العدد ١٦ - ٢٠١٧

«خيمةٌ للحنين»

محمود درويش الأندلسي

ألا تُشفق على عشّاق غرناطة يا إنسانَ المستقبل؟
من تعتقد أنّك تعاقب إذا حطّمت المرآة
التي كنت أنظر فيها؟
لست أنا غير انعكاسك واللهب فوق
قلب يحترق»
(أراغون)١

لعلّ أوّل تنويع على ثيمة الأندلس في شعر درويش ترد في ديوانه «مديح الظلّ العالي» الذي كُتب إثر خروج المقاومة الفلسطينيّة من بيروت٢. يرى محمود درويش إلى الأندلس من منظورين، فهي على مستوى أوّل أيديولوجيا هروبيّة يستخدمها الحكّام العرب فيما هم يشيحون بوجوههم عن مسؤوليّات الحاضر وعن عبء القضية الفلسطينيّة٣. فإذا كان «الخروج» (Exodus) الإسرائيلي من مصر قد مثّل أملاً وارتبط بالتحرّر من الظلم وبحفز الذّاكرة التاريخيّة على مدى آلاف السنين عبر حنين «مسيحانيّ» يرتبط بمجيء المسيح المخلِّص. والذي اتّخذ مع الصهيونيّة صبغةً سياسيّة قوميّة لتحقيق الوعد بأرض فلسطين، فإنّ الخطاب العربي الرسمي راح كما نقرأ في أبيات درويش عند تعرُّض العرب للاقتلاع من الأرض، يتمثّل خروجاً وهميّاً ويستحضر مأساةً تاريخيّة تتعالى على الواقع. وتغدو الأندلس على مستوى آخر مسألة شخصيّة بعد «الخروج» من بيروت على السفينة اليونانيّة «الأوذيسّة» في تيه البحر الأبيض المتوسّط، فهي الوطن / الحقيبة التي يحملها الفلسطينيّ معه في أوديسّاه. إنّ الخروج الفلسطينيّ الثاني في البحر المتوسّط هو الذي حفز صورة «الأندلس القريبة» لتتّخذ حيّزاً مخيالياً في شعرية درويش في مرحلته الثّالثة.

لقد أوضحتْ اعتدال عثمان هذا البُعد في دراستها «الأندلس في الشعر العربي الحديث»، حيث تدخل الأندلس بما هي مكان شعريّ، «في سياق حلميّ يتّخذ أشكالاً لا حصر لها، يصل إليها الخيال اللغويّ فيما يمكن أن يسمّى جماليّات اللغة أو جماليّات الخيال»٤. وهي ترى أنّ الأندلس بالإضافة إلى ما تمثّله من مرحلة إيجابيّة في الثقافة العربيّة، «نستطيع أن نتصوّرها بوصفها أحد مكوّنات البنية اللاشعورية الثّاوية في العقل العربي، تستقرّ في هذه المنطقة اللاشعوريّة ذاتها بوصفها الجنّة العربيّة الضائعة، أو الفردوس الأرضيّ المفقود، وحين يُستدعى هذا المنفى، بوصفه حلماً ضائعاً، في منافي الشعراء، فإنّه يحضر بأبعاده الفيزيقيّة والمجرّدة معاً في آن واحد».

في حصار لمدائح البحر يصرخ درويش «بيروت من أين الطريق إلى نوافذ قرطبة؟»٥، وتردّ الباحثة آنيتّه مونسُن حافزَ الطريق في شعر درويش في ديوانه وردٌ أقل (1986) إلى بحث عن طريق يوصل إلى يوتوبيا بعيدة التحقّق٦.

في أواخر عام ١٩٩١ دعتْ أميركا، الدولة العظمى الوحيدة، إلى مؤتمر للصّلح بين العرب وإسرائيل، وقد عُقد المؤتمر في ٣٠ تشرين الأوّل/أكتوبر من تلك السّنة. وكان انعقاده مثقلاً بالرموز إذ تمّ افتتاحه في مدريد في مكان أثير في ذاكرة العرب الرومنسيّة، بمناسبة متعدّدة الدّلالات، مرور خمسمئة عام على طرد العرب من الأندلس واكتشاف العالم الجديد. وابتدأ شامير كلمته بقوله: «خلال ألفي عام من الترحال حطّ الشعب اليهوديّ هنا لمئات السنين حتى طُرد قبل خمسمئة عام. وفي إسبانيا عبّر الشاعر والفيلسوف الكبير يهودا هاليفي عن شوق جميع اليهود إلى صهيون بقوله: «إنّ قلبي في الشرق وأنا في أقصى الغرب»». وقد كتب هاليفي الذي ألّف أهمَّ كتبه بالعربيّة في فترة ازدهار الآداب اليهوديّة بتأثير من الحضارة العربيّة قصيدته في الحنين إلى «صهيون» أثناء رحلته المشرقيّة، إذ لم تُتح له زيارة القدس التي كانت تحت سيطرة الفرنجة، ويؤكّد أميل ألكَلاي أن هاليفي لم يرَ إلى «صهيون» إلّا كمدينة الروح ولم يخطر بباله إطلاقاً ما قوّله إيّاه الصهاينةُ ليبدو وكأنّه أحد روّادهم الأوائل. وبقي شوق اليهود الإسبان (السِّفَرديم) إلى الأندلس كبيراً واشتعل في ذاكرتهم الحنين إلى قرطبة وإشبيلية وغرناطة بعدما استقرّوا، إثر طردهم مع العرب، في المغرب وإيطاليا واليونان وإسطنبول ومناطق البلقان الخاضعة للدولة العثمانيّة. وكانوا يُسمّون «الإسبنيول» كما حافظوا على لغتهم الإسبنيوليّة حتّى مطالع هذا القرن، كما يخبرنا الكاتب العالميّ إلياس كانَتّي في سيرته الذاتيّة. وقد استفادت إسرائيل إلى أبعد حدّ من احتفالات ١٩٩٢ وطمست كثيراً من الحقائق وأضفت صبغة صهيونيّة ابتزازيّة على الاحتفالات، كما أظهرت إيلا شوحات٧.

