العودة إلى الجامعة
عدت إلى جامعتي في العام ١٩٧٠ بعد غياب طال أعواماً أربعة فوجدتها قد تغيّرت جذريّاً. يا لغرابة هذه التحوّلات العميقة التي تتمّ في بضع سنين! فالجوّ الطلّابيّ الذي كان سائداً في الستينيّات، أي طلّاب لا يكترثون بالسياسة ولا همَّ لهم سوى التّخرج والحصول على وظيفة تليق بهم في لبنان أو في خارجه، ولا يبغون سوى رضى الأساتذة والتلقّي منهم وكأنّهم أنبياء مرسلون، أصبحوا بعدما وصلت إليهم السياسة والأيديولوجيّات المختلفة في السبعينيّات في اضطراب شبه دائم وفي استنطاق شبه دائم لكلّ ما يمرّ أمامهم من آراء ومواقف وتلقين في الصفوف. وسرعان ما وصلت إليهم الحرب الأهليّة فازدادوا تشكيكاً وازدادوا مقدرةً على التمييز بين الحقيقة والمظاهر الخادعة، بين الواقع والمرتجى، بين الكلام والأفعال، الأمر الذي جعلهم من أكثر أجيال الطلبة التي علّمتها نُضجاً وإدراكاً وحنكةً، فكأنّ الحرب الدائرة حولهم قد أضافت سنوات عديدة إلى أعمارهم.
عدت إلى دائرة التاريخ فوجدت أنّه قد أُنيط بي تعليم مادّة تاريخ العرب في العصور القديمة والمتوسّطة وتاريخ أوروبّا الوسيط وتاريخ كتابة التاريخ. وكان الضغط شديداً ما بين تحضير المحاضرات والاهتمام بالأمور العائليّة. ولعلّ الجامعات العربيّة تنتبه لهذا الأمر، فلا تثقل كاهل الأساتذة الجدد من حمَلة الدكتوراة بحِمل ثقيل من التّعليم بل تعطيهم فرصةً لالتقاط الأنفاس والعمل على نشر أطروحاتهم في السّنوات الأولى من حياتهم الأكاديميّة، فهم في غالب الأحيان خارجون للتوّ من محنة عظمى هي محنة كتابة الأطروحة. لكنّ الإدارة في كلّ الجامعات العربيّة أضحت هي صاحبة الحلّ والعقد في كافّة الشؤون الجامعيّة فقد انكمش دور الأساتذة على مرّ الأيّام حتّى أصبح اليوم هامشيّاً تماماً. أصبحت الجامعات بالفعل أبراجاً عاجيّة بنتْها إدارات الجامعات فمنعت الاتصال المباشر بين الأساتذة ومجتمعاتهم، وبين البحث العلميّ في الجامعات وصلَته باحتياجات مجتمعه. ولا ريب في أنّ الأمر يروق الحكومات العربيّة فكم منها يا ترى يستعين في أمور الدولة بالخبرة العلميّة المكدّسة في جامعاتها؟ المعذرة عن هذا الاستطراد!
كان التعليم بالطبع باللغة الإنكليزيّة فكان من الضروريّ أن أختار لمادّة تاريخ العرب الوسيط كتاباً مقرّراً، فلم أجد في حينه أفضل من كتاب فيليب حتّي حول تاريخ العرب والصّادر عام ١٩٣٧ فكان عمره ثلاثة وثلاثين سنة عام ١٩٧٠. وجدتُه في البدء سهل القراءة، رصين الأحكام في الغالب. لكنّني سرعان ما اكتشفت فيه بعض العيوب التي ازدادت مع الزمن. كان في الواقع تاريخاً سياسيّاً عسكريّاً لا يلتفت بعمق إلى التاريخ الاجتماعي ولا يلتفت إطلاقاً إلى الاقتصاديّ، فكان من الضروريّ أن أقرّر معه عدّة مقالات في مجلّات علميّة لتغطية فجواته. كما أنّ أسلوبه الإنشائيّ الأدبي بدأ «يدقّ على عصبي»، كما يقال في الدارج اللبناني، فرحت أبحث عن بديل. لم يكن البديل في تلك الآونة متوفّراً بسهولة، فتاريخ الشعوب الإسلاميّة لبروكلمان كان بمثابة جبل صخريّ لا يصعد إليه سوى عتاة المتسلّقين. وكنت في شيكاغو قد مررت بسرعة على كتاب برنارد لويس «العرب في التاريخ» الصادر عام ١٩٥٠ فوجدت فيه في بادئ الأمر بديلاً لا بأس به عن كتاب حتّي. رأيت فيه في البداية أسلوباً سلساً ونظرات ثاقبة وتلخيصات مقْنعة للعصور المختلفة، لكن سرعان ما لمحت بين سطوره نظرة استعلائيّة عنصريّة خصوصاً التعميمات التي يطلقها حول الحضارة والفكر العربيّ الإسلاميّ. وتطوّر الأمر بلويس على مرّ السنين فظهرتْ إلى العيان صهيونيّته العمياء في كتبه اللاحقة، وكان من دواعي سروري أنّ كتبه العديدة أضحت منبوذة من جانب المؤرّخين الجدّيين في الغرب. فقد سدّد إليه إدوارد سعيد، رحمه الله، سهام نقده وترك منابره كأمس الدابر.
عدتُ في المقرّر إلى المقالات وإلى بعض النصوص التاريخيّة العربيّة المترجمة إلى الإنكليزيّة والتي كانت، ولا تزال، قليلة العدد جداً. وكان بودّي أن أجمع بعض هذه النّصوص وأترجمها إلى الإنكليزيّة في كتاب شامل إذ لا وجود لمثل هذا الكتاب في اللغات الأجنبيّة، على ما أعلم، لتعريف العالم على الفكر التاريخي العربي، الإسلامي منه والمسيحي. ولعلّني قد أفعل هذا الأمر حين أصل إلى التقاعد، هذا إذا وصلت إليه صحيحَ الجسد والعقل. ولعلّ الكتاب الأمثل في هذا المضمار والذي قد أحذو حذوه هو كتاب المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي بعنوان «الفكر التاريخي الإغريقي» الذي يضمّ نصوصاً تاريخيّة مختلفة تندرج تحت عناوين فرعيّة كمثل «مقدّمات» و«أسباب» و«حجج» و«نقد» و«مشاهدات» و«فن الكتابة» وما شابه.
كانت السبعينيّات والأعوام التي تلتها هي الأعوام التي بدأتُ فيها باقتناء الكتب من المكتبات المختلفة في بيروت ودمشق. وما زلت أذكر بشغف وشوقِ البعض منها، كمكتبة الهيئة المصريّة العامّة التي كانت في مستودع تحت الأرض في وطى المصيطبة حيث أمضيت الساعات الطوال، وكذلك في مكتبة رأس بيروت للصديقة فادية جحا التي نهشها لاحقاً غول البشاعة الإسمنتيّة كما نهش العديد العديد من مكتبات المدينة ومعالمها. وكانت الطبعات المصريّة ما زالت في ذلك الزمن تحافظ على مستوىً عالٍ من دقّة التحقيق والطبع رغم ركاكة تجليدها، فكان الكتاب سرعان ما يتفكّك ويلزمه تجليد فنّيّ. وتكوّنت لديّ على مرّ الأيّام مكتبة لا بأس بها قوامها حوالي ثلاثة آلاف كتاب بين عربي وإنكليزي في الغالب. وحدث أن أغلقت الجامعة أبوابها لفترات طويلة إبّان الحرب في لبنان، فذهبت إلى قسم تجليد الكتب في مكتبة الجامعة وتعلّمت أصول التجليد وأحضرت إلى منزلي بعض أدوات التجليد البسيطة، وأمضيت أوقاتاً ممتعة في تجليد الكتب التي كانت على وشك التفكّك والاندثار، تجليداً لا يمكن أن أسمّيه فنّيّاً. لكنّ هذه الكتب ما زالت صامدة ومتينة الخيط وتزيّن رفوف مكتبتي بغلافاتها المستلّة من ألبسة عتيقة. التجليد بالفعل هواية جميلة تليق بكلّ من يحبّ الكتب ويأسف لرؤيتها تحتضر.
بدايات النشر
وبدأت رحلتي مع النشر. فقد كانت الجامعة الأميركيّة، وما زالت، تلتزم مع الأساتذة بشعار مستورَد من أميركا هو شعار «النشر أو الموت»، فجعلتْ من النشر، وخصوصاً النشر في مجلات أجنبية، أهمَ مقياسٍ للتدرّج في مراتب الأستذة، فأضحى ذاك الشعار كالسيف المسلّط على رؤوسنا. لا جدال في أنّ البحث العلميّ ومواكبته أمر ضروريّ في التعليم، لكنّ المؤسف في الأمر أنّ الصفة الأساسيّة للأستاذ أي البراعة في التعليم وإيصال المادّة إلى ذهن التلميذ وإيقاظ عقله وفضوله لم يكن لها ذات الاعتبار في التدرّج والترقية. روى لي يوماً الصديق العزيز كمال الصليبي، رحمة الله عليه، القصّة التالية: «عندما نشرتُ مقالتي الأولى في مجلّة استشراقيّة فرنسيّة، وهي لائحة بأسماء كبار القضاة في العصر المملوكيّ، تملّكني زهو وفرح شديدان، فطفقت أبعث نسخاً من تلك المقالة إلى الأهل والأصدقاء، فإذا بصديقة تقول لي: «كلّ ما فعلت هو أنّك نقلت هذه المعلومات من مكان مغمور الذكر ووضعتها في مكان آخر مغمور الذكر»». هذا طبعاً حكم جائر إلى حدّ ما، لكنْ ألا يسري هذا الحكم على ما لا يُحصى من المقالات الأدبيّة والعلميّة التي توسم بالأكاديميّة؟ ومن جهة ثانية أليس عدد الأساتذة في أيّة جامعة كانت من ذوي البراعة والإبداع في التعليم قليلاً بل قليلاً جداً؟ ولو كان سقراط أو السيد المسيح أستاذين في الجامعة لكانت مرتبتهما في أدنى مراتب الأستذة، هذا إذا احتفظت الجامعة بهما أصلاً، فهما لم ينشرا شيئاً على الإطلاق: «حضرة الأستاذ سقراط، تحيّة وبعد، يؤسفني أن أنقل إليك أنّ إدارة الجامعة اتّخذت قرارها بالتخلّي عن خدماتك وذلك بسبب... مع أطيب التمنيات لمستقبلك العلمي».
