العدد ١٦ - ٢٠١٧

يوميات على جبل صنّين

الخميس 4 آب 2016

جسد الورق الأبيض

أحسبني، وأنا أُمرّر القلم المرتعش على جسد الورق الأَبيض الناصع، فكأنّ شأنه من شأن هذا الشاعر القديم من بني هُذَيْل الذي كانت يده تندى عند ملامسته جسدَ محبوبته، لرقّة جلدها وملاسته: تكاد يدي تندى إذا ما لمستُها. وحتّى ههنا يبدو الكلام سلساً والشعور مستوفَزاً. بيد أنّ هذا الشاعر ينفتل إلى تتمّةٍ تَفْجأنا بصورتها العبقريّة المبتكرة: وينبتُ في أَطرافها الورقُ النُّضْرُ! يخرب بيتو، كما نقول في العامّيّة اللبنانيّة، تعبيراً عن إعجابنا المفرط، من مثل ما قال زُهير بن أبي سُلمى في بيته المعلَّق: لا أَبَ لَكَ، تحبُّباً وتعجُّباً من طول العمر. ولئن أَورقت أَصابع هذا الهُذَّليّ العريق، وقد ارتوت من مسامّ جسد معشوقته، لقد تشبّع طموحنا أن تطلع من مرور قلمنا على متن هذا الورق اليَقَق، كما كان لغويّونا يعبّرون عن البياض الشديد، أن تطلع حدائق ناضرة من عذب الكلام وسامي المعاني.

وبعد، أَيّ طقسٍ بديع نحياه ههنا في ربوع صِنّين، بعد أن فررنا، ليومين مضيا، من سعير بيروت، بحيث إنّ النائم يتقلّب في فراشه ليلاً متململاً، كأنّه، كما في التعبير التراثيّ، يتقلّب على جمر الغَضَا! على أنّنا نظلم بيروت إذا نحن أَفرطنا في ذمّها، فهي، والحقّ يُقال، مدينة، على هذا الساحل المتوسّط، تتميّز خلال السنة باعتدال جوّها. فشتاؤها لطيف لا قساوة فيه، ولا يتخلّله برد قارس، والمعاطف على أَنواعها التي ابتعتُها في حياتي: أَسود رسميّ، إلى طحينيّ أَنيق، إلى رماديّ يحمل لون العفونة ولكنّه شديد التدفئة، كلّها مركونة في الخزانة، منذ زمنٍ، ولا نجد مناسبة مُناخيّة تليق بارتدائها. أمّا خريفها فمشهود له بالرقّة والهَدْأة. ويحلو للمرء فيه أن يعاود، بعد صيف حارّ سمج الإقامة، لبس الطقم، كما يسمّيه الخيّاطون، نصف موسمي، دومي سيزون. يبقى أنّ الربيع في بيروت لا طعم له ولا لون، كما نقول، فلا هو ربيع صيدا المعطَّر بفَوْح الأَشجار المثمرة، ولا هو ربيع الجبل المنعش وقد غطّت الحشائش الحقول وعمّت الخضرة في كلّ زاوية ومنحنى. ولكنّ هناك خاصيّة يقع عليها كلّ مَنْ زار بيروت أو حلّ في أَرجائها دارساً أو مقيماً، وهي أنّها مدينة الثقافة مفتوحة الذراعين، تحتضن الجميع، ولا ينساها أَيّ شخص عرفها، لأنّها تسحره بعروضها الفنّيّة المتوالية المتنوّعة الزاهية، كما بمنتدياتها الأَدبيّة والفكريّة تصدح في جَنَباتها أَفكار اليسار واليمين، كما بمطاعمها الغزيرة حيث اللقمة الطيّبة والمأكل اللذيذ المتنوّع، والذي لا يعثر عليه على هذا المنوال في أيّ مدينة عربيّة أخرى.

قلتُ إنّ الطقس ههنا في صِنّين بديع منعش. وأَهل الأُوتيل يرتدون اللباس الصيفيّ الخفيف، ومارون ابن صاحب الأُوتيل، قال البارحة متذمّراً إنّ الطقس حارّ، وكنت على مقربة منه، والصداقة تجمعنا، ولكنّي سكتّ على مضض، فأنا منذ قليل بارحت مكاني حيث كنت أَتدفّأ بأَشعّة الشمس! إنّي من النوع الذي يبرد، ويرغب دائماً، وخصوصاً في فصل الشتاء، ومع تقدّمي في قطار العمر، في تكديس الأَلبسة فوق جسمي طلباً للدفء. والموضوع هو تعوّد الجسم على معايشة البرودة والتأقلم معها. فالروسيّ ينزع جاكتّته ويضعها على كتفَيْ زوجته، وجسده، وخصوصاً إذا كان يمارس الحمّام الروسيّ الشهير، قلعة حصينة. وهذا الحمّام، إذا شئت معرفته، ينتقل فيه الشخص من البخار ومن جَلْدِ الجسد بقضيب شجر مورق، بحيث يغدو جسمه أَحمرَ حارّاً، ثمّ ينتقل إلى الخارج، ويحتفر ثغرة فوق الجليد، ثمّ يغوص. والعياذ بالله ويكاد قلمي يرتجف! يغوص تحت الجليد حيث الماء المصقّع! وكان مرشدنا الروسيّ «موبوتن» عندما زرتُ سوتشي، مدعوّاً، وذلك في الاتحاد السوفييتيّ المتوفَّى بالسكتة القلبيّةـ يذهب في الصباح الباكر للسباحة، في حين لم أَتجرّأ أنا على لمس ماء البحر من برودته. وهو الذي حكى لي عن هذا الحمّام الروسيّ الذي يعرفه. وعندما زُرْتُ رومانيا، في سالف زمنها، ارتديتُ المايو وقصدت البحر، ولكنّي لم أَتعمّد في مائه لأنّه شديد البرودة! وابني البِكْر، عمّار، أَلِفَ برد أَميركا، وقد عاش لسنوات حيث أَعدّ شهادة الدكتوراه في التغذية، وذلك غير بعيد عن منطقة البحيرات الفاصلة بين الولايات المتّحدة وكندا، وهي التي تتجلّد شتاءً، لهذا أُلاحظ عليه منذ عودته أنّه لا يلبَسُ كنزة في فصل الشتاء، لأنّ شتاء بيروت ربيعيّ بالمقارنة مع شتاء أَميركا.

