ترجمة عمر ذوابه
صدر أخيرًا للمؤرخ والكاتب اليساري الإسرائيلي آدم راز كتاب بعنوان «نهب الممتلكات العربية في حرب الاستقلال [الاحتلال]» (٢٠٢٠). اعتمد الكاتب على وفرة من الوثائق الرسمية واليوميات والمذكرات والمحاضر والمقابلات والصحف، ليروي عن وجه ليس معروفًا بما فيه الكفاية من نكبة العام ١٩٤٨ هو الاتساع المذهل لحجم نهب الممتلكات العربية الذي مارسته الفصائل المسلحة الصهيونية على امتداد فلسطين، بتغطية شبه كاملة من القيادات العسكرية والسياسية، خصوصًا من رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، ووزير الدفاع فيها، دايفد بن غوريون، الذي وجد في النهب وسيلة من وسائل تهجير الفلسطينيين.
ننشر في ما يلي مراجعة للكتاب بقلم المؤرخ بيني موريس، أحد ثلاثة، مع آفي شلايم وإيلان بابي، سُمّوا «المؤرخون الجدد» في إسرائيل لأدوارهم في نسف عدد من الروايات الصهيونية التأسيسية الشائعة عن النكبة الفلسطينية وحرب العام ١٩٤٨. وموريس أول من دحض الرواية الصهيونية السائدة عن هجرة الفلسطينيين بملء إرادتهم أو تلبيةً للدعوات العربية، إذ كشف بواسطة الوثائق العسكرية والسياسية الإسرائيلية خطة «التطهير العرقي لفلسطين»، على ما سماها إيلان بابي، لتهجير الأهالي من مدنهم وقراهم بواسطة الإشاعات والتهديد والاغتصاب والترهيب والاغتيالات والمجازر. وكان المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي قد كشف منذ العام ١٩٦١ تلك الخطة الموضوعة في آذار/ مارس ١٩٤٨ باسم Plan Dalet «الخطة د». إلا أن ما كشفه موريس ثبّت مواقف الخالدي بالوثائق الإسرائيلية الرسمية.
جدير بالذكر أن موريس، المتقاعد حديثًا من التعليم في جامعة بن غوريون في بئر السبع بالنقب، خدم في فرقة المظليات بالجيش الإسرائيلي في الجولان عام ١٩٦٧، والسويس خلال حرب الاستنزاف، وفي غزو لبنان صيف العام ١٩٨٢ عندما كان آمرَ وحدة مدفع هاون في حصار بيروت، وفي الوقت نفسه مراسلاً حربيًّا لمجلة «جيروزاليم بوست». سُرّح من الخدمة واستمر في الاحتياط في الضفة الغربية إلا أنه رفض الخدمة في نابلس فسُجن ١٩ يومًا وسُرّح من الاحتياط. وموريس الذي أثار كتابُه عن خطة التطهير العرقي عام ١٩٤٨ ضجة كبيرة، ما لبث أن قلب مواقفه رأسًا على عقب وأعاد النظر في كتابه معلنًا أن خطة تهجير الفلسطينيين هي التي ضمنت قيام دولة إسرائيل. أُخذ عليه أنه فصاميّ بين ما يكشفه وما يبني عليه من مواقف سياسية. المؤرخ هو الذي يتكلّم، في مراجعته التي ننشرها هنا لكتاب آدم راز.
***
يتطرق المؤرخ آدم راز في كتابه الجديد إلى النهب اليهودي الذي جرى عام ١٩٤٨– لكن المقصود هنا ليس السلب الجماعي لعقارات العرب ومنازلهم وأراضيهم التي صادرتها الحكومة الإسرائيلية خلال حرب «الاستقلال» [الاحتلال] وما بعدها (وبفترات طويلة تلتْها، كما يقتضي التحديد). يركّز راز على نهب الأصول العربية المنقولة من قِبَل المدنيين والعسكريين ووحدات الجيش ومؤسسات الدولة التي كانت في طور التكوين والدولة بحدّ ذاتها. سبق للعديد من المؤرخين أن تطرّقوا إلى هذا الجانب من الحرب، إلا أنهم لم يتناولوه بهذا المستوى من التركيز أو التفصيل.