 

الأندلس في ديوان «أحد عشر كوكباً»

في ديوانه أَحد عشر كوكباً، الذي صدر بعد سنة من توقيع اتفاق مدريد، يرفع درويش «خيمةً للحنين» إلى الأندلس المكان الأزليّ، وإلى الزمان في نداوته الأولى. يطرِّز خيمته بلغة موسيقيّة بالغة الشفافيّة والكآبة، تصوغ سمفونيّة الكمنجات الحزينة التي ترسم لحظة الخروج بصور تتملّى رغبات الحواسّ الخمس المتفتّحة لالتقاط نضارة العالم قبل وصول الفاتحين والخروج إلى المنفى «شعوباً تُرمِّم أيّامها في ركام التحوّل»، وقبل السقوط «من نجمة في السّماء إلى خيمةٍ في الطّريق إلى... أين؟»٨.

فمع توقيع الصُّلح والهجوم الوحشيّ على العراق تتبدّى لعبة المرايا لتنعكس في موشورها رايات كولومبس «المنتصر سيِّد الوقت والصَّخب المعدنيّ ليبشِّر بالحضارة»٩، محوِّلاً العالم إلى مشهد «أبوكاليبسيّ» يغتصب براءة الطبيعة ونقاوتها ويدمّر المكان وسكّانه الأصليّين، من الهنود الحمر والفلسطينيّين والعراقيّين، ويصطاد الأطفال والفراش. يلتقط درويش اللحظة التاريخيّة المثقلة بالرموز ليكتب «التاريخ المضادّ» لتاريخ الاستعمار وإبادة الشعوب ومحو الذّاكرة وتغيير هندسة الطبيعة والإنسان على يدي «سيِّد البيض»١٠.

 

رؤيا يوسف

سوف تقتصر هذه الدراسة على تناول القصيدة الأولى دون سائر أجزاء الديوان لما تمثّله من ذروة في تطوّر صورة الأندلس عند درويش. يحيلنا عنوان القصيدة إلى رؤيا يوسف القرآنيّة كنصٍّ مرجعيّ تتناصّ معه في علاقة حواريّة. ولا تعطي رؤيا يوسف اسمها للدّيوان فقط، بل هي عنوان القصيدة الأولى، حيث تؤدّي إضافة جملة «على آخر المشهد الأندلسيّ» إلى ربط الرؤيا النوارنيّة وكَيد الإخوة في لحظة تاريخيّة هي لحظة سقوط الأندلس. وتضمُّ هذه القصيدة إحدى عشرة مقطوعة على عدد الكواكب في الرّؤيا الغرناطيّة. وفي القصيدة الأخيرة من الكتاب تغدو رؤيا يوسف السومريّ، أخينا الجميل، بمثابة «لايتموتيف» رثائيّ لحاضر العراق (ص ٩٩).

يوظّف درويش قصّة يوسف «مرآةً» للشاعر. والمرآة تقنيّة «أشدّ واقعيّة من القناع، وأشدّ حياديّة وهي أوسع مجالاً من القناع»، كما يرى إحسان عبّاس، لأنّها «تَصلح أن تُرفع للماضي، كما تصلح أن تُرفع في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشياء مثلما تعكس الأشخاص»١١. وقد درس عبد الرحمن بسيسو ظاهرة القناع في الشعر العربيّ المعاصر وتجلّياتها النصّيّة، مناقشاً الدارسين قبله ومستفيداً منهم، وهو يطوّر فكرة عباس مستعيناً بتنظير جابر عصفور الذي يرى أنّ «السّمة الفارقة التي تفصل القناع الذي يجعل الوجود المتقابل لعلاقات الغياب والحضور وجوداً تعاقبيّاً عن المرآة، يتمثّل في أنّ تقنيّة المرآة تجعل من هذا الوجود المتعاقب لعلاقات الغياب والحضور وجوداً آنيّاً، يتقابل فيه الموضوع والذّات، والشيء وصورتُه، ويواجه المشَبّهُ به المشبّه في حضور آنيّ»١٢.

وقد بيّن الدكتور خالد الجبر أهمّيّة سورة يوسف كنصّ مرجعيّ في تراث درويش الشعريّ منذ ديوانه الأوّل١٣، فهي «تتراءى ستّاً وثمانين مرّة في شعر محمود درويش، وتدلُّ على كون النّصّ المرجعيّ جزءاً من ثقافته». وهو يرى أنّ ثمّة تحوّلين دراماتيّين في تقاطع شعر درويش وسورة يوسف كنصّ مرجعيّ لهما علاقة وثيقة بالتحوّلات الدراماتيّة التي عاشها الحلم (الرؤيا) في الواقع، لا سيّما أنّهما يزامنان تجربتين تكسّر فيهما الحلم على صخرة الواقع. ولم ينتبه الجبر إلى توظيف درويش لرمز يوسف كمرآة.

 

الأنا الشاعريّة

تنهض قصيدة «أَحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، على إحدى عشرة مقطوعة، تحمل كلُّ واحدةٍ منها رقماً وعنواناً مستقلّاً. والصوت الذي يطالعنا في المقطوعة الأولى بعنوان «في المساء الأخير على هذه الأرض» هو صوت جماعيّ (نحـن): «نقطع أيّامنا عن شجيراتنا، ونعدُّ الضّلوع التي سوف نحملها معنا والضّلوع التي سوف نتركها ههنا» (ص ٩). إلّا أنّ المقطوعات الأخرى تحمل صوت أنا فرديّةٍ تهيمن على النّصّ: «كيف أكتب؟... لي خلف السماء...» (ص ١١، ١٣)، ولا تعرّفُ هذه الأنا عن نفسها سوى في المقطوعة الرابعة: «أنا واحد من ملوك النهاية ... أَقفز عن فرسي في الشتاء الأخير، أنا زفرة العربيِّ الأخيرة» (ص ١٥). إنّه صوت أبي عبد الله الصّغير، محمد بن علي الحادي عشر المعروف بالزُّغَيْبي١٤ وتسمّيه المصادر الإسبانيّة «بو عبديل» و«الملك الولد El rey chico»، آخر ملوك بني الأحمر الذي وقّع في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر سنة ٨٩٦ / ١٤٩١ معاهدة تسليم غرناطة. ولا تحتفظ الرّواية العربية الأندلسيّة ولا التاريخ العربي بطبيعة الحال بصورةٍ مشرّفة لهذا الملك، أمّا في الشّعر العربيّ الحديث فهو «الملعون»، رمز السقوط والاستسلام١٥.

