الخصم في كتابنا هو الرأسمالية والهدف منه إحياء التنظير الاجتماعي الموسّع. ليس هذا اهتمامًا جديدًا بالنسبة لي. تكونتْ نظرتي إلى العالم في اليسار الجديد، منذ ذلك الزمن البعيد، وعندما دخلتُ العالم الجامعي، حملتُ معي الاقتناع بأن الرأسمالية هي المقولة الأساس أو المفهوم التأطيري لكل تنظير اجتماعي جدّي. ولكن مع مرور الزمن، بهتت جذوةُ اليسار الجديد، وبدأت أدرك أن الجميع ليسوا يشاركون في هذا الافتراض. بالأحرى، أن الموقف الافتراضي، في الولايات المتحدة على الأقلّ، كان ولا يزال، هو الليبرالية من هذا النوع أو ذاك، يساريًّا مساواتيًّا أو أناركيًّا فرديًّا. وما إن برز هذا الافتراض، أدركتُ أنّ تجربتي التكوينية في اليسار الجديد كانت شواذًا، كما بدت تجربة الثلاثينيات من القرن الماضي شاذةً عند الجيل السابق من الراديكاليين الأميركيين. جاءت فترات تكشّف فيها الضعف البنيوي لمجمل النظام الاجتماعي أمام العموم، أدّى إلى تجذير تفكير الكثير من الناس، وإلى البحث عن الجذور العميقة للعلل الاجتماعية، وتعيين التغييرات البنيوية المطلوبة لتجاوزها. لكن تلك الحقبة كانت استثنائية. ففي «الأحوال العادية» يركز جميع الأميركيين تقريبًا، بمن فيهم ذوو الميول اليسارية، على إصلاح النظام، ساعين إلى توسيع مدى الحقوق والفرص في داخله. كي أكون واضحة، لست أعارض كل تلك الجهود، قد توجد أسباب تكتيكية سليمة للسعي نحو أنواع معيّنة من الإصلاحات في أوضاع تاريخية معينة. ولكن عندما تصير النزعة الإصلاحية هي الأفق المعتبر بديهيا لتلك الجهود، ينتج عن ذلك حرف الأنظار بعيدًا من البنى الأساسية للمجتمع بشموله. ولا بدّ أن يؤدي ذلك إلى القلقلة السياسية والفكرية في المدى البعيد، خصوصًا في أزمنة الأزمات الحادّة، كما هو الحال الآن.
إعادة نظر بمفهوم الرأسمالية
في كل الأحوال، توصلتُ إلى نقطة أدركتُ عندها أن الاهتمام بالنقد المجتمعي بشموله آخذٌ بالتراخي في الأوساط التقدمية. جوابًا على ذلك، قدّمتُ سلسلة مداخلات تهدف إلى فضح فقر الدم السائد في ميدان الاقتصاد السياسي، فأبنتُ كيف تخلّى دعاة الاقتصاد السياسي عن النقد النسوي وعن النقد المناهض للعنصرية وعن «النظرية النقدية» بكل جوانبها، وهجروا كل وجه من أوجه الفكر المساواتي. وحاججت أيضًا بأن التركيز أحاديّ الجانب على سياسات الاعتراف أو السياسات الهوياتية يتماشى مع مسار فرض النيوليبرالية، حتى أنها– السياسات– تعزز من ذلك المسار. لذلك، انطلقتُ من التفكير بأنه من البديهي لأي كان أن الرأسمالية هي لبّ المسألة بالنسبة للتنظير النقدي لأصل إلى الإدراك بأن هذا المقترح يحتاج إلى الدفاع عنه.
في سعيي إلى مواجهة المسألة مباشرة، بدأتُ بمحاولة إقناع قرّائي بأن يعيدوا توجيه انتباههم شطر الرأسمالية. وهذه الأجندة هي متن هذا الكتاب ومحوره. والكتاب هو أيضًا محاولة لدمج أبرز مدارك الماركسية مع مدارك النظريات النسوية والمثلية والمناهضة للإمبريالية والعنصرية ومع الديموقراطية الجذرية والبيئوية- باختصار مع كل ما تعلّمناه منذ ستينيات القرن الماضي. وبرأيي، إن هذه العملية ليست عملية إضافة منوعات جديدة، أو مجرّد «أنظمة» جديدة تضاف إلى المقولات الماركسية الحاضرة. بالأحرى، إنها تتطلب إعادة نظر بمفهوم الرأسمالية نفسه وبالتفكير به بطريقة مختلفة.
