اللغات تبدأ في البيت. لذا سوف أبدأ بقصّة علاقتي بعدّة لغات وبالطريقة التي أثّر بي استخدام لغات لم يكن لي أن أتكلّمها أو أستخدمها في كتابة الشعر أو النّثر بشكل طبيعيّ. أبدأ ببعض المعلومات عن بيئتي العائليّة وكفاحها حول هذا الموضوع. كانت أمّي يونانيّة من إزمير، هذا عندما كانت إزمير، قبل الحرب العالميّة الأولى مدينةً ذات أغلبيّة يونانيّة، تسكنها جماعةٌ ناطقة باليونانيّة داخل السلطنة العثمانيّة. وأبي كان عربيّاً. ولد في دمشق بسورية. في سنّ الاثنتي عشرة، دخل الكلّيّة العسكريّة في إسطنبول، التي كانت تسمّى «الكلّيّة الحربيّة». كان ذلك في أواخر القرن التّاسع عشر. كانت دمشق جزءاً من السلطنة العثمانيّة وكان أبي ضابطاً عثمانيّاً. ولمّا كانت تركيّا حينذاك حليفةً لألمانيا القيصريّة، تلقّى والدي تدريبه بالتركيّة والألمانيّة والفرنسيّة، إضافة إلى دراسته السابقة بالعربيّة. كانت الفرنسيّة تُدرّس في السلطنة العثمانيّة كثقافةٍ عامّة، للأسباب ذاتها التي كانت تدرّس فيها أيضاً في روسيا.
أبي المسلم تزوّج من أمّي الأصغر منه سنّاً بكثير والتي تمثّل أيضاً ثقافةً مغايرةً عن ثقافته. كان ذلك مطلع الحرب العالميّة الأولي حوالي العام ١٩١٦ على ما قيل لي. كانا يتكلّمان التركيّة بينهما، ذلك أنّ اليونانيّين القاطنين في تركيّا كانوا جميعهم يعرفون القليل من التركيّة ولكنّهم يتكلّمون اليونانيّة في البيت والمدرسة. كانتْ حياتهم قريبةً جدّاً من كنيستهم وتتداخل لديهم الثقافة والدِّين. ونادراً ما كانت الزيجات تنْعقد خارج الجماعة الثقافيّة إيّاها.
كانت الإمبراطوريّة العثمانيّة سلطنة. ما يعني أنّها لم تكن دولةً ذات جماعة متجانسة من النّاس. كانتْ إمبراطوريّة لم تكن التركيّة فيها اللغة الأكثر تداولاً بين السكّان. ثمّ إنّ التركيّة ذاتَها كانت مليئةً بالمفردات والتعابير العربيّة لأنّ الأتراك، وهم مسلمون، كانوا يدرسون القرآن في المدرسة. وكان ثمّة أرمنٌ أيضاً في السلطنة يتكلّمون الأرمنيّة إضافًة إلى التركيّة. وهكذا فالكلّ تقريباً كان يعرف ولو بعضاً من لغة الآخر إضافةً إلى لغته مع أنّ الكلّ متجذّرٌ في لغة جماعته وحياتها. ولذا أقول إنّ التركيّة كانت اللغة المشتركة لأهلي. درستْ أمّي في دَيرٍ إلى أن بلغت الثانية عشرة، كان للفرنسيّين أديرةٌ في كلّ المدن الرئيسة وكان «المتعلّمون» يدرسون الفرنسيّة. القليل من الفرنسيّة، على الأقلّ. لذا كان والداي يفهمان الفرنسيّة، يألفان القراءة والكتابة فيها. كانت أمّي تتكلّم التركيّة لكنّها لم تدرسها. لذا فعندما أمضى والدي فترةً من الوقت على جبهة الدردنيل، قرب إسطنبول، خلال تلك المعارك الكبرى، كان يكتب لها الرسائل بالفرنسيّة. كانت لغته رومنطيقيّة، على غرار الرّوايات الألمانيّة والنمساويّة أو الروسيّة في ذلك الزّمن. ولأنّ تلك الرّسائل كانت محفوظةً بعنايةٍ تعتزّ بها أمّي وتسعد، أمكنني قراءتها بعد سنوات عديدة. كان يمكنها أن تجد مكاناً لها داخل رواية «الحرب والسلام» لتولستوي: فهي تتحدّث عن الحبّ، عن الحرب، عن الحياة وعن الموت. كتبها تحت هدير المدافع بالحبر الأسود وبخطٍّ يرسم الحروف بوضوح تامّ. لقد فُقَدت الآن، لكثرة التنقّلات في حياتي ولامبالاتي زمن الشباب.
اللغة العربيّة الممنوعة
ولدتُ في بيروت، لبنان، لأنّ والديّ غادرا تركيّا في نهاية الحرب العالميّة الأولى واستقرّا في بيروت. كانت بيروت قريبةً من دمشق، مسقط رأس أبي. بعد عدّة سنوات من ذلك، وُلدت في عالمٍ مختلف تماماً عن العالم الذي عرفه أبواي. كان الحلفاء قد احتلّوا المشرق العربيّ وقسّموه، واحتفظ الفرنسيّون لأنفسهم بمنطقةٍ قسّموها إلى سورية ولبنان. وفي لبنان، باشروا فوراً في بناء شبكةٍ من المدارس الفرنسيّة يديرها قساوسةٌ ورهبانٌ وراهبات.
