنفَق على اللاجئين السوريّين في المملكة المتّحدة أو الراغبين باللجوء إليها. فمنذ عام ٢٠١٤، كانت هناك سبع منَح تقريباً قُدّمت إلى أكاديميّين بريطانيّين لدراسة كلّ ما يتعلّق باللاجئين السوريّين في المملكة المتّحدة، أكثر من نصفها (أربع منح) هي منح دكتوراه، بينما لم تتجاوز المنح الثلاث الأخرى مبلغ ٨٠٩ آلاف جنيه. كانت الحكومة قادرةً بقوّة على حرف الانتباه البحثيّ إلى مجالاتٍ اعتبرتْها أولويّات سياسيّة (جهود غوث اللاجئين في شرق المتوسّط) وبعيداً من مجالات لا تريد التعامل معها (مثلاً، توسعة برامج إعادة التوطين في المملكة المتّحدة): إذ بينما يمكن نظريّاً إنفاق أموال صندوق الأبحاث على أبحاثٍ داخل بريطانيا، إلّا أنّ توجيهات الصندوق تحثّ الباحثين، عمليّاً، على تطوير برامج الأبحاث في الخارج مع شركاء دوليّين في بلدان ذات دخل أقلّ لرفع فرَص نجاح التّمويل إلى أقصاها (Barnett، 2016).
وتعتمد معظم هذه المشاريع البحثيّة المموّلة بريطانيّاً المتمحْورة حول اللاجئين السوريّين في لبنان (وفي بلدانٍ أخرى) على توظيف وتشغيل مساعدي أبحاث من الخارج إلى حدٍّ كبير. ومعظم هؤلاء المساعدين لبنانيّون، مع وجود بعض السوريّين الذين يُوظَّفون من أجل تسهيل الدخول إلى جماعات اللاجئين. ومساعدو الأبحاث اللبنانيّون هؤلاء شابّات (في عشرينيّاتهنّ) ومن الطّبقة الوسطى، ثنائيّات اللغة (العربيّة والإنكليزيّة) ويمتلكن شهاداتٍ عليا (معظمهنّ يحملْن درجة ماجستير من لبنان أو بريطانيا)، ويوظّفن على نحوٍ مستقلّ عن طريق شبكات التّواصل الاجتماعيّ أو الجامعات المحلّيّة في لبنان. وعادةً ما يتقاضى مساعدو الأبحاث المستقلّون (الفريلانسر) أجراً في اليوم أو الساعة يتراوح تبعاً لنوع العمل المُنجَز (على سبيل المثال، 100 دولار يومياً للعمل الميدانيّ، 50 دولاراً في الساعة للترجمة وتفريغ التسجيلات، 20 دولاراً في الساعة للمراجعات المكتوبة)، بينما يتقاضى المساعدون الموظَّفون عن طريق الجامعة راتباً (1500 دولار شهرياً مثلاً) يغطّي واجبات البحث كلّها. ويقفز كثيرون من هؤلاء المساعدين من مشروعٍ بحثيّ إلى آخر، بما أنّ هذا عمل بعقد موقّت يتراوح بين عدّة أشهر وسنتين، وقد عمل بعضهم في مشاريع عديدة مموّلة بريطانيّاً تتعلّق باللاجئين السوريّين في لبنان. وحالما يوظَّفون، يوقّع مساعدو الأبحاث عقود «بنود ميثاق» تُفصّل مسؤوليّات عملهم: وتشمل هذه المسؤوليّات اختيار مواقع العمل والتّفاوض بشأن الدخول إليها، تطوير العمل الميدانيّ ومواعيد المقابلات، جمع معطيات العمل الميدانيّ، تفريغ معطيات العمل الميدانيّ، وترجمتها، وتحليلها، تحضير وكتابة أوراق متعلّقة بالعمل ومراجعات، وأحياناً كتابة مسوّدات مقالات بحثيّة. أمّا الباحثون المشرفون المستقرّون في بريطانيا فيقضون عادةً وقتاً قصيراً في لبنان، ولا يقومون إلّا بدرجة ضئيلة من البحث بأنفسهم، أو لا شيء على الإطلاق (مع وجود بعض الاستثناءات): ومعظمهم لا يملك إلّا قدرةً محدودة أو معدومة في معرفة اللغة العربيّة، بل إنّ بعضهم لم يزر مواقع عمل مشاريعه بالمرّة؟ يشكّل مساعدو الأبحاث اللبنانيّون قوّة العمل المأجورة في صناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين في لبنان، حيث يضطلعون بالقسم الأكبر من إنتاج تلك الصناعة. وسنتناول آراءهم وتجاربهم، بحيث نعرف وجهة نظر العامل حيال كيفيّة عمل هذه الصناعة فعليّاً.