الجمعة 5 آب 2016

ها قد عُدْنا يا صِنّين!

وجاءتني الهواتف من بيروت، يهتف بها الأَبناء والخلّان. فهم يتذمّرون من الحرارة والرطوبة والعَرَق المتصبّب، وعذاب الليل يدهمهم حيث لا كهرباء أَحياناً، وبالتالي لا مكيّف يعمل على نعومة أو هدير. وهم يحمدون صنيعي في مبارحة العاصمة وذهابي للاستقرار في الجبل، الذي اعتدت على غِشيانه منذ سنوات، إبّان الصيف، وعلى نحوٍ خاصّ خلال آب الكاوي، حيث أَجلس للعمل الكتابيّ هناك في الأَعالي، وأنا محبور النفس، مجبور الخاطر، فلا حرّ يعطّلني ويحول بيني وبين تعاطي الكتابة أو القراءة، لأنّ المزاج معتكر والهمّة معطَّلَة. على النقيض من ذلك أَجدني في صِنّين نَشِطاً، أَستيقظ باكراً، لأنّ نوم ساعات مدّة كافية لإرضاء البدن، وأُمارس في التخت رياضتي السويديّة لتليين الجسم وتحريك المفاصل. ثم أَقف عند المغسلة لأَغمر وجهي وأُذُنيّ بصابون القِطّة (لو شا)، وهو صناعة مشهورة لمدينة مرسيليا الفرنسيّة، وإنّي لمستعملها. وأَعمد إلى حِلاقة خدّيَّ على عجل، نظراً لأنّي أَحمل لحية دائمة على مدار العام، وكنت في السابق أَعتمدها في فصل الشتاء وأُقلع عنها سائر العام، مكتفياً بالذقن، ولكنّ الدنيا أَهواءٌ ومشاربُ، وأَذواقنا تتغيّر مع الزمن وتتبدّل مع تقلّب السنين وكرور مراحل العمر. وهذه الذقن غدت جزءاً من سَمْتِ وجهي، بحيث لا استغناء عنها ولا سبيل إلى التفريط بها. وحاولتُ، ذات مرّة، أن أَحلقها، فهيّأت الصابون والماء الساخن، ولكن ما إن وضعتُ الشفرة للقيام بالمهمّة حتّى ارتجفت يدي، وكما نقول أُسقط في يدي، كأنّ ما أُقدم عليه تعدٍّ على وجهي وإثمٌ عظيم!

وبمقدوري، وفاءً للمكان الذي أَلِفت التردّد عليه كلّ موسم صيف، أن أَهتف: ها قد عُدْنا يا صِنّين! وهو هُتاف نابع من القلب، فيه الامتنان والأُلفة والمحبّة، هو هتاف المحبّ، واعتراف الشاكر، وشَغَف المسحور، يرفعها للجبل ولجبهته المُحْمرّة. ثم إنّي أَستعيد في ذاكرتي الابن البار الذي خرج من أَضلاع هذه البقعة المباركة، حيث جلس إلى صخرة ملساء، كما جاء في أدبه المشرق. وانطلق بعدئذٍ في المعمور، شرقاً إلى بولتاڤا في أُوكرانيا، وغرباً إلى نيو يورك، من «النهر المتجمِّد» الذي غنّاه بالروسيّة وبعد ذلك بالعربيّة، إلى ناطحات السحاب حيث ضجيج الأَعمال وصخب الرأسمال. وآوى باكراً إلى شُخْرُوْبه، عام 1932، ليكتب بعدئذٍ «أَبعد من موسكو ومن واشنطن» (1963). والزائر لميخائيل نعيمه (ت 1988). بعد أن يجتاز ممرّاً أَخضرَ ظليلاً أنيساً بين الأَشجار، سيلقى تمثاله النصفيّ، فوق مدفنه، وفيه سيُبصر هذا الناسك الذي يُسند ذقنه بيُمناه مفكّراً متأمّلاً، كما كان شأنه في حياته، وسيلقى المحبّين يتحلّقون حول المدفن ويشخصون بأَبصارهم إلى التمثال وقلوبهم تهمس: هذا إنسان من بلدنا نحبّه في غير صُراخ، ونأمل من القيّمين على الثقافة والأدب عندنا أن يُحلّوه في المكان اللائق به. فكفى إجحافاً بابن «الرابطة القَلَميّة»، في حين أنّ غيره، الذي هو دونه قيمةً وأَصالةً وعمقاً، غدا سلعة دعائيّة وإعلاميّة وسياحيّة، وما هكذا يُكرَّم الأديب الحقّ.