هكذا ارتدتُ مدرسة راهباتٍ فرنسيّة ودرسْت باللغة الفرنسيّة. شهد أبناء جيلي بلداً يحكمه فرنسيّون تمتّعوا لأنفسهم، ولصالح لغتهم وعوائدهم، بالهيبة للذين يمسكون بالسلطة. درسْنا في الكتب ذاتها التي كان يَدرس فيها الصبية الفرنسيّون في أوروبا، وقد بدتْ باريس كأنّها عاصمة الدّنيا فحفظنا أسماء العديد من الأشياء لم نكن نعرفها ولم نشهدها قطّ من قبل: أنهراً فرنسيّة، جبالاً فرنسيّة، تاريخ ذوي العيون الزّرق الذين بنوا إمبراطوريّة. كانت الرّاهبات اللواتي عانت عيالهنّ تحت اجتياح جيوش القيصر يكرهْن الألمان وقد نَقلْن إلينا كرْه الألمان. بمعنى ما، كنّا نتنشّق هواءً بدا فيه أنّ الانتماء لفرنسا يعني التفوّق على أيّ كان، والبداهة أنّنا لم نكن فرنسيّين. لكنّ خير ما نستطيع هو أن نتكلّم بالفرنسيّة على الأقلّ. تدريجيّاً، شعَرَ جيلٌ كاملٌ من الصّبيان والبنات المتعلّمين بأنّهم متفوّقون على الأولاد الأفقر حالاً الذين لا يرتادون المدارس ولا يتكّلمون غير العربيّة. وقد جرى التماهي بين اللغة العربيّة وبين التخلّف والعار. بعد سنوات، علمْت أنّ الأمر نفسه يجري على امتداد الإمبراطوريّة الفرنسيّة، في المغرب وتونس والجزائر وأفريقيا السّوداء والهند الصينيّة.
الأسلوب المستخدَم لتعليم الفرنسيّة للأطفال كان بذاته نوعاً من التطبيع النفسانيّ الذي لم يعترض عليه أحد، حيث النّاس يعتقدون أنّ كلّ ما تفعله الرّاهبات هو خيّر دوماً ويتّجه دوماً نحو الأفضل: وهكذا فكلّ المدارس المدارَة من الفرنسيّين يجري تكليف عددٍ من التلامذة المختارين بأن «يتجسّسوا» على الآخرين: فكلّ من يُسمَع في الصّفّ أو خلال الاستراحة وهو يتكلّم العربيّة يَلقى عقاباً وتوضع حصى صغيرة في جيبه: كان التكلّم بالعربيّة يعادل اقتراف خطيئة. كان معظم التلامذة يتحدّثون العربيّة في البيت ولكن لمّا صاروا هم أنفسهم آباء وأمّهاتٍ، بدأوا يتحدّثون بالفرنسيّة أو العربيّة لأطفالهم، او بمزيج من اللغتين.
بالعودة إلى طفولتي، تأخذني الذّاكرة إلى أبعد ما تستطيع، فأتذكّر أنّني كنت أتكلّم اليونانيّة والتركيّة إلى أن بلغْت الخامسة، عندما بدأت أرتاد المدرسة. ولأنّني كنت أتكلّم الفرنسيّة ويوجد فرنسيّون في المدينة - وبعضهم جيران تستخدم أمّي الفرنسيّة معهم وهي اللغة التي تعلّمتها في إزمير في طفولتها - صرنا أسرةً تستخدم الفرنسيّة أكثر فأكثر في البيت: تتكلّم بها أمّي بسرور وأبي يتردّد في استخدامها. ولذلك أسباب: أبي عربيّ يقيم في بلدٍ عربيٍّ ويتكلّم العربيّة في تعامله مع النّاس في البلد أو بين أصدقائه. أمّا أمّي، التي لا تجيد العربيّة، فكانتْ تتماهى إلى حدٍّ ما مع الفرنسيّين، مع أنّها لم تفكّر مرّة أنّ كونها يونانيّة يجعلها شبيهةً بهم. لا، كانت تعرف لغتهم فقط، وعلى نحوٍ منقوص، وتستخدمها، وقدْ شرعت تستخدمها أيضاً معي، أنا الطفل الوحيد في زواجها.
أذْكر والدي، الذي كان هرماً قياساً إليّ كطفلة ويبدو كَجَدّ بالنّسبة إلى باقي الأطفال، كأنّه يصحو من حلم، بين فينةٍ وأخرى، وينشغل له بال فجأة، فيقول لأمّي ما معناه: «لسنا في فرنسا، وكلّ هذا الكلام الفرنسيّ ليس مناسباً. على الطفلة أن تتعلّم العربيّة»، فتجيبه: «لماذا لا تعلّمها أنت؟» فيصمت أو يتمتم ببعض الكلمات بالعربيّة يبدو كأنّ البيت كلّه قد ابتلعها. عندما كنتُ في السادسة أو السّابعة أذكر أنّ أبي كان له قلَم حبر يحبّه بنوع خاصّ، ولمّا كان عليه أن يملأ معاملاتٍ إداريّة أحياناً، ولأنّ العربيّة هي اللغة الرسميّة، كان يكتب بخط مستقيم وأنيق، سطراً بعد سطر في لغة لم تكن عندي أجنبيّة ولا مألوفة. ولقد علّمني الأبجديّة العربيّة، وجعلني أنقلها حوالي مئة مرّة، وكنت أرسم الحروف باجتهاد.