من بين أولى مقالاتي المنشورة مقالة عن الجاحظ ونظريّته في تقدّم المعرفة والعلوم جعلت عنوانها «جناح بعوضة: آراء الجاحظ في تقدّم العلوم»، وقد مرّ ذكرها في المقال السابق. وأتبعتها بعد بضع سنوات بمقالة أخرى أوسع شمولاً بعنوان «فكرة التقدّم في الإسلام الكلاسيكي». لم أعد أذكر بالضبط مصدر هذا الاهتمام بفكرة التقدّم والتطوّر، فلعلّ السبب الدافع إليه هو ما كنت أجده في كتب بعض المستشرقين من أمثال لويس وفون غرونباوم وغيرهما من أحكام قاطعة تنفي وجود نظريّات تُعنى بالتقدّم في الفكر العربيّ وأنّ هذا الفكر هو في جوهره فكر محافظ يرى أنّ الإبداع قد انتهى إلى غير رجعة وأنّ الحكمة قد وجدت ضالّتها في القرآن وأنّ السلف قد فاقوا الخلف في كافّة أبواب الفكر. وكان الهدف من كلّ ذلك إيصال رسالة سياسيّة مفادها أنّ العرب والمسلمين لا يتقبّلون التنوير وهم غارقون في لجّة التخلّف والانحطاط والاستسلام للمصير. كانت هذه الأفكار وأمثالها كتلك التي تتكلّم عن شيء اسمه «العقل العربي» شائعة في كتابات مستشرقي تلك الأيّام، بل وتسلّل الكلام عن «العقل العربي» مع الأسف الشديد إلى كتابات بعض «المفكّرين» العرب المعاصرين. وهذه التعميمات السخيفة، وإنْ خبا بريقها الآن في العالم الغربيّ فهي ما زالت حيّة ومزدهرة في الاستشراق الإسرائيليّ الذي هو آخر معقل للاستشراق في عالم اليوم. لم أكن أنوي أن «أدافع» عن تاريخ الفكر العربي بل أن أستكشف آفاق هذه المسألة وتشعّباتها فحسب. ورحلة الاستكشاف هذه هي التي وجّهت كافّة أبحاثي اللاحقة مع اختلاف البوصلة والاسطرلاب المستخدَم في كلّ منها.
الاستعانة على الجاحظ بفوكو
رجعت إلى الجاحظ في مقالتي الأولى فقرأت كافّة كتبه ورسائله تقريباً مع التركيز على كتاب «الحيوان»، الذي هو كالجبل الشامخ في سلسلة أعمالنا الفكريّة، نعود إليه مرّة بعد أخرى فنكتشف فيه كلّ مرّة أموراً لم نلمحها من قبل. فهو ليس كتاباً عن الحيوان بقدر ما هو عن الإنسان والطبيعة على العموم. أمّا المعرفة عند الجاحظ فهي حصيلة التجارب التي يراكمها الإنسان ثمّ يمحّصها لاحقاً من خلال العقل. فالجاحظ يميّز بين العقل والتّجربة، إذ يقول إنّ العقل المولود متناهي الحدود بينما عقل التجارب لا يوقف منه على حدّ. ويوضح هذا القول كما يلي: «فينبغي أن يكون سبيلنا فيما بعدنا كسبيل مَن قبلنا فينا. على أنّنا قد وجدنا من العبرة أكثر ممّا وجدوا، كما أنّ مَن بعدنا يجد في العبرة أكثر ممّا وجدنا». وعلى الرّغم من أنّ مسيرة المعارف عند الجاحظ لها كبواتها إلّا أنّ تاريخها ومستقبلها يدلّان بوضوح على إيمان الجاحظ بالتقدّم الفكريّ المطّرد من جيل إلى جيل.
وكان لا بدّ لي من أن أتطرّق أيضاً إلى محيط الجاحظ الفكريّ وإلى «الخطاب» الفكريّ السائد في عصره، فقد كنت في تلك الآونة، وما زلت إلى اليوم، مشغوفاً بكتاب «أركيولوجيا المعرفة» لميشال فوكو والذي فهمت حوالي عشرة بالمئة منه فقط، لكنّ تلك النسبة الضئيلة كانت كافية لإحداث تأثير عميق في فهمي لتاريخ الفكر. ومن خلال سوء فهمي لأفكار فوكو رسخ في ذهني أحد أسئلته الرئيسية في ذاك الكتاب: «ما الذي جعل هذا النّصّ ممكناً؟»، فهو سؤال بريء في الظاهر لكنّه يفرض على المؤرّخ التنقيب المستمرّ عن علاقة النّصّ بالخطاب المحيط به في الطول والعرض والعمق، ممّا يجعل المؤرّخ أقرب إلى عالِم آثار ينقّب في طبقات مختلفة من أرضٍ ما، ولا يبحث فقط عمّا يجمع بل عمّا يفرّق بين طبقة وأخرى، بين خطاب وآخر. ووجدت في فكره أيضاً ما يجمعه مع ابن خلدون الذي يؤكّد باستمرار أنّ «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم»، أي الابتعاد عن البحث عن المصدر والمنشأ والأصل في تاريخ الفكر والالتفات إلى المعاصرة. هل فهمت فوكو على نحو صحيح؟ لا أظنّ ذلك، لكنّ سوء الفهم، كما أشرت أعلاه، قد يمتلك من الفائدة ما يمتلكه حسن الفهم في الكثير من الأحيان.
وكانت لي عودة إلى موضوع التقدّم في مقالةٍ أخرى جاء ذكرها في المقال السابق، أي «فكرة التقدّم في الإسلام الكلاسيكيّ». كان حقل البحث هنا أوسع بكثير ممّا في مقالة الجاحظ. وأنا حينما يقع نظري اليوم على المصادر العربيّة والأجنبيّة الّتي رجعت إليها في ذلك البحث ينتابني مسٌّ من غرور، فهل قرأت واستوعبتُ بالفعل هذا الكمّ الكبير من الكتب ذات الصّلة بموضوعي؟ على كلّ حال، التقدّم كما عرّفته في تلك المقالة هو التقدّم الفكريّ: هل تقدّمت العلوم والمعارف من الماضي إلى الحاضر وهل ستتقدّم في المستقبل؟ وسرعان ما تكشّفت لي سطحيّة بعض آراء المستشرقين حول هذا الموضوع إذ وجدْت أنّ الإيمان بالتقدّم كان أمراً شائعاً عند العديد من الأدباء والمفكّرين وعلماء الطبيعيّات. ووضعت لهذه الفكرة إطاراً زمنيّاً من ثلاث مراحل: مرحلة «تشاؤم» ومرحلة «تفاؤل» ومرحلة مختلطة بين الأمرين. ورغم الغموض الّذي يلفّ ألفاظاً كالتّشاؤم والتّفاؤل، ورغم التعسّف في التقسيم إلى مراحل زمنيّة، كان هدفي هو لفت النّظر إلى مشكلة فكريّة شيّقة وجديرة باهتمام الباحثين بانتظار من يأتي فيما بعد لاستكمالها.
ابن المقفّع، الغزالي، الفارابي
ما هي أهمّ المصادر التي عدت إليها في ذاك البحث وما زلت أعود إليها بين الحين والآخر؟
هناك أوّلاً ابن المقفّع (ت.٧٥٠م.) وأدباه الكبير والصغير. هذا الأديب أرستقراطيّ النّزعة الذي ينتمي إلى العالم الهلينستيّ، أي الإغريقي/الآسيوي، بقدر ما ينتمي إلى العالم العربيّ الإسلاميّ، والذي يمجّد الحضارات القديمة ويجعلها خاتمة المعارف والعلوم فيقول «وجدنا النّاس قبلنا كانوا أعظم أجساماً وأوفر مع أجسامهم أحلاماً وأشدّ قوّة وأحسن بقوّتهم للأمور إتقاناً... فكان صاحب الدّين أبلغ في أمر الدين علماً وعملاً من صاحب الدّين منّا وكان صاحب الدّنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل... فمنتهى عِلم عالِمنا في هذا الزّمان أن يأخذ من علمهم وغايةُ إحسان محْسننا أن يقتدى بسيرتهم... فلم يبق في جليل الأمر ولا صغيره لقائل بعدهم مقال. وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها موضع لصغار الفِطَن. من ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا». هذا النّصّ مثال على ما قد نسمّيه «التشاؤم» في النظرة إلى تقدّم المعرفة بل حتّى إلى التقدّم الخَلْقي والخُلُقي. وقد شاع هذا الرّأي فاعتنقه البعض كلّياً أو جزئيّاً وخالفه الكثيرون. وقد نصنّف هؤلاء كالآتي: فالمعتنقون هم أصحاب الحديث والعديد من الفلاسفة، أمّا المخالفون فهم الأدباء وعلماء الطبيعة وبعض المتكلّمين.