قال دايفد بن غوريون، الذي كان رئيس الوزراء المؤقت خلال الحرب، إنه فوجئ بظاهرتين: هروب العرب ونهب اليهود. علّق على الظاهرة الأخيرة خلال اجتماع للّجنة المركزية لحزب «ماباي»، والذي كان الحزب الحاكم ونواة «حزب العمل»، في ٢٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بالقول: «يبدو أن معظم اليهود لصوص... شارك في السرقات أناسٌ من وادي زرعين! الروّاد الأوائل، آباء فتية البلماخ [وحدات الكوماندوز قبل تأسيس دولة إسرائيل] والجميع شاركوا في السرقات».
كان عليه أن يضيف أن كوادر «البلماخ» لم يستطيعوا مقاومة الرغبة بالسلب هنا وهناك. في ١٤ تموز/ يوليو، جَمع شمويل «مولا» كوهين، قائدُ لواء «يفتاح» التابع لـ«البلماخ»، كتائبه في غابة بن شيمن، وأنّبهم على النهب الذي أوقعوه بمدينة اللد عند سقوطها قبل يوم أو يومين (وقد كتب بعد سنوات: «بدأ أفراد من وحداتنا أيضًا بنهب وانتزاع الممتلكات المهجورة») وأجبرهم على تسليم هذه الممتلكات المسروقة إلى مقر اللواء أو القضاء عليها.
في اجتماع اللجنة المركزية الذي دان فيه بن غوريون النهب، احتجّت قلة من الحاضرين على تشريد سكان اللد والرملة. كان من بين المحتجين يوسف سبرينزاك وشمويل يفنئيلي، وهما من مؤسسي حزب «ماباي»، وأما آخرون مثل شلومو لافي، وهو من مؤسسي كيبوتس عين حرود، فقد أيدوا «نقل» السكان. رد بن غوريون على معارضي التهجير مستعينًا بحيلة تضليل بالية، إذ قال إن «العرب فرّوا قبل أن يحتل اليهود شتى الأماكن»، إلا أنه تناسى بطبيعة الحال أن يقول إن تهجير الفلسطينيين من اللد مستلهم منه، إن لم يكن قد تمّ حتى بناءً على أوامره.
لم يذكر أيّ من المشاركين في ذلك الاجتماع المجزرة التي ارتُكبت بحق سكان اللد قبل تشريدهم، ولا أيًّا من المجازر بحق العرب التي ارتُكبت خلال الحرب (باستثناء مجزرة دير ياسين في نيسان/ أبريل ١٩٤٨، والتي «نُسبت» إلى منظّمتي «إرغون» و«ليحي» السريّتين)، من تفجير فندق «سميراميس» في القدس في كانون الثاني/ يناير، مرورًا بالمذابح في الدوايمة وعيلبون وصفصاف والجش وحولا في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر، حتى أن ذكْر التشريد في تلك القرى قد ندر. إلا أن النهب كان أمرًا مختلفًا، فمنذ لحظة معيّنة خلال الحرب، برز ما يشبه الاتفاق الضمني للإشارة إلى هذه القضية، وحتى علنًا في الصحافة بالتحديد، وإن كان ذلك على نطاق أضيق. استعرض زعماءُ اليشوڤ (الجالية اليهودية في فلسطين) بمن فيهم قائدها الأعلى، ضميرَهم اليهودي، ولو ظاهريًا، عندما نددوا بالنهب، وبذلك خرجوا بصورة «أخلاقية».