bid16_p156-157.jpg


شوقي شمعون، صنين جميل من جديد، 2014

وهُتافنا: ها قد عُدْنا يا صِنّين، لا يُشبه بأيّ حالٍ هُتاف هذا الكولونياليّ الصفيق، الجنرال غورو، الذي بعد أن زحف الجيش الفرنسيّ على دمشق، زمن الحكم الفَيْصَليّ العربيّ فيها، واعترضه في مَيْسلون وزير الحربيّة، يوسف العظمه، فسقط شهيداً، ثمّ وقف هذا المستعمر الذي تغلي في عروقه أَحقاد الصليبيّين، أَسلافه الذين حلّوا بين ظهرانَيْنَا، متاجرين بالصليب يحملونه فوق صدورهم المترعة بالمطامع، وأَقاموا الإمارات وبنوا القِلاع، ثم جاء صلاح الدين الأيوبيّ فأَجلاهم بسيفه البتّار وجيوشه المتوثّبة عن القدس وهذه الديار، بعد أن استعمروها مئاتٍ من السنين. وسيكون هذا مآل الصهاينة المحتلّين لفَلَسْطين، مهما بدا الأُفق الآن داجياً والظلم مستفحلاً والقضيّة ذبيحاً! فالأرض بتتكلّم عربي، على حدّ غناء سيّد مكّاوي، وهي عائدة، لا محالة، إلى أَصحابها، وإن طال الزمن. وكما قال سيّد الرواية، سرڤانتس الخالد: «البطل هو الذي لا ييأس، في وضعٍ كلّ ما فيه يدعو إلى اليأس»! حاصل الأمر أنّ غورو وقف على قبر صلاح الدين، القريب من الجامع الأُمويّ الشهير بدمشق، وقال له بعنجهيّة وتفاهة: ها قد عُدْنا يا صلاح الدين! ولكنّ الشعب السوريّ الأبيّ عرف كيف يردّ على هذا المتغطرس الجَهُوْل، إذْ إنّ الانتداب الفرنسيّ لم يهنأ يوماً إبّان احتلاله سورية، فقد قاومه الشعب مقاومة باسلة، بحيث حمله على الحمق وعلى دكّ البرلمان السوريّ بقنابله. وقامت الثورة السوريّة الشعبيّة التي اشتهر فيها رجالات وأَبطال، ومنهم الزعيم الوطنيّ الدكتور عبد الرحمن الشَّهْبَندر، خرّيج الجامعة الأميركيّة في بيروت، والذي بعث به الفرنسيّون سجيناً في جزيرة أَرواد، وهناك التقاه وطنيّ باسل جريء من عندنا، وهو السياسيّ والشاعر واللغويّ الفذّ، الشيخ مصطفى الغَلاَييني. فالأَحرار يجمعهم النضال، وتوحّدهم القضيّة التي ينافحون عنها، مضحّين بأَعمارهم وزهوة أَيّامهم، فالغلاييني هو القائل في صدر ديوانه:

قالوا: تُحِبُّ العُرْبَ؟ قلتُ: أُحِبُّهمْ
حُبّـاً يُكَلِّفُنـي دَمـي وشَـبابي

مهما لقيتُ من الأَذى في حُبِّهِـمْ
أَصبِرْ لـه والمجدُ مِـلءُ إهابي.

الاثنين 8 آب 2016

الصمـت!

الضباب الرقيق يزحف اليوم من الأَودية، أو الوَدَايا، كما يقول الإخوة من بني معروف وغيرهم في الجبل، كما هم يقولون القَرَايا عِوَضَ القُرى. ومن هنا التعبير: حكي قرايا وحكي سرايا. وهو ضباب يغطّي الحقول ولا يغطّي في آنٍ، لأنّه غُلالة شفّافة، أَشبه بالمنديل المشبّك الرقيق الذي كان شائعاً على وجوه النساء الفاتنات في زمنٍ عتيق مضى، كنّا خلاله أَولاداً، وكان يستثير فينا الشوق والفضول لمطالعة هذه الوجوه المتبرّجة بالأَحمر الفاتح على الشفاه الناطقة بالرغبة، وبالأَبيض من خلال البودرة المليّنة للبَشَرة والباعثة فينا، نحن معشر المراهقين، المبكّرين بالمراهقة والمعذَّبين بمفاعيلها، صورة خياليّة للمرأة النموذج. كنّا أَولاداً، ولكنّ أَحلامنا الجنسيّة كانت ناضجة سابقة لعمرنا، والمجتمع المتخلّف يكوينا بالحرمان! والضباب المتصاعد يلفّ الدنيا من حولنا ويبعث السكينة، فلا شيء يتحرّك، وقلّما تطوي سيّارة الطريق المحاذي للأُوتيل، والصمت معقود تماماً. حتّى إنّ الزَّراقط لا تطنّ من حولي ولا تئزّ، مع أنّها، عند تناولي إفطار الصباح، تحوم حولي وتغطّ على طعامي وتُقلع وتعود متماوجة كأنّها تناكدني، وأَنا أَكشّها ملوّحاً بيُمناي في كلّ اتّجاه. وهي لا تبالي، كأنّها تستطيب هذه اللعبة الصباحيّة، ويحلو لها أن تقلّد الذُبّان أو الذُباب الذي كان، في سالف الزمن، يغطّ، كما جاء عند الجاحظ، على عينَيْ قاضي البصرة الزِّمِّيت، يبغي إخراجه عن سَمْته ووقاره! على أنّي، مع زفرتي العابرة من هذه الزَّراقط، فإنّ الصبر عندي دائماً غلّاب. وأَنا أَفتقدها خلال هذا الصمت المطبق، فأين هي؟ أم أنّها تعبت من مضايقتي صباحاً، ونحن الآن عند الظهيرة، فآوت نادمةً من مناكفتي، مؤثرةً الهدأةَ، وخصوصاً أنْ لا غصن يهتزّ متمايلاً فوق الشجر، فكأنّه شجر خاشع، يصلّي في سكونٍ في معبد الطبيعة، متبتّل، متوحّد، ساهِم.