ثمّ أخذ لفترةٍ وجيزةٍ يستخدم كتاب الصّرف والنّحو العربيَ - التركيّ المتبقّي من حياته المغامرة. يقول لي بفخر إنّه الكتاب ذاتُه الذي كان يستخدمه في «الكلّيّة العسكريّة» عندما كان برتبة صفّ ضابط. كان الكتاب سميكاً، ضيّقاً، أصفر الأوراق، وغلافه مليءٌ بالكتابات المتداخلة. تعلّمت فيه تصريف الأفعال وبعض العبارات التي تشرح استخدامات الأفعال. أضجر أحياناً أو أسهو خلال الدّرس، فيؤنّبني بلطف، لكنّه كان سريع الغضب جدّاً، يلجأ إلى أمّي كشاهدٍ ليقول: «حالةٌ ميؤوس منها، هذا ما ينبغي على المدرسة أن تعلّمها إيّاه، الرّاهبات مجرّد رُسُل دعاية. كلّ شيء دعاية في هذا البلد!» كان متعَباً من تلقين دورسٍ غير مبرمَجة، وربّما، ولعلّه السّبب الأكثر جدّيّة، لأنّه رجل هُزم في الحرب، وشاهدٌ على نهاية إمبراطوريّةٍ قاتَلَ من أجلها وجُرح وتلقّى الأوسمة. لم يكن هذا الضّابط العثمانيّ رجلاً تربويّاً: طلب منّي مرّةً أن أجلس وأنقل كتاب الصّرف والنّحو برمّته، صفحةً صفحةّ: «انقلي هذه الدروس» قال «وسوف تتعلّمين العربيّة». أتذكّر أنّي بين حينٍ وآخر كنت أجلس وأنقل (لعلّي فعلتُها خلال سنةٍ، سنتين، أو في موسمٍ واحد، لم أعد أتذكّر) يعني أنْ أنقل بدقّة، كلمةً بعد كلمة، كلماتٍ أفهم أبجديّتها لكنّي نادراً ما أفقه معانيها - لم أحاول أن أفهم ما أكتب ومع ذلك كنت أدّعي أنّي أتعلّم لغةً دون جهد، لمجرّد أنّي أدوّنها. لا بد أنّ ثمّة ما هو منوّمٌ في تلك التمارين لأنّي لاحقاً، ولأسبابٍ مختلفة، صرت أقوم بالحركة ذاتها عمليّاً. وعن هذا سوف أتحدّث لاحقاً.
إنّ نقْل لغةٍ أجهلها لم يجعلني أتعلّم العربية، ووجودي في مدرسةٍ تمنع استخدام العربيّة جعلني أشعر بالوحدة الخانقة وبالرّغبة في أن أتخلّى عن تلك المهمّة. وقد ساعد أبي في ذلك دون أن يعي ذلك، قال لي مرّة ربّما من قبيل الحنين إلى أيّام دراسته في الكلّيّة العسكريّة - أذكر ذلك بوضوح تامّ، ولعلّي بلغتُ العاشرة حينها - قال: إنّ مستقبل العالم هو في العلوم وفي الكيمياء خصوصاً، وإنّه سوف يرسلني إلى ألمانيا عندما أكبر لأتخرّج ككيميائيّة. سعدتُ لأنْ أحلم بمثل هذا الحدث الاستثنائيّ، أم تراه كان عذراً لعدم تعلّم العربيّة؟ كلّ ما أعرفه أنّي، بعد سنوات عدّة، وتحت ضغطٍ حكوميّ رسميّ، بدأت المدارس الفرنسيّة تدرّسنا حصّةً للّغة العربيّة لساعتين في الأسبوع، فذهبْت إلى رئيسة الرّاهبات في المدرسة وأبلغتها بأنّي سوف أسافر للدّراسة ذات يومٍ إلى ألمانيا ولست بحاجةٍ إلى مثل ذاك الدرس. قالت: حسناً، إن كان هذا هو رأي أهلك. صرت أخذ دروساً في اللاتينيّة مع أبناء الأسَر الفرنسيّة ولكنّي لم أتخطّ الفصول الأولى. الربيع في بيروت يزيد الشّغَب عند التّلامذة ويليه الصّيف بسرعة: لذا فإنّ دروساً مثل اللاتينيّة والرّسم والخياطة وعلم النّبات لم تكن لتثير حماسة أحد، فما بالك أن يضاف إليها درس اللغة العربيّة! أضحت العربيّة لغة من الدّرجة الثانية في بلد اللغة العربيّة ذاته.
بيروت الكوزموبوليتيّة وأوّل الشِعر
كنت في الثّانوية عندما اندلعَت الحرب العالميّة الثانية. شاهدتُ بيروتَ تتحوّل إلى مدينةٍ ذات مكانةٍ عالميّة. اتّخذَت الجيوشُ الفرنسيّة والبريطانيّة منها مراكزَ لقياداتها وشعّ الوجهُ الكوزموبوليتيّ للمدينة برومنطيقيّةٍ مميزّة أعدّتْنا لها الأفلام السينمائيّة. إلى سكّانٍ يضمّون اليونانيّين والإيطاليّين والأكراد والأرمن إضافة للسكّان الأصليّين، إضيف جنودٌ من جنسيّات مختلفةٍ تتكونّ منهم جيوش الحلفاء: أستراليّون وكنديّون ونيوزيلنديّون وأفارقةٌ سود وبولونيّون أحرار. تحوّلت بيروت إلى صورةٍ مصغّرةٍ من العالم، زوبعةٍ صغيرةٍ من الحرب والمرَح. لم تشاهد الحربَ الحقيقيّة، اكتفتْ بمشاهدة الجيوش التي كانت تمزّق العالم إرباً.
بالنّسبة إلى الفتاة الصغيرة التي هي كنتُها، عنى ذلك وجوهاً «جديدةً» و«أحداثاً» جديدةً ولغاتٍ جديدة. بتْنا على وعْي «لأهمّيّة» اللغة الإنكليزيّة، وأخذتْ أسرٌ لبنانيّة، سكنت في الإسكندريّة والقاهرة ثمّ عادتْ إلى لبنان، تستعيد الإنكليزيّة التي تعلّمتْها لكي تواكب مجرى التاريخ. زادتْ نسبة اللبنانيّين في الجامعة الأميركيّة في بيروت وقد كانت للطلّاب الأجانب في الأساس. صارت المدينة ثنائيّةَ اللغة، في طريقها لأن تصير ثلاثيّة اللغة. عندما جاء اللاجئون الفلسطينيّون إلى لبنان بعد عشر سنوات من ذلك، كان الأرقي علماً بينهم يجيد العربيّة والإنكليزيّة معاً وإذا قطعة تجاريّة كاملة من المدينة، المجاورة للجامعة الاميركيّة، تستخدم الإنكليزيّة لا الفرنسيّة بما هي لغة التبادل التجاريّ.