وقد تناصّ عدد من القصائد العربيّة الحديثة مع ما تذكره الرواية القَشتاليّة المعاصرة للأحداث، من أنّه أثناء خروجه وقَفَ على تلّ البدول فأجهش بالبكاء، فصاحت به أمُّه عائشة الحرّة «ابكِ مثل النّساء مُلكاً لم تستطع أن تُحافظ عليه مثل الرجال»1١٦، وهي التّلّة التي أطلق عليها الإسبان اسم «زَفرة العربيِّ الأخيرة» (El ultimo suspiro del Moro) ١٧. وقد غدا هذا المشهد على ما قد ينطوي عليه من دراميّة بمثابة (Topos) للسقوط في الخطاب العربيّ الحديث، ينطق بلسان الحكاية التاريخيّة الإسبانيّة حكاية المنتصر.

هل هذا يعني أنّ درويشاً يتقنّع بشخصيّة أبي عبد الله؟ المسألة دقيقة، فلم يحسم النّقد الحديث بعدُ الفروق الدقيقة بين مصطلحات الـ(Mask) الذي صاغه ييتس، والـ(Persona) عند عزرا باوند، وقد طوّر إليوت مصطلح باوند على نحو مُفارقٍ للأخير عبر تأكيده أنّ القناع يحيل دائماً وباستمرار إلى صوت الشاعر. هل يصلح أبو عبد الله بما يمثّل من قيم سلبيّة في الوجدان الجمْعي العربي أن يُتّخذ قناعاً؟ ممكن أن يُصاغ أبو عبد الله في مواقف دراميّة معبِّرةٍ، مُحاكياً مشاعر إنسانيّةً كبرى وثنائيّات ضدّيّة تعكس الصراعات المختلفة والنّوازع التي تتوزّع النّفس البشريّة، وهو ما يلمّ به درويش وإن كان هدفه في تمثُّل شخصيّة أبي عبد الله التاريخية يكمن في مكان آخر. ولا ننسى أنّ قصيدة درويش كتبت مباشرةً إثر توقيع صلح مدريد، فاستدعاء شخصيّة أبي عبد الله له ما يسوّغه على المستويين التّاريخي والفنّي. وقد تنبّه علي جعفر العلاّق إلى توظيف درويش لصوت أبي عبد الله، يقول: «لقد استخدم درويش بمهارة شخصيّة تاريخيّة كقناع. فقد استغلّ آخر ملوك غرناطة كناطق باسم الشاعر»١٨.

bid16_p144-145.jpg


زفرة العربي الاخيرة، 1892، فرنسيسكو براديا اورتي

ثمّة أمر يجدر التنبّه إليه، وهو أنّ الطّريق كان قد مُهِّد أمام شخصيّة أبي عبد الله لتتّخذ بُعداً دراميّاً عبر كتاب أراغون مجنون إلسا، ودرويش يقيم علاقة تناصٍّ حواريّة مع أراغون كما سوف أُبيّن لاحقاً.

لا يصحّ في نظري اعتبار أبي عبد الله الصغير قناعاً، ولا النّظر إليه ناطقاً بلسان الشاعر، كما يرى إليه العلّاق. فما هو سوى انعكاس صورة شخصيّة تاريخيّة هي رمز للسقوط على صفحة مرآة يوسف. ثمّ إنّ درويش يتعمّد ترك مسافة بين أنا الشاعر التي توجّه المرآة، وبين شخصيّة أبي عبد الله الشعريّة. فهو يستخدم مفردات تعود إلى معجمه الحميميّ والخاصّ، كرائحة القهوة («لا صباحَ لرائحة البُنّ بعدك»، ص ١٢)، التي تعبق في شعر درويش وفي محطّات غربته ومَنازله الشعريّة، سواء كانت منـزل حنينه الأوّل في بروة الجليل، أو بيته الأندلسيّ. وهو يذكر الشاي الأخضر أيضاً («شاينا أخضر ساخن فاشربوه»، ص ٩)، وكلا القهوة والشاي لم يكونا معروفين في الأندلس في ذلك الوقت. كلّ هذا يُفقد القناعَ صدقيّته (versimilitude). ثمّ إنّ درويش يخلق مسافة زمنيّة تتيح للشّاعر أن يتّصل بالحاضر ويتأمّل الماضي:

 

«خمسمائة عام مضى وانقضى،

والقطيعة لم تكتمل بيننا، يا غريب» (ص ١٧)

 

درويش يحاور لوركا

كما أنّه يقيم صلةً حميميّة مع لوركا أحد شعراء درويش الأثيرين كنصٍّ غائب، ودرويش يتحاور مع لوركا في سائر دواوينه الشعريّة. ويقتفي درويش موسيقى لوركا في خلق توقيعاته الخاصّة التي تُسمَع بوضوح في غنائيّته لغَرناطة، ليغدو لوركا هو وريث التراث الشعريّ/العربيّ الأندلسيّ:

 

«سوف يهبِط بعضُ الكلامِ عن الحبِّ

في شعرِ لوركا الذي سوف يسكن غرفةَ نومي

ويرى ما رأيتُ من القمرِ البدويّ»١٣.

«أنا آدمُ الجنّتين فقدتُهما مرّتين

فاطردوني على مَهَلٍ،

واقتلوني على مَهَلٍ،

تحت زيتونتي،

مَعَ لوركا...»١٤

 

يقودنا الهبوط من الجنّة إلى الكلام على بنية القصيدة. تنفتح القصيدة على عشيّة الخروج:

 

«في المساء الأخير على هذه الأرضِ نَقطعُ أيّامَنا

عن شُجيراتِنا. ونَعُدُّ الضّلوعَ التي سوف نحملُها

مَعَنا والضلوعَ التي سوف نترُكُها ههنا... فالمكانُ يبدِّل أحلامَنا» (ص ٩)

 

منذ المطلع يبدأ درويش بتناصّ حواريّ مع أراغون، حيث يروي الأخير أنّ مجموعة من الأغلاط في الكتب كانت حافزه على كتابة مجنون إلسا: «هنا كان مفتاح الأحلام، ونهدت أُعيد (المطلعَ) عشيّة سقطت غرناطة... عشيّة سقطت غرناطة، حتّى تفتّح الإلحاح الآليّ فِيَّ عن نوع من أغنية»١٩.