ما ألذّ أن يعود المرء مراراً إلى هؤلاء وهؤلاء من الأعلام ويستذكر بعض مؤلّفاتهم وأفكارهم ويسأل ما تبقّى لنا منها في يومنا هذا. فلنتأمّل بعض تلك الكتب ونصوصها في هذا الحقل. هناك مثلاً الإمام الغزالي (ت.١١١١م.) وكتاب «القسطاس المستقيم» الذي يقول فيه:
«فإنّ جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح ولكن موجودة فيه بالقوّة لما فيه من الموازين القسط التي بها تُفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها». ليت مَن يكتب اليوم ويقول لنا إن أينشتاين موجود في القرآن وداروين في القرآن والقنبلة الذريّة في القرآن والمعادلات الرياضيّة المذهلة في القرآن وإلى ما هنالك من تفاهات، ليتهم يتأمّلون هذا النّصّ الذي يرى في القرآن مفتاح المعرفة وبدايتها وليس نهايتها، وأنّ النّظريّات العلميّة أمور تتغيّر باستمرار فالحكمة لا نهاية لها. وهناك عبد الله بن المعتزّ (٩٠٩م.) الشاعر الفذّ وكتاب «البديع» الذي يصرّح فيه بأنّه لم يسبقه أحد إلى جمع فنون البديع وأنّ الأصالة والبراعة الشعريّة لا تقتصر على القدماء بل تشمل المحدَثين.
وهناك ابن فارس (ت.١٠٠٤م.) في كتاب «الصاحبي في فقه اللغة»، هذا الكتاب الذي يُعتبر فتحاً في علم الألسنيّات إذ يقول: «ولكلّ زمان علم وأشرف العلوم علم زماننا هذا والحمد لله... ومن الذي قصَرَ الآداب على زمان معلوم ووقفَها على وقت محدود؟ ولمَه لا ينظر الآخر مثل ما نظر الأوّل؟ ولو اقتصر النّاس على كتب القدماء لضاع علمٌ كثير ولمجّت الأسماع كلّ مردّد مكرّر». ثمّ هناك أبو بكر الصّولي (ت.٩٤٦م.) وكتابه «أخبار أبي تمّام» الذي هو من أوائل الدّراسات الأدبيّة النقديّة والتفصيليّة المعقودة لشاعر بمفرده يقول فيه: «اعلمْ أعزّك الله أنّ ألفاظ المحدثين من عهد بشّار إلى وقتنا هذا كالمتنقّلة إلى معانٍ أبدع وألفاظ أقرب وكلام أرقّ... وقلّما أخذ أحد منهم معنىً من متقدّم إلّا أجاده وقد وجدنا في شعر هؤلاء معاني لم يتكلّم القدماء بها». وهذا ابن عبد البرّ الأندلسي (ت.١٠٧٠م.) صاحب كتاب «جامع بيان العلم وفضله» وهو من أوسع ما كتب عن العلم في تراثنا يقول: «ولا كلمة أضرَّ بالعلم وبالعلماء والمتعلّمين من قول القائل: ما ترك الأوّل للآخر شيئاً» فهو كأنّه يرفض بالمطلق ما أتى به ابن المقفّع أعلاه. وهذا ابن عبد ربّه (ت.٩٤٠م.) في «العقد الفريد» يقول: «ثمّ إنّي رأيت آخر كلّ طبقة وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كلّ أدب أعذب ألفاظاً وأسهل بنيةً وأحكم مذهباً وأوضح طريقة من الأوَل».
هذه النّبرة التفاؤليّة نجدها شائعة عند الأدباء كما نجدها أيضاً عند العديد من علماء الطبيعة كالبيروني العظيم وسنان بن ثابت عالم الرياضيّات وغيرهم. أمّا أهل المنزلة بين المنزلتين، أي التفاؤل والتشاؤم، فيحضرني منهم العدد الوافر من الفلاسفة من مدرسة أرسطو. ولعلّ أهمّ ما كُتب في هذا الموضوع هو «كتاب الحروف» للفارابي (ت.٩٥٠م.)، إذ نجد فيه تاريخاً لمسار العلوم لا نجده عند الإغريق ولا عند أيّ من الأمم السابقة على ما أعلم. إنّه تاريخ قد نصفه بالدائري، فالعلوم عنده تبدأ بالخطبة والفصاحة وعلم اللغة ثمّ تنتقل إلى الشعر والتاريخ ثمّ إلى علوم الطبيعة والرياضيّات ثمّ إلى الجدل والسفسطائيّة ثمّ إلى الفلسفة التي تشبه الأفلاطونيّة إلى أن «يستقرّ الأمر على ما كانت عليه الفلسفة أيّام أرسطو فيتناهى النظر».
هذا هو مسار العلوم لدى كافّة أمم الأرض. وقد يتغيّر هذا المسار قليلاً إذا دخل الدين في ذلك المسار فينشأ الفقه أوّلاً ثمّ علم الكلام، لكنّ هذه العلوم تبقى سابقة للفلسفة أو على الأقلّ تابعة للفلسفة نظريّاً. لا مجال هنا لتفصيل آراء الفارابي فهي أكثر تعقيداً ممّا أوردته هنا، لكنّ دورة العلوم هذه من أعمق ما كتب في هذا الموضوع. ولا ينبغي أن أنتقل من الفارابي إلى غيره دون أن أصرّح بإعجابي الشّديد بنثره الأدبيّ الخالي تماماً من أيّة محسّنات لفظيّة وأيّ ترداد أو سجع وأيّ تنميق في الكلام، فكلّ كلمة من كلامه منتقاة بدقّة متناهية، وأسلوبه بالنسبة لي هو المثال الأعلى للنّثر العربيّ العلمي.
ابن سينا وابن رشد
ونبقى مع الفلاسفة فنصل إلى ابن سينا (ت.١٠٣٧م.) وابن رشد (ت.١١٩٨م.). لست على اطلاع وافٍ بمؤلّفات ابن سينا، واحترامي لصَرحِه الفكريّ الشاسع يبقى احتراماً عن بُعد فقد قرأت شذرات متفرّقة من كتبه لم تكن كافية لخلق رابط «عاطفي» معه. وحول موضوع التقدّم نجد عند ابن سينا استقلاليّة منعشة ومنشّطة للفكر في تناول فلسفة أرسطو إذ يقول ما يلي في كتاب «منطق المشرقيّين»: «ولا نبالي من مفارقة تظهر منّا لما ألِفَه متعلّمو كتب اليونانيّين إلفاً عن غفلة وقلّة فهم مع اعتراف منّا بفضل أفضل سلفهم (أرسطو) في إدراكه الحقّ في كثير من الأشياء... ويحقّ على من بعده أن يلمّوا شعثه ويرموا ثلماً يجدونه فيما بناه ويفرّعوا أصولاً أعطاها». ثمّ ينتقد بعنف الذين يدافعون عن نظريّات أرسطو وكأنّها غير قابلة للتّنقيح والإصلاح.
ولا بدّ قبل مغادرته أن أقرّ بجمال ما كتبه أو أملاه حول سيرته العلميّة فهي سيرة ذاتيّة نادرة في الأدب العربيّ. أمّا ابن رشد في رسالته ذائعة الصّيت «فصل المقال» فُيقرّ للمتقدّمين بإرساء قواعد العلوم لكنّه يرى أنّ «الغرض إنّما يتمّ لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحداً بعد واحد وأن يستعين في ذلك المتأخّرُ بالمتقدّم… فإنّه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسانٌ واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماويّة وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك». وتبقى رسالة «فصل المقال» أهمّ دفاع عن الفلسفة في تراثنا الفكريّ.
أمّا الفيلسوف الآخر الذي وجدته «قريباً للقلب»، كما يُقال في العامّيّة، فهو أبو سليمان المنطقي (ت.٩٩٠م.) وهو شيخ أبي حيّان التَّوحيدي (ت.١٠٢٣م.) الذي كرّس لكلام شيخه كتاب «المقابسات». وهو كتاب فاتن يصول ويجول فيه أبو سليمان كلّما أتاه سؤال من التّوحيدي عن موضوع ما، ويا ليته سأله عن سيرته الفكريّة بل الأسئلة كانت كلّها أدبيّة وعلميّة وفلسفيّة بحتة. وعن تقدّم العلوم كان الرأي الذي ارتضاه أبو سليمان «أنّ العلوم تقوى في بعض الدهر فيكثر البحث فتغلب الإصابة حتى يزول الخطأ وقد تضعف في بعض الدهر فيكثر الخطأ ويُحرّم البحث عنها ويكون الدّين حاظراً لطلبها، وقد يعتدل الأمر في دهر آخر حتّى يكون الخطأ في وزن الصواب». وفي هذا الدّوَران على ما أعتقد صدىً لآراء الفارابي أعلاه.
