العدد ٣٣ - ٢٠٢١

من تاريخ الهجرة اللبنانية

عاملات و عمّال في إضراب «الخبز والورد» ١٩١٢ – ٢/٢

«عندما بدأ الإضراب، أخبرني والدي بأنهم [مجتمعون] في الخارج ليعرفوا ما الذي كان يجري، وفي ما لو كان باستطاعتهم العودة إلى العمل أم لا. وقد لاحظوا تواجد أفراد المليشيات [الشرطة] وهم مدججون بالسلاح». (روزالين حبيب)

يُعَد إضراب ١٩١٢، المعروف أيضًا باسم «إضراب الخبز والورد»، من أكبر الإضرابات العمالية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. تعززت أثناءه الروابط الاجتماعية وباتت الروابط الدينية والاجتماعية مسندًا يلجأ إليه المهاجرون اللبنانيون لمواجهة الظلم الذي يهدد أرزاقهم. ولكن ازدادت أيضًا حدة التوترات بينهم.

كان تدنّي الرواتب وظروف العمل السيئة في معامل لورنس سببًا في حالة القلق والهيجان التي عجّلت في إعلان الإضراب. في أواخر عام ١٩١١ أصدر المجلس التشريعي في ولاية ماساتشوستس قانونًا يقضي بتخفيض الحد الأعلى لساعات العمل الأسبوعية من ست وخمسين إلى أربع وخمسين ساعة. وعلى الأثر، خفض أصحابُ معامل النسيج رواتبَ العمال. كان العمال، والمهاجرون الجدد منهم خصوصًا، يعتمدون على الراتب الأسبوعي ويعوّلون عليه. ومع أن تخفيض ساعات العمل لم يتجاوز ساعتين أسبوعيًّا، باتوا في موقف صعب ومضطرب عاجزين عن تلبية احتياجات الأكل ونفقات المسكن.

في ١١ كانون الثاني/ يناير عام ١٩١٢ أعلن عمال معمل «إيڤيريت» Everett الإضراب احتجاجًا على الانخفاض المفاجئ في الرواتب التي لم تكن كافية في الأساس. وكان أول متصدري صفوف المحتجين العاملات البولنديات، وكنّ يصرخن «الرواتب قليلة! الرواتب قليلة»، فقد فتحن مظاريف الرواتب فوجدنها أقل مما توقّعن. انتشر الإضراب في اليوم التالي انتشار النار في الهشيم في معامل النسيج في المدينة. ترك العمل قرابة ٢٣ ألفًا من عمال المصانع وانضموا إلى الإضراب، غالبيتهم من المهاجرين. وشارك فيه أكثر من ألف عامل لبناني أو تأثروا بتوابعه بشكل مباشر.

متفجرات للإيقاع بفارس مراد

قاد الإضراب ممثلون رسميون من منظمة «عمال الصناعة الأمميون» Industrial Workers of the World (I.W.W.) وهم كاوسو (Causo) وإيتور (Ettor)، وجيوڤانيتي (Giovanetti). إلا أن الأمر اختلف بعد إلقاء القبض على هؤلاء، فتولى ممثلون محليون عن المهاجرين تشكيل لجنة إضراب محلية. مثّل الجانبَ اللبناني في الاحتجاج كلٌّ من فارس مراد، وجيمس بروكس [براكس]، والدكتور إسكندر حجار، وهو طبيب أسنان. ولم يخلُ الإضراب من حوادث، كان من أهمها ما جرى مع فارس مراد، الذي كان يبلغ ثلاثة وعشرين عامًا حينها، فقد اكتشفت الشرطة في ٢٠ كانون الثاني/ يناير متفجرات (ديناميت) مخبأةً في محل الخياطة الخاص به والواقع في شارع «أوك» رقم ٢٩٤. ألقت الشرطة القبض على مراد بدعوى تورطه مع عناصر متطرفة في الإضراب وتابعة لمنظمة «عمال الصناعة الأمميون». غير أن تحقيقات أجرتها المنظمة لاحقًا أفادت بأنه في اليوم الذي سبق هجوم الشرطة، وبينما كان مراد يقود «مجموعة الحملة السورية» في مسيرة مؤيدة للمحتجين، وضع جون برين، وهو حانوتي محلّي، هذه المتفجرات لإلصاق التهمة بمراد وإفشال نشاط المتظاهرين. في الواقع، لم يكن مراد محرّضًا عماليًّا متطرفًا، برغم كونه ممثلاً عن المهاجرين اللبنانيين في لجنة الإضراب، فقد عمل في السنوات التي سبقت الإضراب مترجمًا لدى المحكمة، ورجلَ شرطة.

