ثمة ما يشبه الانقلاب الهادئ الذي يزعزع في يومنا الحاضر ما اعتدنا على تسميته الحقيقة، في التاريخ كما وفي السيَر*. من علامات هذا الانقلاب تصاعد الاهتمام بالكتابة التاريخية على حساب التاريخ؛ بالأسلوب الأدبي للمؤرخات والمؤرخين لا بالسرد ومبلغه من الحقيقة؛ بالحبكة البديعية للنص لا بكونه سجلًّا أمينًا للحوادث. ولعلّ هذا الانقلاب ينبع من الخطاب السياسي السائد الذي يعتبر البعض أنه يروّج لمقولة «ما بعد الحقيقة». أمّا السيَر فأصبح العديد منها يحمل عناوين مثل «أسطورة فلان الفلاني» أو «اختراع فلانة الفلانية»، وكأننا فقدنا الأمل بكتابة سيرة واضحة المعالم ومتناسقة ومتسلسلة في الزمن. لم يصل هذا الانقلاب بعد إلى عالم العرب، لكنّ أصداءه بدأت تُسمع كما في هذا الكتاب الجميل المُبدع.
سيرة من نوع جديد
يبدأ الكتاب بصورة معلقة على حائط، صورة إبراهيم ناجي، جدّ المؤلفة لأمها. صورة كأنها من عالم الخيال، فالكتاب في جوهره قصةُ صورةٍ تذكّر برواية «صورة دوريان غراي» لأوسكار وايلد. يصاحب القارئُ المؤلِّفة في طفولتها إذ تتأمل الصورة: «هو بالطبع جدي، الشاعر المشهور إبراهيم ناجي الذي كتب كلمات أغنية «الأطلال»، إحدى أشهر ما غنّته كوكب الشرق أم كلثوم. لكن من هو هذا الرجل؟ وما علاقتي به»؟
وكما تشيخ صورة «دوريان غراي» مع الزمن، تشيخ المؤلفة والصورة معًا في رحلة العثور على إجابات لهذين السؤالين. تصرّ المؤلفة مرارًا: هي ليست سيرة بل «زيارة»! وقد يردّ القارئ: أجل هي زيارة لشخصين، لإبراهيم ناجي وسامية محرز. والزمن في هذه الزيارة ليس متسلسلاً، بل أشبه بمحطات تكشف الغطاء تدريجيًّا عن الصورة ثم تحجبها، وتغازل السيرة عن بُعد ثم لا تتبع شروطها. هي «سيرة» من نوع جديد تمامًا حيث تتقاطع السيرة/ الصورة مع الـ«سيرة» التي تكتبها. لعلّنا بحاجة إلى إيجاد اسم جديد لها: السيرة التفاعلية.
وسرعان ما تستولد صورةُ الحائط صورًا فوتوغرافية لنماذج من مدوّنات ناجي ومذكراته وأوراقه الشخصية تبدو في مجملها مبعثرة أو كأنها جُمعت بسرعة من على طاولة كاتبٍ بعد وفاته، ويا ليتها كانت مطبوعة بشكل أوضح للعيون الهرمة. لا تسعى سامية إلى ترتيب تلك المبعثرات أو وضعها في سياق زمني محدد كما قد يفعل كاتب سيرة تقليدية، وهي بذلك كأنها توحي للقارئ أن الشخصية الإنسانية مبعثرة ومتضاربة بطبيعتها، أو كأن الواحد منّا، أي من الجنس البشري، هو في الواقع مجموعة شخصيات غير قابلة للفرز والتصنيف والتوضيب ويلفّها ضباب كثيف. هل هذه حياة إبراهيم ناجي أم بالأحرى حيواته؟ وعلامات الاستفهام منتشرة بشكل كثيف جدًّا في «زيارة» سامية، فهي كمَن يطرق بابًا ولا يسمع سوى أجوبة خافتة.