يبدو لي إذاً أنّ الفلاسفة كانوا في الغالب يرون أنّ مبادئ الفلسفة ومقدّماتها وأصولها قد رسخت وأنّ المطلوب في زمانهم هو تفريع هذه الأصول والنظر في الجزئيّات ليس إلّا. أمّا علماء الكلام فحامل رايتهم في رأيي هو القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت.١٠٢٤م.) وكتابه متعدّد الأجزاء «المغني في أبواب التوحيد والعدل» الذي يحتلّ في علم الكلام الإسلاميّ المرتبة التي يحتلّها توما الأكويني في اللاهوت المسيحيّ. وهو كتاب سقراطيّ الأسلوب أي إنّه مبنيّ على الجدَل المستمرّ مع الخصم، فإذا قال كذا قيل له كذا. ما زلت أعود إليه كلّما أريد أن أشحذ الذّهن المتصدّئ أو أن أحمل نفسي بالقوّة على فهم حججه ومنطقه، وخصوصاً الجزء الثاني عشر المعقود لـ«النظر والمعارف»، كما شغفت بكتابه الآخر بعنوان «تثبيت دلائل النّبوّة» الذي يدافع فيه عن النّبوءات ضدّ هجوم أبي بكر الرازي وغيره. لا يجد القاضي أيّ مانع من الإقرار بتقدّم العلوم التي يرى أنّها «تكثر بكثرة النظر في الأدلّة» فإذا كثر النظر كثر العلم، أمّا الآية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم) فهي تعني أنّ الشارع قد أكمل الشرائع لا الأمور العقليّة «بدلالة أنّها ممّا يجب أن يُعرف قبل الكتاب»، وهو بالطبع رأي معتزليّ بحت. وهنا لا بدّ من الإقرار أنّ تاريخ علم الكلام بأسره في الحضارة العربيّة الإسلاميّة ما هو إلّا بمثابة الهوامش للفكر المعتزلي.
مقالات متنوّعة
تنوّعت اهتماماتي كثيراً رغم أنّها كانت في الغالب تندرج تحت تاريخ الفكر. غادرتُ فكرة التقدّم إلى غير رجعة وانتقلتُ منها في ذلك الزمن في اتّجاهين مختلفين في آن معاً. فقد عقدنا في الجامعة الأميركيّة مؤتمراً دوليّاً حول «الحياة الفكريّة في المشرق العربي: ١٨٩٠ ١٩٣٩» صدر بهذا العنوان عام ١٩٨١ وبتحرير الصديق العزيز مروان البحيري، رحمة الله عليه، وتُرجم لاحقاً إلى العربيّة. وساهمتُ في ذاك الكتاب بمقالة عن مجلة «العرفان» لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين، وكانت هذه المقالة أولى التفاتاتي القليلة إلى الفكر العربيّ الحديث. وجدت في تلك المجلّة كنزاً من المعرفة حول النهضة الفكريّة في جبل عامل في الثلث الأوّل من القرن العشرين: من التاريخ والأدب، من النثر والشعر، فكأنّها مرآة فكريّة لإقليمٍ بأسره ولمشاكله وهمومه واهتماماته الثقافيّة وعقيدته القوميّة. نعم، إنّ المجلّات الأخرى في تلك الحقبة كـ«الرسالة» مثلاً أو «الثقافة» أو «المقتطف»، وهي مصرية، كانت تغطّي مساحة أوسع من الوطن العربيّ ومن العالم، لكنّ «العرفان» استعاضت عن العرض بالعمق رغم أنّها كانت تنشر أخباراً عن العراق وإيران بين الحين والآخر. كان الجبل العامليّ هو المحور وكتّابها عامليّون في الغالب يعكسون تذمّراً واسعاً من سيطرة الإقطاع وتشبّثاً بقوميّتهم العربيّة ورفضهم للانتداب الإفرنسي ومواهبهم الشعريّة. وإذا أردنا لتاريخنا العربيّ أن يُكتب بالصِغْرى وليس فقط بالكِبرْى فلن نجد macro/micro على امتداد البلاد العربيّة على ما أعتقد ما يضاهي هذه المجلّة في غناها التاريخي.
في العام ١٩٨١ صدر عن الجامعة الأميركيّة كتاب تكريميّ للدكتور إحسان عباس، رحمه الله، ساهمتُ فيه بمقالة بعنوان «فكرة المدينة في صدر الإسلام». ولعلّ الباعث على اهتمامي بهذا الموضوع كان أيضاً بعض آراء المستشرقين الذين نفوا عن المدينة العربيّة الإسلاميّة صفة المدينة الحقيقيّة أو الطبيعيّة إذ كانت في رأيهم مجرّد تجمّع عشوائيّ للسّكن ولا تمتلك الوحدة والاستقلاليّة اللازمة للمدن. من الواضح أنّ هذا الرأي كانت له خلفيّة سياسيّة شبيهة بما جاء في المقال السابق عن فكرة التقدّم أي أنّ المدن العربيّة «شوّهت» ما سبقها من مدن تماماً كما شوّهت الحضارة العربيّة الإسلاميّة ما سبقها من حضارات (كما جاء في كتاب «الهاجريّة» لبتريس يا كرونه ومايكل كوك مثلاً). وكان أحد أهمّ حاملي فكرة المدينة العربيّة العشوائيّة هو المستشرق سموئيل ستيرن الذي كان يمتّ بصلة القرابة لأفراهام ستيرن، مؤسّس عصابة ستيرن اليهوديّة الإرهابيّة في فلسطين. وكان غيره من المستشرقين كمثل زافييه دو بلانول، يرى أيضاً أنّ التراث العربيّ الإسلاميّ لا يمتلك فكرة واضحة عن ماهيّة المدن. ولا ريب في أنّ هؤلاء المستشرقين كانوا يرون أنّ المدينة الأوروبيّة في القرون الوسطى والحديثة هي المثال والمقياس الذي يُقاس عليه مدى اقتراب أو ابتعاد مدينةً ما عن المدينة الحقيقية أو الطبيعيّة. وقد عفا الزمن بالتدريج عن هذه النظرة الأوروبيّة المركز في كتابات معظم المستشرقين وإن لم تزل تتردّد بين الحين والآخر في الخطاب الغربيّ السياسيّ. وفي اعتقادي أنّ علماء الأنثروبولوجيا هم أكثر من ساهم في تصويب تلك النّظرة الضيّقة عند المستشرقين.
الجغرافية بعجائب وبدون
فتح هذا البحث أمامي باباً واسعاً من الكتب الجغرافيّة والأدبيّة التي أصبحت لاحقاً من «ندمائي» أعود إليها بفرح واشتياق. وسرعان ما تبيّن لي وجود طيف واسع جداً من الآراء حول المدينة في تراثنا الديني والأدبي لا مجال هنا لذكرها سوى القول إنها تتراوح بين فكرة المدينة في المطلق وبِنية المدينة في الواقع، ولعلّها بمجملها من أكثر الآراء غنىً حول المدينة من بين حضارات عالم ما قبل الحداثة. وكأنّي ببعض المستشرقين يدرسون العربيّة على امتداد السنين ثمّ يكتفون ببعض النصوص التي ألمّوا بها زمن الدراسة فيطلقون على أساسها أحكاماً وتعميمات فضفاضة لا تستند إلى استعراض وافٍ للمصادر. كنت يوماً مدعوّاً إلى الغداء من جانب مستشرق معروف في إحدى أهمّ جامعات بريطانيا فسألني ماذا أقرأ هذه الأيّام، فأجبته بأنّني انتهيت للتوّ من قراءة تاريخ ابن خلدون (بمجلّداته العشر) فانتفض مذعوراً ونادى أحد زملائه قائلاً: «تعال واسمع ما يقول ضيفنا. لقد قرأ تاريخ ابن خلدون بكامله!» استغربت ردّة فعله في البدء، لكنّني استنتجت لاحقاً أنّ الأمر بالنسبة إليه إنجاز قد يستغرق الأشهر بل لربما السنوات، أمّا بالنسبة إلى مثقّف عربيّ عاديّ، فقراءة تاريخ ابن خلدون أمر لا يستغرق سوى أسبوع أو أسبوعين على أبعد تقدير.
وكان المسعودي، بسبب اهتماماته الجغرافيّة العميقة، قد سبق أن عرّفني على العديد من الجغرافيّين العرب قبل زمانه وبعده. لكنّ أبرزهم في نظري اليوم وأكثرهم لذّة للقارئ ثلاثة: المقدسي البشاري (ت.١٠٠٠م.) والشريف الإدريسي (ت.١١٦٥م.) وياقوت الحموي (ت.١٢٢٩م.). حين نقرأ كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للمقدسي نحسبه معاصراً لنا، إذ كثيراً ما يكشف خبايا نفسه وآراءه الشخصيّة في كافّة مشاهداته وأسفاره، وذلك بأسلوب مَرِح يقترب في بعض الأحيان من الاستهزاء بالنفس. يقول لنا مثلاً في مقدّمة كتابه إنّه وبسبب أسفاره في كافّة أرجاء الممالك الإسلاميّة قد اكتسب أسماء عديدة «دُعيتُ وخوطِبتُ بها مثل مقدسي وفلسطيني (ينبغي أن نضع سطراً تحت هذه الهويّة) ومصري ومغربي ومُقرئ وفقيه وصوفيّ... وإمام ومؤذّن وخطيب... وراكب ورسول وغريب وعابد وزاهد وورّاق ومجلّد وتاجر»، ومجموعها ستة وثلاثون اسماً تبدو وكأنّها جولة في هويّات العصر العباسيّ أو سلسلة من الهويّات المضحكة التي لبسها أو التي لزمتْه فكأنّه أبو الفتح الإسكندريّ في مقامات بديع الزمان الهمذاني. والمعلومات التي يسوقها للأقاليم المختلفة مزيج من الدقّة الإحصائيّة ومن النفحة الأدبيّة التي ترمي إلى تصوير طبيعة المدن والأرياف بصورٍ تنبض بالحياة، كما مثلاً في وصفه لمسقط رأسه بيت المقدس ولمدن فلسطين الكبرى. كما تتخلّل أوصافه الكثير من الأحاديث التي جرت بينه وبين الناس في مختلف الأقاليم التي زارها فتضفي على نصّه مسحة شخصيّة وإنسانيّة حيّة فكأنّه يريد لقارئه أن يصحبه في أسفاره ويسمع ما سمعه ويشاهد ما شاهده. والمقدسيّ يهتمّ كثيراً بتعريفات المدينة كما وبتعريف ما نسمّيه اليوم «العاصمة»، وعلاقة المدينة بالريف وغير ذلك، سعياً إلى الوصول لتعريف مجرّد ونظريّ الطابع لكلّ هذه الألفاظ الجغرافيّة.