لكن حجم نهب الممتلكات العربية، بعمقه واتساعه الحقيقيين، لم يُكشف عام ١٩٤٨ في تلك التقارير وتصريحات الشجب العلنية وشبه العلنية، وهنا مكمن قوة كتاب آدم راز «نهب الممتلكات العربية خلال حرب الاستقلال». سبق لراز أن نشر أعمالاً حول مواضيع متنوعة ترتبط بتاريخ الصهيونية، ومنها عن تيودور هرتزل ومجزرة كفر قاسم عام ١٩٥٦ والسياسة النووية الإسرائيلية. لن يستطيع أحد بعد قراءة كتاب راز الأخير أن ينكر خلاصاته الرئيسة، وهي أن كثرًا شاركوا في عمليات النهب بشكل تواصل لأشهر ولم يقتصر الأمر على الفترة التي تبعت احتلال المناطق مباشرةً، كما أن قلة قد عوقبت على ذلك.
النهب في خدمة الاقتلاع
يستقي راز معلوماته من مجموعة واسعة من المصادر من ضمنها المذكرات، إلا أنه يستند بشكل رئيسي إلى الوثائق الصادرة عن بيروقراطية الدولة التي كانت في طور التكوين ومؤسسات دولة إسرائيل، والمخزّنة في أرشيف دولة إسرائيل وفي أرشيفَي جيش الدفاع الإسرائيلي ومؤسسة الدفاع، واصفًا تاريخ النهب في كافة أنحاء البلاد بدقة متناهية.
في القسم الأول من الكتاب يتنقل راز من بلدة إلى أخرى، سواء كانت البلدات المختلطة أو العربية بالكامل، من طبريا وحيفا والقدس ويافا وعكا وصفد وبيسان والرملة واللد وبئر السبع، شارحًا بالتفصيل متى وكيف نُهبت الأحياء والمنازل العربية ومن نهبها (الجيران، المدنيون، ضباط الشرطة، الجنود، مؤسسات الدولة)، كما يخصص أقسامًا فرعية في الكتاب للحديث عن نهب القرى العربية (حيث لم يوجد الكثير مما يمكن نهبه بسبب الفقر المدقع في تلك القرى) وعن نهب و/أو تخريب الكنائس والأديرة والمساجد.
خُصص الجزء الثاني من الكتاب لتحليل النهب الذي يربطه راز بشكل مقنِع بسياسة بن غوريون أو على الأقل برغبته في التخلص من عرب البلاد، وبهذا يُمعن المؤلف بالتشكيك في مصداقية اعترافات رئيس الوزراء ومعاونيه، ويؤكد أن الغالبية في قيادة حزب ماباي [العمل] أرادت للنهب أن يتم بالفعل بصفته أحد الجهود لاقتلاع العرب من أراضيهم وبيوتهم.
أما بالنسبة للجزء الأول من الكتاب، والذي يقدّم روايات متتالية عن النهب في أماكن مختلفة، فالجدير بالذكر أن قادة الهاغاناه – والتي أصبحت في ما بعد جيش الدفاع الإسرائيلي – قد أدانوا هذه الظاهرة عند حصولها على أرض الواقع، حيث أصدروا إنذارات وتهديدات، على الأقل في الحالات التي طاولت قوّاتهم. في ١٠ آذار/ مارس ١٩٤٨، وحتى قبل بدء الهاغاناه بالهجمات في أوائل نيسان/ أبريل واحتلال القرى والأحياء الحضرية العربية، بعث ناحوم «سيرغيه» ساريغ، قائد لواء النقب في البلماخ، بالرسالة الآتية لقادة كتيبته: «لقد سمعتُ عن حالات قتل للعرب على أيدي أعضاء الكنيست [الاسم السري للهاغاناه] بهدف سرقة السيارات. إن هذا النوع من الأعمال– أي القتل بهدف الحصول على ممتلكات، حتى وإن كانت ستخدم الكنيست– ممنوع منعًا باتًّا. إن القتل بهدف مصادرة الممتلكات يعرّض معسكرنا للفساد، ويناقض مضمون الحملة ويلوّث سمعة الكنيست».