تبدأ الزيارة بالفعل حين تحصل المؤلفة على أوراق إبراهيم ناجي التي كانت بحوزة ابنته المفضّلة، أي خالة سامية. للوهلة الأولى، يبدو كأنّ المؤلفة عثرت على كنزٍ أو أرشيفٍ يتمناه كل من ينوي كتابة إحدى السيَر. لكن هذا الأرشيف يثبت في نهاية الأمر أنه خليط من الغثّ والسمين: مسوّدة أشعار متنوعة مكتملة وغير مكتملة، رسائل شخصية ورسمية، نصوص غير مكتملة من مناجاة وحب وعتاب، خواطر سانحة، صفحات من يوميات متنوعة التواريخ، ترجمات متفرّقة من الإنكليزية، إلخ. لذا، لا عجب أن تكون «الزيارة» مليئة بعلامات الاستفهام. كيف لنا أن نربط خيطًا ولو واهيًا بين كل تلك الجزئيات المتباينة؟ تلتفت المؤلفة إلى أمها فلا تعثر عندها من الإيضاحات ما يُسعف، لتجد نفسها وحيدةً عندما تطرق الباب.
تفتح المؤلفة باب «منزل» إبراهيم ناجي المظلم بالكثير من الوجَل، بل وبشيء من الرهبة أيضًا، فهي لا تملك في هذه الزيارة سوى مصباح باهت الضوء لا تلمح منه إلا بعض الظلال هنا وهناك. تكمن براعة الزائرة في أنها لا تستنتج ولا تفترض ولا تدّعي معرفة ما لا يمكن معرفته، بل تترك الظلال على حالها مستكشفةً فقط ما يتيحه لها الضوء الخافت. وبالتدريج البطيء، تطرح الزائرة عنها بعضَ الوجل حين تكتشف أنها أصبحت في نفس سنّ إبراهيم ما يمنحها جرأةً للاقتراب منه وتلمّسِ مشاعره وأحاسيسه.
«أطلال» ناجي
إذًا، من هو إبراهيم ناجي؟ وماذا تبوح صورته للزائرة؟ تدعونا الأخيرة إلى تأمّل قصيدة «الأطلال» كما كتبها ناجي لا كما غنّتها أم كلثوم. القصيدة الأصلية أطول بكثير من الكلثومية التي جعلت من الأصلية سرديةً لها مبتدأ ووسط ونهاية، وهذا ما لا نجده في الأصلية التي لا بِنية لها أو تسلسل معيّن. تزخر القصيدة الأصلية بصور العدم: الأحلام واليقظة والأوهام والمآتم والأشباح والظلال والسأم واليأس والقدَر والعمى والحنين والحرية والغفران والنواح والندم والظلم. أما الصور المحسوسة والملموسة فمنها الغرقُ والشوك والموج والجدث والصروح والهياكل الهاوية والريح والذبح واليَباب والدم والطاغية والقبور الضيّقة وخيوط العنكبوت والخنجر المنكسر والشياطين والزهور والتغاريد والألحان. هي طبعًا قصيدة حبّ، لكنه حبٌّ يتجاوز الحبّ ليكشف عالم الشاعر بأسره، إذ كلما حاول مدّ يده لمحبوبه حجبتْه عنه عبثيةُ حياته وظلمها. أجل، كانت هناك هنيهات سعادة، لكنّ استذكارها في زمن اليأس يذكّر بأبيات الشاعر دانتي، والذي كان قريبًا جدًّا إلى قلب شاعرنا: ليس من ألمٍ أفدح/ من أن نستذكر في زمن البؤس/ ذاك الزمن السعيد.
وببراعة الفنانة الانطباعية، تعيد سامية محرز رسم صورة الحائط: إبراهيم ناجي الطبيب الذي قدّم وقدّم، فلم يلقَ من رؤسائه في الوزارة سوى التجاهل والظلم؛ العاشق الذي كبّل عشقه وخنقه التزامُه الصارم بعائلته على الرغم من وجود زوجةٍ لم تشاركه القلب والعقل؛ المثقف والأديب الذي كان أستاذًا من أساتذة جيله والذي كثيرًا ما اعترضت طريقَه الغيرةُ والرياء. وما أن تُنهي محرز رسمَها حتى تبوح للقارئ أنها أضحت «صديقته»، لتبدأ الصورة المعلقة على الحائط بالتحرك وتدبّ فيها الحياة حتى صار بإمكاننا الاقتراب منها ولمسها والشعور ببعضٍ من أحاسيسها وسماع صوتها، ولو من مكان بعيد.
نادرًا جدًّا ما يقع الواحد منّا على كتاب كهذا يَسكن قارئه كما يسكن الشبح. نقلّب صفحاته بشغف كما نقلب ألبوم صور فاتنة. إنه صنف أدبي جديد وزيارة لا تنسى.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.