أمّا الشريف الإدريسي وكتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، والذي يُعرف أيضاً بـ«كتاب روجار» نسبة إلى روجار الثاني ملك صقلية، فقد كان عالماً مكرّماً في بلاط روجار وأهدى إليه هذا الكتاب وأسبغ عليه جزيل الثناء. كان روجار ملكاً متنوّراً يحترم الحضارة العربيّة الإسلاميّة احتراماً عميقاً، واستقطبت صقلية في عهده العديد من العلماء والشعراء والمعماريّين المسلمين. كنت في رحلة إلى صقلية في العام ٢٠٠٠، فزرت كاتدرائيّة باليرمو الكبرى التي بدأ البناء بها أيّام روجار، فإذا بي أجد لوحة حجريّة على أحد أعمدة بوّابتها نُقشت عليها سورة الفاتحة، فوجدت في الأمر مثالاً رائعاً للتعايش بين الأديان، فيا ليتها تُتّخذ صورةً رمزيّة لحوار الأديان في يومنا الرّاهن. أعود إلى الإدريسي. لا جدال في أنّ كتابه صرحٌ جغرافيّ عظيم الأهمّيّة بل لعلّه أهمّ كتاب في جغرافيا العالم في العصور الوسطى بأسرها. فالمقدسي مثلاً، ورغم أهمّيّته، يقتصر في كتابه على ممالك الإسلام، أمّا الإدريسي فيجول في أقاليم الأرض السبعة ويصف كلّاً منها وصفاً مفصّلاً ودقيقاً يستند إمّا إلى المشاهدة والمعاينة الشخصيّة أو إلى معلومات موثوقة مستمدّة من التجّار وأهل الأسفار وغيرهم. أمّا العجائب فلا يخلو أيّ كتاب في الجغرافيا منها، فهي تدلّ على مقدرة الخالق على خلق ما يشاء وغايتها إثارة الإعجاب والاستعبار لدى القارئ من تلك القدرة الإلهيّة، ولربّما كان للتسلية الأدبيّة أيضاً دور في هذا الأمر. لكنّ الإدريسي صارم في انتقاء موادّه وليس للعجائب دور يُذكر في كتابه. فهو ينتقل كالمسافر من بلد إلى آخر في كلّ إقليم، ويحدّد المسافات بينها ويصف طبيعة كلّ مدينة وإقليم «مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيّهم وملابسهم ولغاتهم» ويأتي كذلك على ذكر الثروة المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة في كلّ منها والصناعات والتجارات التي تُجلب منها. هذا الغِنى العظيم في المعلومات جذب اهتمام العديد من الباحثين من الشرق والغرب الذين نشروا الكثير من الأبحاث حولها بدءاً بما يرويه الإدريسي عن اسكتلندا ومروراً بما يرويه عن بولونيا وبريطانيا ثمّ فنلندا وألمانيا وبلغاريا وإيطاليا والأندلس وصولاً إلى ما يرويه عن الهند، فضلاً عن معلوماته القيّمة جدّاً عن ممالك أفريقيا وعن جزر الملايو التي لم تحظ حتّى اليوم بما تستحقّه من الاهتمام العلميّ على ما أعتقد.
المعاجم
ونأتي إلى ياقوت الحموي و«معجم البلدان». كان عصر ياقوت عصراً بدأت تظهر فيه المعاجم في مختلف الحقول، ولعلّ أكثرها شهرة هي معاجم اللغة والتي كان «لسان العرب» لابن منظور (ت.١٢٣٢م.) كالدّرّة في تاجها. ولربّما كان السّبب من وراء ظهور هذه المعاجم أنّ العلوم العربيّة الإسلاميّة في ذلك العصر، أعني القرنين السادس والسابع للهجرة (الثاني والثالث عشر م.)، كانت قد وصلت إلى إحدى ذُراها التاريخيّة فأصبحت الحاجة ماسّة إلى الاستعادة وشمول النظر والترتيب والتصنيف والتصحيح. وهكذا نجد أنّ ياقوت في مقدّمة معجمه الشهير يذكر أصنافاً متعدّدة من العلماء الذين يرى أنّهم بحاجة إلى ضبط أسماء الأماكن والبقاع، فمنهم أصحاب الحديث والسِّيَر والفقه والتواريخ والحكمة والطبّ والتنجيم والأدب واللغة والشّعر وإلى ما هنالك من أصناف العلوم. ويفصّل في كلّ علم منها ما هي تلك الحاجة ثمّ يرتّب الأماكن استناداً إلى حروف المعجم لتسهيل الفائدة والاستخدام. ثمّ يردف ذلك بسرد طويل وهامّ لما وصل إليه علم الجغرافيا في زمنه يتضمّن آخر النّظريّات في هذا الحقل كالّتي طرحها البيروني على الأخصّ وحمزة الأصفهاني وغيرهم مع استعراض مطوّل لآراء الفرس والإغريق. ويأتي في خاتمة المقدّمة ليحدّد معاني بعض المصطلحات المستخدمة في هذا العلم منعاً لسوء الفهم.
وحين نصل إلى المعجم ذاته نجد أنّ كلّ مكان أو مدينة تحتوي على ذات النّسق من المعلومات التي هي أوّلاً ضبط اللفظ ثمّ اشتقاق الاسم و«بماذا اختصّ من الخصائص وما ذكر فيه من العجائب وبعض من دُفن فيه من الأعيان والصالحين، ونُبذاً ممّا قيل فيه من الأشعار... وفي أيّ زمان فتحه المسلمون... وهل فُتح صلحاً أم عنوةً... ومّن ملكه في أيّامنا هذه». لكنّ الأمر لا يقتصر على المعلومات المبوّبة فحسب، بل نجد في طيّات الكتاب العدد الوافر من التأمّلات الجغرافيّة والتاريخيّة الّتي تشي بعقل نيّرٍ يمعن في التفكير في مادّته. فها هو ينظر في قصّة الإسكندر تحت باب «الإسكندريّة» في المعجم ليقول: «قال أهل السّيَر إنّ الإسكندر ابن فيلفوس الروميّ قتل كثيراً من الملوك... ووطئ البلدان إلى أقصى الصّين وبنى السّدّ وفعل الأفاعيل ومات وعمره اثنتان وثلاثون سنة... لم يسترح في شيء منها. قال مؤلّف الكتاب: وهذا إن صحّ فهو عجيبٌ مفارقٌ للعادات والذي أظنّه... أنّ مدّة ملكه أو حدّة سعده هذا المقدار... فإنّ تطواف الأرض بسير الجنود مع ثقل حركتها... ومصابرة من يمتنع عليه من أصحاب الحصون يفتقر إلى زمان غير زمان السير، ومن المحال أن تكون له همّة يقاوم بها الملوك العظام وعمره دون عشرين سنة، وإلى أن يتّسق ملكه ويجتمع له الجند... وتحصل له رياسة وتجربة وعقل يقبل الحكمة التي تُحكى عنه يفتقر إلى مدّة أخرى مديدة، ففي أيّ زمان كان سيره في البلاد، ثمّ إحداثه ما أحدث من المدن»؟
يستطرد ياقوت ليقول إنّ التَّتَر في زمانه استطاعوا في سنين قليلة أن يخرجوا من تخوم الصين ويدوّخوا العالم ويخربوا نصف الممالك الإسلاميّة، وهذه الحادثة قد تبدو وكأنّها تعاضد قصّة الإسكندر إلّا أنّ الإسكندر كان يبني المدن فيما التّتَر كانوا يخرّبونها، والبناء يستغرق من الوقت أكثر من الخراب. ومثل هذه التأمّلات والشكوك كثيرة في المعجم خصوصاً عندما تتناول القصص التي يعتبرها ياقوت خارقة للعادة أو المنطق. فهو لا يُحجم عن التهكّم على مؤلّف عظيم الشأن كالخطيب البغدادي (ت.١٠٧١م.) وكتابه «تاريخ بغداد»، إذ يذكر فيه البغداديّ أنّ الخليفة العبّاسي المنصور بنى قبّةً خضراء وعلى رأسها صنمٌ على صورة فارس في يده رمح، فإذا وجدوا أنّ الصّنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ الرّمح نحوها علموا أنّ بعض الخوارج قد ظهروا من تلك النّاحية، ولا يطول الوقت حتى ترِدُ الأخبار بأنّ خارجيّاً قد هجم من تلك النّاحية. كذا في البغدادي. ويعلّق ياقوت كالآتي: «قلت أنا: هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنّما يُحكى مثل هذا عن سَحَرة مصر... الّتي أوهَمَ الأغمار صحّتَها تطاولُ الأزمان والتّخيّل أنّ المتقدّمين ما كانوا بني آدم... ولو كان كلّما توجّهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب ألّا يزال خارجّي يخرج في كلّ وقت لأنّها لا بدّ أنْ تتوجّه إلى وجهٍ من الوجوه». وخلاصة الأمر أنّ هؤلاء الجغرافيّين لم يهتمّوا فقط بالتعريف عن المدن المختلفة في العالم الإسلاميّ بل كان لهم اهتمام عميق بفكرة المدينة وعلاقتها بالرّيف وأنظمة المدينة وتطوّر الحياة فيها، وهو موضوعٌ وصَل إلى ذروته عند ابن خلدون.