تعريف جامع للرأسمالية
يظن كثير من الناس أن الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي. هذا هو الرأي السائد لدى الاقتصاديين ورجال الأعمال. وهو الرأي السائد لدى من يسمّون «الناس العاديين»، بمن فيهم التقدميون، وهو سائد حتى لدى العديد ممّن يسمّون أنفسهم ماركسيين. لكن هذه النظرة إلى الرأسمالية ضيقة جدًّا. إنها تحجب كل الشروط الخلفية الضرورية لوجود اقتصاد رأسمالي، وهي عناصر يعتمد عليها الأخير ويستغلّها بحرّية، لكنه ينكرها ويفشل في تجديدها. سأفصح عن تلك الشروط عمّا قليل. لكني أريد أن أقول في البداية إن أي شيء يشكّل شرطًا مسبقًا لاقتصاد رأسمالي لا بدّ له أن يَظهر في تعريفنا لما هي الرأسمالية. الرأسمالية، بعيدًا من أن تكون مجرد «اقتصاد»، شيءٌ أوسع، هي «نظام مجتمعي ممأسس» مثله مثل النظام الإقطاعي. ومثلما كان النظام الإقطاعي، ليس مجرد نظام اقتصادي أو نظام عسكري أو نظام سياسي إنما نظام مجتمعيّ أوسع من ذلك ويشمل كل تلك الأشياء، فالأمر نفسه يصحّ أيضًا على الرأسمالية. إنها طريقة في تنظيم لا الإنتاج والتبادل الاقتصادي فقط، إنما هي تنظيم للعلاقة بين الإنتاج والتبادل وبين مروحة عريضة من العلاقات والنشاطات والمسارات المجتمعية، منظورًا إليها بما هي الشروط غير الاقتصادية التي تسمح بوجود الاقتصاد. وإني أصف في الكتاب أربعة من تلك الشروط غير الاقتصادية الخلفية التي لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يوجد من دونها.
أول تلك الشروط إعادةُ الإنتاج المجتمعي، التي تتضمّن كل النشاطات التي تخلق البشر الذين يحتلون مواقع في الاقتصاد، وتنظم اجتماعهم وتوفر غذاءهم وتدعمهم وتُجدد طاقتهم.
لا وجود لاقتصاد رأسمالي من دون «عمال» ينتجون سلعًا تحت رعاية شركات تتوخى الربح. ولا يمكن أن يوجد هؤلاء العمال من دون «مقدِّمات الرعاية» اللواتي يتولين إعادة إنتاج بشر في مواقع خارج الاقتصاد الرسمي. وتشمل الرعاية المجتمعية الحَمْل والولادة والأمومة والرضاعة والتنظيف والتربية والتعليم والشفاء والحماية والمواساة- باختصار كل ما هو أساسي لبقاء البشر الذين هم كائنات بيولوجية واجتماعية في آن. تاريخيًّا، مارست النساء معظم هذا العمل من دون أجر مقابل، وكان يتم عادةً داخل الأسر، ولكنه يحصل أيضًا ضمن جماعات وأحياء وقرى، ومن خلال تنظيمات المجتمع المدني، ومؤسسات القطاع العام، ويتم في أيامنا هذه بوتيرة متنامية بواسطة شركات تتوخى الربح، مثل المدارس ودُور الرعاية. ولكن حيثما تتم إعادة الإنتاج المجتمعي، تشكّل الشرط المسبق الضروري للإنتاج الاقتصادي، وبناءً عليه، من أجل إنتاج الربح وتَراكم رأس المال. ومع ذلك، تبذل الرأسمالية جهودًا جبّارة لتفادي دفع أكلاف الخدمة المجتمعية، أو تدفع لقاءها أدنى بدل مالي ممكن. ولمّا كانت المجتمعات الرأسمالية تحفز عالمَ الأعمال من أجل أن تحظى بالخدمة المجتمعية مجانًا دونما التزام بتجديدها، فإنها ذات ميل قوي لإنتاج أزمات في مضمار إعادة الإنتاج ولبناء نظام جندري يُخضِع المرأة.