وهذا الطقس الغائم كان يُحزنني عندما كنت صغيراً، ويبعث شيئاً من الأسى في نفسيَ الغَضّة. على أنّي عَقِبَ أَسفاري، التي جُسْتُ من خلالها بعض بُلدان أُوروﭘّا، بات هذا الطقس أَليفاً عندي، ربّما لأنّه غدا محمَّلاً بالذكريات مقترناً بها. والإنسان عدوّ ما يجهل، فإن تعرّف إليه وعايشه صار ربّما محبَّباً إليه، بل بات يستغرب موقفه الأَوّل المناهض له. وكلامنا على الصمت ذكّرني بعبارةٍ للروائيّ المِصْريّ المبدع، جميل عطيّة إبراهيم، صاحب الأَعمال الجميلة، من مثل «نخلة على الحافّة»، وثلاثيّة الثورة، وغيرها. وهو يقيم في سويسرا منذ السبعينيّات من القرن الماضي، فالمثقّفون والأُدباء العرب باتت إقامة بعضهم في المهاجر سمة العصر العربيّ، الذي يتّسم بتكبيل الحرّيّات ووأد الكلمة الحرّة ورمي المبدعين في غياهب السجون، لأنّ ما يكتبون يفضح طغيان الحكّام الذين يتستّرون رياءً، بالمنافحة عن الدين والأَخلاق، في حين أنّ وجودهم نفسه مسبّة لهما وصفعة للمكارم وروح الشرائع. يقول جميل عطيّة إبراهيم، في حديثٍ إلى جريدة «السفير» (1 أيّار 2015)، عن سويسرا: «لا مشاكل هناك، بيئة نظيفة تحضّ على الإبداع، أَحياناً يؤلمني الصمت، وأَحنّ إلى صخب القاهرة وليلها الذي لا ينام». فالصمت المطبق عذاب مبرّح، والحنين إلى الوطن مؤلم قتّال! والأديب المصريّ بالفرنسيّة، أَلبير قصيري، الذي أَقام في ﭙاريس، والمتوفَّى عام 2008، يقول: «لقد غادرت مِصْرَ، لكنّي لم أَودَّ أن تغادرني».

وبما أنّنا على مقربة من الشُّخْروب، حيث يرقد ميخائيل نعيمه، مستظلاًّ بالشجر المورق الذي ندلف منه إليه، والذي يحيط بمدفنه، فلنستشهد بعبارة لهذا الأديب الناسك يقول فيها: «ليس من المنطق في شيءٍ أن تتباهى بالحرّيّة وأنت مكبَّل بقيود المنطق». ونجدنا على خلافٍ مكين مع نعيمه في قوله هذا، لأنّه يضع التضادّ بين الحرّيّة والمنطق، كأنّ هذه الحرّيّة هي تفلّت كامل من الموجبات والقيود. وهذا منحى مثاليّ لا نستغرب صدوره عن أديبٍ متأمّل متصوّف، لا يراعي الضرورات الاجتماعيّة، وربّما يؤثر الصمت عموماً على الكلام، في حين أنّ سقراط يقول: «تكلّم حتّى أَراك»! ثم إنّ الحرّيّة في معناها العلميّ البعيد هي حكم الضرورة وما تمليه على المرء من مراعاةٍ لمقتضياتها، وإلّا خرجت عن أن تكون حرّيّة مسؤولة، وصار التمرّس بها سَرَحاناً، أَشبه بهَيَمان البدويّ في الفلوات، لا ضابط عنده، وتراه يأنس بالغزو ولا يتقيّد بقانون أو شرع. وهذا الشرع نفسه، في المجتمع المتحضّر، تحدّه مصلحة المؤمنين، وإلّا فلا مغزى لوجوده، ومن هنا القاعدة الفِقْهيّة القائلة: «حيث مصالح الناس حيث شرع الله». والحرّيّة نقيض العبوديّة، والأَرقّاء في التاريخ القديم لم يثوروا لنيل الحرّيّة الوهميّة، بل إنّها كانت تعني لهم الفوز بالمأكل والمشرب وتحصيل الكرامة المفقودة. وإذا كان المَثَل الصينيّ يقول: حتّى الأَعمى يمكنه أن يرى المال! فالإنسان المستعبَد، الراسف في الأَغلال، يحلم بالحرّيّة ويراها برغم بؤسه وعذاباته، فهي حرّيّة تسوق إليه الخبز والحياة. فالحرّيّة عند الشعوب البائسة، هي غيرها عند الشعوب المرفَّهة. الشعب الشقيّ يطلب قيام الأَوَد، والشعب الغنيّ يستمتع بملذّات الحياة وأَفانين الحضارة، وحرّيّته أَضعاف ما هي عليه حرّيّة الفقراء والمستضعفين، فوق كرتنا، التي تهتزّ هذه الأَيّام اهتزازاً اجتماعيّاً وسياسيّاً خطيراً! ونحن، برغم البترول والغاز والثروات المقنطَرَة، وربّما بسببها، نحيا في القيود، ولا حرّيّة نشتمّ نسائمها. فكما أَنشد مظفَّر النوّاب:

فهذا الوطنُ الممتدُّ من البحرِ إلى البحرْ
سجونٌ متلاصقةٌ
سَجّانٌ يُمْسِكُ سَجَّانْ...