في خضمّ الغزوات في ٣ أيار/مايو، قام رئيس القيادة الوطنية للهاغاناه إسرائيل غاليلي، والذي كان فعليًّا نائب بن غوريون في القيادة السياسية للجيش حديث النشأة، بإصدار توجيه إلى قادة كتائب الجيش والفروع الأخرى: «إن مصادرة الممتلكات من القرى العربية المهجورة والمحتلة لغاية الاستخدام الفردي محظور تمامًا... [يا عسكري!] لا تدَع نفسك تغويك بالسرقة. حصّن نفسك من الإغراءات البغيضة. ابتعد عن النهب الذي يفسد الفرد والمعسكر. تذكر أنك مدافع ومحارب عبراني، وبأنك مأمور بالحفاظ على شرفك… تذكر أن خطًّا رفيعًا يفصل بين شرف المحارب وعار السارق... ستتم معاقبة منتهكي هذه الأوامر».
ولكن تجدر الإشارة إلى أن غاليلي قد ذكر في خطاب التوجيه نفسه بأن الممتلكات المهجورة– أي الغنائم– تُنقل إلى الهاغاناه، والتي «ستتصرف بهذه الممتلكات وفقًا لقرار المؤسسات المفوّضة وتبعًا للقواعد المنصوص عليها»، أي أن السرقة بالنيابة عن مؤسسات الدولة الناشئة كانت مسموحة وربما مرغوبة، وتم بالفعل نشر توجيهات غاليلي ضمن صفوف الهاغاناه. في ١١ أيار/ مايو، عاودت توجيهات غاليلي الظهور بشكل شبه حرفي في تعميم وزّعته قيادة لواء جيفاتي على كتائبها «حول حالاتٍ تعامل فيها الرجال بشكل مرفوض مع الممتلكات المهجورة في المجتمعات العربية المحتلة والمهجورة... مصادرة الممتلكات... من قبل الأفراد ممنوعة منعًا باتًّا. ستكون غنيمة الحملة في حوزة الهاغاناه ولن تكون ملكًا للأفراد – ولا ملكًا للوحدة».
كان سلوك القوات اليهودية في الكنائس (وليس في المساجد) مسألة ذات حساسية خاصة، في ضوء ردود الفعل الممكنة من القوى في الغرب. في آب/ أغسطس ١٩٤٨، وجّه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، يعكوف دوري، كتابًا إلى قادة الجبهات: «قام عديمو الثقافة والمسؤولية في صفوف جيش الدفاع الإسرائيلي بنهب وتدنيس كنائس مسيحية وأماكن مقدسة لدى المسيحيين... إن هذه الأعمال تلوّث سمعة جيش الدفاع ولها القدرة على تهديد نضال إسرائيل لنيل اعتراف دول العالم... بناءً على ذلك، عليكم أن تتخذوا إجراءات صارمة وحازمة لضمان عدم تكرار هذه الأعمال المشينة، و[لضمان] معاقبة مرتكبي هذه الأفعال بكل ما في القانون من صرامة». أرفق دوري بهذا الكتاب «ملاحظةً مهمة: يجب أن تُنقل الأوامر الواردة أعلاه شفهيًّا (ليس كتابةً أو عبر [اللاسلكي])».
إلا أن كبار الضباط أيضًا قد أصدروا أوامر متناقضة بين الحين والآخر خلال الحرب. يُعرَف أن جنودًا على الحواجز عند مخارج اللد في تموز/ يوليو ١٩٤٨ قد استولوا على أموال ومجوهرات السكان المهجرين الذين كانوا في طريقهم إلى رام الله التي كانت تحت سيطرة الفيلق العربي الأردني. في ١٢ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٤٨، كتب أهارون كوهين، أحد قادة حزب «المابام» اليساري، إلى يغآل ألون، رئيس «البلماخ»– وكذلك قائد عملية داني التي احتُلّت خلالها اللد– قائلًا إن جنود لواء «يفتاح» قد أُمِروا «أن يسلبوا من العرب المطرودين كل ساعة أو قطعة مجوهرات أو نقود أو ممتلكات ثمينة، كي يصل هؤلاء السكان إلى الفيلق العربي خالي الوفاض ويصبحوا عبئًا [عليه]».