تنبني قصيدة درويش ومثلها مثل شعر الشوق العربيّ على جدل الفقدان والرغبة (desire أو الشوق) عند حدِّ التّعارض بين اللحظة الآنيّة المنتهية والتذكّر على حافّة النّهايات:

 

«ذاتَ يومٍ أمُرُّ بأقمارِها وأحُكُّ بليمونةٍ رغبتي...

عانِقيني لأولَدَ ثانيةً من روائحِ شمسٍ ونَهْرٍ

على كتِفَيْكِ»١١

 

والرّغبة هي كناية عن فقدان الوجود، عن إقصاء الدّالّ في الواقع المعيش ورفضه، بحثاً عن إشباعٍ في حيّز الآخر الغائب الذي هو أصل المعنى ومسبّب الفقد في الآن ذاته، فما الرّغبة سوى التجويف الذي يكمن في إلحاح الرغبة نفسها٢٠. وفي قراءة رجاء بن سلامة لـ«لاكان»، ترى أنّ «شعر العشق جزء من العشق في عالم اللغة والقانون، مندرج في جدليّته المعقّدة. إنّ الغزل فضاء من القول والحديث، يفتحه القانون باعتباره منعاً للمتعة، وواسطةً بين الذات وموضوع المتعة. لا يمكن العشقَ دون المنع الذي يفتح باب الغزَل، باعتباره حديثاً يتوسّط بين الذّات والمتعة بالموضوع، وباعتباره شعراً يظهر فيه التغنّي بالمعشوق»٢١. بين حدَّي الفقدان والشّوق ينهض فضاء القصيدة على ثلاث حركات:

  1. حركة صعود، تشكّل في ذروتها معراج غَرناطة الرمز.
  2. حركة هبوط آدم من الجنّة، والهبوط المعنويّ الذي يسبّبه الفقد. هاتان الحركتان كونيّتان ووجوديّتان في الآن نفسه، بمعنى أنّهما تعبّران عن لقاء الكوني بالوجودي الأنطولوجي.
  3. أمّا الحركة الثّالثة، فتتّخذ منحىً أُفقيّاً، وتنجدل فيها ثنائيّة الخروج والدخول، وبها يكتمل شرط الوجود الإنسانيّ.

 

حركة الصعود تقودها أفعال الطيران والعروج ومفرداتهما:

 

«لكنّ غرناطةً من ذهبْ.

من حريرِ الكلامِ المطرّزِ باللوزِ، من فضّةِ الدّمعِ في

وترِ العود. غَرناطةٌ للصّعودِ الكبيرِ إلى ذاتها...

..وأنا من هناك، فغَنّي لتبنيَ الحساسينُ من أضلُعي دَرَجاً للسّماءِ القريبة»١١.

 

مقابل حركة الصّعود على درج المعراج تأتي أفعال الهبوط متمثِّلةً بالسقوط الأوّل، سقوط آدم من الجنّة:

 

«أنا آدمُ الجنّتينِ فقدتهما مرّتين

فاطردوني على مَهَلٍ،

واقتلوني على مَهَلْ»١٤

 

المتكلّم كما بيّنّا هو أبو عبد الله، فالجنّة الأولى بالنّسبة إليه هي «جنّة عدن»، والثّانية هي لحظة الطّرد من الأندلس عشيّة سقطت غرناطة. أمّا مرآة درويش، فإنّها تعكس الحاضر والماضي فتتراءى في موشوراتها جنّتان مفقودتان هما الأندلس وفلسطين. ويتكرّر ظهور آدم وسقوطه / أو خروجه من الجنّة في شعر درويش منذ ديوانه محاولة رقم ٧ (١٩٧٤)، ويتابع المراودة بتنويعاتٍ مختلفةٍ في مديح الظلّ العالي (١٩٨٣)، وخصوصاً في شعر مرحلته الأخيرة ابتداءً من ديوان لا تعتذر عمّا فعلت (٢٠٠٣)، وصولاً إلى ديوانه الأخير أثر الفراشة (٢٠٠٨).

في قصيدة «أحد عشر كوكبًا»، تصبح غرناطة كما في مقطوعة لأراغون هي جنّة أبي عبد الله، وليست تلك السماويّة٢٢. وتستمرّ أفعال السّقوط في تشكيل صورة الهبوط التي أسّست للخروج وللفقد والغياب:

 

«أقفز عن فرسي في الشتاءِ الأخيرِ، أنا زفرةُ العربيِّ الأخيرةْ»١٥

«من سيُنـزل أعلامَنا؟»١٩

«من سيدفن أيامَنا بَعدَنا؟»٢٠

«سوف أسقط من نجمةٍ في السماءِ إلى خيمةٍ في الطريق»٢١

«لا أستطيعُ النّـزولَ إلى قاعِ هاويتي»٢٢

 

إنّه صوت أبي عبد الله الصّغير يخاطب نفسه المنكسرة وجعاً، ويُحاكي انكسار المرايا وتشظّي الزجاج اللذين يُسمَعان بوضوح في قصيدة درويش تماماً كما يُسمَعان في مجنون إلسا لأراغون٢٣. ويراود درويش حافز المرايا منذ مراحله الشعريّة الأولى، غير أنّه ينوّع بإلحاح في هذا الديوان على ثيمة المرايا وانعكاساتها وتكسّرها. والمرآة تعكس الأنا والآخر، كما أنّها تعكس على صفحتها الجسم الإنسانيَّ ببُبعدَيْه المتعيّن والمجرّد، وتكشف طبيعة العلاقة بين المرء ونفسه، وبين الوجود الجسديّ ووعي هذا الوجود. إنّها رمز للنّرجسيّة، كما أنّها انعكاس للمكان، وفي الوقت نفسه فإنّها تضع له حدوداً. والمرايا رمز للتّكرار والتّماثل، كما أنّها تشير إلى ثنائيّات الوضوح والتخفّي، والوجود والعدم، والخيال والحقيقة٢٤. ويرى هامون أنّ المرآة هي «لايت موتيف» يتماثل مع الشعر ويستبطن روحه: انعكاس الذّات، والقرين، والآخر، والصّدى، وإمكانيّة الحوار٢٥.