الخميس 11 آب 2016

غابة الرِّماح الصفراء

عند تناول إفطاري، بين التاسعة والعاشرة من كلّ صباح، أُفاجأ بجلبةٍ خفيفة أَنيسة، تترامى إلى مسمعي، وسط الهدوء الشامل الذي يغمر المكان. إنّه قطيع الماعز الذي ينحدر إلينا من أَعلى الشارع، بعد أن يُطلّ بغتةً من المنعطف المتواري عن أَنظارنا، فإذا ببقعةٍ يطغى عليها السواد تنتشر فوق الطريق الإسفلتيّ، تضيق حيناً فتبدو خطّاً أَسودَ عند حافّة الطريق، وتنفلش طوراً فتغطّي معظمه. وأَجد متعة في مراقبة هذا القطيع، ومن حوله الكلب الذي يتقدّم ويتأخّر ويحوم هنا وهناك. وفي مؤخَّرة القطيع يهرول الراعي الشابّ، الذي يلبس بنطالاً أَزرق باهتاً، وقميصاً أَحمر قد نَصَلَ لونه، ويعتمر قبّعة تلفّ رأسه، ويضع في رَقَبته كيساً من قماشٍ يشتمل في الأَغلب على ما يقيم أَوَده، وهو سارح نهارَهُ مع قطيعه، ولا أَدري إذا ما ضمّ الكيس مزماراً. ويحمل الراعي في يُمناه قضيباً يهشّ به على عنزاته الشاردة في كلّ اتّجاه، وها هما عنزتان شاردتان قد تأخّرتا عن القطيع، فهما تهرولان متقافزتين، ويصدر عنهما صوت هو بين المُواء والعِواء، وكأنّ قلقاً قد استبدّ بهما! وتجد الراعي نَشِطاً مطمئنّ البال، ولا يبالي بالسيّارة التي تتمهّل خلف القطيع صابرةً، من غير أن يصدر عن سائقها قرعُ زمُّور متأفّف ضيّق الخُلُق، إذ لا تلبث الطريق بعد قليل أن تنفرج متّسعة عند العين، عين صِنّين، وتمرق السيّارة عندئذٍ بهدوء وسكينة.

وهذه العين مقصد الطالبين لماءٍ عذب نَمِير. ومنذ أَيّام رأيتُ شابّاً حائراً، عند العصر، وكنت أَقف مطلاًّ على الطريق المحاذي للأوتيل، فسألني أَين يجد ما يأكل، فدعوته إلى الداخل وجمعته بالشيف عدنان الذي أَمّن له مأكلاً. وجاذبته الحديث، فإذا به قد تقطّعت به السبيل، لأنّه جاء نبع صِنّين، قاصداً، من برمّانا حيث يقطن، فإذا بسيّارته تتعطّل فجأة ولا تدور وتحرد، وعبثاً حاول تشغيل الموتور. ولم يعثر في بسكنتا على مَنْ يُنْجده، فطلب شركة التأمين التي وعدته بإرسال سيارة بلاطة للعودة بها على متنها إلى بيروت. وطلبُ هذا الإنسان لنبع صِنّين ليس بِدْعاً، فهو مبتغى السكّان يتقاطرون إليه من أَنحاء المنطقة، ليملأوا أَوعيتهم الپلاستيكيّة من مائه العذب. وكما نقول: المَشْرَب العذب كثير الزِّحام. ومن أَسفٍ لم يعد نبع صِنّين غزيراً، كما كان سابقاً، لأنّ يد الإهمال، كما حال كلّ شيءٍ في بلدنا، قد طاولته، فخفّفت من غزارة جَرَيانه. نحن نحيا في جمهوريّة تتفكّك أَوصالها ويدبّ في أَنحائها العَفَن. ونعود إلى الشابّ المقطوع فنقول: بما أنّ اللبنانيّ عندما يتعرّف إلى آخَر يملأ توّاً له استمارة حول الاسم والمهنة والتحصيل العلميّ والعائلة والضيعة، وحول الطائفة طبعاً؛ فقد علمت أنّه من عائلة بطرس، ولكنّه ليس من البطارسة الأُرثوذكسيّين، بل هو مارونيّ الأَرومة، وقد زار مؤخَّراً ولاية كيرالا بالهند، وهو ممتلئ إعجاباً بهذه البلاد الغنيّة بالجمالات والتقاليد والروحانيّات، فضلاً عن علوم العصر الراقية، ويفكّر بالعودة إليها. ليس من نجمٍ فوق كوكبنا خالٍ من لبنانيّ تحته مقيمٍ أو زائر.

نعود إلى قطيع الماعز، فقد قَطَعَنا حديث عين صِنّين عن الاسترسال فيه. صحيح أنّه قطعة سوداء فاحمة متنقّلة، إلّا أنّ بعض الماعز القليل كان رماديّ اللون، كما هناك ماعز، قليل نسبيّاً، ثلثه الأَماميّ أَسود، وباقي جسمه أَبيض، فتحسب كأنّ البياض عبارة عن غطاء مرميّ فوق جسمه. ومع أنّ السواد يغلب على القطيع فلم أَنفر منه، مع أنّي في خصومة قاطعة مع اللون الأَسود، وليس بين ثيابي قطعة واحدة من اللباس رهبانيّة اللون، مع أنّ الآباء البيض، وهم رهبانيّة معروفة، لباسهم من اسمهم أَبيض. حتّى الحذاء الأَسود أَقتنيه للضرورة، لأنّ هناك بدلات لا يتناسب معها ولا يتطابق إلّا هذا اللون، قاتله الله. مع أنّي على يقينٍ أنّ المرأة الفاتنة ذات الحُسْن والجاذبيّة واللحظ الفتّاك، لا يليق بمفاتنها هذه سوى ارتدائها للفستان الأَسود. أَصلاً المرأة الجميلة تلعب بعقولنا، نحن الرجال، بأَيّ ثوبٍ تضعه على جسمها، لأنّ جمالها هو البارز، وما عداه أَكسسوار. وهذه المرأة الجميلة حقّاً يظلّ جمالها مَعْلَماً في كيانها، حتّى ولو قطعت شوطاً من العمر، ويصدق فيها المَثَل الكرديّ: الأَوراق الذابلة لا تشوّه الأَشجار الجميلة. اللهمّ ارزقنا جمالاً نتنعّم به، ولا تحرمنا من نعمتك هذه، أنت الرزّاق المنّان، آمين!