الاغتراب في صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين
«كنتُ أجلس مع المستمعين فيما كانت [الباحثة المشرفة] تقدّم بحثنا»، تتذكّر إحدى مساعدات الأبحاث اللبنانيّات: «كانت تقدّم البحث كما لو كان من عملها، وتُحيل إلى كلام اللاجئين السوريّين كما لو أنّها أجرت المقابلات بنفسها، وقد كنّا (أنا وباقي مساعدات الأبحاث اللواتي أنجزن البحث) مجرّد جزءٍ من الجمهور، لم يكن لنا وجود». وتتابع المساعدة كلامها: «في لحظةٍ ما، كانت [المشرفة] تقرأ من الورقة التي كتبتُها وقالت إنّ «أحد اللاجئين قال لي» كما لو أنّها هي مَنْ أجرت المقابلات. «كنتُ أحاول ابتلاع غضبي واشمئزازي»، تواصل المساعدة كلامها: «انتهى الاجتماع، واحتفى الجميع بالدكتورة الكبيرة وصفّقوا لها على عملها العظيم، وقد صفّقتُ معهم». هذه التجربة المتعلّقة بمحو الأشخاص من العمل الذي أنجزوه بأنفسهم قصّة منتشرة بين مساعدي الأبحاث في صناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين في لبنان. كما أنّه مثال نموذجيّ عن إقصاء العامل، حينما تجد المساعدة نفسها على نحو حرفيّ «غريبةً في العالم الذي صنعتْه [هي بنفسها]» (MacIntyre، 1953، مُقتبَس في Jaeggi، 2014: 3).
ينبع اغتراب مساعدي الأبحاث من حقيقة أنّ المساعدين هم عمّال بأجرٍ متعاقدون من الباطن، «يعملون على إنجاز مشروع شخصٍ آخر» لا يُشرفون عليه أو يديرونه (Harvie، 2001: 115). والحال هذه، غالباً ما يعايشون إحساساً من «العجز وفقدان الكرامة، الأمر الذي يُسهم في إثارة الاستياء، والغضب، والإحباط» (Harvey، 2018: 427). لكنّ لمفهوم الاغتراب، كما يشير هارفي (2014: 267)، «معانيَ متنوّعة،» ولا ينتج حصراً من علاقات العمل بأجرٍ في مكان العمل، بل من الاقتصاد السياسيّ الأوسع الخاصّ بصناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج أيضاً. وبالنّسبة إلى مساعدي الأبحاث في هذه الصناعة، فإنّ الافتقار إلى السيطرة على المشاريع التي يعملون ضمنها ليس هو السبب الوحيد الذي يخلق «وضعيّة» الاغتراب، بل يُضاف إليه الإحساس بأنّ هدف وتركيز هذه المشاريع غريب في الغالب (أو مُقصى عن) المشاغل المباشرة للّاجئين السوريّين والجماعات المحليّة الأخرى في لبنان. وبحسب شكوى إحدى المساعدات: «أظنّ أنّ بعض الباحثين [البريطانيّين] لا يملكون أدنى معرفة بشأن الأوضاع السوريّة... إذ يُجرون بعض الإحصاءات حول بعض الأفكار المرتبطة بالأبحاث المتعلّقة باللاجئين في أماكن أخرى ويكتفون بتطبيقها على لبنان. فمثل معظم الأبحاث [المتعلّقة باللاجئين]، سيتركّز البحث على الهويّة والوطن والانتماء. لكنّ هذا أمرٌ مختلف: فالأدبيّات الفلسطينيّة حول الوطن والهويّة نتجت بعد جيلين [من العيش كلاجئين]. الوضع السوريّ مختلف، إذ هناك حرب، ولا يزالون عاجزين عن العودة... هم لا يفكّرون بمفهوم الوطن حاليّاً. إذ من الرفاهيّة التفكير بمثل هذه المواضيع الآن. لدى [اللاجئين السوريّين] حاجات ملحّة، ومع ذلك يأتي الباحثون ... بمواضيعهم، ويتركون على عاتقنا التعامل مع الأمر والتوسّل إلى السوريّين كي يقولوا شيئاً عن تلك الأمور، وعلينا نحن أن نعاني من العواقب».