تخلق الجامعات بيئاتٍ ثقافيّة حولها. وكانت بيروت تدور مدار ثلاث جامعات تمثّل اللغات الثلاث وثلاث طرق في الحياة وثلاثة خيارات فكريّة، وأكاد أن أقول: ثلاثة مصائر. وكما هو متوقّع، فالكتّاب والمجلّات الأدبّية بل حتى الصحف لحقت بالدّارج. كان ذلك نوعاً من الثّراء، انفتاحاً على العالم، وضَرباً من التنوّع مذهلاً. لكنّه، في بلدٍ أصغرَ من أن يستوعب رياح التّغيير العاتية والاستقطاب الثقافيّ، خلَق تيّاراتٍ جوفيّة من التوتّر سوف تتفجر بعد جيل وتدمّر البلد عمليّاً.
شيئاً فشيئاً، طوّر لبنان حياة ثقافيّة غنيّة، لكنّها مبعثرة إلى فئات لغويّة: كان ثمّة شعراءُ كبار (جورج شحادة) يكتب بالفرنسيّة، وفيما معظم الكتّاب لا يزالون يكتبون بالعربيّة كان ثمّة كتّابٌ وشعراء وصحافيّون بدأوا يكتبون بالإنكليزيّة. تلك الظاهرة قلّصت جمهور كلّ فئةٍ من تلك الفئات، في بلد لا يزيد سكّانه على ثلاثة ملايين نسمة. وتلك مشكلة حقيقيّة. ذلك أنّ شاعراً أو كاتباً لم يكن له شعورٌ قطّ بأنّه أو أنّها يتوجّه / تتوجّه إلى الأمّة جمعاء. أنا كنتُ أكتب بالإنكليزيّة. بدأتُ كتابة الشعر في العشرين من العمر: كانتْ قصيدةً طويلة عنْونتُها «كتاب البحر»، هي قصيدة ترى إلى العلاقة المتبادَلة بين الشمس والبحر في لونٍ من الإيروسيّة الكَونيّة. لاحقاً، واجهتْني مشكلةٌ لأنّ القصيدة مكتوبة بالفرنسيّة. عادةً ما تُتَرجم أعمالي الشعريّة إلى العربيّة وتُنشر في مجلّتين أو ثلاث مجلّات من أهمّ مجلّات الأدب العربيّ. لم يُترجَم «كتاب البحر» إلى الآن لأنّ البحر بالفرنسيّة مؤنّث في حين أنّ الشمس مذكّر، والعكس هو الحال في العربيّة: وكلّ قصيدتي تشتغل على مجاز أنّ البحر مؤنّث والشمس هي المحارِب، او هي المبدأ الذكوريّ. لذا فالقصيدة غير قابلةٍ للتّرجمة، وهي، في صميم معناها، لا يمكن حتى التفكّر بها باللغة العربيّة.
في متنصف الخمسينيّات، سافرتُ إلى باريس لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون وكتبتُ بعض الشعر. التقيت الطلبة الأميركيّين في المدينة الجامعيّة وبعدَ زيارةٍ سريعةٍ لبيروت، هبطتُ في نيويورك في كانون الثاني / يناير ١٩٥٥ وبعدها ببضعة أشهرٍ كنتُ في بركلي بكاليفورنيا. لم أدرك أنّ تغيير جامعاتٍ ليس مجرّد استمرارٍ للدّراسة في مكانٍ آخر. كان انقلاباً كاملاً في تفكير المرء، هزّةً أرضيّةً صغيرةً في حياة الطّالب. والانتقال من جامعة السوربون الى جامعة كاليفورنيا في بركلي العام ١٩٥٥ أشبه بالانتقال من كوكب إلى آخر. ولمّا كنتُ أجيد أربع لغاتٍ سلفاً، إلى هذا الحدّ أو ذاك من الإجادة، هل أدركتُ أنّ اللغة مشكلة محتملة؟ لا أزال غيرَ مدركةٍ للأمر حقّاً. ما أعلمه هو أنّي وصلتُ إلى بركلي، في فرع الفلسفة عندما كانت الجامعات الأنكلو - سكسونيّة تتعاطى بالألسنيّة خصوصاً (ويجب أن أضيف المنطق الرمزيّ) ما زاد في الطّين بلّة بالنّسبة لي. لم يخطر ببالي أنّ عشر كلماتٍ وخمسَ جمَل أجيدُها بالإنكليزيّة ليست تحضيراً كافياً لحضور مثل تلك الحصص الدراسيّة المعقّدة. جهدْتُ ما استطعت: صرت أقرأ مجلّة «تايم» بنَهَم، وأستمع إلى أسطوانات الجاز، وفي ستة أشهر صرت مندمجة إلى حدٍّ كبيرٍ في الحياة الجامعيّة الأميركيّة، ولو من الناحية الشكليّة.