وقُبَالتي، حيث أنا مشرف على الطريق وما يمتدّ على جانبه الأَيمن من حقولٍ متدرّجة تنحدر نحو الوادي، أُبصر بستاناً واسعاً من اللوبياء الخضراء اليانعة، وقد زُرعت الشتول في صفوف متناسقة، وأُرفقت كلّ شتلة بعصا طويلة، لكي تلتفّ عند نمائها حولها، ذاهبة صُعُداً، ولكي يسهل قطافها. وهذه العيدان المرتفعة تكاد لا تبين، وأنا أَتملّى النظر إليها عن بُعْدٍ، وقد انصبّت عليها أَشعّة الشمس وانغمر الأفق الغربيّ بهالة عظمى من الضياء. أمّا في الصباح والظلال النديّة تخيّم على المكان، وكلّ ما حولي يرشح طمأنينة وصفاء، فإنّ هذه العيدان المنتصبة تبدو كالرّماح الصفراء المشكوكة أَرضاً، وكأنّها هذه الأَسلحة التي نشاهدها في الأَفلام يُمسك بها المحاربون، وهم يتقدّمون لملاقاة العدوّ، وتهتزّ في أَيديهم غابة من الرِّماح. ولربّما دهمني هذا الشعور لأنّي أَعمل، خلال إجازتي هناك، على تهيئة طبعة جديدة، مُزادة وموسَّعة، من كتابيَ القديم «ثورة العبيد في الإسلام»، الصادر عام 1985. وهؤلاء العبيد قد انتضوا السلاح، وخاضوا المعارك الطاحنة، لكي يُعتقوا أَنفسهم من رِبْق ِالعبوديّة. وعندما أَخفق العبيد الزَّنْج في مسعاهم، الذي دام قُرابة خمسةَ عَشَرَ عاماً، التحقت فلولهم بثوّار آخَرين أَعرق وأَمضى، وهم القرامطة. إنّي لأَسمع صهيل خيولهم بين أَسطُري، وجلبة خطاهم المتوثّبة تمرق فوق أَوراقي، وحفيف ملابسهم الرثّة يصّاعد بين أَحرفي!

السبت 13 آب 2016

تشيخوف نسي: الجمال الداخليّ

ها قد انقضى قُرابة أُسبوعين على حلولي أَرضَ صِنّين والتنعّم بطقسها البديع، وخصوصاً أنّ صديقتي «ربيعة»، وهي تعاني من وطأة الحرارة المرتفعة وتتأفّف على الدوام من الحرّ، وتنفض قميصها مرّات متواليات، وكأنّها بصنيعها هذا تجلب النسيم والنعيم لجسمها المصاب بالغليان. ربيعة هذه اتّصلت بي مطمئنّةً عليّ ولإبداء الأَشواق، وقد حَمَدَتْ لي ابتعادي عن بيروت، هذه الأَيّام، والطقس فيها رطب على نحوٍ بالغ، ولا سبيل إلى النوم من غير آلة تكييف، وهي مؤذية غدّارة أَحياناً، وربيعة نفسها تعاني بُحّة ينقلها الهاتف وتتناول المضاد الحيويّ، لتعالج ما أَلمّ بها من غدر المكيّف. سلامتك، يا عزيزتي. ومن عادتنا أن نقول، عن الذي يكثر من الكلام ويبالغ في الثرثرة، من أنّه بالع راديو! وهذه إهانة لا أَتقبّلها، تُوَجَّه إلى الراديو، وهو النعمة الكبرى في حياتي. وكانوا يقولون إنّ التلفاز أَلغى الراديو، لأنّه بات الكثيرون يتابعون الأَخبار والبرامج عَبْرَه. وعندما عمّ التلفاز زعموا أنّ السينما قد انتهت. ولكنْ لا اكتشاف يُلغي الآخَر ويقضي عليه. وأَنا أُشاهد التلفاز ليلاً، وأَبدأ هذه المشاهدة عند الساعة السابعة والنصف إلّا دقيقة، عندما يُطلّ فيصل سلمان ببرنامجه الخاطف «فكّر فيها»، لأنّه يخطف القلوب بظرْفه ونباهته. أمّا نهاراً فلا أَعرف أنّ هناك اختراعاً يُدعى التلفزيون، وعندما يهتف بي صديقي العزيز عادل، ليلفت انتباهي إلى بَرْنامج يُبَثّ وجدير بالمشاهدة، أَتظاهر بالانصياع وأُغدق عليه الشكر، ولكنّي أَظلّ مسمَّراً عند مكتبي!

وما دام هناك مَنْ يبتلع راديو مجازاً، فهل من سبيل إلى ابتلاع مروحةٍ، علّها تُسعف ربيعة في ورطتها ومعاناتها! والحياة حافلة بكلّ غريب، فلقد أَوردت الصِّحافة مؤخّراً خبراً أَعجب من الخيال، وذلك أنّ امرأة بريطانيّة كانت تحاول النظر إلى لوزَتَيْها في المرآة، فابتلعت قلماً استقرّ في مَعِدتها. العجب أنّ المرأة قد نسيت الحادث، الذي طرأ على حياتها من ربع قرن. وبعد هذه المدّة الطويلة اشتكت أَوجاعاً في المعدة، فأُجريت لها صورة مقطعيّة للبطن، وفوجئ الأَطبّاء بوجود قلم! وهذا القلم الطيّب لم يتسبّب بضرر في المعدة، لهذه البريطانيّة الساهية عن وجوده. وبعد إزالته تبيّن ما هو أَعجب: إنّه ما زال صالحاً للاستعمال!

