العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ

إقراراً بمسؤوليّتنا المشتركة عن الأرواح التي زهقت في البحر المتوسّط، وفي لفتةٍ إلى تيودور جيركو، نحَتَ جايسون ديكير تايلور تمثالاً تحت الماء أطلق عليه اسم «طوف ميدوزا» ويجسّد زورقاً مطّاطيّاً متداعياً يحمل مجسّماتٍ لمهاجرين. وعلى الرّغم من أنّ مصير هؤلاء غير معروف إلّا أنّ شكل التمثال سيتحوّل مع مرور الزّمن. إذ ستقوم الشعب المرجانيّة، والطحالب، والقشريّات، وغيرها من الكائنات الحيّة باستيطان التمثال وتحويله وبثّ حياةٍ جديدة في أجساد المهاجرين الإسمنتيّة مضفيةً بُعداً جديداً معقّداً على التمثال كنظام إيكولوجيّ بحريّ.

السطح

فشلت الجهود المتزايدة التي بذلتْها البلدان الأوروبيّة لضبط حركة المهاجرين في البحر المتوسّط في وضع حدٍّ لموجات الهجرة اللاشرعيّة. فقد أدّتْ عوضاً عن ذلك إلى تجزئة مسارات الهجرة وتنوّعها وتسبّبت بفورةٍ في أنشطة التّهريب. استناداً إلى تقارير صادرة عن «يوروبول»، وكالة تطبيق القانون التابعة للاتّحاد الأوروبيّ، تسهّل شبكات التّهريب الغالبيّة العظمى من حركة الهجرة البحريّة غير الشرعيّة عبر البحر المتوسّط١. إذ يُنقل المهرّبون المهاجرون غالباً على متن سفنٍ مترنّحة تكون عادةً زوارق مطّاطيّة متردّية أو مراكب صيد خشبيّة متداعية٢. يزيد الاكتظاظ الشديد من مخاطر الرّكوب على متن السفن ذات الهياكل المترديّة. وتكون غالباً غير قادرة على تحمّل رحلاتٍ طويلة وبخاصّةٍ في ظروفٍ جوّيّة سيّئة.

وفي ردّ فعلٍ على أزمة الهجرة المستفحلة، وبهدف توحيد جهود المراقبة فيما بينها، أنشأت الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبيّ نظام مراقبة الحدود الأوروبيّة (EUROSUR) الذي يهدف إلى تعزيز التحكّم بالحدود البحريّة والبرّيّة الخارجيّة للاتّحاد الأووربيّ من خلال تشجيع التعاون بين وكالات الحدود الأوروبيّة ونشر طَيفٍ واسع من تقنيّات المراقبة فائقة التطوّر. تشمل هذه التقنيّات، المرْكبات الجوّيّة غير المأهولة (UAVs) وأنظمة المراقبة عبر الأقمار الصناعيّة، وأجهزة الاستشعار البحريّة بالإضافة إلى أجهزة رادار يتمّ التحكّم بها من البحر والبرّ والجوّ من بين تقنيّات متعدّدةٍ أخرى. وعلى الرّغم من أنّ الرّوايات الرسميّة، كما ورد في تقرير «فرونتيكس» إلى البرلمان الأوروبيّ حول وظيفة نظام «EUROSUR»، تحرص على وصف النظام بأنّه جهد كبيرٌ يرمي إلى تحسين تحديد موقع الأشخاص في خطر أو الذين يحتاجون إلى المساعدة في عرض البحر٣، يشير آخرون إلى أنّ هذا النظام هو عبارة عن إطار عملٍ لتبادل المعلومات مصمّمٍ لتعزيز نجاح عمليّات اعتراضِ سفن اللاجئين وإعادتهم من حيث أتَوا٤.

هناك قوانين واتفاقيّات ومعاهدات بحريّة إقليميّة ودوليّة تحكم سيادة الدول بدرجاتٍ متباينةٍ على مناطق مختلفة على المياه. ترتبط هذه القوانين والاتفاقيّاتُ والمعاهدات بممارساتٍ بحريّة علميّة وثقافيّة وإيكولوجيّة واقتصاديّة وتشمل بناء هياكل اصطناعيّة مثل منصّات النّفط والغاز بالإضافة إلى صيد الأسماك٥. كما يتمّ بموجبها تقسيم البحر إلى مناطق للبحث والإنقاذ تقوم دولٌ مختلفة بحسبها بتنظيم عمليّاتِ مساعدة الأشخاص المعرّضين للخطر فيها. إلّا أنّ هذه العمليّة تصبح معقدّة حين تتداخل منطقة البحث والإنقاذ التابعة لدولة ما مع المنطقة نفسها الخاصّة بدولة أخرى كما هو الحال بين إيطاليا ومالطا٦. ولسخرية القدَر، يقدّم هذا التعقيد القانونيّ والسياسيّ إلى الدَول ثغرً قانونيّةً للتنصّل من مسؤوليّاتها في مجال الإنقاذ أو لرفض إنزال المهاجرين الذين تمّ إنقاذهم إلى أراضيها.