لا تقع مسؤوليّة تقديم المواضيع البحثيّة البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين أو الإشراف عليها على مساعدي الأبحاث اللبنانيّين أو جماعات اللاجئين السوريّين في لبنان. «ليس لدينا تمويل محليّ [من أجل أبحاث اللاجئين]، وتأتي جميع التمويلات من خارج [لبنان]،» يقول مساعد أبحاث، «وبما أنّ التمويل أجنبيّ، تُكتَب طروحات البحث في الخارج».
ولا يكون الإشراف التامّ من مسؤوليّة الباحثين المشرفين البريطانيّين دوماً، إذ قد يعانون أيضاً من اغتراب عن مشاريعهم التي يشرفون عليها رسميّاً. ويروي مساعدا أبحاث آخران تجربتهما حيال الطلب من الباحث المشرف تغيير موضوع مشروعهما، حالما أدركا أنّه عديم الصّلة باللاجئين السوريّين في لبنان. «ليست لديّ السُّلطة التي تخوّلني تغيير الموضوع»، أجابهما الباحث المشرف، «بما أنّ التمويل يأتي وفق توجّه معيَّن من أجل إنجاز البحث [حول هذا الموضوع]»، إذ إنّ تغيير وجهة الأبحاث المموَّلة من صندوق أبحاث التحدّيات العالميّة يتوافق دوماً مع سياسة الإغاثة البريطانيّة الحكوميّة، التي (كما أشرنا سابقاً) ترتبط مع أجندات الأمن القوميّ البريطانيّ والسياسة الخارجيّة.
ويُبدي مساعدو الأبحاث اللبنانيّون أيضاً إحساساً قويّاً بالاغتراب عن سيرورة الأبحاث بحدّ ذاتها: «عند نهاية كلّ يوم، أعود إلى البيت وأنا أشعر بغضب كبير، أكره حالي لأنّني فرضت نفسي على السوريّين»، تقول إحدى المساعدات وتضيف: «هم يريدون التحدّث عن معاناتهم اليوميّة، ولكن ما المشكلة، فأنا بحاجة إلى تغيير الحديث وسؤالهم عن بعض المواضيع المُقرَّرة في مكان آخر». ويحاجج بعض المساعدين بأنّ ثمّة أمراً جوهريّاً ضائعاً لدى الباحثين المشرفين في الاقتصاد السياسيّ لأبحاث التّعاقد من الباطن، وما يتمّ التعاقد عليه خفية لا يقتصر على العمل المعرفيّ، بل يطاول العمل العاطفيّ والعلاقات الإنسانيّة أيضاً. فالترتيب الجديد لكيفيّة إنجاز الأبحاث لا يساعد الباحثين على إلقاء تبعة تجميع الأبحاث وتحليلها على الآخرين وحسب، بل أيضاً الألم الناجم عن الاضطرار إلى التعامل مع هذه المواضيع، ألَم التعامل مع قصص تسمعها كلّ يومٍ وتحسّ بأنّك عاجزٌ عن فعل أيّ شيءٍ حيالها، ألم التّواصل مع النّاس والإحساس بالبؤس لأنّك موجودٌ في هذا العالم، الإحساس بالبؤس لأنّك تواصل حياتك. يحصل الباحثون على النتاج الصّافي في نهاية المطاف، من دون الدموع، والغضب، والإحباط، والإحساس بكراهية نفسك، لأنّك عاجز ويائس. بمعنى آخر، من خلال أبحاث التّعاقد من الباطن، ليس المساعدون وحْدهم مَنْ يعانون من وضع الاغتراب وتجربته، بل أيضاً الباحثون المشرفون في بعض الأحيان، إذ إنّ كثيرين من هؤلاء الباحثين لم يعودوا يتعاملون مع مواضيعهم البحثيّة بكونهم بشراً حقيقيّين من لحم ودم، بل بوصفهم نتاجاتٍ نصّيّة تفريغ تسجيلات، ملاحظات ميدانيّة، مسوّدات أبحاث يمكن أن تتحوّل إلى أنواعٍ أخرى من النّتاجات النصيّة كي تلبّي شروط مموّلي منحهم البحثيّة ومتطلّبات المهنة الأكاديميّة (Newman، 2016).