يقول الكاتب الروسيّ الذي أَحببته دائماً، وتمثّلتُ فيه الإنسان النبيل المرهف، وهو أَنطون تشيخوف: «كلّ شيء في الإنسان ينبغي أن يكون جميلاً، وجهه وثوبه وعمله وأَحلامه». أمّا كيف تكون الأَحلام جميلة، فمن يكون عمله مشبعاً بالصدق والسيرة القويمة، لا بدّ أن تكون انعكاساتها على شاشة أَحلامه مشعّة وضّاءة، هذا إذا آمنّا أنّ الأَحلام هي رجع الأَمانيّ الخبيئة والنوايا المكبوتة. ونسي تشيخوف في تَعْداده أن يأتيَ على جمال الروح، فكم امرأة تبدو في مظهرها جميلة فتّانة، ولكنّها تفتقر إلى الجمال الداخليّ. والمرء، سواء أكان امرأة أم رجلاً، عندما تصقل روحه الثقافةُ وتهذّب ردود أَفعاله، وتغتني هذه الروح بالتجارِب والمشاهدات، فإنّ لغته تبدو فارقة لنشأتها الأولى، لأنّها كانت لغةً لُحْمتها وسَدَاها الحروف والكلمات، فصارت لغة العقل المتفتّح والقلب الولهان. تغدو لغة الأَيادي البِيْض المِغْداقة ومياه النبع الجريانة. والفنّان الراحل، وكان مشعّاً في السينما المصريّة، نور الشريف، اشتهر بزواجه المستقرّ من ﭘوسّي، لكنّ سيف الطلاق فرّق بينهما أَخيراً، ولكنّهما بقيا صديقين. وقال نور تحت وهج جماله الروحيّ الداخليّ: «كيف ننسى أَكثر من أَربعين سنة عِشْرَة، بسبب ورقة طلاق»! وهذا القول يذكّرني بعنوان مسرحيّة الفنّانة الفلسطينيّة، رائدة طه: أَلاقي زيّك فين يا علي؟ وداعش وأَخواتها أَخصّ وأَخسّ ما فيهم أنّهم يعملون على تدمير الروح الإنسانيّة، والأَمثلة على ذلك لا تُحصى. وعندما استولت داعش، خلال آذار 2015، على مدينة نمرود الأثريّة، وقد عملت الكاتبة البوليسيّة الأَشهر، آغاتا كريستي، مع زوجها عالِم الآثار، ماكس مالوان، في خمسينيّات القرن الماضي، في هذه المدينة الأَشوريّة. ماذا فعلت داعش بعد وضع يدها على هذه المدينة التاريخيّة؟ لقد دمّرتها بالجرّافات! وهذا ما فعلت طالبان بتمثال بوذا هائل الحجم: لقد نسفته بالديناميت! لهذا نلحظ أنّ هؤلاء المتعصّبين الغُلاة، يتشابهون برغم تباين قوميّاتهم، لأنّ لغة واحدة تجمع شملهم، وهي قائمة على إبادة الإرث الإنسانيّ وتدمير الروح الجميلة المبدعة. ولكنّهم زائلون في نهاية المطاف، لأنّ الجمال، لا مَحَالة، منتصر على القبح، والتسامح، لا بدّ، ماحق للتعصّب، وتاريخ الإنسان لا يتراجع خَطْوة إلّا ليتقدّم بعدئذٍ خَطْوتين. وأَقولها نعم قاطعة، انقياداً منّي لقول الإنجيل: «ليكن كلامكم نعم، نعم، أو لا، لا»!

كان أمسِ 13 آب، واليوم الذي أُتمّ يوميّته، هو الأحد 14، عيد السيّدة، أيّ ستّنا مريم. وعجّ الأُوتيل بالناس الفرحين المغتبطين، وحولهم يحوم الأَطفال بأَزيائهم الملوّنة، وضجّت حديقة الأُوتيل، حيث الأَلعاب والأَراجيح. وترامى إلى ذاكرتي بيت صلاح لبكي الجميل:

تعـالَــي، نهـــزّ المُنَـــى
على أُرجوحةٍ من ضياءِ القمرْ.

الجمعة 19 آب 2016

أَرِيڤدرشي صِنّين!

كاد الفجر يشقشق عن نورٍ غير معلن، عندما مررت أَمام النافذة قاصداً غرفة الحمّام، فاستوقفني منظر عَجَب، إنّ الأَلوان الطبيعيّة التي أَلفتها وباتت منطبعة في ذهني قد تبدّلت، فالأرض تكاد تكون حمراء غامقة، وهناك بُقَعٌ من المنظر بنفسجيّة أو تغلب عليها الزُّرقة! يا للهول، ماذا جاء يفعل ڤان غوغ ههنا، فلوحاته الفنّيّة تحمل هذه الأَلوان، هو سيّد الأَلوان مُدْهشها، إنّه في ذوقي وخاطري فنّان نادر، تجمّعت فيه مدارس فنّيّة، وهذا شأن الفنّان العظيم. أَليس ﭘيكاسو من هذه الطينة العجيبة؟ أَليس حسين ماضي عندنا من هذه النوعيّة الباهرة؟ هؤلاء يعرفون الطبيعة بأَفضل ممّا نراها، ويستنطقونها بأَلوانهم المميَّزة التي تُضفي على الطبيعة جمالاً سحريّاً. عندما ظهر التصوير الفوتوغرافيّ خالَ بعضهم أنّه سيزاحم الفنّ التشكيليّ ويحلّ مكانه. وهذا خَطَل جليل، لأنّ التصوير الفوتوغرافيّ كبسةُ زِرٍّ، في حين أنّ الفنّ هو خلاصة نَفْسٍ مثقَّفة ويَدٍ صَنَاع وموهبة متغلغلة وإعادة خلق. ومن هنا أُخذ على الواقعيّة قربها أَحياناً من الصورة الفوتوغرافيّة، فهي ههنا تفقد مزيّتها الكبرى، لأنّ الإنسان توارى عنها لصالح مهنة الرسم. وطبعاً لا فنّان من غير إتقان الرسم، لأنّه أَبجديّة الفنّ الأُولى، ولكنّ الرسم ليغدوَ فنّاً يحتاج إلى الموهبة الخفيّة والإبداع التحويليّ. فالكتّاب مثلاً لا يُحْصَوْن، ولكنّ الأُدباء بينهم قلائل، يُعَدُّون على الأَصابع.