الشرط المسبق الثاني لوجود اقتصاد رأسمالي هو بيئي. مثلما يعتمد الاقتصاد الرأسمالي على الخدمة المجتمعية، كذلك هو يفترض مسبقًا توافر الطاقة لدفع الإنتاج والشروط المادية، بما فيها توافر «المواد الأولية»، لكي يتولى العمل تحويلها [إلى سلع]. باختصار، يعتمد رأس المال على «الطبيعة» أولاً بما هي مواد مخصوصة تدخل مباشرةً في الإنتاج، وثانيًا بما هي الشروط البيئية العامة لذلك الإنتاج، كالهواء النقي، ومياه الشفة النظيفة، والأرض الخصبة، والاستقرار النسبي لمستويات البحار والمناخ الذي يسمح بالسكن فيه، وسواها. لكن بيت القصيد هنا أن المجتمع الرأسمالي، بحكم تركيبه ذاته، يشجع أصحاب الأملاك على التعاطي مع الطبيعة على أنها كنز «غير اقتصادي» لا ينضب، موجود للاستحواذ عليه، ويعيد إنتاج نفسه بنفسه، بغير ما حاجة إلى تموين أو تجديد.
استهداف موارد الشعوب التابعة
تشير هذه التباينات إلى ثالث شروط الإمكان لتحقيق تراكم رأس المال: الثروة المسلوبة من مجموعات سكانية تابعة. وهذه المجموعات السكانية، المعيّنة على أساس عنصري دومًا تقريبًا، مستهدَفة قصد انتزاع مواردها، في مقابل استهدافها لغرض استغلالها. إنها محرومة من حماية الدولة ومن الحقوق المكرّسة قانونيًّا، الأمر الذي يسمح بسلبها أرضها واستغلال عملها من دون مقابل، وحشوها في قنوات تراكم رأس المال. غالبًا ما يُرى إلى مصادرة الملكية على أنها سمة مبكرة سابقة على النظام الرأسمالي الذي يكدّس الثروة من خلال استغلال «العمال» («الأحرار») في المصانع. لكن هذا خطأ. لن يكون الإنتاج الرأسمالي مدرًّا للربح من دون مَدد دائم من إسهامات رخيصة، بما فيها الموارد الطبيعية والعمل المقيّد أو التابع، تصادَر من شعوب تعرضت للغزو والاستعباد، ولا يكون من دون التبادل غير المتكافئ والسجن أو الربا المفترس فإذا بتلك الشعوب عاجزة عن أن تقاوم.
قيل إن منطقة ميسيسيبي تقف خلف مانشستر، أي أن عمل العبيد هو ما وفّر القطن الخام الذي غذّى معامل النسيج الشهيرة في فجر الثورة الصناعية. لكن الأمر نفسه صحيح في يومنا هذا: خلف «كوبرتينو» تقف كينشاسا، حيث يجري تنجيم «الكولتان» المستخدَم في هواتف الـ«آي فون» بأرخص الأكلاف، وأحيانًا بواسطة أطفال كونغوليين مستعبَدين. الحقيقة أن المجتمع الرأسمالي هو بالضرورة إمبريالي، يخلق باستمرار مجموعات سكانية سُلِبت وسائل الدفاع عن نفسها لغرض مصادرة أملاكها. وإن الاقتصاد الرأسمالي لا يشتغل إذا كان الجميع يتلقى أجورًا تغطي حقًّا أكلاف إعادة إنتاج قوة عملهم. إن المجتمع الرأسمالي يصيبه العطل في غياب خط فاصل ملوّن كوني يقسم المجموعات السكنية القابلة للاستغلال «فقط» عن تلك المعدّة لمصادرة أملاكها. ومن خلال مأسسة تلك القسمة، تُرسّخ الرأسمالية الاضطهادَ العرقي- الإمبريالي والنزاعات السياسية المحيطة به.