تشكّل أعالي البحار بالتالي مساحةً ملتفّةً من آليّات الحكم ذات التنظيم الرّخو مع قوانين بحريّة متباينة وغالباً موضع نزاعٍ ما يزوّد الدول المعنيّة بفرصةٍ كبيرة للتنصّل أو التبرّؤ بنجاح من واجباتها ومسؤوليّاتها في سياق حقوق الإنسان والقانون البحريّ. بالإضافة إلى ذلك ومنذ نهاية عام ٢٠١٦، أطلقت دولٌ أوروبيّة، وعلى نحوٍ خاصّ الحكومة الإيطاليّة، حملةً عدائيّة منظّمة لنزع الشرعيّة عن عمل سفن الإنقاذ التي تديرها منظّمات غير حكوميّة وعرقلتْه في مسعىً لصدّ موجات الهجرة في مسار وسط المتوسّط، واعتمدتْ سياساتٍ ترمي إلى: أوّلاً توسيع منطقة البحث والإنقاذ الخاصّة بليبيا بحيث يصبح من الصّعب على السّفن الأوروبيّة وسفن المنظّمات غير الحكوميّة العمل ضمن هذه المناطق، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع عدد المهاجرين الذين يضطرّون إلى العودة إلى المخيّمات الليبيّة التي تشهد انتهاكاتٍ صارخةً ودوريّة في حقوق الإنسان الخاصّة، وثانياً تزويد حرس الشّواطئ في ليبيا بمزيدٍ من المعدّات والموارد، وثالثاً إقفال الموانئ الإيطاليّة أمام سفن الإنقاذ التي تديرها المنظّمات غير الحكوميّة٧.

ونتيجةً لهذا الموقف من الهجرة، ارتفعت معدّلات الخسائر في الأرواح على نحو مقلق للغاية في البحر المتوسّط. وبحسب تقارير صادرة عن مكتب مفوّض الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، فإنّ واحداً من أصل ثمانٍ وثمانين شخصاً لقي حتفه في البحر في عام ٢٠١٦، الأمر الذي يمثّل ارتفاعاً حادّاً بالمقارنة مع واحدة من كلّ ٢٦٩ حالة وصول في عام ٢٠١٥. وبعد مضيّ أقلّ من ثمانية أشهر على بداية عام ٢٠١٨، أصبحتْ هذه الأرقام مقلقةً أكثر حيث وصلتْ نسبة الوفيّات إلى واحد من كلّ ٣٥ مهاجراً٨.

أيّ رجال، أيّ وحوش، أيّ عرف غير إنسانيّ

أيّ قوانين، أيّ عادات وحشيّة لهذا المكان

تغلق شاطئاً فارغاً أمام رجالٍ يغرقون

وتعيدنا إلى البحر القاسي من جديد؟

الإنيادة، الكتاب الأوّل، ٧٦٠ - ٧٦٣ ٩

تحت الماء

في دراسة له حول مصر في القرن العشرين، يشير تيموثي ميتشل إلى أنّ مصر تعرضّت في صيف عام ١٩٤٢ إلى نوعين من الغزو: ففي حين شكّل الجنود الألمان الغزاة الأكثر وضوحاً إلّا أنّ الغزو الثاني كان من البعوض الحامل للملاريا. ويشير ميتشل إلى «أنّ نصف الغزاة كانوا من البشر، لذلك فهو العنصر الوحيد الذي يؤتى على ذكره على الرّغم من أنّ الإصابات في المعركة الأخرى كانت أكبر»١٠.