وكان من بين أولى مقالاتي المنشورة مقالة حول كتب الطّبقات والتي كانت في الأصل بحثاً قدّمتُه في حلقة دراسيّة أيّام الدكتوراة فرجعت إليه لاحقاً فنقّحته وزدْت فيه حتى أضحى صالحاً للنّشر. وأنا حين أعود إلى بعض تلك المقالات التي نُشرت قبل أربعين عاماً ونيّف، أسترجع ما قاله لي أحد أساتذتي في جامعة شيكاغو وهو الحذر من مغبّة النّشر المبكّر، أي ما يسمّيه الجاحظ «الرأي الفطير». فهل أنا حقّاً راضٍ اليوم عن ما نشرته من مقالات في ذاك الزّمن السّحيق؟ لكنّني غالباً ما أجد السلوى في بيت المتنبّي الشهير: «خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصّبا / لفارقت شيبي موجع القلب باكيا». ذلك كان مبلغي من العلم يومئذٍ، فلا فائدة تُرجى للشّخص الألوف من التحسّر ومن مفارقة الشيب، غير أنّني دائماً ما أحذّر تلامذتي اليوم من «الرّأي الفطير». وفيما يختصّ بكتب الطبقات لا بد من الإقرار أنّها من أجلّ ما خلّفتْه لنا حضارتنا العربيّة فهي بمجملها تؤرّخ لعشرات الألوف، بل لربّما لمئات الألوف من النّاس من الخاصّة والعامّة، ومن الرّجال والنّساء، لتمنح هذه الحضارة بُعداً إنسانيّاً لا مثيل له في الحضارات الأخرى. فهذا الكمّ الهائل من السِّيَر الفرديّة يشبه صالةً للعرض شاسعة الأرجاء تُعرض فيها صورٌ نابضة بالحياة، وكأنّها سينمائيّة، للمسلمين والمسلمات (وللمسيحيّين أيضاً، خصوصاً في طبقات الحكماء) وحيواتهم في شتّى الأزمنة والأماكن وشتّى مناحي الحياة.
وكتب الطّبقات تنقسم إلى أقسام عدّة فمنها مثلاً ما يؤرّخ لفئات معيّنة كجيل الصّحابة والتّابعين كما في طبقات ابن سعد (ت.٨٤٥م.)، وطبقاته هي بمثابة الأُمّ لكُتب الطبقات اللاحقة. ومنها ما يؤرّخ للأعيان في كافّة الحقول كما في «وفيّات الأعيان» لابن خلّكان (ت.١٢٨٢م.) و«الوافي بالوفيّات» للصّفدي (ت.١٣٦٣م.). ومنها ما يختصّ بالأطبّاء كمثل «عيون الأنباء» لابن أبي أُصيبعة (ت.١٢٧٠م.) ثمّ ما يختصّ بالحكماء، أي الفلاسفة وعلماء الطّبيعة، كمثل «أخبار العلماء» للقفطي (ت.١٢٤٨م.)، ومنها ما يختصّ بالمدن مثل «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، و«تاريخ دمشق» لابن عساكر (ت.١١٧٥م.) ومنها تلك الّتي تؤرّخ لقرن واحد من الزّمن مثل «الدرر الكامنة» لابن حجْر العسْقلاني (ت.١٤٤٩م.) ومنها ما فيه بعض الغرابة كمثل «نكت الهميان» و«الشعور بالعور» للصّفدي المخصّصين للعميان والعور على التّوالي. وفي هذه الكتب من المعلومات الاجتماعيّة ما يقتضي دراستها بواسطة الحاسوب لاستخلاصها وفرزها. كما أنّ فيها الكثير ممّا يفيد الباحث العصريّ الّذي يتتبّع مثلاً مخيّلةَ عصرٍ ما كالمناقب والمثالب السائدة في ذاك العصر وإلى ما هنالك من بِنيات ذهنيّة مختلفة. لكن، ومع حلول القرن التاسع عشر، طرأت تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة عميقة على دنيا العرب كان من شأنها أنْ تمزّق شبكات التّواصل بين العلماء وتضع بالتالي حدّاً لهذه السلسلة من كتب الطبقات الفريدة من نوعها بين الحضارات. أمنيتي هي أن تُبعث كتب الطبقات من جديد بعدما دخلْنا اليوم إلى عصر شبكة المعلومات العالميّة الّتي لا ريب في أنّها تيسّر مهمّة تجميع المعلومات حول أصحاب التراجم.
حرب لبنان تثير أسئلة فلسطين
وفي العام ١٩٧٥ اندلعت الحرب الملعونة في لبنان وطني الثاني الذي غرستُ فيه كما غيري من الفلسطينيّين جذوراً عميقة من الولاء والمحبّة والصّداقات والذّكريات، فشدّتني تلك الحرب مجدّداً نحو الحاضر المفجع: كيف وصلنا إلى هذه الكارثة؟ ومن كارثة لبنان رجعت بالفكر والوجدان إلى كارثة فلسطين وتاريخها في القرن العشرين، وهو القرن الذي شهدت بداياته ظهور المشروع الصهيونيّ في دنيا العرب بشكل لم يعد خافياً على أحد. فكان السؤال الذي أقلقني هو، كيف فهم الفلسطيّنيون تاريخهم ما بين بدايات القرن وبين عام الكارثة ١٩٤٨؟ كيف نقيّم كتابة التاريخ في فلسطين في فترة ما قبل الهاوية؟ عدت أوّلاً إلى الفضاء الثقافيّ في ذلك الزمن فلم أجد له تاريخاً متخصّصاً سوى تاريخ عدنان أبو غزالة بالإنكليزيّة بعنوان «القوميّة الثقافيّة العربيّة في فلسطين» الصادر عام ١٩٧٣، ثمّ مقالة بالإنكليزيّة ظهرت عام ١٩٧٧بعنوان «كتابة التاريخ في فلسطين» للمستشرق الإسرائيلي يهوشوا بوراث. ووقعت أخيراً على أطروحة ماجستير في جامعة جورجتاون للعام ٢٠١١ بعنوان «كتابة التاريخ عند العرب في فلسطين تحت الانتداب، ١٩٢٠ إلى ١٩٤٨» بقلم زاكاري فوستر.
المقالة الأولى لبوراث تحفل بالتعميمات السطحيّة حول كتابة التّاريخ عند العرب عموماً، وتصف الكتابة التاريخيّة في فلسطين بأنها تفتقر إلى «النّضج». أمّا أطروحة فوستر فتهدف إلى الإثبات أنّ الهويّة الفلسطينيّة لم تبرز إلى الوجود إلّا في ثلاثينيّات القرن المنصرم أي إبّان الثّورة الكبرى. والغايات السياسيّة الكامنة من وراء هاتين الدّراستين واضحة للعيان ولا داعي لتبيانها.
بدايات الكتابة التاريخيّة الفلسطينيّة في القرن العشرين تبدأ مع مفكّرَين اثنين ينتميان في الفكر والأسلوب إلى عصر النّهضة في القرن التّاسع عشر وهما روحي الخالدي (ت.١٩١٣م.) وبندلي الجوزي (ت. ١٩٤٣م.). وكانت تلك النهضة قد قرّبت الشّأن الأوروبيّ إلى المفكّرين العرب بالإضافة طبعاً إلى التّوسّع الاستعماريّ الأوروبيّ بما في ذلك الحركة الصهيونيّة. ونجد في كتابات هذيْن المقدسيّين («المقدّمة في المسألة الشرقيّة» للخالدي و«من تاريخ الحركات الفكريّة في الإسلام» للجوزي) أولى التحليلات النقديّة الثاقبة للاستشراق في العالم العربيّ والّتي استمرّت فيما بعد في كتاب «يقظة العرب» لجورج أنطونيوس وتُوِّجت في كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد.
ونجد في كتابات نجيب نصار (ت.١٩٤٨م.) والخالدي أولى الدراسات العلميّة حول الصهيونيّة وأخطارها المحدقة بفلسطين والوطن العربي. كان الجوزي رائداً من روّاد تاريخ الفكر العربيّ في سياقه الاقتصادي والاجتماعي، أمّا الخالدي في كتابه عن الصهيونيّة فهو يكتب تاريخاً بارعاً ليهود أوروبا الشرقيّة والإمبراطوريّة العثمانيّة ثم يدوّن انطباعاته الشخصيّة عن النشاط الصهيونيّ في إسطنبول في أيّامه، ويعرّف الصهيونيّة بأنّها «اليهوديّة الأُخرويّة» أي التي تُعنى بنهاية العالم وعلامات الساعة وإلى ما هنالك. لذا يمكن القول إنّ الكتابة التاريخيّة في فلسطين كانت الرائدة في محيطها العربيّ في وعيها للاستشراق الأوروبيّ والذي كانت الصهيونيّة، وما زالت إلى يومنا هذا، إحدى بؤره الأساسيّة.
وما إن جثم الانتداب البريطانيّ ومعه شبه الانتداب الصهيونيّ على فلسطين حتى نشط جيل فلسطينيّ جديد لفهم الواقع ولوضعه في نصابه التاريخيّ والقانونيّ. واتّجه هذا الجيل نحو مِهَنٍ أبرزها بالنسبة إلى المؤرّخين التّعليم والقانون والصحافة، فكان جُلّهم من أصحاب هذه المهن. وانصبّت كتاباتهم على بضع مواضيع رئيسيّة منها تاريخ فلسطين وتاريخ الصهيونيّة وتاريخ الإسلام والعرب وتاريخ المدن الفلسطينيّة كغزّة والقدْس والنّاصرة وغيرها، وتاريخ الريف الفلسطيني، ثمّ تحقيق ونشر الكتب التراثيّة ذات الصلة بفلسطين. أمّا الأمر الّذي شحذ الهمم للكتابة التاريخيّة فكان، بالإضافة إلى وطأة الانتدابيْن البريطاني والصهيوني، كفاح الدول العربيّة من حول فلسطين لنيل الاستقلال. ولعلّ أهمّ سجلّ تاريخيّ لهذا الكفاح وما عناه لفلسطين هو في مذكّرات عزة دروزة المذكورة بالتفصيل أدناه.