يوحي هذا بشرط الإمكان الرابع للاقتصاد الرأسمالي: السلطات العامة. ولا تقتصر هذه على سلطة الدولة. لا يتقدم التراكم من دون وجود مثل هذه السلطة في متنها التاريخي: أي أنه لا يتقدم من دون أنظمة قانونية تضمن الملكية الفردية والتبادل التعاقدي. والأساسي هنا أيضًا هو قوى القمع التي تتعاطى مع الاحتجاج وتحبِط الانتفاضات وتعزز تراتب المقامات الذي يسمح للشركات بأن تصادر أملاك مجموعات سكنية معيّنة على أساس عرقي داخل البلد أو خارجه. ولا يمكن للنظام الرأسمالي أن يشتغل أخيرًا من دون تشريعات وموارد عامة، بما فيها بنى تحتية مختلفة النوع، ومن دون مدد مالي مستقر. هذه لا غنى عنها من أجل التراكم، لكنها لا تتوافر من خلال السوق، ولا يمكن توفيرها إلا من خلال ممارسة السلطة العامة. إن رأس المال يحتاج إلى مثل تلك السلطة لكنه مُعَدٌّ لنسفها بواسطة التهرّب الضريبي، وإضعاف القوانين العامة، واللجوء إلى تهريب الأموال، أو بواسطة الاستيلاء على المؤسسات العامة.
في تلك الحالات الأربع إذًا، تؤسس المجتمعات الرأسمالية علاقات متناقضة بين أنظمتها الاقتصادية والشروط غير الاقتصادية لوجود تلك الأنظمة. ولا تتكشف تلك الأنظمة للعيان إلا عندما نفهم الرأسمالية على نطاقها الواسع– أي بما تتعدى كونها مجرّد نظام اقتصادي، إلى ما هي نظام مجتمعي ممأسس يضم إعادة الإنتاج المجتمعي، والطبيعة، ونهب المجموعات السكنية المعرّفة عرقيًّا والسلطات العامة– وهي جميعًا ضرورية للتراكم، مع أنها تهدره وتتعرّض للقلقلة بسببه. وهذه هي النقطة الرئيسة في هذا الكتاب: استبدال التعريف الضيّق للرأسمالية، بما هي نظام اقتصادي، بنظرة موسعة له. إن هذه المقاربة تعمّق نظرتنا إلى تناقضات الرأسمالية وتفسّر بالتالي لماذا تنفرد المجتمعات الرأسمالية بالأزمات البنيوية، عن غير طريق الصدفة، ولماذا تبدو بعض تلك الأزمات على أنها «غير اقتصادية». وهي نظرة تدمج الاهتمامات القديمة للاشتراكيين والديموقراطيين الجذريين في الاستغلال مع اهتمامات النسويين والبيئيين والمناهضين للعنصرية وللإمبريالية.