وقد تبيّن أنّ وجود عوالق بحريّة مثل السوطيّات (dinoflagellates) بنسَب تركيزٍ مرتفعة يتسبّب بما يُعرف عادةً بالمدّ الأحمر. يتحدّث هوميروس في إلياذته الشهيرة عن البحر ذي اللون النبيذيّ الدّاكن في معرض وصفه لسطح البحر المتوسّط، وهو توصيف يتكرّر في القصائد وأثار حيرة اليونانيّين لعقود طويلة. ومعروفٌ أنّ تكاثر الطحالب الحمراء حالةٌ تشكّل فيها العوالق النباتيّة تجمعّات كثيفة ومرئيّة بالقرب من سطح المياه تؤدّي إلى تغيّر لون المياه وتحوّله إلى الأحمر.

وبحسب العلوم الجنائيّة الخاصّة بالغرق، فإنّ جثث الموتى في مياه البحر تتسبّب في طفرة في كثافة العوالق النباتيّة حولها ولا سيّما الدياتومات (diatoms) أي العوالق النباتيّة أحاديّة الخلايا، والسوطيّات (dinoflagellates)١١. ويؤدّي وجود أعداد كبيرة من الجثث / الأجسام المتّصلة في المياه إلى زيادة كبيرة في نموّ هذه العوالق. وعلى نحوٍ مماثل، جمَع تمثال ديكير تايلور جثثاً متراكمة لمهاجرين تمّ التخلّي عنهم عمداً وعوالق نباتيّة لتشكّل مستوطنةً حمراء جديدة في البحر المتوسّط. تؤدّي هذه الحركة على سطح المياه إلى حالةٍ من التّتريف (النمو المفرط) في العمود المائيّ فتؤدّي كثرة السوطيّات إلى نضوب الأكسجين من تلك المناطق وهي حالة يصعب فيها على معظم الكائنات البحريّة البقاء على قيد الحياة، وتمهّد السبيل أمام الكائنات الانتهازيّة، مثل قنديل البحر، للتكاثر. ولعلّ أحد أسباب صمود قناديل البحر يعود إلى أنّ سلالاتها تتحمّل مستوياتٍ متدنّيةً من الأكسجين بشكل أفضل من الكائنات الأخرى ذات الحاجات التنفسيّة الأكبر. كما يُعتقد أنّ نقص التأكسج يعزّز شراسة قناديل البحر بما أنّها تستفيد من أكل الفريسة الضعيفة. وبالتالي ينجم عن تحوّل المنظومة البيئيّة تكاثرُ الطّحالب الضارّة مؤذيةً سلسلةً غذائيّة تصبّ في مصلحة قناديل البحر وتشجّع تكاثرها وتؤدّي إلى انتشار حادّ ومتكرّر لقناديل البحر١٢.

هناك خصائص متعدّدة لسيطرة قناديل البحر على البيئة البحريّة من ضمنها: التّداخل مع البنية التحتيّة البشريّة على الشاطئ وفي عرض البحر بما أنّها تسدّ الأنانيب تحت المياه. ففي السنوات الأخيرة اضطرّت السّلطاتُ الإسرائيليّة مرّات متعدّدة لإقفال مفاعل أوروت رابين للطّاقة النوويّة في الخضيرة، أكبر مفاعل نوويٍّ في إسرائيل، بسبب انتشار أسرابٍ كبيرة من قناديل البحر في حوض التبريد وأنابيب سَحْب مياه البحر، الأمر الذي تسبّب في كلّ مرّة بخسائرَ تقدّر بآلاف الدولارات١٣. كذلك تؤدّي إلى تغيير البيئة البحريّة من خلال تحويل السلسلة الغذائيّة لمصلحتها١٤ وإبادة تربية المائيّات من خلال القضاء على مزارع الأسماك. إذ تتمكّن أسراب قناديل البحر مدفوعةً بالتيّارات البحريّة من الدّخول عبر شبَاك الأقفاص في عرض البحر وتتسبّب بالأذى الفعليّ للأسماك المحتجَزة. وفي بعض الحالات أدّى دخول قناديل البحر الأقفاصَ إلى نفوقٍ جماعيّ للأسماك ذات الزّعانف جرّاء تسمّمها. تجدر الإشارة إلى أنّ تربية المائيّات تعتبر مصدراً أساسيّاً لانتاج الأغذية في البحر المتوسّط، وبالتّالي فإنّ اجتياح قناديل البحر لمزارع الأسماك يؤدّي إلى تبعاتٍ اقتصاديّة مقلقة للغاية على هذه المرافق. ففي عام ٢٠٠٩ أدّى النفوق الجماعيّ الذي يسبّبه دخول أسراب من قناديل البحر إلى مزرعةٍ للأسماك في تونس إلى إفلاس الشركة التي تدير المصيدة، وفي عام ٢٠١١ تسبّبت حادثةٌ مماثلة بخسائر فاقتْ عشرات آلاف الدولارات لشركة إسبانيّة١٥. كذلك تتسبّب القناديل بتضرّر السياحة الشاطئيّة بسبب التهديد الذي تفرضه لسَعاتها، وتؤثّر على اقتصادات الدول من خلال عرقلة تدفّقاتٍ كانت تعتبر موثوقةً في السابق لرؤوس الأموال. إنّ الزّيادة الكبيرة في أعداد قناديل البحر والتعطيل الناجم عنها الذي يطاول الصناعات البشريّة وتراكم رأس المال لها أهمّيّة سياسيّة هائلة بما أنّ أيّ دولة لن تشهد استقراراً سياسيّاً إذا لم تكن مقتدرةً اقتصاديّاً.