من الطبيعيّ أن نجد في بعض الكتابة التاريخيّة نبرة عالية الصوت، هجوميّة كانت أم دفاعيّة، فهي كتابات كُتبت تحت سفح بركانٍ اشتدّ لهيبه وتطايرت حممه مع مرور الزمن. وكان من الضروري لفت انتباه الوطن العربي إلى أنّ ذلك البركان يهدّدهم بقدر ما يهدّد فلسطين وأهلها. ولعلّ ابلغ ما جاء في هذا الصّدد هو ما كتبه جورج أنطونيوس في خاتمة كتابه «يقظة العرب» (١٩٣٨): «إنّ منطق الوقائع الراهنة أمر لا سبيل لحرفه عن مساره وهو يبيّن أنّ لا مكان في فلسطين لأمّةٍ أخرى إلّا بطرد أو استئصال الأمّة المالكة للأرض»، فهو يؤرّخ لنشوء ومسيرة القوميّة العربيّة ولخيانات المستعمرين المتلاحقة ويحذّر العرب في الوقت ذاته من الانفجار القادم.
لن أذكر هنا سوى بعض المؤلّفات التي أراها تمثّل المناحي المختلفة للكتابة التاريخيّة، فمنها مثلاً تاريخ الناصرة للقسّ أسعد منصور (ت.١٩٤١م.) وتاريخ غزّة لعارف العارف (ت.١٩٧٣م.) وتاريخ جبل نابلس والبلقاء لإحسان النّمر. يتميّز تاريخ منصور باستخدامه لوثائق العائلات في الناصرة ولتحليله الدقيق للشؤون السياسيّة والكنسيّة في المدينة، أمّا العارف والذي سطّر أيضاً تواريخ للحرم القدسي ولبئر السبع، فيرى أنّ تاريخ غزّة العربيّ سابق لتاريخها في الإسلام. وكتاب النّمر سجلّ غنيّ لتاريخ إقليم بأسره يبرز دور العائلات الإقطاعيّة الكبرى ويستند هو الآخر إلى الأرشيفات والوثائق الأصليّة. هذه الكتب جميعها تحفظ لنا جزءاً هامّاً من وثائق التاريخ الأصليّة والتي تكتسب أهمّيّتها من كونها قد نجت من التدمير الإسرائيليّ الممنهج لمكتبات ومحفوظات الشعب الفلسطيني. وهذه التواريخ تبدو وكأنّها ترمي إلى ما يشبه المسح الجغرافيّ والتاريخي لأرض فلسطين فهي تحوي معلومات طوبوغرافيّة وإثنوغرافيّة بالغة الأهمّيّة.
ودار صراع في مدارس فلسطين بين سلطات الانتداب والكتب المقرّرة رسميّاً والّتي أبرزت التاريخ الأوروبّي والبريطانيّ وأهملت تاريخ العرب، وبين أساتذة التاريخ الوطنيّين الذين جهدوا لإبراز التاريخ العربيّ. وكان هذا الصراع ذا أهمّيّة كبرى لكلا الفريقين، ونجح الوطنيّون إلى حدّ بعيد في مساعيهم إذ نلمح هذا الأمر حين نقارن بين كتب التاريخ المقرّرة في العشرينيّات وكتب الثلاثينيّات. كما أنّ هذه الكتب تحتلّ مكاناً بارزاً بين كتب التاريخ المقرّرة في البلاد العربيّة الأخرى في ذلك الزمن، وذلك بسبب صحّة ودقّة معلوماتها وسهولة أسلوبها ورسومها التوضيحيّة والتزيينيّة.
أمّا الرّيف الفلسطينيّ فتاريخه يتجلّى في مؤلّفاتٍ كمثل «بلدانيّة فلسطين العربيّة» للأب مرمرجي الدومينيكي (ت.١٩٦٣م.) و«أهل العلم والحكم في ريف فلسطين» لأحمد سامح الخالدي (ت.١٩٥١م.) وكلاهما على شكل مُعجميّ، فكأنّ الهدف هو ترسيخ الأرض وأهلها في المخيّلة والضمير الوطنيّ. ولا بد من الإشارة هنا إلى دراسات إثنوغرافيّة لا تنتمي إلى الكتابة التاريخيّة مباشرة بل لها أهمّيّة تاريخيّة عميقة لفهم الريف الفلسطينيّ، وأعني بها دراسات توفيق كنعان (ت.١٩٦٤م.) وإسطفان حنّا إسطفان وعمر الصالح البرغوثي (ت.١٩٦٥م.) التي تتناول مواضيع كمثل «الأولياء وأضرحتهم في فلسطين» و«الحيوان في التراث الشعبي الفلسطيني» و«القضاء عند البدو». ونسمع في هذه الكتابات صوت المؤرّخ الثقافيّ الذي يسعى إلى توثيق الجذور التاريخيّة العميقة للمجتمع الفلسطينيّ الذي كانت الدعاية الصهيونيّة ترمي إلى تقويض ثقافته بالكامل.
لا يتّسع المجال هنا لذكر المزيد من أسماء المؤرّخين الفلسطينيّين وأعمالهم، لكنّ بإمكان القارئ العصريّ أن يعثر على العديد منهم في كتاب يعقوب العودات بعنوان «أهل الفكر والأدب في فلسطين» وهو عمل موسوعيّ بارز يبذل بعض الأصدقاء الآن جهوداً مشكورة لتوسيعه وطبعه من جديد.
السيّد المسيح في التراث العربي الإسلامي
وفي الثمانينيّات بدأت أنجذب إلى السيّد المسيح وإلى تراثه في الأدب العربيّ الإسلامي. وهنا أيضاً لا أدري سبب ذاك الاهتمام: هل هو الحنين الدائم إلى مسقط رأسي أي إلى بيت المقْدس حيث يجاور الأقصى القيامة؟ هل ساهمت الحرب الدائرة في لبنان العزيز آنئذٍ في تأجيج ذاك الحنين؟ وهل في إمكان أيّ فلسطينيّ ألّا يكون مسلماً ومسيحيّاً ويهوديّاً (معادياً للصهيونيّة) في آن معاً؟ على كلّ حال، كنت ومنذ أيّام المدرسة الداخليّة في إنكلترا على اطّلاع لا بأس به على كتب العهد الجديد رسّخه الحضور اليوميّ الإلزاميّ في كنيسة المدرسة وترتيل الترانيم الدينيّة وخصوصاً تراتيل عيد الميلاد التي ما زلت أرتّلها إلى يومنا هذا. لكنّ السبب المباشر كان أنّني كنت أقع بين الفينة والأخرى على بعض الأقوال المنسوبة إلى السيّد المسيح في كتب الأدب وغيرها ممّا لا شبيه له في الأناجيل الأربعة. من أين جاءت هذه الأقوال؟ هل اخترعها علماء المسلمين ولماذا؟ أسئلة لم تجد جواباً في حينه لكنّني ثابرت على تجميعها على كلّ حال وشجعني، أحد الأصدقاء على جعلها كتاباً بعنوان «المسيح المسلم» صدر أخيراً في العام ٢٠٠١ في سلسلة كان يشرف عليها الراحل إدوارد سعيد، رحمه الله، وبتشجيع كبير منه.
كان اهتمامي في البداية منصبّاً على الدّور الذي لعبه السيّد المسيح في المناظرات السياسيّة والأخلاقيّة التي جرت بين المسلمين في عصور الإسلام الأولى، وتطلّب الأمر الغَوص بعمق في كتب الزهد والحديث والكلام، لتبيان طريقة استخدام تلك الأقوال في هذه المناظرات. وتبيّن لي أنّ هذه الأقوال لعبت بالفعل دوراً هامّاً عند بعض الفرق الإسلاميّة التي رأت فيها دعماً قويّاً لطروحاتها، كما تبيّن لي أيضاً من دراسة الأسانيد أنّ مدينة الكوفة كانت على الأرجح الموطن الأوّل لتلك الأقوال، ولربّما لقربها من مدينة الحيرة التي كانت مركزاً مسيحيّاً كبير الأهمّيّة في عراق ما قبل الإسلام.
هذه القصص والأقوال نقع عليها في مصادر أدبيّة إسلاميّة متعدّدة: في كتب الأدب وكتب الزهد والرقائق وكتب الأخلاق والفقه والكلام والتصوّف والتّاريخ كما نقع عليها عند البعض من أهمّ مفكّري الحضارة الإسلاميّة كالجاحظ وابن قتيبة وخصوصاً الغزالي. أمّا مصدر تلك الأقوال فهو سؤال يصعب الجواب عنه. فالبعض من هذه الأقوال يشبه ما نجده في الأناجيل الأربعة والبعض يشبه أقوال الحكماء من حضارات الشرق الأدنى والبعض يشبه الأناجيل الغنوسطيّة أو المنحولة، والبعض لا يمكن تحديد مصدره إطلاقاً. لكنّها جميعها تشي بإعجاب وإجلال إسلاميّ عميق لمن يسمّيه الغزالي «نبيّ القلب»، وجميعها تليق بالمسيح وتُنسب إليه بفائق الاحترام والمحبّة.