الاستغلال في صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين
«إنّهم يسرقون عملنا، يسرقون مستقبلنا، يسرقون إحساسنا بالقيمة» هكذا تلخّص إحدى مساعدات الأبحاث اللبنانيّات تجربتها في العمل في صناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلّقة باللاجئين السوريّين. الإحساس بالتعرّض للاستغلال سائدٌ في أوساط مساعدي الأبحاث في هذه الصناعة، ويتركّز على ثلاث قضايا محوريّة: الأجور المجحفة وشروط العمل بالساعة، الوعود الزائفة (أو المضلِّلة) التي يُطلقها الباحثون المشرفون، والإقصاء من التأليف الأكاديميّ. وتركّز تمظهرات الإحساس بالاستغلال على مظاهر بنيويّة لا شخصيّة (أو فرديّة) من هذا المفهوم، أو ما يعرّفه مكيون ( McKeown 2016: 174) بكونه «النّقل القسريّ للسّلطات الإنتاجيّة من الجماعات التي تُصوَّر بكونها أدنى مرتبةً اجتماعيّة [في المنظومة الاقتصاديّة] لمصلحة جماعاتٍ تُصوَّر بكونها أعلى مرتبة اجتماعيّة». ويحسّ مساعدو الأبحاث بأنّهم مرغَمون على العمل وقبول شروط الوظيفة في عروض العمل داخل صناعة الأبحاث البريطانيّة المتعلقة باللاجئين السوريّين، وذلك بفعل الافتقار إلى الخيارات البديلة. وكما يُوضح أحد المساعدين: «ما من بنيةٍ حقيقيّة لحماية حقوقنا، وبوسع المموّلين والباحثين المشرفين استغلال حالة نقص فرص العمل [في لبنان] وأوضاع [المتخرّجين الجامعيّين] المتقلقلة، وبالطبع الأعداد الهائلة لحمَلة شهادة الماجستير الباحثين عن فرصة عمل. بإمكانهم مواصلة استغلالنا، واحداً إثر الآخر. لن يفتقروا أبداً إلى حمَلة ماجستير جدد، ساذجين، باحثين عن خبرة، وبالطبع باحثين عن فرصة عمل».
يمتلك لبنان واحداً من أعلى معدّلات طلّاب التعليم العالي في المنطقة العربيّة، علاوةً على أعداد كبيرة من الطّلّاب الجامعيّين الساعين إلى الحصول على شهادات من الخارج: لكنّه يمتلك أيضاً مستوياتٍ عالية من بطالة المتخرّجين الجامعيّين، التي لطالما عُدّت بمثابة «أزمة» للشباب، وواحداً من أعلى معدّلات هجرة الخبرات في العالم (El-Ghali and McClure، 2010؛ Kawar and Tzannatos، 2013). وعموماً، يدرك مساعدو الأبحاث أنّ الباحثين المشرفين واقعون في قبضة منظومة العمل غير الحرّ ذاتها، بالرغم من أنّهم يشغلون مواقع أكثر تميّزاً وينتفعون من استغلال مساعديهم. «أحياناً أحسّ بالحزن حيال الباحثين المشرفين، بما أنّهم مرغَمون على الالتزام بمواعيد نهائيّة لتسليم ما قيل لي إنّها «نتاجات» إلى المموّلين»، تقول إحدى المساعدات وتضيف: «قيل لي إنّ الأمر يصبح أسهل حين يصير المرء أستاذاً جامعيّاً، لكنّ هذا ليس صحيحاً، كما يبدو».