إذا لم يأتِ حّظنا الصعب بالتعاطف

أو حقوق ضيافة، أو قوانين إنسانيّة

فإنّ الآلهة عادلون وسينتقمون لنا

الإنيادة، الكتاب الأوّل، ٧٦٤ - ٧٦٦ ١٦

دوّامات حمراء في مياه البحر الزّرقاء

اضطهَدت القوى الاستعماريّة الجديدة الشعوب وجعلتْها غير مرئيّة في المياه، كما أخلّت بتوازن الأنظمة البيئيّة البحريّة من خلال استغلال الموارد الطبيعيّة بطريقة لا سبيل للرّجوع عنها. فمن خلال إزالة العوائق والحدود بين البشر والقوى الطبيعيّة، توسّع نطاق المقاومة والصمود من البحر إلى السماوات حيث تنقل أجهزة المراقبة (الأقمار الصناعيّة) صوراً لبقع حمراء تتشكّل حول أجساد المهاجرين المنسيّة عمداً على سطح المياه. في تلك اللحظة ترتفع أسراب قناديل البحر من أعماق البحر إلى السطح فتتكاثر وتحتلّ البحر. يمنح مثلُ هذا التّحالف المتخيَّل بين الأصناف والكائنات صورةً عن الواقع غير المُنصف الذي تفرضه الرأسماليّة العالميّة على البشر والطبيعة، ترسم عالَماً يترنّح دائماً بين الحقيقة المختلّة والمستقبل الحافل بالأمل.

  • ١. Europol, Interpol (2016), Migrant Smuggling Networks
  • ٢. Med, Risks, Rights & Safety at Sea
  • ٣. Frontex (2015), Report to the European Parliament and the Council on Art 22 (2) of Regulation (EU) No 1052/2013 - The functioning of Eurosur, report no. 20.580/2015
  • ٤. Hayes, B. and Vermulen, M (2012), Borderline The EU's New Border Surveillance Initiatives Assessing the Costs and Fundamental Rights Implications of EUROSUR and the «Smart Borders»
  • ٥. United Nations Division For Ocean Affairs and The Law Of The Sea (1982), United Nations Convention on the Law of the Sea
  • ٦. The Med, The Sea as Frontier
  • ٧. Blaming The Rescuers, Report
  • ٨. Missing Migrants, Total of Deaths Recorded in the Mediterranean from 01 January to 18 July
  • ٩. Virgil. Dryden, J. and Keener, F. (1997). Virgil's Aeneid
  • ١٠. Mitchell, T. (2002), «Can The Mosquito Speak?», Rule of Experts: Egypt, Techno-Politics, Modernity, p. 22
  • ١١. Gannon, K. and Gilbertson, D. (2014), «Brian Richard Welzien», Case Studies in Drowning Forensics, pp. 96 - 99
  • ١٢. Gershwin, L. (2013) Stung, pp. 168 - 180
  • ١٣. Ibid, pp. 350 - 358
  • ١٤. Gershwin, L. (2016), Jellyfish: a natural history
  • ١٥. Bosch-Belmar, M., Azzurro, E., Pulis, K., Milisenda, G., Fuentes, V., Kefi-Daly Yahia, O., Micallef, A., Deidun, A. and Piraino, S. (2017). «Jellyfish blooms perception in Mediterranean finfish aquaculture», Marine Policy, 76: 1 - 7
  • ١٦. Virgil. Dryden, J. and Keener, F. (1997). Virgil's Aeneid
العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.