أمّا الحركة الأفقيّة في القصيدة، فتستوي على قطبين متعارضين، الدّخول والخروج:دخول الغجر، وهو تاريخيّاً سبق سقوط غرناطة بنحو خمسين عاماً. ثمّ يأتي دخول المنتصر الإسبانيّ الذي يفرض خروج العرب النهائيّ:

 

«فالمكان يبدّل أحلامَه

ويبدّل زوّارَه... فالمكانُ مُعدٌ لكي يستضيفَ الهباءْ

زمانٌ قديمٌ يسلِّمُ هذا الزمانَ الجديدَ مفاتيحَ أبوابِنا

فادخلوا أيّها الفاتحون...»٩

 

تلفّ لحظتا رحيل العرب طوال المقطوعة الأولى ودخول الغجر في المقطوعة الأخيرة، الديوان في دائرة تضمّ البداية إلى النّهاية، وترصد المرآة فيها حركة التاريخ وهجراته (هولاكو، والغجر، والصليبيّين، والإسبان، والعرب).

وما المقطوعة الأخيرة بعنوان «الكمنجات» إلّا موسيقى الوداع، حيث تُغلق الدائرة على موسيقى دخول الغجر إلى الأندلس. ولا نسمع هنا عزفاً لغيتارات الرّوح، كما كان الحال زمن غرناطة، بل تطالعنا موسيقى الكمنجات الغجريّة (ولدرويش تنويعات غجريّة في غير ديوان). ورغم ما تتميّز به سيمفونيّة الكمنجات الغجريّة من إيقاع لعب موسيقيّ متسارع ورشيق، إلّا أّنه يلمّها قاع قرار موسيقيّ حزين. ودرويش هنا، بذائقته الإيقاعيّة المرهفة، متأثّر بإيقاعات لوركا.

وقد وصلت هجرة الغجر (أو تغريبتهم) من سهول راجستان شمال غربي شبه القارّة الهنديّة إلى أوروبّا في سنة ١٤١٧، ودخلت طلائع منهم إلى شبه الجزيرة الإيبيريّة عبر مضائق جبال البرينيه في سنة ٢٦١٤٥٠. وحملوا معهم نوعاً من آلة السيتار الهنديّة وألحانهم الهنديّة الخاصّة، وقد تطعّمت ذائقتهم الموسيقيّة بألحان الآلات الوتريّة كالـﭭـيل في أوروبّا الشّرقيّة (إذ لم تُعرف الكمنجا قبل مطلع القرن السادس عشر، حيث تمّ تطويرها في كريمونة في إيطاليا)٢٧. ويبدو أنّ غجر الأندلس قد طعّموا موسيقاهم بالألحان العربيّة في الأندلس الّتي كان لزرياب (توفّي حوالي ٢٣٠/٨٤٥)، تلميذ إسحاق الموصلّي، دور كبير في تجديدها٢٨. وقد تأثّر لوركا وهو عازف بيانو وخبير في موسيقى إسبانيا بموسيقى الغجر وإيقاعاتهم وصورهم الشعريّة، وخصوصاً بالـ«كانته خوندو» (Cantejondo) وهو ذو قرار ثقيل يعتمد على عمق الصّوت الحزين ووجعه. ونظّم لوركا بالاشتراك مع صديقه الموسيقار مانويل دي فايّا أوّل مهرجان لغناء الـ«كانته خوندو» في غرناطة، كما تابع أصوله ونظّر له في دراسة له تعود إلى العام ٢٩١٩٢٢، وبنى لوركا على هذه الإيقاعات ديواناً كاملاً٣٠.

 

معراج الأيقونة: غرناطة الحلم

في حيّز هذه الثنائيّة على المستوى الأفقيّ يندرج فضاء الحياتي. هنا يستدعي درويش حميميّة الوجود الإنساني وهشاشته، ملتقطاً أشياء العالم اليوميّة، والرّوائح، والضّوء، وأفعال الشّوق والعشق. وفي هذا الفضاء تنجدل علاقة الزمان والمكان، ويندرج الأنطولوجيّ في سياقه الكونيّ، ويؤثّث صوت أبي عبد الله مدينته ويملأ الفضاء بأشياء البيت.

وتُؤْثر المرآة أن تعكس لنا النّصّ المرجعيّ الغائب، فتعود إلى بيت الذّاكرة الأولى في البروة أو البيت الكنعانيّ الرعويّ في مرحلة درويش الجديدة، حيث: القهوة، والنّباتات البيتيّة، والآس على سطوح البيوت، والشباك، والنّاي، والحبيبة، والشّال، وزرّ القميص الذي ضاع منّا، والمزهريّة، وخزانة الأمّ، والسنونو، والحمام، وأشجار الحديقة والحقل، والسّروة، والصّفصافة، وبئر الأجداد والتّراث، ومرمر الدّار، وماء النّافورة، والعتبة، وجِرار النّبيذ، والعيد والعرس.

في فضاء الحنين والفقد هذا يصقل أبو عبد الله رخام المكان ويلمّع معدنه، وفيه يطيب الغناء على إيقاعات الحبّ والشّوق، فبين حدَّي الفقدان والشّوق:

 

«يحُكُّ جناحُ سُنونُوةٍ نهدَ امرأةٍ في السريرِ، فتصرُخُ: غرناطةٌ جسدي

 

ويُضَيِّعُ شخصٌ غزالتَه في البراري، فيصرُخُ: غرناطةٌ بلدي»١١

 

وفي غرناطة تتفتّح الرغبة على «رائحة العرق المشمشيّ» ويغدو فعل الحبّ «رقصة للخيل في ليل أعراسنا»٢٥.

 

لا تطول ذكرى الاتحاد وتحقُّق الشّوق، إذ يغلب صوت الحاضر ورؤاه على حنين الرّوح:

 

«لا حبَّ يشفع لي مُذْ قَبِلتُ معاهدةَ الصُلْحِ،

لم يبقَ لِيَ حاضرٌ كي أمرَّ غداً قربَ أمسي.

سترفع قشْتالةُ تاجَها فوق مِئذنةِ الله.

أسمع خشخشةً للمفاتيح في بابِ تاريخِنا الذهبيّ، وداعًا لتاريخِنا،

هل أنا من سيُغلِقُ بابَ السماءِ الأخيرَ؟»

(١٥-١٦)

 

وفي لحظة الرّحيل يختلّ توازن أبي عبد الله:

 

«لا أستطيعُ الرجوعَ إلى إخوتي قربَ نخْلةِ بيتي القديمِ،

ولا أستطيعُ النـزولَ إلى قاعِ هاويتي...»٢٢

 

فيوسف الجميل سلّمه إخوتُه للذئب كيداً لما عاينه من رؤيا غرناطة وهي ترتفع مع ذهب النّهار معراجاً نحو السماء تماماً كما كادوا ويكيدون ليوسف الكنعانيّ في فلسطين، وليوسف السومريّ في العراق.