ومع أنّ بعض مساعدي الأبحاث يتقاضون أجوراً جيّدة، إلّا أنّ شواغل العمل المأجور بالنّسبة إلى مساعدين كثيرين تتركّز على ساعات العمل الطويلة، غير المأجورة عادةً، المتأصّلة ضمن العمل الأكاديميّ، وعلى تفاوتات الأجور بين تصنيفات المساعدين المختلفة. ويتحدّث المساعدون الذين يتقاضون رواتب ثابتة بعد توظّفهم عبر الجامعات المحليّة في المشاريع البحثيّة البريطانيّة عن اضطرارهم إلى العمل أكثر من الساعات الرسميّة المُقرَّرة: «نتقاضى رواتب شهريّة ثابتة بصرف النّظر عن مقدار العمل الذي ننجزه... كمّ العمل الذي أنجزه كلّ شهر يفوق بكثير قيمة راتبي. أستخدم سيّارتي الخاصّة، وتتعطّل السيّارة أحياناً [وعليّ دفع تكاليف إصلاحها]. أتنقّل بين طرابلس والبقاع وبيروت. أكتب ملاحظات ميدانيّة كثيرة ليلاً لأنّ الباحثة المشرفة تودّ أن «تحسّ بأنّها موجودة هنا معي»... أعمل ليلاً أحياناً، كما أعمل مراراً يومَي السبت والأحد... هذا استغلال».
وعادةً ما يتقاضى مساعدو الأبحاث الفريلانسر الذين يعملون بالساعة أجوراً تغطّي ساعات العمل المنجَزة كلّها، لكن بخلاف مساعدي الأبحاث الذين يتقاضون رواتب ثابتة، يفتقر [الفريلانسر] إلى الدخل الشهريّ المضمون وإلى فرصة الحصول على التأمين الصحيّ. وتتركّز هموم ذوي الأجور الأخرى على التّفاوتات بين الأجور التي يتقاضاها مساعدو الأبحاث اللبنانيّون، والأجور التي يتقاضاها العمّال السوريّون ضمن جماعات اللاجئين الذين يسهّلون إجراء الأبحاث والمقابلات مع السكّان المحلّيّين. «هذا ظلم كبير، إنّهم يدفعون للسوريّين عشرة دولارات لقاء كلّ يوم عمل، بينما نتقاضى نحن أجوراً أعلى بكثير»، تقول إحدى مساعدات الأبحاث اللبنانيّات: «هم ينجزون العمل كلّه، ومن دونهم لم نكن لنتمكّن من الحصول على أيّ شيء». وتقول مساعدة أخرى، «أتذمّر بشأن عدم تقاضيّ أجراً مُجزياً، لكنّني أتلقّى تعاملاً أفضل بكثير ممّا يتلقّاه الحرّاس السوريّون الذين يدلّوننا على العائلات ويقضون وقتهم معنا».
وتتردّد تلك الهموم على ألسنة المساعدين السوريّين أنفسهم. إذ كما يشير حارس سوريّ: «بالنسبة إليّ، إنّ من الجيّد أن أتقاضى عشرة دولارات يوميّاً، حيث أكتفي بمرافقة الباحثين وإعطائهم جميع المعطيات التي يحتاجون إليها، بما أنّني عاطل من العمل. ولكن هل هو أجر جيّد؟ لا بالطبع. كنتُ أدرّس في سورية وأعرف الكثير. ينتهي بي الأمر أحياناً إلى إعادة صياغة أسئلة [الباحثين]، التي تكون سخيفة كلّيّاً، وتُطرَح من أناس لا يعرفون أيّ شيء عن تاريخ سورية، ومجتمعها، وثقافتها. كلّ ذلك [العمل] غير محسوب. ولكن ما الذي بوسعك فعله حين تكون محتاجاً؟ تحصل على ما تحصل، وتكون ممتنّاً».