وعلى عكس مراد، كان لجيمس براكس، وهو العضو اللبناني الآخر في لجنة الإضراب وصاحب دكان بقالة، باعٌ طويل واهتمام كبير بالنشاط العمالي. انضم قبل الإضراب بعام إلى الفرع المحلي لـ«عمال الصناعة الأمميون»، عند انتقاله إلى مدينة لورنس. وفي الأيام الأولى للإضراب، دعا براكس السيد جوزيف ايتور، وهو مهاجر من أصل إيطالي كان له دور هام في تنظيم إضراب لورنس وإضرابات أخرى في البلاد، ليتحدث في إحدى الكنائس اللبنانية، وهي على الأرجح كنيسة القديس يوسف التي ترتادها أسرة براكس.

ولأن العمل شكّل أهمية عالية في الحياة اليومية ومجرياتها، لعب العديد من العمال اللبنانيين دورًا محوريًّا في نجاح الإضراب وتحقيق أهدافه. ذهب البعض، على سبيل المثال، إلى حد تعطيل الآلات في المعامل وتخريبها لمنع العمال غير المضربين من العودة إلى العمل والتأثير على فاعلية الاحتجاج واستمراريته. ودعمًا للمتظاهرين، وبّخت المهاجرة سعدية زمّون العمال غير المحتجين وعنّفتهم ومنعتهم من العودة إلى العمل. وبحسب بعض الشهود، رمت سعدية النفايات والماء الساخن على كل من حاول إفشال الإضراب عند مروره أمام منزلها في شارع «إيلم» رقم ٣٩٠، وشتمته لاستئنافه العمل وإعاقته تقدّم المتظاهرين. وكانت ابنتها سوزي، وهي عاملة صغيرة في المصنع، ضمن الصفوف الأولى للمحتجين، في حين ظلّت سعدية تراقب الوضع من الطابق الثاني لمبناهم. ووفّرت إحدى الكنائس مطبخًا مجانيًّا، حيث كانت السيدات يطعمن المتظاهرين وأسَرهم كذلك، ويوفّرن المأوى للمحتجين. وأطعم المطبخ حوالي ١٥٠ شخصًا وجبتين كل يوم من الخبز والبرغل والفاصولياء، ومع القهوة.

bid33_p.96-97_.jpg


من إضراب عمال لورنس، ماساتشوستس، 1912

 

استشهاد حنّا رامي

مع ذلك، لم يؤيّد ويدعم جميعُ المهاجرين اللبنانيين في لورنس وحولها المتظاهرين. جعل الإضراب، والسياسات الطبقية الناتجة منه، من الجيران والأصدقاء أضدادًا، وانقسم الأميركيون من أصل لبناني بين مؤيد ومعارض. على سبيل المثال، كانت سعدية ترمي مخرّبي الإضراب بالنفايات، بمن فيهم مواطنتها وجارتها ماري ناصر. وفي الأيام الأولى للإضراب، عارضه الأب جبرائيل البستاني بشدّة في خطبته يوم الأحد في كنيسة القديس أنطونيوس المارونية، وحثّ أبناء أبرشيته على التزام منازلهم وعدم الخروج منها. كما أخذت الجريدتان المحليتان موقفين مختلفين من الإضراب. كتب محرر جريدة «الهدى» نعوم مكرزل يوم ٢٣ كانون الثاني/ يناير مقالا افتتاحيًّا هاجم فيه المتظاهرين والمحتجين، ناصحًا إياهم بالعودة إلى القانون والابتعاد عن الأنشطة «الاشتراكية». وذكر مكرزل في مقالته أنّ مجموعة المتظاهرين «السوريين» تم «خداعهم» من قبل محرضين خارجيين من أجل المشاركة في الإضراب، وأضاف أن هذه الأعمال والسلوكيات قد انعكست سلبًا على كافة «السوريين» في عموم البلاد. وردًّا على المقال، وجّهت «مرآة الغرب»، الخصم اللدود لجريدة «الهدى»، انتقادًا شديد اللهجة لمكرزل في مقال بقلم «السوريون المضربون»، جاء فيه: «توقفوا، فأنتم المخادعون، إن العمال رجالٌ قادرون على الدفاع عن حقوقهم ويعلمون الحق والصواب أفضل منكم، وهم ليسوا بحاجة إليكم للدفاع عنهم». وذهب المقال أبعد من ذلك فشكّك بـ«الحقائق» التي ذكرها مكرزل حول نسبة العمال المشاركين في الإضراب. وأشار في النهاية إلى احتمال أن يكون مكرزل مدفوعًا له من قبل ويليام صاحب أخشاب «وول»، وهو من أكبر أصحاب المعامل في لورنس.