تستدعي هذه الحيرة والاستلاب، عشيّة الرّحيل الكبير، شعوراً ممضّاً بالفقد وبالطّرد:

 

«عمّا قليلٍ تُقفلين المدينةَ. لا قلبَ لي في يديكِ،

ولا دربَ يحملني، في الرحيلِ الكبيرِ أحبُّكِ أكثرَ

لا حليبَ لرمّانِ شُرفتِنا بعد صدرِك...»٢٥

 

فتغدو الخفّة الّتي تغلّف الأشياء انعكاساً للخفّة التي تكاد تطير بـ«أنا الشاعر» بعيداً عن محطّ الأشواق والرّغبات، إلى المنفى:

 

«عبثاً يستدير الزمانُ لأُنقذَ ماضِيَّ من بُرهةٍ

تلد الآن تاريخَ منفايَ فيَّ... وفي الآخرين...»٢٣

 

ليس هذا وقوفاً على الطّلل، فقد استحالت «أنا الشاعر» طللاً منكسراً أمام «وقار الـشيء» (das Ding)٣١، ليبلغ عويل الحزن والوجع مداه:

 

«خَفَّ النّخيلْ، خَفَّ وزنُ التلال،

وخفّتْ شوارعُنا في الأصيل

خفّتِ الأرضُ إذ ودّعَتْ أرضَها...

والحكاياتُ خفّتْ على درجِ الليلِ

لكنّ قلبي ثقيلْ

فاتركيه هنا حولَ بيتِكِ يعوي ويبكي الزمانَ الجميل»٢٥

 

فاستحالة «أنا الشاعر» إلى طلل هو ما يستدعي العواء في برّيّة الفقد.

في مطلع مديح الظلّ العالي (١٩٨٤)، عوت «أنا الشاعر» فيما هي محمولة على بحر أيلول الجديد أثناء الخروج الفلسطينيّ من بيروت في «زورق الأوديسّة المكسور»٣٢:

 

استطاع القلب أن يرمي لنافذة تحيَّته الأخيرةَ

واستطاع القلب أن يعوي، وأن يعد البراري

بالبكاء الحر...٣٣

 

صحيح أنّ العرب قالت إنّ الرجل الغزل هو كـ«الكلب الغَزِل»٣٤، إلّا أنّنا لا نقع فيما أعلم على صورة مشابهة في الشعر العربيّ القديم. أمّا في الشعر العربيّ الحديث، فيسمع صوت العواء فيما أعلم عند السيّاب والبيّاتي٣٥. غير أنّ قلب درويش ناظر إلى أراغون، فهو يتناصّ معه٣٦.

تندرج غنائيّة أبي عبد الله في محبوبته المتوحّدة بغرناطة في سياق شعر الشّوق. ويرى لاكان أنّ التروبادور كلّما أضفى على محبوبته صفات الحضارة والبيت والمدينة، جعلها صعبة المنال، متعاليةً ورفعها، كما يقول لاكان، إلى مستوى «وقار الـشيء»، غير أنّ «الـشيء» بما هو الفقد نفسه، لا يمكن التعبير عنه سوى بالفراغ بوحشته القاسية، ولكنْ أليست الخزفيّات وفنون العمارة موادَّ جميلةً تسعى إلى ملء الفراغ؟٣٧. ليس علينا أن نعجب إذاً عندما نجد أنّه عند أعلى مستويات تجريد المرأة المحبوبة، حيث تبلغ وقارها بارتباطها بـ«المدلول» نفسه، تغدو عندها هي نفسها تعبيراً عن فراغ الشيء بكلّ ما في هذا الفراغ من وحشة٣٨.

يُفضي بنا هذا العرض إلى توصيفٍ لقصيدة «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، بأنّها غنائيّة ملحميّة وهو توصيف نتبنّاه من درويش نفسه حين رأى في حوار معه (سنة ٢٠٠١) أنّ في مجموعته الشعريّة أحد عشر كوكباً «يتجلّى شكل الغنائيّة الملحميّة، هذا الشّكل الذي حدّده إيقاع التّعامل مع التاريخ، وبالذّات مع تاريخ تحوّلين كبيرَين في حياة الإنسانيّة وفي ثقافتنا العربيّة، وهما الحدثان اللذان وقعا في عام ١٤٩٢ حيث تكثّف التاريخ بمأساوية عالية»٣٩. وكان درويش قد قال (سنة ١٩٨٧) في حديث معه «لقد أراحني يانيس ريتسوس حين وصف شعري بأنّه ملحميّ غنائيّ، أو غنائيّة ملحميّة»٤٠. وفي حواره مع عبده وازن يردّ درويش التحيّة ويشرح معنى التعبير، يقول درويش «حاول ريتسوس أن يكتب اليوميّ، لكنّ هذا اليومي الذي يبدو لنا عاديّاً يخبّئُ بُعداً أسطوريّاً ما. ولعلّ القصيدة التي تُسمّى يوميّةً لدى ريتسوس ليست قصيدةً يوميّة، ففي هذا «اليومي» بُعٌد أسطوريّ ميتافيزيقيّ»٤١. تنهض الملحميّة في أحد عشر كوكباً على دمج التاريخيّ، بما يندرج في بنيته من بُعدٍ لليوميّ المتموضع في العناصر المكوّنة للنّصّ، بالأسطوريّ الميتافيزيقيّ، لتلفّها غنائيةٌ قائمة على الإيقاعات المتنوّعة والتقفية الداخليّة، وعلى توتّر في تركيب الصور، الأمر الذي يؤدّي إلى الدهشة والمفاجأة.