يشتكي مساعدو الأبحاث اللبنانيّون والعمّال السوريّون على السّواء، أيضاً، من وعودٍ زائفة أو مضلّلة يطلقها بعض الباحثين، كي يغروهم بالعمل معهم في مشاريعهم. يتحدّث الحرّاس السوريّون عن الوعود التي يغدقها الباحثون عليهم (أو يحثّونهم على التّصديق) بأنّ مشاركتهم في أبحاثهم ستساعد في تحسين أوضاعهم حيث ستُسمَع أصواتهم على مستوى دوليّ. «نتلقّى أصناف الوعود كلّها [من الباحثين]، سيساعدوننا في إسماع العالم صوتنا، سيساعدوننا في الحصول على تأشيرة دخولٍ لأقاربنا الشباب الذين يرغبون بالهجرة إلى أوروبا، وسيساعدون في جعلنا نحصل على مساعدات. للوهلة الأولى، سيصدّق المرء هذا الكلام، طبعاً. لم يكن عدد الباحثين كبيراً في سورية، وبالنسبة إلى البعض، هذه أوّل تجربة لنا في أن نكون موضوعاً للبحث... قضيّة تأشيرة الدّخول هي الحلم الأكبر. وبما أنّنا لا نملك أدنى فكرة عن كيفيّة الحصول عليها، كنّا نظنّ أنّ مجرّد الحديث إلى شخص [من بريطانيا] سيساعدنا على الهجرة [إلى هناك]... الأمر كلّه جديد علينا، وحين تكون الأمور جديدة، يكون الاستغلال في أقصى درجاته».
أمّا بالنّسبة إلى مساعدي الأبحاث اللّبنانيّين، فهناك الأمل الأبديّ بأنّ قبولهم بعقد عمل موقّتٍ كمساعدِ أبحاثٍ سيُفضي إلى وظيفة أكاديميّة مُجزية وأكثر أماناً في وقتٍ لاحق. لكن بالنّسبة إلى الوضع الحاليّ، يتلقّى المساعدون وعوداً صريحة من بعض الباحثين المشرفين بأنّ العمل في مشاريعهم سيساعدهم على التقدّم في حياتهم الأكاديميّة وعود «تتلاشى في الهواء» لاحقاً. «في مقابلة [عملنا] الأولى، قالت الباحثة المشرفة إنّها ستساعد في ترشيحي إلى برنامج دكتوراه في جامعتها المرموقة»، تقول إحدى مساعدات الأبحاث وتتابع: «أحسست بحماسة شديدة حيال الأمر. سننشر اسمينا معاً وسيكون هذا جيّداً في سيرتي الذاتيّة». وتقول مساعدة أخرى: «أخبرني باحثي المشرف حينما بدأت العمل معه بأنّ نشر الأبحاث سيساعد في ترشيحي إلى برنامج الدكتوراه».
وربّما كان أكثر ما يحرّض الشعور بالاستغلال (والاغتراب) بين مساعدي أبحاث لبنانيّين كثيرين هو حرمانهم من وضع أسمائهم كمؤلّفين أكاديميّين، على الأخصّ بعدما وعد باحثون مشرفون كثيرون مساعديهم بوضع أسمائهم في الصيغة النهائيّة، عند بداية عملهم معاً. ولا يقتصر عمل بعض المساعدين على جمع معطيات العمل الميدانيّ، وتفريغها، وترجمتها وتحليلها، وإنجاز مراجعاتٍ مكتوبة، بل يكتبون أيضاً مسوّدات كاملة لمقالات بحثيّة مستندة إلى تلك المعطيات والتحليلات. وكما تشير إحدى المساعدات: «أتقاضى أجراً كي أثبت نفسي باحثةً، لا كي أكتب ورقة تُنشَر بلا اسمي، مع أنّني كتبتُ 90% منها. ما العمل الذي يتقاضى عليه الباحث المشرف أجره؟ الإشراف على البحث والسرقة الأدبيّة؟... حين يُتَّهم الطّلّاب بالسرقة الأدبيّة لأنّهم نسخوا بضع جمل، بينما يُكافأ الأساتذة المشرفون حين يستولون على أبحاث كتبها مساعدوهم يكون أولئك المساعدون قد وقعوا ضحيّةَ ازدواج المعياري حبث يكافأ السارق ويعاقب المسروق!».