بينما احتدّ النقاش داخل الجالية، كان الإضراب ينمو عددًا ووتيرة. بدأت مجموعات من المضربين بالتظاهر في الشوارع، الأمر الذي أقلق حاكم ولاية ماساتشوستس ودفعه، بالتنسيق مع أصحاب المصانع، إلى نشر الشرطة وعسكر الولاية في كافة أنحاء المدينة. ومع تشبّث الطرفين بموقفهما، تصاعد عنف المواجهات بين المحتجين ورجال الشرطة وأدّت إلى مقتل اثنين من المهاجرين من أبناء المدينة، أحدهما جون (حنّا) رامي المولود في لبنان. ظل الغموض يكتنف تفاصيل موت رامي. روى باحثون وشهود عيان الحادثة بروايات مختلفة؛ قال البعض إنها حصلت نتيجة تدافع حشود المتظاهرين باتجاه الشرطة، في حين ذكر آخرون أن رامي تعرّض للطعن من الخلف عندما كان يركض بعيدًا عن الشرطة. أُجريت مراسم الجنازة في كنيسة القديس أنطونيوس المارونية، وترأس المراسيم الأب جبرائيل البستاني الذي تحوّل إلى مساند (ولو مرغمًا) للإضراب بعد استشهاد رامي. يقع قبر الأخير في مقبرة القديسة مريم للحبل بلا دنس في مدينة لورنس شاهدًا على أحداث عام ١٩١٢ الأليمة، إذ نُقش عليه «ضحية إضراب معامل النسيج عام ١٩١٢».

بعد مرور شهرين تقريبًا على بدء الإضراب، عُقدت جلسات في الكونغرس الأميركي لبحث الظروف والأحداث التي كانت تشهدها مدينة لورنس. واُجبر أصحاب المعامل في ختام تلك الجلسات على الجلوس إلى مائدة المفاوضات والبحث عن الحلول. وفي ١٤ آذار/ مارس، صوّت أكثر من ١٥,٠٠٠ عامل على إنهاء الإضراب، ونال العمال زيادة في الرواتب تتراوح ما بين خمسة في المائة وعشرين في المائة، الخطوة التي سرعان ما أدت إلى رفع الرواتب في معامل النسيج في عموم منطقة شمال شرق الولايات المتحدة.

تمتع العمال، بسبب هذه الزيادة في رواتبهم، بقدْر من البحبوحة في المعيشة، إلا أن ذكرى الإضراب وما حققه من إنجازات بدأت تتلاشى بعد ستة أشهر. في ١٢ تشرين الأول/ أكتوبر، نظّم الأب جيمس أورايلي، رئيس الجالية الأيرلندية الكاثوليكية في لورنس، مسيرة «الله والوطن». وقد عبّرت المسيرة عن شعور الوطنية والمواطنة والطاعة، ومحت بذلك صور التطرف التي انتشرت خلال الإضراب. واستمر قادةُ الإضراب، كاوسو وايتور وجيوڤانيتي، بالدفاع عن حقوق العمّال بالتعاون مع قادة آخرين في منظمة «عمال الصناعة الأمميون» في عموم الولايات المتحدة. ومع حلول ١٩١٣ انخفض عدد أعضاء المنظمة في لورنس إلى بضع مئات، بعدما كانت تضم حوالي ١٤,٠٠٠ عضو أثناء فترة الإضراب، واختفى على أثر ذلك الفرع «السوري» للمنظمة في المدينة. ولم يظهر الاهتمام بإضراب «الخبز والورد» مرة أخرى حتى فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عندما أعاد المؤرخون والفنانون المحليون أحداث عام ١٩١٢ إلى الذاكرة.