لا بد للتوتّرات من أن تنشأ في أي شكل من أشكال المجتمع الرأسمالي، بغضّ النظر عن الدقة التي بها يفصل الإنتاجَ عن إعادة الإنتاج، والاقتصادَ عن الكيان السياسي، والمجتمعَ عن الطبيعة، والعملَ المستغَل عن العمل المسلوب. على أن هذه الانقسامات هي فوالق النظام، أي المفاصل التي تسجل تناقضاته، فيما رأس المال يخرّب شروط وجوده بذاته. فهو معدّ سلفًا، كما أسلفت، لافتراس الرعاية الاجتماعية والطبيعة والسلطات العامة وثروات المجموعات السكانية المعرّفة عرقيًّا، ولأنْ يهدد دوريًّا رفاهَ أغلب الشعوب المحرومة من التملك. ومهما أجاد نظام معيّن من أنظمة التراكم في التخفيف من تلك التناقضات لفترة زمنية معنية، فإنه لن يستطيع السيطرة عليها بالكامل. سوف تعود للظهور في نهاية الأمر فيبدأ النظام في الانحلال. تلي ذلك فترةٌ انتقالية، فترة من التقلقل بين الأنظمة، عندما يظهر للعيان كل ما يحوي النظام من عناصر غير عقلانية ومن مظالم. في تلك اللحظات- وقد عرفت الرأسمالية قلّة منها في تاريخها الذي يزيد على خمسة قرون- لا تنشأ مجرد أزمة قطاعية، وإنما أزمة شاملة للنظام المجتمعي برمّته، أزمة يهتزّ لها الفكر السائد. ويفتح هذا البابَ لفضاء عام أوسع، حيث يثير فاعلون مجتمعيون تجذّروا حديثًا مروحةً عريضةً من الأفكار المتنافسة حول ما يجب أن يحلّ محل ذاك النظام. وإذ يهدفون إلى بناء هيمنة مضادة، يناضلون من أجل تجميع كتلة تاريخية جديدة تملك ما يكفي من الزخم لإعادة تنظيم المجتمع الرأسمالي– ليس فقط بإعادة هيكلة الاقتصاد، وإنما بإعادة رسم علاقاته مع شروط وجوده «غير الاقتصادية». كانت الحصيلة في كلّ من تلك الحالات إلى يومنا هذا شكلاً جديدًا من الرأسمالية، شكلاً يتعامل، لفترة على الأقلّ مع التناقضات التي أفرزها النظام السابق، إلى أن يلد النظام الجديد، هو أيضًا، تناقضاته الخاصة ويُخلي المجال بدوره.
هذا هو نسق النمو الرأسمالي إلى يومنا هذا: تعاقب من أنظمة، تخترقها أزمات نموّ. وهكذا، نستطيع أن نميّز بين «سياسة عادية»، حيث جمعٌ حاسمٌ من الناس يرتضي بشروط النظام المجتمعي على أنه أمر واقع ويناضلون للحصول على أفضل ما يستطيعون الحصول عليه داخله، من جهة، وسياسة «غير طبيعية»، من جهة أخرى، عندما يهتز النظام بمجمله ويصير موضع تساؤل. تمثل الحالات الأخيرة فترات من الحرية القوية نسبيًّا، تمكننا من أن نتأمل في تغيير قواعد اللعبة.
مراحل الرأسمالية
... توجد محاولات أخرى لتحقيب الرأسمالية. أنا متأثرة بشكل خاص بجيوفاني آرّيجي، «القرن العشرين الطويل» وبمدرسة التنظيم الاقتصادي الفرنسية. وإني أوافق على لائحة الأنظمة التي يقترحانها: ماركانتيلية أو رأسمالية تجارية؛ حرية اقتصادية أو رأسمالية كولونيالية-استعمارية؛ رأسمالية منظمة بواسطة الدولة أو رأسمالية اشتراكية ديموقراطية؛ ورأسمالية نيوليبرالية أو رأسمالية الأمْوَلة. لكني أفهم هذه الأنظمة على نحو مختلف. يركّز هؤلاء المفكرون على العلاقات بين الدولة والأسواق، لتبيان كيف أنّ قسمة معينة بينهما تتعرّض للاحتجاج والمراجعة. هذا مهم بالتأكيد. لكنه خطة واحدة فقط من عدة خطط في القصة الأكبر. ذلك أن تغيير الأنظمة يتضمن أكثر من تغيير في العلاقة بين الاقتصاد والكيان السياسي؛ إنه يغيّر أيضًا العلاقة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، بين الاقتصاد والطبيعة وبين الاستغلال والسلب. لقد تعرضت الخطط الأخرى في معظم أعمال التحقيب السابقة إلى الإهمال. لكنها تحتل موقع المحور في عمل التحقيب الذي أمارسه. وكما قلت سابقًا، أنا معنية بتوسيع فهمنا للرأسمالية بحيث تضم الجندر والبيئة والعرْق والإمبريالية. وهذا يتطلب إدخال هذه الأجزاء المهملة في أعمال التحقيب التي نمارسها.