الوقوع في غرام اللغة الأميركيّة
مع ذلك حصل أمرٌ سوف يقرّر مصيري: أغرمتُ باللغة الأميركيّة. طربتُ للطّريقة الكاليفورنيّة في تكلّم الإنكليزيّة: الأسلوب، الترخيم، العامّيّة، المطبوعات الأميركيّة، اللغات «المتخصّصة» للألعاب الرياضيّة الأميركيّة، الاستماع إلى مباريات البيسبول أو الركبي وهي أشبه بالدّخول إلى عوالمَ سرّية. لست أدري ما إذا كنتُ أحببتُ تلك الألعاب لذاتها او للّغة الطقوسيّة المتكاملة التي تصاحبها. لكنّي كنت فخورة بوصف تلك الألعاب لأصدقاء وفقاً لمصطلحاتها المخصوصة. وكنت سعيدةً لاستخدام تعابير مجازيّة، على اعتبار أنّي أفهم حكْي رعاةِ البقر وحديث أهل البلدات الصغيرة. في أميركا، علمتُ أشياء لم يكن لي أن أرويها في أيٍّ من اللغات التي أجيدها، لأنّ تجاربي في تلك اللغات كانت محدودة، أو بدتْ كذلك، أو ربّما أنّها مألوفة جدّاً بحيث تحرمني من الشعور بالاستكشاف. الحديث في أميركا كان مثل صعودِ مجرى نهر الأمازون، مليئاً بالمخاطر، ضاجّاً بالغرائب.
كانت الأمور مختلفةً في الجامعة. لقيتُ صعوباتٍ جمّةً لأهتمّ بدروسي الجديدة، كان عليّ أن أعيد توجيه عاداتٍ ذهنيّةً ومشاعر عميقة الجذور. أذكر مدى دهشتي، أو صدمتي، عندما سمعت من زميل يوغسلافيٍّ أنّ الموضوع الذي أقترحه لإعداد رسالة الدكتوراه قد رفِض. كان يريد الكتابة عن نيتشه فقالوا له إنّ هذا ممنوعٌ لأنّ نيتشه ليس فيلسوفاً وإنّما هو شاعر، علماً أنّ الأمر تغيّر منذ الثورة الثقافيّة في الستينيّات وأشكّ الآنَ أنّه يمكن رفض مثل هذا الموضوع للأسباب ذاتها. لكنّني ظللْت غير قادرةٍ على تفهّم قرار الفرع، لأنّي كنت أعتبر أنّ الفلسفة، بعد هولدرلِن وهايدغر، تجد تعبيرها الأسمى في الشِعر.
كتبت القليل في تلك الأيّام لأنّي كنتُ في حالةٍ من الاكتشاف الدائم، ينفتح أمامي عالَمٌ جديدٌ بأكمله يوماً بعد يوم، وكان ذلك يتضمّن اكتشاف الطبيعة بما هي قوّة، وجمالها المراوِد، ومسألة أحلام يقظة وقد باتت هَوَساً عندي. فالسير في سيارة على الطرقات العامّة الأميركيّة أشبهُ بكتابة الشعر بجسدي كلّه. لم أبقَ أكثر من بضع سنوات في الجامعة ولم أكتب أطروحتي لنيل الدكتوراه. وجدتُ وظيفةً بتدريس الإنسانيّات في كلّيّةٍ صغيرة بمنطقة «مارين»، القريبة من سان فرانسيسكو. كنتُ سعيدة. بدأتُ مهمّةً جديدةً، تجربةً جديدةً، وحقّقتُ الشعور بحدٍّ من الاستقرار، وهي التعليم مهنةً لها وتائرها الخاصّة، أعادتْ إليّ الرغبة في الكتابة. كنتُ لا أزال أعدّ نفسي ناطقةً بالفرنسيّة مع أنّي كنت أدرّس بالإنكليزيّة. ولكن عندما أخذتُ أفكّر بجدّية عن الشعر والكتابة مجدّداً، اكتشفتُ مشكلةً ذات طبيعة سياسيّة. كنّا زمنَ حرب الاستقلال الجزائريّة، والصحيفة اليوميّة تحمل بانتظامٍ أخباراً عن جزائريّين يُقتلون في الحرب، أو أخبار الفظائع التي يبدو أنّها تصاحب أعمال العنف واسعة النّطاق. أدركتُ فجأةً، وبدرجةٍ من العنف، أنّي منحازةٌ بداهةً وعفويّاً إلى الجزائر، وأنّي أشارك شعوريّاً في الحرب، فاستنكرتُ اضطراري إلى التعبير عن نفسي باللغة الفرنسيّة. لم تعدْ لي، اليوم، مثلُ ردود الأفعال تلك نحو اللغة الفرنسيّة لأنّ المشكلة حُلّت من فترة طويلة. لقد حَلّ السلامُ بين الجزائر وفرنسا. كانت الأمور مختلفةً حينها: بدا أنّ المصير العربيّ كلّه يعتمد على مآل ذلك النّزاع. كان حلمُ الوحدة العربيّة حيّاً جدّاً في تلك الفترة وصارت الجزائر رمزاً له.
من لغة الرسم إلى الشعر بالإنكليزيّة
أدركتُ أنّي لن أستطيع الكتابة بحرّيّة بلغةٍ تجابهني بنزاعٍ عميق. كنت مضطربة في قطاعٍ أساسيٍّ من حياتي: قطاع التعبير المُجدي عن الذّات. حدثٌ مباغت حلّ مشكلتي، كان حلّاً مثل فتح نافذةٍ جانبيّة، كأنّ الشمس لم تشرق الشمس ذات يومٍ حيث يُتوقّع لها أن تشرق وإنّما من مكانٍ قريبٍ منه، في نقطة أخرى من الأفق. في المجمّع بجامعة بركلي التقيت امرأةً كانتْ رئيسة فرع الفنّ في الكلّيّة. اسمها آن أوهانلون. تجاذبْنا أطراف الحديث وسط ممرٍّ من الورود عندما أبلغتُها أنّ إحدى الحصص التي أدرّسها هي عن فلسفة الفنّ، سألتْني عمّا إذا كنت أرسم، وعندما قلتُ «لا» استغربتْ كيف يمكن لشخصٍ أن يدرّس مادّةً لا يمارسها، فكان جوابي، الذي أذكره بوضوح، أنّ أمّي قالت لي إنّي خرقاء. فقالت: «وهل صدّقتِها؟!».