وإذا كان لي أن أتمنّى مجدّداً فأمنيتي أن تأخذ هذه الأقوال طريقها إلى الحوار الإسلامي المسيحي للتأكيد على ما يجمع هاتين الديانتين لا ما يفرّقهما. والحوار هذا هو في نظري، نحن بأمَسّ الحاجة إلى أن نقرأ فيه معاً نصوصنا المقدّسة ومن بينها هذا السجلّ التاريخيّ الحافل من القصص والأقوال، كما أنْ يتضمّن هذا الحوار ما جاء عن السيّد المسيح عند بعض أهمّ شعراء العرب المسلمين المعاصرين كمثل بدر شاكر السيّاب ومحمد الفيتوري ومحمود درويش وغيرهم. ولربّما من المجْدي في هذا المضمار أن نقارن ما جاء في التراث اليهوديّ (التلمود تحديداً) حول السيّد والتشويه الشنيع لسيرته بما جاء عنه في تراث الإسلام من محبّة وتعظيم.
فكرة التاريخ عند العرب
في العام الجامعي 1985 - 1986 الذي أمضيته باحثاً زائراً في جامعتي القديمة، أي أكسفورد، عقدت العزم على الشروع في التخطيط لكتابٍ شامل يتناول مفهوم التاريخ وكتابته عند العرب من القرآن وصولاً إلى ابن خلدون. كان الموضوع بالنسبة إليّ طبيعياً بمعنى أنّ أطروحتي عن المسعودي والبعض من مقالاتي السابقة انصبّت على هذا الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر. ولم يكن ما صدر حول الموضوع حتى ذلك الحين في الشرق والغرب شافياً في نظري المتواضع. نعم، الاهتمام بموضوع التأريخ عند العرب كان قد بدأ فعلاً، لكنّ الدراسات الصادرة حوله كانت تنحصر إمّا بمؤرّخ فرْد كدراستي عن المسعودي، أو دراسة محسن مهدي عن ابن خلدون، أو بعصر معيّن كدراسة العلّامة الدكتور عبد العزيز الدوري، رحمه الله، عن بدايات الكتابة التاريخيّة، أو كانت تعالج الموضوع وكأنّه سلسلة أو قافلة من المؤرّخين المتتابعين (ظهر المؤرّخ فلان ثمّ تبعه فلان إلخ.) ككتاب المستشرق فرانز روزنثال، أو مجموعة من المقالات حول مواضيع تأريخيّة شتّى والصادرة عن مؤتمرات دوليّة ككتاب لويس وهولت بالإنكليزية الذي بعنوان «مؤرّخو الشرق الأوسط». وكان السؤال الذي أقلقني هو الآتي: هل ثمّة من طريقة أخرى لفهم هذا الكمّ الكبير جدّاً من التواريخ والمؤرّخين؟ ولا بدّ من الاعتراف بأنّ قراءاتي في أعمال ميشيل فوكو وبول فين وجاك لوغوف وميشال دي سيرتو و فرنان برودل (وكلّهم إفرنسيّون) كانت حاسمة في صياغة جوابي عن ذاك السؤال. إذاً، كيف نصنّف هؤلاء المؤرّخين؟ كيف نضعهم في سلّات فكرّية متجانسة عوضاً عن وصفهم كقافلة أو سلسلة أو لائحة من الأسماء؟ وهل ثمّة من تصنيف يقرّب فهمهم في سياقهم التاريخيّ؟ هبط الوحي صبيحةَ يومٍ مشمسٍ في أكسفورد ولعلّ قبب الكلّيّات والكنائس والمعاهد الماثلة أمام نافذتي هي التي أوحت بالتفكير في القبب المجازيّة التي يلجأ إليها المؤرّخون أي القبب الفكريّة أو الأيديولوجيّة (سَمّها ما شئت) التي تشملهم. هكذا ولدت فكرة القبب. وكان المطلوب لاحقاً هو وصف أو تسمية هذه القبب.
كان من الواضح لديّ أنّ جلّ المؤرّخين حتّى أيّام الطّبري تقريباً، كانوا تحت قبّة الحديث، بمعنى أنّ آفاق الحديث ومنهجيّته هي الّتي حدّدت في تلك الآونة شكل التاريخ ووظيفته ومغزاه. واتّضح لي أيضاً أنّ القبّة التي تلتْها زمنيّاً هي قبّة الأدب التي كتب تحتها مؤرّخون كاليعقوبي والمسعودي، بمعنى أنّ آفاق الأدب ومنهجيّته هي التي حدّدت في تلك الآونة شكل التاريخ ووظيفته ومغزاه. وهكذا دواليك. فإلى قبّة الحكمة ثمّ أخيراً إلى قبّة السياسة. قبب أربع فيها بالطبع بعض التعسّف فهي ليست قبباً مبنيّة بالحجر بل لعلّها أشبه بالمظلّات المثقوبة وليست منفصلة تماماً عن بعضها البعض بالمعنى الزمني، فقد نجد مؤرّخاً يستظلّ أكثر من قبّة أو مظّلة واحدة، كما نجد أنّ تلك القبب ذاتها متداخلة زمنيّا. غير أنّي وجدت أنّ هذا التصنيف بالذات وعلى علّاته، قد يثير نقاشاً جديداً حول الموضوع ويبتعد به عن التصنيفات السابقة. فالمؤرّخون في كافّة الحضارات والأزمنة غالباً ما يستمدّون تحاليلهم النظريّة من العلوم المجاورة أو من المناخات الفكريّة السائدة في زمانهم، إذ إنّ علم التاريخ هو علم لا يمتلك مصطلحات تقنيّة خاصّة به كسائر العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة. فإذا أراد المؤرّخ أن يلجأ إلى التنظير أو البحث عن منهجيّة ما فهو غالباً ما يستلهمها من العلوم القريبة منه. من هنا هذا التصنيف إلى قبب متلاحقة تغطّي المؤرّخين.
وتداخل هذا التصنيف الذي وصلتُ إليه مع قراءات واسعة في أعمال المؤرّخين وغيرهم امتدّت لسنوات عديدة. بدأت بالبحث عن مفهوم التاريخ في الشعر الجاهليّ ثمّ في القرآن وما بينهما من اختلاف عميق في مفهوم الزمن إذ وجدتُ أنّ الدّين، أيّ دين كان، غالباً ما يجلب معه مفهوماً جديداً للتاريخ قوامه انحسار فكرة الدّهر والأزل وسيطرة فكرة العناية والتدبير الإلهيّيْن على مسار الزمن. فالتاريخ بمعنى الزمن له بداية وله نهاية يحدّدها الإله، والحوادث التي تأتي على البشر كلّها ذات مغزىً إلهيّ عميق لا يدركه البشر إلّا لماماً، فقد جاء في الحديث مثلاً: «لا تسبّوا الدهر فانّ الله هو الدهر». لا يعني انحسار مفهوم الأزل أو الدهر اختفاءه تماماً، إذ نجد هذا المفهوم قد تجدّد عند بعض فلاسفة المسلمين وعلماء الطبيعة، ولعلّ الدوران التاريخيّ عند الفارابي أو ابن خلدون هو المثال الأبرز لمفهوم الأزل في شكله المتجدّد. على كل حال، انتقلتُ إلى كتب الحديث وجذبت انتباهي على الأخصّ تلك المقدّمة عظيمة الأهمّيّة التي صاغها مسلم ابن الحجاج (ت.٨٧٥م.) لـ«صحيحه»، والتي يحدّد فيها بدقّةٍ منهجيّةٍ كيفيّة قبول الأحاديث المتضاربة ويؤسّس لما قد نسمّيه إجماع العلماء حول مواضيع أساسيّة كالإسناد مثلاً، كما يرى مسلم أنّ الحديث قد وصل إلى حدّه الأقصى من حيث الكمّيّة فلا داعي يدعو إلى قبول أحاديث جديدة وغير معروفة لدى العلماء. هذا الأمر أدّى إلى ضبط حجم الحديث وإلى انفصاله التدريجيّ عن الأخبار أي التاريخ، ذاك الانفصال الذي نشهد بداياته عند ابن إسحق (ت.٧٦٨م.) ثمّ عند الواقدي (ت.٨٢٣م.) وابن سعد (٨٤٥م.). مع ابن إسحق نشعر أنّنا ما زلنا في زمن المعجزات أمّا مع الواقدي فنحن نراه وكأنّه في «المختبر» التاريخيّ فها هو يستنطق المخبرين ويسعى إلى مشاهدة الحوادث بنفسه ويجيب عن أسئلة كاتبه ابن سعد، ويرفض بشكل جازم ما لا يرتضيه من الأخبار ويصحّح بعض التفاصيل ويلجأ إلى الدواوين والأرشيفات المكتوبة، ويضع للحوادث تواريخ دقيقة ويفصل بين التاريخ والخيال الشعبي ويصحّح تحريف الكتبة ويباعد بين تاريخه وسيرة ابن إسحق. لقد ابتعد الواقدي عن آفاق ابن إسحق الذي يضع نبوّة محمّد في سياقها النبويّ العالمي العريض لكنّه بالمقابل سلك بالتاريخ مسلكاً جديداً نحو الدقّة والضبط، فساهم مساهمة واضحة في جعله علماً متخصّصاً قائماً بذاته. كما أنّ «مغازي» الواقدي هي أشبه بسجلّ تاريخيّ قابل للاستخدام الإداري لأنّه يؤرّخ للرسول ولأُمّته في سياق سياسيّ واضح نفهم مغزاه الكامل إذا فهمنا تأثير الخطاب العباسي السائد في أيّامه، والذي سيطر بشكل واسع على إنتاج الفكر في ذلك الزمن.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.