تتوحّد الحبيبة مع غرناطة لحظة الرحيل «عشيّة سقطت غرناطة»، فكلتاهما الحبيبة وغرناطة محطّ الفقدان والشّوق. في مخاض هذه اللحظة ترسم الذاكرة أيقونةً للرّحيل لترفعها أملاً على طريق الغربة المستجدّة الطويل أمامه، ومعراجاً للروح في خيمة أخرى سوف يرفعها على دروب الشتات. وتصبح غرناطة يوتوبيا ماضويّةً لفردوس مفقود، يستذكرها في رحيله الممتدّ حيث لا رؤيا أمامه ولا أفق. فهو ما زال يتقلّب في أطوار «طقس العبور» (rite of passage)، يكمل تشرّده (Nostos)، ولا يرى أملاً بارتفاع عمود دخان من بيته الرعوي، كذاك الذي قاد أشواق عوليس إلى شواطئ إيثاكا٤٢. و«الشعر يقول أوكتافيو باث هو الجسر بين الفكر اليوتوبيّ والواقع، هو اللحظة التي تصبح فيها الفكرة متجسّدة»٤٣.

في أحد عشر كوكباً تصبح الأندلس (meta-text):

 

«وسنسأل أنفُسَنا في النّهايةِ: هل كانت الأندلسُ هنا أم هناك؟

على الأرضِ... أم في القصيدة؟» (ص ٢٠)

 

وتغدو القصيدة ببنيتها المركّبة وباللغة الموسيقيّة المصفّاة التي تحتفل بالشكل هي نفسها يوتوبيا المكان بكلِّ تفاصيله، تعيد صياغة كلّ ما هو إنسانيّ وجميل. وأراني أجد في الغنائيّة والتنويع الموسيقيّ، واللعب على الإيقاعات، وفي تدوير القصيدة٤٤، نوعاً من التوشيح، وخصوصاً أنّ من اللافت عدم اعتماد درويش في أيّ من مقطوعات القصيدة الإحدى عشرة على صيغة الموشّح. وقد نوّع درويش في التوشيح وفي إيقاعاته الأندلسيّة في دواوينه اللاحقة، وهي خارج نطاق هذه الدراسة.

تُوحِّد المرآةُ فلسطين بالأندلس لتصبح فلسطين رغم الكآبة والشّجن اللذين يلفّان القصيدة هي«غرناطة» الأمل الذي يُشرق على تفاصيل المكان المغتصَب، ويوتوبيا المكان/المستقبل كما عند أراغون٤٥ الذي تنبغي استعادته، ليس في الذاكرة فحسب بل بما هي، كفضاء حقيقيّ، محطُّ الأشواق و«القدس الجديدة/أو الأندلس الجديدة». فيصبح الحاضر مرآةً مزدوجة للماضي وللحاضر الذي يحتوي المستقبل ويستشرفه.

 

الذاكرة الشعريّة والتاريخ

ما موقع الذاكرة الشعريّة من التاريخ إذاً؟ سؤال قاربه أوكتافيو باث بقوله: «الشعر والتاريخ يكمّل واحدُهما الآخر شرط أن يعرف الشاعر كيف يحافظ على مسافته (بينهما)... وأنا أجزم بأنّ الشعر يتعذّر اختزاله إلى مجرّد أفكار وإلى نظام (مغلق). إنّه الصوت الآخر. فهو ليس كلمة التاريخ أو التاريخ المضادّ، لكنّه الصوت، الذي في سياق التاريخ يقول شيئاً آخر، الشيء نفسه منذ البداية»٤٦.

ولدرويش تصريحان في مسألة علاقة الشعر بالتاريخ، الأّول قاله في حواره مع وازن وهو التّالي: «أحاول أن أُخفّف من ضغط اللحظة التاريخيّة على جماليّة الشعر، من دون أن أتخلّى عن الشرط التاريخيّ»٤٧. أمّا الثاني فقصيدته «لا تكتب التاريخ شعراً» في ديوانه لا تعتذر عمّا فعلت، ومطلعها:

 

«لا تكتبِ التاريخَ شعراً فالسلاحُ هو المؤرّخُ،

والمؤرخُ لا يُصابُ برعشةِ الحمّى...»

(٩-٩٩)

 

في أَحد عشر كوكباً يرسم درويش شعريّاً ما كان قد عبّر عنه في مجلة الآداب في تمّوز/يوليو ١٩٧٤ بقوله: «إنّ علاقة الشعوب بفردوسها المفقود هي علاقة ارتباط بالماضي الذي يحدّه القدر: حنين مجانيّ وبكاء للذكرى والعزاء، وفرح بقدرة ماضية على إنجاز جميل مضى. أمّا الفردوس الفلسطينيّ المفقود فهو علاقة الماضي والحاضر والمستقبل، وما زالت ساحة الحاضر ملتهبةً بالصراع الذي يقرّر مدى ديناميّة العلاقة بين الماضي والمستقبل»٤٨. ويقول في موضع آخر: «فلسطين ليست ذكرى.. إنّها أكثر من وجود، ليست ماضياً ولكنّها مستقبل. فلسطين هي جماليّة الأندلس، إنّها أندلس الممكن»٤٩.

هي مرآة يوسف يلاعبها درويش بغنائيّةٍ مغزولة «من حرير الكلام المطرّز باللوز، من فضّة الدمع في وتر العود»، ليحاور عبرها نصوصاً غائبّةً كثيرة: القرآن، والتراث الشعري العربي. ومن القرن العشرين يحاور درويش نصوصاً لعاشقَين كبيرين من عشاق الأندلس: لوركا وأراغون. لكنّ النّصَّ الغائب الأكبر، هو فلسطين الفـقـد بـذاتـه وهي الحقيقة الكبرى التي يروي يوسف الفلسطينيّ حكايتها على حافّة البئر.