الاندماج عبر اللغة و«الحلم الأميركي»

تذكر جولييت بستاني عن واقع المجتمع اللبناني في لورنس فتقول «لقد اندمج المجتمع [اللبناني]… وأراد الاندماج في الحياة الأميركية. لم يرغب الناس بأن يكونوا مختلفين. أرادوا ان يكونوا حقًّا أميركيين».

بعد انتهاء الإضراب في لورنس، شعر المهاجرون بضغوط اجتماعية وبالحاجة إلى الظهور بمظهر أميركي أكثر منه أجنبيًا، إن صحّ التعبير. وقع الانشقاق بين أجيال المهاجرين جرّاء المشاعر العدائية المتزايدة تجاه المهاجرين، وتصاعد الوعي بسبب الإضراب العمّالي الأخير في المدينة، وكذلك نمت رغبة لدى المهاجرين بأن يسلك أبناؤهم طريقًا غير الذي سلكوه هم أنفسهم.

لعب التعليم دورًا مهمًّا في تعزيز هذا الانقسام والاختلاف بين الأجيال على صعيدين: يكمن الأول في رغبة المهاجرين الأوائل في أن يحقق أولادهم نجاحًا أكبر مما حققوه، في حين ينضوي الثاني تحت مظلة المبادرات والبرامج التي كانت ترعاها الحكومة للحدّ من الأفكار الاشتراكية بين المهاجرين. لم يكن التعليم بالنسبة إلى المهاجرين اللبنانيين سوى وسيلة لكسر العوائق والحواجز اللغوية وفرصة للخروج من المعامل. يخبرنا أنطون رامي، المولود في لورنس عام ١٩٠٦، عن علاقة المهاجرين اللبنانيين بالتعليم، فيقول إن والديه لم يتحدّثا اللغة الإنكليزية إلا قليلاً، لذا «[كان لزامًا عليه] تعلم اللغة العربية [حتى يستطيع التحدث والتواصل معهما]». ويضيف «كانت قلة قليلة من المهاجرين تتحدث الإنكليزية في المجتمع»، «كان المهاجرون يسكنون متجاورين ويتحدثون بلغتهم العربية فقط». ولم تذهب ماتيلدا [أبو] عراج، وهي من مهاجري لورنس، إلى المدرسة قطّ، وتقول «لم يخبرني أحد بأن عليّ الذهاب إلى المدرسة... ولم أُجبَر على تعلم اللغة الإنكليزية فقد كان هناك [عدد كافٍ] من الناس يتحدثون العربية». لكن ماتيلدا أسِفت بعد عقود على عدم تعلمها الإنكليزية وقالت «لقد فات الأوان الآن لكي أتعلم».

وعلى الرغم من هذا الوجود العربي الكثيف في المجتمع، لم يتقاعس بعض المهاجرين الأوائل عن تعلم الإنكليزية، بل على العكس. يقول أنطون رامي إن والدته كانت «الوحيدة [من بين المهاجرين] التي تتكلم الإنكليزية في المدينة» لأنها كانت بحاجة إلى استخدامها في متجر زوجها لبيع البضائع. ويروي أنطون تفاصيل مجيء والدته إلى أميركا وتعلمها الإنكليزية فيقول: تزوج رامي، والد أنطون، في لبنان خلال عشرينيات القرن الماضي، وجلب عروسه إلى مدينة لورنس، والتحقت العروس حينها بالمدرسة المسائية لتعلم اللغة الإنكليزية. ويتذكر الدكتور سليمان خياط، وهو مهاجر آخر من لورنس، والدَه والمجتمع آنذاك، يقول كان «يذهب [والدي] إلى المدرسة المسائية… مثله مثل الكثيرين من المهاجرين [اللبنانيين]، فقد التحق العديد منهم بالمدرسة المسائية لتعلم القراءة والكتابة باللغة الإنكليزية، وليفهموا اللغة بشكل أفضل».