حاول باحثان الإصرار على إدراج اسميهما كمؤلّفَيْن تحت المقالات البحثيّة التي كتباها من أجل المشاريع التي عملا فيها، وفي كلتا الحالتين كانت الإجابة هي نفسها. «تلقّيت إيميلاً من قسم HR [الموارد البشريّة] في الجامعة [البريطانيّة] التي يعمل فيها الباحث المشرف، يقولون لي فيه إنّ البحث ملك للجامعة وقد تقاضيت أجري لإنجاز العمل»، يقول أحد المساعدين. «أرسل إليّ الباحث المشرف إيميلاً يقول لي فيه إنّ المعطيات كلّها والملكيّة الفكريّة للمشروع ملك للباحث المشرف وجامعته»! تعقّب على هاتين الحالتين ضحيةٌ ثالثة: «قال لي الأستاذ المشرف بأنّ هذه «مسألة مهنيّة» ولا ينبغي أن تؤثّر على علاقتنا العمليّة في المشروع».
خاتمة: الخيبة حيال التعليم العالي البريطانيّ في الخارج
أحد أهداف صندوق أبحاث التحدّيات العالميّة الجديد التابع للحكومة البريطانيّة، الذي يموّل قسماً كبيراً من صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج، هو تقديم «أفضل الممارسة العالميّة»، عبر رعاية «جماعات بحثيّة وتحالفات تعليميّة جديدة» علاوةً على «صوغ شراكات قويّة ودائمة بين المجتمعات البحثيّة في بريطانيا ومثيلاتها في الجنوب العالميّ» (BEIS، 2017: 6، 9). وبالنّسبة إلى مساعدي الأبحاث المحليّين العاملين في هذه الصناعة، في لبنان على الأقلّ، كانت تجربة الاغتراب والاستغلال تُفضي إلى اتّجاهٍ مختلف تماماً، نحو خيبةٍ متناميةٍ حيال المؤسّسة الأكاديميّة، والتعليم العالي البريطانيّ على الأخصّ. وتتركّز خيبة مساعدي الأبحاث، جزئيّاً، في انهيار المُثُل التي كانوا يؤمنون بها سابقاً بشأن معرفة الخبراء: إذ غالباً ما يُصدَم المساعدون حين يدركون ضحالة القدرات المحدودة لـ (بعض) الباحثين المشرفين، بما فيها افتقارهم إلى المهارات اللغويّة وخصوصاً العربيّة، وافتقارهم إلى الفهم العميق لسورية أو لبنان، واعتمادهم على المساعدين في الاضطلاع بالمسؤوليّة حيال جزء يتزايد دوماً من السيرورة البحثيّة. كما تتركّز الخيبة على القيمة الاجتماعيّة الأوسع للبحث الأكاديميّ، حين يشاهد المساعدون ويلمسون طبيعة المقاولات وأحياناً طبيعة المصلحة الخاصّة في صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين، تلك الطبيعة التي تعمل على استخلاص المعلومات من مجتمعات اللاجئين في لبنان (وأماكن أخرى) من أجل إنجاز نتاجاتٍ أكاديميّة وإرضاء متطلّبات المموّلين. وفيما تكون ردّة فعل بعض المساعدين هي التّعامل بسينيكيّة مع العمل الأكاديميّ، أو التطلّع إلى إيجاد طرق جديدة ليصبحوا نوعاً «مختلفاً» من الأكاديميّين، يحسّ البعض الآخر برغبةٍ تدفعهم إلى ترك البحث الأكاديميّ كلّه. «إنّ فكرة إنجاز البحث ثمّ الاكتفاء بالمغادرة، الإنصات إلى قصص النّاس وآلامهم، واستخدامها كمادّة من أجل كتابة الأوراق البحثيّة، ومن ثمّ نسيان الأمر كلّه»، تقول إحدى المساعدات وتضيف: «لست واثقة من أنّني قادرة على احتمال الأمر، لم أُخلق من أجل هذا، لا يبدو الأمر صحيحاً بالنسبّة إليّ».