أشار كوهين إلى أن هذه شهادة سمعها من جندي كان في اللد، وأراد أن يعرف إذا صدَر هذا الأمر بالفعل ومصدره، إلا أن ردَّ ألون، في حال وُجد، غير معروف.
طبريا أولًا ثم القدس ويافا
دان المسؤولون والضباط في معظم الحالات عمليات النهب عند حدوثها ولم يترددوا في إرسال تقارير صريحة حول الحوادث إلى رؤسائهم. يقتبس راز هذه التقارير بشكل مطول (وربما مضْجر إلى حدّ ما)، ففي ٢٢ و٢٣ نيسان/ أبريل، كتب يوسف نحماني، المتحدر من الهجرة الثانية (الموجة الثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين بين ١٩٠٤- ١٩١٤) وعضو مجلس بلدية طبريا، في مذكراته عن أعمال النهب في بلدته، وهي أولى البلدات التي تعرضت لذاك المصير في ١٩٤٨: «تجوّل عشرات وعشرات اليهود ضمن مجموعات ونهبوا منازل العرب ومحالّهم... لم تتمكن الهاغاناه من السيطرة على الحشود، حتى إن مقاتليها كانوا مضرب مثل وشاركوا في السرقة... أما ضباط الشرطة الخاصة الذين أوكلوا بحراسة الممتلكات فقد غضّوا الطرف، كما قيل إنهم ارتشوا كي يتكتموا عن النهب. سَرق المسنّون والنساء ومن دون تفرقة في السن أو الوضع الاجتماعي، وحتى المتدينون، كلهم شاركوا في النهب. أشعر بالخزي والعار، وأريد أن أبصق على هذه المدينة وأهجرها... سيرتدّ كل هذا علينا ويلقي بظلاله على تعليم الشباب والأطفال». (توجد أخطاء عدة في نقل هذا النص في الكتاب، كما قال راز إن نحماني كان يشير هنا إلى أحداث حيفا، وهذا غير صحيح).
أما بخصوص ما حصل في حيفا، فقد كتب بن غوريون في مذكراته في الأول من أيار/ مايو (كتب هذه المقاطع واضعًا نصب عينيه المؤرخين في المستقبل): «تم في بعض الحالات العثور على ممتلكات منهوبة بحوزة أعضاء من الهاغاناه، ومنهم القادة». دهم المدنيون والجنود البيوت في حيفا حين كان أصحابها فيها، وسرقوا ممتلكات أو طالبوا بأموال مقابل عدم السرقة. أما الشقق والبيوت التي غادرها سكانها، فقد استولى عليها «غزاة» (مدنيون وعسكر). استقال يوسف كوشنير، مدير الدائرة في المكتب البلدي الذي أشرف على الأملاك العربية في المدينة، في أعقاب الفوضى والنهب وتقاعس السلطات.
في القدس، كتب موشيه سالومون، وهو قائد سريّة في كتيبة الموريا التابعة للواء إتزيوني، في مذكراته في ٧ أيار/ مايو عن نهب حي القطمون الذي كان سكانه عربًا من الطبقة الوسطى: «اجتاحت حمّى النهب الجميع، عساكر وضباطًا على حدّ سواء…. تحلّق الجميع حول جشع التملك، فمُسح وفُتّش كل بيت. وجد الناس في بعضها ثمارًا، وفي بعضها الآخر أغراضًا ثمينة. أصابني هذا الجشع وكدت ألا أسيطر على نفسي.... يصعب تخيل الثروات العظيمة التي عُثر عليها في كل البيوت... سيطرتُ على نفسي في الوقت المناسب وكبحتُ رغبتي... أما قائد الكتيبة ونائبه، فقد فشل كلاهما في السيطرة على جشعه».