صِنّين أَرشقه بنظري وأتدرّج معه صاعداً إلى أَعاليه. هناك عند قِممه السامقة غيم أَبيض متكتّل متكأكئ على نفسه، تحسَبُه قطناً من هذا النوع المصريّ الفاخر والذي يدعوه أَهلنا هناك أَبو تيله. هو جبل يوحي إليك المهابة والصمود، ويبدو بحجارته الضاربة إلى الحُمْرة شبه أَجرد، باستثناء مَشَحات من الخضرة تتكوّن من شجر برّيّ. على أنّه يلتحف شتاءً بالثلج الناصع فوق مناكبه، ويطول مكوثه. وتستلقي عند سفوحه بلدة بسكنتا، التي يعتبرونها من حيث الحجم أكبر بلدة في لبنان، وهي تُطلّ بدورها على وادي الجماجم. وعندما زرنا ميخائيل نعيمه، في سالف الأَيّام، استقبلنا في بيته الوديع المشرف على هذا الوادي. وكان البسسكنتاويّون، وربّما ما يزال الكثيرون، يسلكون بسيّاراتهم الطريق الهابط من المروج إلى وادي الجماجم، ثم يصعدون إلى بلدتهم. ولكنّ هناك الآن أُوتوستراداً بديعاً يربط المروج بصِنّين، ومنه يدلف المرء إلى بسكنتا من حيث تنتهي، مارّاً، هبوطاً، بمدفن نعيمه في منطقة الشُّخروب. وقد كان هناك قديماً في بسكنتا مدرسة روسيّة أَنشأتها القيصريّة، لرعاية الآخذين بالمذهب الأُرثوذكسيّ، وهي واحدة من بين قُرابة مائة وخمسين مدرسة منتشرة في لبنان وسورية وفَلَسْطين. وفي الناصرة بفَلَسْطين كان هناك دار للمعلمين يَفِدُ إليها المتفوّقون في الدراسة. وهكذا مضى الفتى المتفوّق ميخائيل نعيمه إلى هناك، ومن الناصرة تابع طريقه في تحصيل المعرفة إلى بولتاڤا بأُوكرانيا الروسيّة عهدذاك. وقد أَتقن اللغة الروسيّة وكتب بها. وذكرنا، في غير هذا الموضع، أنّ الملحقين الثقافيّين الروس، الذين عملوا في لبنان، كانوا يزورون أَوّل مَنْ يزورون ميخائيل نعيمه، ويخرجون من عنده معجبين، مأخوذين بلغته الروسيّة البليغة، التي باتت نادرة عندهم، فقد خالطت الروسيّة الحاليّة المفردات الدخيلة والعبارات الملتوية!

أَيا صِنّين، هل حقّاً أنّي سأُبارحك بعد يومين، تاركاً خلفي الهدوء والصمت وراحة البال؟ فكأنّ الإنسان يُصغي ههنا إلى الطبيعة الهاجعة، لكأنّها في صلاة وخشوع. وعندما كنّا أَطفالاً صغاراً كان المعاونون في سيّارات الڤان ينادون علينا: مَنْ يريد الذهاب إلى صِنّين، هلمّوا. فكنّا توّاقين إلى هذه الرحلة. على أنّنا كنّا نفاجأ أنّها تنطلق من حرْج بيروت، حيث كانت تُنْصَب، خلال عيدَيْ الفِطْر والأَضحى الأَراجيح فيه والأَلعاب، وينتشر بيع المعلَّل والمخلَّل، تنطلق السيارات متمهّلةً إلى منطقة المتحف، وهناك يرفع المعاون عقيرته، ويشير إلى جبل بعيدٍ، رابضٍ كالأسد الهَصُور، وعلى رأسه لبدة بيضاء من الثلج، وينادي علينا نحن الأَطفال الأَغرار: هذا هو جبل صِنّين! على أنّي منذ سنوات، وقد بتّ طاعناً، ولم أَعد ذاك الطفل الغرير الذي كنته ذات عهدٍ مضى وانقضى، وليته ظلّ متوقّفاً ولم تَدُرْ به عجلة السنوات. أُراني حريصاً كلّ شهر آب أن آوي إلى حناياه، أَستظلّ بصمته الذي يسربل كلّ شيءٍ، وأُكبُّ على العمل الكتابيّ بهمّة واندفاع. ومع أنّي في بيروت ليس من عادتي الخلود إلى نوم القيلولة، وليس في بَرْنامجي اليوميّ هذا الترف إثر تناول الغداء. فأنا ههنا في صِنّين يلذّ لي الراحة لساعة أو أَكثر، ثم أَنهض لمتابعة عملي عند بلكون الغرفة حيث وضعوا لي طاولة مناسبة، مربّعة الحجم، ومن الموبيليا، والطقس الجاف مِعوان لي، وذلك حتّى الساعة السابعة والنصف إلّا دقيقة، كما أَوردت في غير هذا الموضوع، عندما يُطلّ فيصل سلمان ببَرْنامجه «فكّر فيها»؛ وأَجلس إلى التلفاز لمتابعة الأَخبار والتعليقات والبرامج الفنّيّة، والغنائيّة منها بنوع خاصّ. فأَنا هاوٍ للغناء العربيّ يدخل إلى أَعماقي. عفواً صِنّين، لقد أَخذني الكلام فسهوتُ عنك، وأَنت على مدى العام حلمي القادم، وعندما تقرع أَجراس آب أَجدني على الطريق إلى أَحضانك، ويعرف صَحْبي أنّي وفيّ في جميع شؤونيَ، وأنّ آب قد احتجزه صِنّين منذ أَعوام. لا أَقول وداعاً، وإنّما إلى اللقاء. أَرِيڤدرشي صِنّين! قد يهتف أَحد الطلاينة.

العدد ١٦ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.