لم يكن للحديث الحاسم أن يطلق يديّ فوراً ولكنّه، مثل كوكب يغيّر مداره، وجّه اهتمامي، ثمّ كامل طاقاتي، نحو شكل فنّيٍّ جديد، أي نحو دنيا جديدة من الاهتمامات. كنت أذهب إلى دائرة الفنّ في أوقات الفراغ وأبدأ بالرّسم. سرعان ما أدركتُ أنّ هذه لغة جديدة وحلٌّ لمعضلتي: لم أعد بحاجةٍ لأن أكتب بالفرنسيّة بعد الآن، سوف أرسم بالعربيّة. حصل كلّ ذلك حوالي العام ١٩٦٠. صرت رسّامةً شغوفة. أغرقتُ نفسي في هذه اللغة الجديدة. كان الفنّ المجرّد المعادلَ للتّعبير الشعريّ، لم أعدْ بحاجةٍ إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. ولم أعد أحتاج إلى الانتماء إلى ثقافةٍ ذات منحىً لغويّ وإنّما إلى شكلٍ مفتوح من التعبير، بعد سنوات عديدة، بينما كنت أجول في المغرب، تحادثْت أنا ورسّام مغربيٌّ قال إنّ سبب وجود عدد من الرسّامين الجيّدين في المغرب في رأيه هو في الطريقة التي حلّ بها أفضلُ الفنّانين المسألةَ اللغويّ، يقصد الجيل الذي نشأ تحت سيطرة الثقافة الفرنسيّة. كانتْ روحي طليقة. أدركتُ أنّ بمستطاع المرء أن يتحرّك في اتّجاهاتٍ مختلفةٍ وأنّ الذّهن، عكس الجسم، يمكنه أن يتّجه في عدّة اتّجاهات في آنٍ معاً وأنّي أتحرّك لا على سطوحٍ مفردةٍ بل داخلَ عالَمٍ ذهنيّ كرويٍّ، وأنّ ما نحسبه مشكلاتٍ قد يكون توتّراتٍ أيضاً، تشتغل بطرائق أكثر غموضاً ممّا ندرك. لمّا كنتُ أدرّس بالإنكليزيّة، صرتُ أشعر مع الوقت براحةٍ متزايدةٍ مع هذه اللغة الجديدة التي أستخدم. بل إنّي لم أكن أستخدم هذه اللغة الجديدة فقط، كنت أعيشها.
ثمّ كانت حرب فيتنام. أميركا في فيتنام. فيتنام في النفسيّة الأميركيّة. الحرب على التلفزيون. الاحتجاجات في الشوارع. الثورة الثقافيّة التي تجري في أميركا كانت فيتنام أحد منابعها، ومن نتائجها أنّ الحرب تحوّلت إلى نقطة استقطاب أدبيّة، إلى شاغلٍ للشّعراء وموضوع ديناميّ. كتب الشعراء ضدّ الحرب، بل ناضلوا ضدّ الحرب من خلال الشعر. في أحد الأيّام، كنتُ قد تأثّرت بنوع خاصٍّ بصور الحرب على شاشة التلفزيون وكنت متعبةً وخائبة - وجدْت على طاولة غرفة استراحة الأساتذة مجلّةً أدبيّة تشبه جريدةً من قياس الرُبع، تقول إنّها تُوزَّع مجّاناً، وترحّب بالشعر بما هو فعلٌ ضدّ الحرب. كانتْ تلك «إس.بي. غازيت» S.B. Gazette (حيث السين والباء كناية عن ساوساليتو وبلڤيدير على التوالي). عدتُ إلى البيت، ثبّتّ ورقًة في راقنتي وكتبت قصيدةً كما لو أنّي لم أكن أدري ما أنا فاعلة. أغنية الفارس المستوحد في أميركا «الحاضرة» وأرسلتها إلى «إس. بي. غازيت». بعد أيّام قليلة تلقّيت ملاحظةً مكتوبةً على عجَل بالقلم الرّصاص على صفحةٍ منزوعةٍ من دفترٍ تقول «قصيدة لقيت ترحيباً كبيراً» وفي أسفل «أرسلي المزيد» والتّوقيع «ليون سبيرو». هكذا صرت شاعرة في اللغة الإنكليزيّة!
كتبتُ عدداً من القصائد الإضافيّة، أملتْها المشاعر والأحداث، وشعرتُ بأنّي أنتمي إلى الحركة العارمة لشعراء أميركا في زمنٍ كان الشعر فيه ينمو في ذلك البلد مثل الموسيقى أو العشب. ذات يومٍ سأل أحد الصحافيّين روبرت كينيدي، ربّما للمرّة العاشرة في حياته، كيف يشعر في غياب أخيه. بكى بوبي كينيدي تلك الليلة مستشهداً بمناجاة روميو عن جمال جولييت في الليل. تأثّرت أيّما تأثّر لمشاهدة رجلٍ يبكي علناً على أخيه الميت، في ثقافةٍ تُنكر على الرّجال البكاءَ على اعتباره دليلَ ضعف، ويعبّر من خلال شكسبير عن شعوره بالوحدة الداخليّة للحبّ، فكتبتُ له وقلت إنّه يسعدني أن يقرأ القصيدة التي كتبتُها، القصيدة الأولى، الأغنية. تلقّيت جواباً رائعاً يقول لي فيه إنّه تأثّر للنّص.