اندلعت في بعض الحالات مناوشات بين السارقين حول غرض أو آخر، بحسب شاهدة عيان اسمها هاغيت شلونسكي: «كنت أنظر من نافذة شقتنا ورأيت عشرات الأشخاص يسلبون الغنائم... استمر النهب لأيام، ولم يقتصر على الجنود، بل شمل المدنيين أيضًا. لقد نهبوا مثل المسعورين».
أدى الانهيار الأخلاقي إلى نهب اليهود منازلَ غيرهم من اليهود، ففي حزيران/ يونيو، راسَل يتسحاق بن تسفي، والذي صار لاحقًا ثاني رئيس لإسرائيل، بن غوريون قائلاً: «لا أستطيع أن أظل صامتًا حيال السرقات، سواء السرقات المنظمة التي تقوم بها المجموعات، أو غير المنظمة التي يقوم بها الأفراد. أصبحت السرقة [ظاهرة] عامة، ولم تقتصر على منازل العرب بل شملت حي تلبيوت اليهودي [وهو حي حدودي في القدس هرب منه اليهود]... الغنائم متنوعة بين برّادات وسرائر وساعات وكتب وملابس داخلية وثياب. أصبح هنالك سوق مخصص لبيع هذه الأغراض» شمل النهب شققًا سكنية في شارع بن يهودا في القدس ليهود أصيبوا جرّاء تفجير سيارات مفخخة من قبل عرب، كما اشتكى الحاخام موشيه يكوتئيل ألبرات بخصوص ممتلكات «سرقها إخواننا شعب إسرائيل، وخاصةً [المزراحيون] أفراد الطوائف الشرقية». فما لم يدمّره العرب، «قضى عليه الفرينكلاك [وهو مصطلح للحطّ من قدر المزراحيين]».
تكررت مشاهد مماثلة في يافا التي سقطت في أيدي اليهود منتصف أيار/ مايو. ارتكب أفراد الإرغون الذين دخلوا المدينة «سرقات بالجملة»، بحسب الصحافي جون كيمشي، وما لم يُسرق تعرّض للكسر والتدمير: «تحطمت في فورة التدمير النوافذ وآلات البيانو والزخارف والثريات»، كما «شاركت» قوات الهاغاناه والبلماخ بهذه الأعمال.
برزت محاولات هنا وهناك للسيطرة على اللصوص. أعدّ ضابط في الشرطة أو الهاغاناه تقريرًا لهذه الغاية في ٢٠ أيار/ مايو في يافا: «وجدنا حشدًا كبيرًا من النساء والأطفال والرجال الذين نهبوا كل ما استطاعوا أن يلمسوا: الكراسي والخزائن وغيرها من الأثاث، والأدوات المنزلية، وأواني الطبخ، والأغطية والوسائد والشراشف... قسّمت رجالي إلى أربع فرق... كان علينا في الكثير من الحالات أن نستخدم القوة... اضطررنا إلى إلقاء قنابل صوتية... والأشخاص [الذين ألقينا القبض عليهم]... كان لا بد من إطلاق سراحهم، ذلك أننا لم نتلقّ أوامر تخص ما يجب أن نفعل بهم».
من جهته، استقال إسحق شيزيك، الحاكم العسكري ليافا، نهاية تموز/ يوليو بسبب تراخي السلطات في كبح جماح النهب، وفي منتصف تموز/ يوليو، كتب أنه منذ نهاية أيار/ مايو «تم إخراج حوالي ٥٠٠٠ شاحنة تحمل ٢٠ ألف طن من البضائع» من المدينة، وأنه في معظم الحالات كانت هذه البضائع مصادرة من قبل مؤسسات الدولة. استمر نهب وسرقة الممتلكات الخاصة في الأشهر التالية. في أيلول/ سبتمبر، اشتكى مائير لانيادو، خلف شيزيك، من أن جنودًا من لواء كرياتي قد اقتحموا منازل العرب وأصابوا سكانها بجراح وسرقوا السجاجيد والملابس وأجهزة الراديو والساعات وغير ذلك، وكتب إلى وزير شؤون الأقليات، بخور شالوم شيطريت قائلاً: «لم تتحقق أي نتائج [في ما يخص إعادة الممتلكات أو محاكمة السارقين]».