وعلى عكس آبائهم، رأى الجيل الثاني من المهاجرين أن الأهم هو إجادتهم اللغة الإنكليزية والابتعاد عن اللغة العربية التي رأوا فيها سبب عدم تقدم آبائهم، بل ربما فشلهم. تقول روز «كنت أشعر بالخجل دائمًا بسبب جهل أمي اللغة الإنكليزية». ورفضت جولييت بستاني تعلم اللغة العربية محبذةً عليها الإنكليزية: «لم أرغب بأن أكون مختلفة… أردت أن أكون أميركيةً جدًّا… لذا رفضت التحدث بالعربية، كنت أكرهها».

لكن الضغوط الاجتماعية وعداء المجتمع الأميركي نحو المهاجرين لم يكونا الدافعَين الوحيدَين خلف الاندماج في الحياة الأميركية، فقد كانت الحكومة الأميركية تعتبر الحركات العمالية، إجمالاً، خطرًا خلقته السياسة المعادية لأميركا. وأصبحت مدينة لورنس بعد إضراب عام ١٩١٢ رمزًا مؤثرًا للتهديد الشيوعي، وأصبح مجتمعها المهاجر النابض والمتعدد الثقافات نقيضًا لرؤية الأميركيين البيض من الطبقات الوسطى والعليا. وعززت الثورة البلشفية عام ١٩١٧ والإطاحة بالإمبراطورية الروسية مخاوف الطبقة الأميركية الحاكمة من أن العمال الصناعيين في أميركا سيتّحدون بدورهم ويطيحون بالوضع الراهن للولايات المتحدة.

عليه، اتخذت الحكومة من التعليم وسيلةً لتغيير واقع المهاجرين وأفكارهم. على سبيل المثال، ضُمّت «مدرسة أوليڤر» Oliver School إلى «الخطة التعليمية في لورنس» لعام ١٩١٨ من قِبل «مجلس الأمن الوطني» و«المجلس المحلي للمدارس»، وذلك من أجل اختبار طرق تدريسية وتعليمية جديدة تساعد المدارس على تحقيق «إحدى مهامها الأساسية، وهي بناء مواطنين صالحين في إطار الديموقراطية الأميركية». وكان كلٌّ من جبرائيل يوسف، وجيمس خليل، وجوليا معلوف من بين أطفال المهاجرين اللبنانيين الذين ارتادوا مدرسة أوليڤر خلال هذه الفترة.

إن مجتمعًا من المهاجرين وتاريخًا يشوبه التمرد ضد السلطة، لا بدّ أن يثير مخاوف الحكومة. لذا سعت الأخيرة، على سبيل المثال، إلى وضع حد لأي حالة شغب أو إضرابات مستقبلية، وفرض الاستقرار من خلال بناء الأفكار والمفاهيم والتركيز على تعليم الأطفال خاصةً. مثلاً، كان طلاب المرحلة الثامنة يتلقّون الدروس عن «خطر البلشفية على مدينة لورنس والولايات المتحدة، وأوروبا… ومدى تعارض مبادئها الهدامة مع مبادئ الديموقراطية الأميركية البناءة». وكان يتعلم الطلاب أن من المهم بالنسبة للمهاجرين (كآبائهم) تعلّم اللغة الإنكليزية، وأن يحصلوا على الجنسية ويصبحوا مواطنين. أما في المرحلة السادسة، فكان على الطلاب أن يحددوا كم عدد الحاصلين على الجنسية من بين أفراد أسرتهم، وحثّ آبائهم وإخوانهم على الحصول على الجنسية.

وظهرت نتائج الخطة التعليمية هذه عندما خرج عمال المصانع في لورنس للاحتجاج على استقطاعات الرواتب في العام ١٩١٩، فقد كان المدرّسون في مدرسة أوليڤر «يصححون الأفكار والمفاهيم الخاطئة» لدى طلابهم، فيناقشون الأحداث وردود أفعال عائلاتهم معهم. وهكذا استطاعت الحكومة من خلال التعليم في المدارس دق إسفين الخلاف والاختلاف، إن صحّ التعبير، بين أطفال المهاجرين وآبائهم، «فلم يُظهر أيّ من الأطفال تعاطفًا مع المبادئ غير- الأميركية التي كان [يؤمن] بها آباؤهم وأمهاتهم إلا في حالات قليلة جدًّا».