تصلني رسائل تسألني إن كنت أوافق على المشاركة في قراءات شعريّة أو لديّ أشعارٌ كتبتُها وأعيد نشرها في مجموعاتٍ بأصواتٍ متعدّدة. تلقّيت رسائل من شعراء من الولايات المتّحدة أو أميركا اللاتينيّة أرسلتْ لمجرّد تبادل الأفكار. كان ذلك زمناً صار فيه الشعر، لبضع سنوات، الدين الأوحد الذي لا آلهة له ولا معتقد، لا عقوبات، لا تهديدات، لا دوافع خفيّة، لا استخدامات تجارية، لا شرطة ولا ڤاتيكان. كان أخويّةً مفتوحةً للنّساء والرجال والأشجار والجبال.
الدفاتر اليابانيّة
كنت على أهبة الدخول إلى اللغة الإنكليزيّة مثل مكتشف: كلّ كلمةٍ تستيقظ إلى الحياة، التعابير مخلوقات، ظروف المكان والزمان شاسعةٌ بلا حدود، الأفعال أسهمٌ منطلقة، مجرّد أداةٍ مثل «داخل» أو «خارج» مغامرة! كانت الكتابة رياضة، والجُمل أحصنة خيل، تشقّ المدى بطاقاتها الحيويّة، وما أجملَ التخييل عليها! لكنّ الأشباح القديمة لم تختفِ. لم يختفِ العالم العربيّ من حقل اهتمامي. بالعكس. بدأتُ زيارة المغرب في فصول الصيف، بدأت زيارة المغرب أو تونس أو أعود إلى الأردن وسورية ولبنان. صادقتُ عدداً من الشعراء الذين يكتبون بالعربيّة أو الفرنسيّة. لكنّ الشعر والرسم ظلّا منفصلين، لكنْ ذات يوم عندما قرّرت أن أكتب، او للدّقّة، عندما قرّرت أن أنقل شعراً بالعربيّة، بقصد دمْج «الخطّ» مع التلوين المائيّ والحبر، وقد كان دارجاً حينها، سلكت سبيلاً لا يزال أمامي. عثرتُ على الأوراق اليابانيّة المطويّة وهي أشبه بالكتب القديمة من المحفورات الخشبيّة اليابانيّة حيث كلّ ورقةٍ مزدوجةٍ تشكّل صورةً مرتبطةً بالتي تليها أو مستقلّة عنها. إذْذاك، ظهر مشهدٌ من طفولتي: لذّة الكتابة، سطراً بعد سطر، لجُملٍ عربيّة لم أفهمها تماماً. تناولتُ قصائد حديثةً لكبار الشعراء العرب و«اشتغلت» عليها. لم أسع ليترجمها لي أحد، اكتفيت بغرابة فهمي لها: شذرات من هنا ومن هناك، جملٌ لم أفقه منها إلّا الكلمة المفتاح، كان الأمر مثل النظر من وراء حجاب، أو مشاهدة مشهد استثنائيّ من خلال شاشة، كأنّما الشاشة لا تمحو الصور وإنّما تخفّف منها وتجعلها تبدو أكثر غموضاً ممّا هي بالفعل.
سنةً بعد سنة اشتغلت على تلك الأوراق الطويلة، مثل لفائف أفقيّة، بخطّي غير السويّ، مدركةً أنّه النقيض من حرفة الخطّ التقليديّة، إذ هو قراءةٌ عبر فنّ الفعل الشعريّ. لقد عرضتُ تلك الأعمال في غاليريهات في الولايات المتّحدة وبعض العواصم العربيّة. أثارتْ أسئلة، واستدعتْ مناقشات حامية، وأربكت النّاس في معظم الأحيان، ووجدتْ طريقها إلى المجلّات، في مقالاتٍ أو دراسات نقديّة. إنّها تمثّل بالنّسبة إليّ المصالحة التي لم أكن لأتوقّعها إلّا حين حصلتْ، بعدّة خيوطٍ تكوّن منها نسيج حياتي. لقد انخرطت في المصير الثقافيّ للعرب بوسائط غير مباشرة جدّاً، وأمل أنّ التنقيب لم ينته بعد.
أين أنا الآن؟ توقّفتُ عن التعليم مطلع السبعينيّات وعدْت الى بيروت. غادرْت الولايات المتّحدة فجأة. جئت مدينةً تعيش أجمل سنواتها. رميت نفسي في مركز بركانٍ نشط. كان الأمر بديعاً. وجدت نفسي في عالَم ناطق بالفرنسيّة، بالفرنسيّة والعربيّة، ولكن بالفرنسيّة فيما خصّني، إذ عملتُ في الصفحات الثقافيّة لجريدة يوميّةٍ بالفرنسيّة تأسستْ حديثاً. سعدتُ لأكون مجدّداً حيث يبدو أنّ التاريخ يُصنع فيه، أن أمضي عطلةً في حلب بدلاً من جبال «السييرا»، وأن أصير أعرف عن القاهرة ودمشق أكثر ممّا أعرف عن نيويورك. كانت هذه النقلة إلى أراضٍ جديدةٍ منعشة ومثيرة. كانت بيروت قد تقدّمت بسرعةٍ إلى درجة أني حسبتها مدينةً جديدة.
كتبتُ بالفرنسيّة طبعاً ونحّيت الإنكليزيّة جانباً بحكم الضرورة. كنت مشغولةً جدّاً لأجد وقتاً للتّأمل فيما يستتْبعه ذلك على «مهنتي الأدبيّة». لم يكن الأدب مهنةً بالنسبة لي، المهنة متروكة للكتب. كتاباتي هي مثل التنفّس بالنّسبة لي: شيء أمارسه.