مسؤولية بن غوريون
رافق التخريبُ أعمالَ النهب، إذ أفاد لانيادو، على سبيل المثال، بتدمير الجنود للمقابر في يافا: «يجب علي أن أصرّح آسفًا بما ارتُكب من أفعال مشينة. حُطم العديد من شواهد القبور، والصلبان... هُشّمت بفعل القنص المباشر، وتم تخريب المنحوتات الإيطالية الثمينة بشكل مروّع». قال وزير الخارجية موشيه شاريت في اجتماع للأمانة العامة لحزب «ماباي» وكتلته البرلمانية في الكنيست في ٣١ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٤٩ إن «الجنود [في مناطق مختلفة] حوّلوا أماكن الصلاة إلى مكبّات للنفايات ومراحيض وغطوا الأرضية بالبراز... بُترت أصابع التماثيل لسرقة الخواتم، وسُرقت الأحجار الكريمة والجواهر من الأديرة... [استُخدمت] الممتلكات الدينية لغايات التدفئة».
درس راز العديد من الملفات التي احتفظ بها كلٌّ من مكتب المحامي العام لجيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة: تمت محاكمة قلة من اللصوص، وعوقب منهم عدد قليل فقط. يبدو أن الريح قد هبّت هكذا من علٍ.
يؤكد راز بناءً على تصريحات وزير الزراعة أهارون تسيزلينغ، ووزير شؤون الأقليات بخور شالوم شيطريت، وزعيم حزب «المابام» يعكوف حزان وآخرين من يسار الوسط (على الرغم من أن أحدًا تقريبًا لم ينطق بشكل صريح باسم المذنب)، أن مصدر رياح الشر هو بن غوريون نفسه، ويقول راز إنّ هذا صحيح من ناحية تشريد العرب وأيضًا من ناحية إجمالي الوسائل المتخذة لمنع عودة من أصبحوا لاجئين. شملت تلك الإجراءات هدم القرى وتوطين اليهود في المنازل التي تم إخلاؤها، خاصةً في المدن، وتدمير محاصيل العرب، أو عوضًا عن ذلك تقسيم الأراضي المهجورة بين الشرائح اليهودية ومنع عودة اللاجئين عبر خطوط الهدنة بإطلاق النار عليهم وزرع الألغام الأرضية.
صرّح يوسف سبرينزاك (في اجتماع للهيئة التنفيذية لاتحاد العمال هستدروت في ١٤ تموز/ يوليو، مباشرةً بعد أعمال التشريد في اللد والرملة): «تجري الأمور منذ أسابيع وأشهر على نحو غير منظم (سنستخدم هذه الكلمة من باب اللباقة) والحقائق تتشكل... المشهد مماثل في عمليات السطو والنهب وسلوك قوات الاحتلال اليهودية».
ربط إليعازر باور (بئيري) من حزب «المابام» في ذلك الاجتماع بشكل مباشر بين التهجير والنهب: «ليست صدفة أن تحصل السرقات والتشريد على هذا النحو، فهنالك نيّات غير معلنة لكنها فعّالة للغاية، مفادها ألا يبقى عرب في دولة إسرائيل. بناءً على ذلك، فإن السرقة غير مشجعة، إلا أن لا وجود لإجراءات تمنعها، بل إن ما يحصل يرقى لمصاف حرمان العرب من عصبهم الاقتصادي».