ولقد حاججت أدبيّات نقديّة سابقة تناولت قضيّة مساعدِي الأبحاث الميدانيّين في الخارج من أجل انفتاح أكبر ونقدٍ عاكسٍ في الكتابة الأكاديميّة حيال دور المساعدين في الميدان مطلقين دعوةً من أجل «معاودة الكتابة عن مساعدي الأبحاث في اعتباراتنا الجمعيّة» (Middleton and Cons، 2014: 279). وتشدّد هذه الأدبيّات على الحاجة إلى التمعّن بحرص في الأبعاد الاقتصاديّة والسياسيّة والإثنيّة لعلاقات العمل بين الباحثين المشرفين ومساعدي الأبحاث، والتمعّن على الأخصّ في مسائل التأليف، وحقوق الملكيّة الفكريّة، والأجور، وشروط العمل كلّها. وفي مطلق الأحوال، إذا أردنا الوصول إلى الفهم الدّقيق للمشكلات الناتجة في تجربة مساعدي الأبحاث العاملين في صناعة الأبحاث المتعلّقة باللاجئين السوريّين في الخارج (وغيرها من الأبحاث)، فنحن بحاجة إلى توسيع وجهة نظرنا. ولا تتشكّل ظاهرة الاغتراب، والاستغلال والخيبة بين أوساط مساعدي الأبحاث الخارجيّة في المشاريع البحثيّة ذات الإشراف البريطانيّ من خلال علاقات العمل داخل مكان العمل وحسب، بل أيضاً من خلال الاقتصاد السياسيّ الأوسع المتعلّق بكيفيّة إنتاج الأبحاث الأكاديميّة في الحقبة الراهنة. وبهذا، نشير خصوصاً إلى: الانتقالات في العلاقات بين البحث الأكاديميّ والدولة، والمصلحة المتزايدة للحكومة البريطانيّة في توجيه أجندات البحث ومحو الحدود بين البحث، والإغاثة، والسياسة الخارجيّة، ومصالح الأمن القوميّ، وتصاعد نزعة المقاولة البحثيّة وثقافة المنَح في الجامعات البريطانيّة، والتغيّرات المتزامنة في أدوار العمل ومسارات المهنة الخاصّة بالباحثين الأكاديميّين البارزين، تشعّب قوّة العمل الأكاديميّة العالميّة، والتوسّع المتواصل لهامش متقلقلٍ من المتخرّجين الذين لا تُتاح لهم إلّا عقود عملٍ موقّتة متزعزعة، التفاوتات المستمرّة في السلطة، والثروة والمعرفة بين الأكاديميّين في بريطانيا وباقي الشمال العالميّ، بالمقارنة مع المجتمعات التي يتعامل معها هؤلاء الأكاديميّون في لبنان وأماكن أخرى في الجنوب العالميّ، وانتشار نموذج كليّ للتّعاقد من الباطن في الحياة الأكاديميّة، حيث لا يُترَك إلّا فتاتٌ، في حال تُرك أيّ شيء، لا يمكن تقسيمه أو تلزيمه بالنّسبة إلى الآخرين من أجل دفع أجورهم على أساس موقَّت عن طريق التّفويض.
والتّعامل مع هذه المشكلات يعني الدعوة إلى أجورٍ مُنصفة، وعقود عملٍ مضمونة، وتأليفٍ مشترك وحقوق ملكيّة فكريّة لمساعدي الأبحاث في جميع أنحاء العالم. بل ويعني أكثر من هذا، إذ يستلزم إعادة تفكيرٍ جوهريّة وإعادة تكوين للإنتاج العالميّ للأبحاث الأكاديميّة، في ما يخصّ العلاقات بين البحث الجامعيّ والدولة، الباحثين الأكاديميّين والسيرورة البحثيّة، التدريب البحثيّ وتوظيف الباحثين، وأخيراً وليس آخراً، توزيع الثروة، والسلطة، وتوجيه الأجندات والممارسات البحثيّة بين الباحثين الأكاديميّين العاملين في بقاعٍ مختلفة في الشمال والجنوب العالميّين.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.