وهكذا أقبل الجيل الجديد من المهاجرين اللبنانيين في لورنس، نتيجة انخراطهم في التعليم وكسْر حاجز اللغة، وتشجيعهم على عدم العمل في المصانع، على سلوك طرق مختلفة عن تلك التي سلكها آباؤهم وأمهاتهم الذين عملوا في مصانع النسيج. وعلى ذلك تعلّق جولييت بستاني بقولها: «لا أذكر أن أحدًا من أبناء جيلي قد عمل في المعامل، لا أحد».

إقفال معامل وهجرة العمال

مع حلول عشرينيات القرن الماضي، ترسّخ وجود الجالية اللبنانية في لورنس. ومع ذلك، أخذت أعداد المهاجرين بالتراجع لسببين رئيسين. يعود الأول إلى قيود الهجرة وقوانينها في تلك الفترة والتي فرضت نسبة ضئيلة على أعداد المهاجرين اللبنانيين المسموح بدخولهم إلى البلاد في كل عامّ. والسبب الثاني تدهور صناعة النسيج في لورنس والتي محت معها رفاهية العيش وجاذبية العمل في المدينة. وبذلك انتهى التجدد المدني واندثرت الثقافة والحيوية اللتان كانت تزخر بهما «سورية الصغرى» وحياة الجالية اللبنانية في لورنس.

في الوقت نفسه الذي تراجعت فيه الهجرة اللبنانية إلى لورنس، واجه العديد من معامل المدينة صعوبات وتحديات، خصوصًا بعدما شهد جنوب الولايات المتحدة ازدهارًا كبيرًا لمعامل النسيج، وبات منافسًا قويًّا للمعامل الموجودة في منطقة نيو إنغلاند. ونتيجة المنافسة وضغوطها، لم تستطِع المعامل المحافظة على الاتفاقيات والعقود التي أبرمتْها مع النقابات العمالية بعد سنواتٍ من الإضرابات والاحتجاجات. أخذت المعامل تغلق أبوابها بسبب تلك القيود والعراقيل، إلا أن عددًا من المهاجرين ظلّ يعمل في هذه المعامل حتى أغلقت نهائيًّا. تصف روزالين حبيب تلك النهاية فتقول: «لقد عملتُ في معامل باسيفيك… وقبلها كنت أعمل في «پايلوت راديو» Pilot Radio التابع لشركة «إيڤريت» لكنها ما لبثت أن أغلقت أبوابها»، وتضيف «أينما أعمل، الكل يغلق بابه».

واتخذ العديد من المهاجرين اللبنانيين وأولادهم في الوقت نفسه قرارات حاسمة ومصيرية بالابتعاد عن العمل في المعامل. تتذكر جولييت بستاني أن «الأمر الذي شددتْ عليه كافةُ العائلات هو أننا لا نريدكم أن تعملوا في المعامل مثلنا. لا بدّ لكم من أن تحصلوا على التعليم». ومن بين هؤلاء المهاجرين خليل عيد الذي حثّ ابنه فريد على «أن يكمل تعليمه لكي يحصل على فرص عمل أفضل من التي كانت لدى [الآباء من المهاجرين]». وبالرغم من أن العديد من هؤلاء المهاجرين استمر في العمل داخل المعامل، إلا أن أولادهم التحقوا بالمدارس واستطاعوا العمل في مهن مختلفة. ويوضح الدكتور سليمان خياط هذا الأمر بقوله «كنا مثل غالبية المهاجرين اللبنانيين- السوريين، لقد حسّنّا أوضاعنا بأنفسنا، مثلما فعل آباؤنا من قبلنا، واستفدنا من [الفرص والإمكانيات] المتاحة حينها، وذهبنا إلى المدارس».