نشبتْ حربٌ مأسويّة وخبيثة في بيروت العام ١٩٧٥. تفجّرتْ حيوات النّاس مع انفجار الأبنية، ومثل قطَع من الأبنية المتهدّمة تشظّت في كلّ الاتّجاهات. بعضنا غادر إلى باريس. اللبنانيّون النّاطقون بالفرنسيّة غادروا إلى باريس. النّاطقون بالإنكليزيّة قصدوا لندن أو نيويورك. البعض ذهبوا إلى البلدان العربيّة، لأغراضٍ تجاريّةٍ معظم الأحيان. أنا غادرْت إلى باريس بعد سنتين من اندلاع الحرب، لا لأمكث فيها الى الأبد، بل في انتظار أن تهدأ الأحوال في لبنان. لم تهدأ الأحوال، كما نعرف كلّنا، بل سارتْ من سيّئ إلى أسوأ، من حرب أهليّة إلى احتلال. عندما كنت في باريس، سمعتُ عن أمر رهيب حدث في لبنان: امرأة عرفتها قليلا ولكنّي احترمتها كثيراً تعرضتْ للخطف من قبَل أفراد مليشيا مسيحيّة وعُذّبتْ وقتلتْ. لن أسرد قصّتها هنا، أكتب فقط لأقول إنّ «أسباب» محنَتها لم تكن مقبولة أخلاقيّاً. ألّفتُ كتاباً، روايةً مبنيّة على الواقع، عن ذلك الحادث المفجع: «سِتّ ماري روز» كتاب كُتب في باريس وطُبع في باريس بالفرنسيّة.
كانت لي أسبابي الخاصّة لأنْ أعود إلى كاليفورنيا، بعد سنوات من ذلك، إذ ازدادتْ صعوبة العودة إلى بيروت أكثر فأكثر. أغلقت الصحيفة التي كنت أعمل فيها. وكان لا بدّ من مواجهة مصاعب أخرى.
العودة إلى كاليفورنيا. ما الذي أستطيع أن أفعله في كاليفورنيا غير التصوير والكتابة. أدركتُ أنّي أفكّر بسعادةٍ أكبر، بسيولةٍ طبيعيّة أكثر، عندما لا أكون في حربٍ مع محيطي. بل أقول إنّ كتابتي متأثّرة، والأحرى إنّها تنمو، مثلاً ينبت الزّرع من ترابٍ وماء، من الأرض التي أسكن. لذا حينما أكتب في أميركا، أكتب بالانكليزيّة. فماذا عساي أقول عن كوني لست أستخدم لغتي الأمّ ولا يساورني شعورٌ جدّيٌّ بأنّه يجب عليّ ذلك، أو شعور بالتّواصل المباشر مع جمهوري؟ إنّه نظير التساؤل كيف سأبدو لو أنّي كنت شخصاً آخر. لا أجوبة على مثل تلك الأسئلة. تلك الأسئلة شبه محاولة القبض على التأمّلات في راحة اليد. ثمّة عددٌ متزايد من الكتّاب يستخدمون لغةً «دوليّة»، مثل الإنكليزيّة، أيْ يستخدمون عمليّاً لغةً أخرى عن لغتهم بسبب التاريخ أو بسبب المنفى أو بسبب الذائقة الشخصيّة.
العربية جنّتي المحرّمة
هل أشعر بأنّي منفيّة؟ نعم. إنّي أشعر بذلك. إلّا أنّ هذا الشعور غائرٌ، وقد استمرّ طويلاً، بحيث بات هو طبيعتي ولست أستطيع القول إنّي اتعذّب كثيراً بسبب ذلك. بل ثمّة لحظاتٌ أشعر فيها حتى بالسعادة لذلك. الشاعر هو الطبيعة الإنسانيّة في أصفى أشكالها، قبل أيّ شيءٍ آخر. لهذا فالشاعر إنسانيٌّ مثلما السيّارة سيّارة أو شجرة الكرز شجرة كرز. كلّ أمرٍ آخر «يلي». كلّ أمر آخر مهمّ، لكنّه قد لا يكون مهمّاً أحياناً. الشعراء متجذّرون عميقاً في اللغة وهم يتجاوزون اللغة أيضاً.
قد يقف أحدهم ويسألني: لماذا لم أتعلّم العربيّة بمفردي في وقت من الأوقات؟ هذا سؤال يقضّ مضاجعي أحياناً. لكنّي لن أواصل إلقاء تبعات ذلك على النظام الكولونياليّ القديم (مثلما فعل فرانس فانون بطريقة جميلة جدّاً). لست، وليس الكتّاب العرب، مثلاً في وضعٍ مشابهٍ لكتّاب أفريقيا السّوداء التي تولّت الإدارة الكولونياليّة الفرنسيّة والحكومات المحلّيّة محوَها محواً كاملاً. الكتّاب العرب مسؤولون كامل المسؤوليّة عن اللغة التي يستخدمونها. لم أقتطع وقتاً من حياتي اليوميّة لتكريس كلّ جهودي لتعلّم اللغة العربيّة بما هي لغةٌ كاملة متكاملة. عندما تكون الشمس ساطعةً والبحر أزرقَ لن أستطيع أن أقفل نوافذي وأن أمضي لأدرس أيّ شيء. أنا شخصٌ ينتمي إلى الحاضر الدائم. لذا أبقى «في الخارج»، وهكذا ظلّت العربيّة جنّتي المحرّمة. أنا في الآن ذاته غريبة عن الأرض ومن سكّانها الأصليّين، غريبة عن لغتي الأمّ وابنتها. يقول لنا هذا القرنُ مرّات عديدةً أن نبقى على حدة، أن نصرم كلّ الرّوابط، ألّا ننظر إلى الخلف أبداً، وأن نمضي لاحتلال القمر. وهذا ما حقّقتُه. هذا ما أحقّقه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.