كان بإمكان بن غوريون أن يوقف أعمال النهب لو أراد، إذ يضرب راز هنا مثلَ الناصرة التي احتُلت في منتصف تموز/ يوليو، حيث منع بن غوريون تهجير السكان (على الرغم من ترويج ضباط من مقر الجبهة الشمالية لهذه الخطوة)، كما أصدر أمرًا بمنع النهب في المدينة، وهكذا كان. إلا أن راز يستكمل محاججته بأنّ بن غوريون لم يكتفِ بتشجيع السرقة والنهب كجزء من سياسة تخليص البلاد من سكانها العرب، بل إنه استغل النهب لغاياته الخاصة وبطريقتين: من خلال تلويث سمعة «البلماخ»، والتي كانت على تفاهم مع «المابام»، أي المنافس اليساري لحزب «ماباي» (يقول راز إن بن غوريون قد تحدث من دون انقطاع عن حوادث السرقة والنهب التي تورّطت بها كوادر «البلماخ»)، والأهم من ذلك، من خلال ربْط «شعب إسرائيل» بهذه الظاهرة، بحيث يصبح الشعب «متورطًا في الجريمة» وشريكًا في سياسة اقتلاع العرب من البلاد. وقد تُرجمت هذه الشراكة على أرض الواقع إلى دعم شعبي لسياسة الحكومة الرامية إلى منع عودة النازحين إلى بيوتهم.
ظهرت وثائق تعود إلى بداية حزيران/ يونيو ١٩٤٨ (ولم تكن ضمن كتاب راز) تؤكد هذا الربط، إذ وصل إلى تل أبيب وفد من نخبة يهود صفد، والتي احتلتها الهاغاناه قبل شهر وأخلتها من سكانها العرب. التقى الوفد بشلومو كدار «كبير مساعدي» سكرتير الحكومة، وكان لدى الوفد مطلب أساسي: عدم السماح لعرب صفد بالعودة إلى مدينتهم. أبلغ كدار سكرتير الحكومة زئيف شيرف بالتفسير الذي قدّمه الوفد: «لن تتمكن الجالية اليهودية في صفد من تحمّل ضغط العرب العائدين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم الممتلكات العربية في صفد قد سُرقت ونهبت منذ أن غادروا... وسيصعب تخيّل رد فعلهم على هذا الموقف». كما حذر الوفد من أن اليهود سيهجرون المدينة إذا سُمح للعرب بالعودة.
تقودنا هذه القضية إلى الخلل الكبير في هذا الكتاب القيّم: ينظر راز إلى النهب الفردي ويُهمل النهب الجماعي ومصادرة و/أو تدمير عقارات العرب من قبل مؤسسات الدولة، وما تبعه من استيلاء على هذه الأصول لأغراض زراعية ولتوطين المهاجرين الجدد وغيرهم في المساكن المهجورة في المدن. يمكن إرجاع الخزائن وأواني المطبخ والذهب، فلم تضعف سرقتها رغبة اللاجئين في الرجوع أو تقوّض قدرتهم على العودة إلى مدنهم وقراهم، لكن نهب الأراضي ونقل ملكيتها إلى الجالية اليهودية، وتحويل الأراضي الزراعية إلى كيبوتس وموشاف، وتدمير القرى أو توطين اليهود فيها، وتوطين اليهود في منازل مهجورة في المدن مع مهاجرين جدد، وتصدّي جنود جيش الدفاع الإسرائيلي لعودتهم– كلها كانت أسبابًا رئيسية لانسلاخ اللاجئين عن بلادهم («لم يتبقّ مكان ولا شيء تمكن العودة إليه»)، كما تدعم معارضة عودة اللاجئين من قبل مئات الكيبوتسات والموشافات (المرتبطة بماباي والمابام) وعشرات آلاف المستوطنين في المدن، وهنا يكمن الأساس الراسخ للتعاون بين «الشعب» وحكومته إزاء منع تلك العودة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.