ومع تدهور أحوال المعامل في لورنس واختفائها، بدأ المهاجرون اللبنانيون بالرحيل إلى مناطق أخرى. إلا أن منهم من قرر البقاء بسبب الروابط العائلية. وتولّد لدى من رحلوا شعور بالحنين إليها، كما حصل مع أنطون رامي الذي انتقل مع أسرته في عشرينيات القرن الماضي إلى ولاية إلينوي حيث يعيش أحد أقربائهم ويمتلك متجرًا ناجحًا. ويروي أنطون أنه بينما كان واقفًا ذات مرة في أحد شوارع «بيوريا» يراقب المارة، قال في نفسه «لو أنني في لورنس، لكنت ألقيت السلام على شخصين من بين كل ثلاثة مارّة، لكني هنا لا أعرف أحدًا»، وأضاف «لذا فأنا لم أحب [إلينوي]، ولكن بيتي هنا وعائلتي هنا». وبرغم الحنين إلى لورنس وحياتها، لم يرجع العديد من سكان «پلينز» إلى حيّهم، وقد تركوه بحثًا عن سكن وحياة أفضل في مناطق ومدن أخرى.

على الرغم من حث الأجيال اللاحقة على تجنب العمل في المعامل، إلا أن العديد من اللبنانيين (وغالبيتهم من الجيل الثاني من المهاجرين) عادوا إلى العمل فيها خلال فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. ويقول روبرت حاتم مستذكرًا «فترةَ الكساد الكبير وفرصَ العمل التي وفّرتها معامل النسيج والقطن ومدابغ الجلود». مارس المهاجرون أعمالاً عدّة، كانت والدة توماس خطار مثلاً تعمل في أحد المصانع وفي قطف التوت خلال وقت الفراغ، أما والده فامتلك محل حلاقة إضافةً إلى عمله في مصنع «واشنطن».

انتعشت معامل النسيج انتعاشًا كبيرًا خلال الحرب العالمية الثانية، لكن الحال لم تدُم طويلاً، فقد وظفت هذه المعامل أعدادًا كبيرةً من المهاجرين لغرض زيادة الإنتاج في إطار دعم المجهود الحربي. ولكن بعد انتهاء الحرب، أغلق معظم المصانع أبوابه نهائيًّا. وارتفع على أثر ذلك معدل البطالة في لورنس إلى أربعين في المائة خلال العام ١٩٤٩، في حين كان المعدل الوطني أقلّ من ثمانية في المائة. لقد أثّرت نهاية صناعة النسيج في لورنس على المدينة إلى حد كبير، ما حدا بالحكومة الأميركية في خمسينيات القرن الماضي أن تعلنها «منطقة منكوبة».

ومع رحيل المهاجرين عن لورنس، سرَت شائعات حول إعادة تطوير وسط البلد. وبدأ في عام ١٩٥٩ التطوير لمنطقة پلينز في إطار تجديد الأحياء العامة من قِبل سلطة إعادة التطوير في المدينة، فقد أقرت هذه السلطة بأن «هذه المنطقة [كما هي عليه] تؤثر سلبًا على السلامة والصحة والأخلاق والرفاهية في لورنس والتطور السريع الذي تشهده [مناطقها]». غير أن سكان پلينز كان لهم رأي مغاير. في تعليقه على الأمر، يقول أنتوني ديفروسكيا «لم أكن أعلم بأني أعيش ضمن منطقة العشوائيات والأحياء الشعبية الفقيرة حتى أخبرني أحدهم بذلك». وهكذا، لم يبقَ الكثير من العائلات اللبنانية في المنطقة، وكانت عائلة روبرت حاتم آخر عائلة لبنانية تترك المنطقة، ويقول روبرت «لم تكن ذكرياتي الأخيرة هناك حتى عام ١٩٥٦… لطيفةً إطلاقًا… فلمّا أهمِل جمع القمامة والنفايات، أصبح المكان مرتعًا للجرذان»، وفي المساء كان لزامًا تنظيف الأسرّة ونفْضها من الحشرات والصراصير قبل النوم. وبعد أن قضى كل حياته في شارع أوبرن، أُجبر فارس حاتم، والد روبرت، على إخلاء منزله وقد طردته الشرطة وهو يصرخ: «بيت الرجل هو حصنه».