  • ١. مجنون إلسا (ترجمة سامي الجندي، دمشق ١٩٩١)، ٣٨١؛ Le Fou d’Elsa, 457
  • ٢. انظر: بسام قطوس، في أبحاث اليرموك، ١٤ (١٩٩٦)، ٥١
  • ٣. مديح الظلّ العالي (بيروت ١٩٨٣)، ٥١؛ ٥٢-٥٤
  • ٤. إضاءة النص (القاهرة ١٩٩٨)، ٧-٨
  • ٥. حصار لمدائن البحر (بيروت ١٩٨٥)، ٩٣، ٩٤؛ واعتدال عثمان، إضاءة النص, ٢٦
  • ٦. Månsson, Passage to a New Wor(l)d (Uppsala, 2003), 156-158; Snir, «Al-Andalus Arising from Damascus», (Charting Memory, ed. Stacy N. Beckwith. New York, 2000), 281
  • ٧. «كولومبس، فلسطين واليهود والعرب»، الكرمل ٥٢ (صيف ١٩٩٧)، ٣٨-٥٢
  • ٨. أحد عشر كوكباً (بيروت ١٩٩٢)، ٢١، ٢٢
  • ٩. a. b. أحد عشر كوكباً، ٤٣
  • ١٠. أحد عشر كوكباً، ٣٧
  • ١١. a. b. c. d. اتجاهات الشعر العربي المعاصر (الكويت ١٩٧٨)، ١٦٠
  • ١٢. بسيسو، قصيدة القناع (بيروت ١٩٩٩)، ١٣٨
  • ١٣. a. b. تحوّلات التناصّ في شعر محمود درويش (عمان ٢٠٠٤)، ٥٣-٦٨
  • ١٤. a. b. c. عبد الله عنان، نهاية الأندلس (القاهرة ١٩٦٦)، ٢٨٨
  • ١٥. a. b. عبد الرزاق حسين، الأندلس في الشعر العربي المعاصر (الكويت ٢٠٠٤)، ١٣٢-١٣٩-١٩٧-٢٠
  • ١٦. شكيب أرسلان، خلاصة تاريخ الأندلس (بيروت ١٩٨٣)، ٢٨٥؛ فوزي المعلوف، ابن حامد (بيروت ١٩٥٣)، ١١٢
  • ١٧. عنان، نهاية الأندلس، ٢٦٦-٢٦٧
  • ١٨. Al-Allaq, «Tradition as Factor in Arabic Modernism» (Tradition and Modernity, ed. Smart, Richmond, 1996), 19
  • ١٩. a. b. مجنون إلسا،١١-١٢؛ Le Fou d’Elsa , 11-13
  • ٢٠. a. b. انظر: Lacan, Écrits, (London 1977), 261-275
  • ٢١. a. b. رجاء بن سلامة، العشق والكتابة (كولونيا ٢٠٠٣)، ٣٤٩
  • ٢٢. a. b. c. Le Fou d’Elsa, 310
  • ٢٣. a. b. قارن أحد عشر كوكباً،١٠، ١٥، ١٧ في Le Fou d’Elsa , 76, 85, 86-87, 98, 368
  • ٢٤. انظر: Lefebvre, The Production of Space (Blackwell 1991), 181-188
  • ٢٥. a. b. c. d. عند مالارميه وبودلير خاصة: Hamon, Expositions (Berkeley 1992), 38-39, 194
  • ٢٦. Quintana, Que Gitano! (New York 1972), 13-27
  • ٢٧. Menuhin, The Violin (Paris 1996), 112-119
  • ٢٨. ن عبد الجليل، مدخل إلى تاريخ الموسيقا المغربية (الكويت ١٩٨٣)١٥٣, ٢٢٨ Wright, Music in Muslim Spain (The Legacy of Muslim Spain, ed. Jayyusi, Leiden 1992), 556-579
  • ٢٩. García Lorca, Dichtung vom Cante Jondo (Frankfurt 1984), 95-114
  • ٣٠. Morris, Son of Andalusia (Nasville 1997), 182-259; Wirkland, Gypsy Cante (San Francisco 1999), vii-xiv
  • ٣١. مصطلح لاكان، «الشيء» أو (das Ding)، وهو بكثير من التبسيط بهدف الشرح، «مجاز يشير إلى اللاوجود الذي ينطلق منه الوجود، أي ما قبل التسمية» حب الله، التحليل النفسي (بيروت ٢٠٠٤ (٣٠٠-٣٠١)). وهو مجهول بدئي مسبب للرغبات والأشواق الإنسانية الأكثر جذرية؛ وهو محط الشوق (desire) واللغة؛ إنه الفراغ الذي لا يمكن ملؤه، والمفقود الذي لا ينقطع البحث عنه كما سوف نرى
  • ٣٢. درويش، مديح الظل (بيروت ١٩٨٣)، ١٠٨-١٠٩
  • ٣٣. درويش، مديح الظل، ٦
  • ٣٤. بن سلامة، العشق والكتابة، ٣٤٦
  • ٣٥. ولعل «عواء» السياب يفسره مرضه، انظر: السياب، ديوان (بيروت ١٩٧١ - ١٩٧٤)،١/٢٢٠ ٢٤٥، ٢٨١، ٤٨٢، ٦٩٥؛ وانظر البياتي، الأعمال الشعرية (بيروت ١٩٩٥) ٢/٣٥٤، ٤٣٩، ٤٦٩
  • ٣٦. Le Fou d’Elsa, 381-82
  • ٣٧. Zupancic, «Ethics and Tragedy in Lacan»,
  • ٣٨. Žižek, The Metastases (New York 1994), 89-112
  • ٣٩. أحلام يحيى، عودة الحصان الضائع(دمشق ٢٠٠٣)، ٢٠٠٦
  • ٤٠. صبحي حديدي، «الناي خيط الروح»، في زيتونة المنفى (بيروت ١٩٩٧)، ١٠
  • ٤١. عبده وازن، محمود درويش: الغريب يقع على نفسه (بيروت ٢٠٠٦)، ٦٨؛ ويخص درويش ريتسوس بقصيدة في ديوانه، لا تعتذر عمّا فعلت (بيروت ٢٠٠٣)، ١٥٣
  • ٤٢. يقول درويش في حواره مع عبده وازن: إنها «حالة عوليس الذي لم يجد نفسه، ولا ما كان يتوقع، ولم يجد كذلك بينيلوب. وبحسب الحالة الراهنة عدت شعرياً إلى التأمل أكثر في الدرب، والسبب بسيط لأنني لم أجد البيت»، محمود درويش. الغريب يقع على نفسه، ١٣٥-١٣٦
  • ٤٣. أطفال الطين (دمشق ٢٠٠١)، ١٣٧
  • ٤٤. انظر رأي درويش في الموسيقى وتدوير القصيدة: وازن، محمود درويش. الغريب يقع على نفسه، ٧٦-٧٨
  • ٤٥. Le Fou d’Elsa, 97
  • ٤٦. Convergences, 216
  • ٤٧. محمود درويش. الغريب يقع على نفسه، ٧١
  • ٤٨. محمود درويش، «الكتابة في درجة الغليان»، مجلّة الآداب (السنة ٢٢، العدد ٧، تمّوز ١٩٧٤) ٦
  • ٤٩. مجلّة الكرمل، ٧ ( ١٩٨٣)، ٢٢٨
العدد ١٦ - ٢٠١٧
محمود درويش الأندلسي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.