خاتمة

لقد اختلفت تجربة المهاجرين اللبنانيين في أميركا اختلافًا كبيرًا بحسب مناطق استقرارهم وأماكن سكناهم. في الوقت الذي عمل العديد منهم باعةً جوّالين أو أسّسوا مشروعات فردية مستقلة، عمل ثلث المهاجرين اللبنانيين إلى الولايات المتحدة في الصناعة. وفي لورنس تحديدًا، عمل الآلاف من المهاجرين اللبنانيين في معامل النسيج، فقد وفرت المعامل الكبيرة الواقعة على ضفاف نهر ميرماك لهؤلاء القادمين الجدد فرص عمل سهلة وسريعة ورواتب ثابتة؛ لكنهم سرعان ما اختبروا أسعار السكن الباهظة والرواتب الشحيحة. ومن غير زيادة في الدخول والرواتب، أُجبر المهاجرون اللبنانيون، رجالاً ونساءً، على الاستمرار في العمل في هذه المعامل، وإرسال أطفالهم للعمل هناك أيضًا. ووجد المهاجرون صعوبة في التوفير والادّخار بسبب الرواتب القليلة، لذا لم يتمكنوا من مغادرة لورنس والسعي وراء فرص عمل أخرى. وتحت وطأة ضغوط العمل والحياة هذه، انضم المهاجرون اللبنانيون الكادحون في المعامل إلى اضراب عام ١٩١٢، ولعبوا فيه أدوارًا مختلفة- كان الإضراب نضالاً عماليًّا يعبّر عن مخاوف ويأس المجتمع الأوسع وليس فقط المهاجرين. قاد أفرادٌ من المهاجرين اللبنانيين الفرعَ «السوري» من منظمة العمالة الدولية في العالم خلال الإضراب، ودعم آخرون جهود المحتجين من خلال التضييق على العمال الذين يحاولون كسر الصفوف الأمامية للمتظاهرين وزعزعتهم.

اتحد المهاجرون اللبنانيون مع غيرهم من الجاليات المهاجرة واتخذوا موقفًا معارضًا من أصحاب المعامل الأميركيين خلال الإضراب. ورافقت ذلك رغبتُهم برؤية أطفالهم يسيرون بخطوات تأخذهم بعيدًا من معامل لورنس، فحثّوهم على سبر حياة مختلفة وتغيير مسارهم. نجح البعض منهم في ذلك، في حين فشل آخرون. ورحل بعض المهاجرين اللبنانيين عن لورنس ومعاملها، في حين بقي آخرون. ومع مرور الوقت، وجد أولئك الذين رحلوا عنها أنفسهم مجبرين على العودة إليها وإلى معاملها، خاصةً أثناء فترتَي الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، وللأسباب نفسها التي دفعت آباءهم؛ سهولة الحصول على فرص عمل وتأمين دخل ثابت. وزاول مهاجرون آخرون أعمالاً مهنية مثل الطبابة والمحاماة، وفتح عدد من اللبنانيين متاجر ومحالّ تجارية. لكن حتى هؤلاء كانوا يواجهون مغريات العمل في المعامل من جهة، وضغوط المجتمع المعارضة للمعامل من جهة أخرى. في نهاية المطاف، ومع حلول خمسينيات القرن الماضي، انتهى عهد عمل المهاجرين اللبنانيين في المعامل الصناعية في لورنس، ورافق ذلك ظهور معامل النسيج في الجنوب وازدهارها، وطمست عملية إعادة التطوير المدني في لورنس ما تبقّى من آثار الجالية اللبنانية في المدينة. إلا أن قصص المهاجرين الذين دخلوا صفوف الطبقة العاملة تستعيد هذا التاريخ المهمل وتسلّط الضوء على ناحية أخرى من خبرة الهجرة اللبنانية في الولايات المتحدة. وهي تروي لنا أبعادًا جديدةً عن المعاناة والأفكار، والمؤسسات والمجتمعات التي عاشها وبناها المهاجرون الأوائل، والتي تفنّد بواقعها وتوسّعها حكاية «بيّاع الكشة».

العدد ٣٣ - ٢٠٢١
عاملات و عمّال في إضراب «الخبز والورد» ١٩١٢ – ٢/٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.