نقد الأزمات
بناءً على ما أسلفت، نلاحظ أن إحدى نقائص الرأسمالية هي قابليّتها لتوليد الأزمات– أي ميلها إلى ابتلاع ادعاءاتها السابقة ونشر البؤس الزاحف دوريًّا وعلى نطاق واسع. وهكذا، فـ«نقد الأزمات» الذي يستهدف كشف التناقضات الكامنة في النظام أو ميوله إلى إنتاج الأزمات، منوّع أساسي من منوّعات النقد. تكمن قوّته في بيان أن البؤس الناجم عن الأزمات ليس صدفة وإنما هو نتيجة الديناميات المكونة للنظام نفسه. لكن هذا النوع من النقد تعرّض هو نفسه إلى نقد، في السنوات الأخيرة، ورُفِض، ومعه الماركسية، على أنه «وظيفي»، وهذا يعني أنه اختزالي اقتصادي ويتبنى الحتمية الاقتصادية. لن أنكر أن بعض منوعات الماركسية تستحق هذه النعوت، ولكن دعونا لا نرمي الطفل مع مياه الغسيل. تستدعي الأزمنة التي نعيشها نقدَ تيارات الأزمة العميقة التي تخترم الرأسمالية وتتجلى نتائجُها العملية الآن بطريقة مؤلمة في بديهيتها. لذا حاولت إعادة بناء نقد الأزمات بشكل منيع ليقف في وجه الاعتراضات. ابتعدتُ عن الحتمية الاقتصادية من خلال إبراز عوامل الأزمة غير الاقتصادية– البيئية والاجتماعية والسياسية. وإذ شدّدت على انفتاح المراحل الانتقالية، عندما تنحسر الهيمنة ويتسع الخيال السياسي وحرّية النشاط، تحاشيت الوقوع في النزعة الحتمية.
النقد القيمي
ولكن، كما تشدد راحيل جايجي، يمكن نقد الرأسمالية أيضًا على أساس أخلاقي. خلافًا لماركس، لن أتردد في استخدام مصطلح «ظالم»، المثقل أخلاقيًّا، لوصف نظام اجتماعي ينطوي على أشكال عدة من السيطرة البنيوية تزدهر من خلالها فئةٌ من البشر على حساب اضطهاد فئة أخرى. والرواية الماركسية عن السيطرة الطبقية المبنية على استغلال العمال المأجورين بواسطة الرأسماليين في موقع الإنتاج، مثال على ذلك. ولكن، تأسيسًا على ما أسلفت عن الإنتاج وإعادة الإنتاج، يمكننا أن نرى أنّ السيطرة الجندرية متجذرة هي أيضًا في المجتمع الرأسمالي. ويصحّ ذلك أيضًا على الاضطهاد العنصري والإمبريالي، تأسيسًا على ما قلته من قبل عن الاستغلال والسلب. إن هذه المظالم بنيوية، مثلها مثل السيطرة الطبقية، وما من واحدة منها ثانوية أو عرضية. لذا، يستدعي المنظورُ الموسع إلى الرأسمالية بما هي نظام مجتمعي ممأسس نقدًا قيميًّا لمظالمه الأصيلة المتعددة.
أخيرًا، تكتشف جايجي إمكانية النقد الأخلاقي للرأسمالية. إنه نقد قيمي لكن ليس لأنه يركّز على الظلم في الرأسمالية. إنه يركز على «سوء» النظام، وترسيخه للاستلاب والتشيّؤ، اللذين يحرماننا من الحياة الجيّدة. بعبارة أخرى، الرأسمالية شكل سيّئ من أشكال الحياة- ليس لأن بعض البشر يسلبون بشرًا آخرين، وليس لأن الرأسمالية تعضّ ذيلها وتتعطّل باستمرار، ولكن لأنها تتحايل علينا وتشلّ قدرتنا على أن نعيش حياة جيدة. طبعًا، من الصعوبة بمكان أن نفصح عمّا يعنيه ذلك– وأن نفعل ذلك بطريقة ليست متحيزة ولا عصبوية ولا هي مركزية أوروبية مثلاً. تعتقد جايجي أنها وجدت طريقة فعل ذلك. لست متأكدة من ذلك شخصيًّـا، مع أني أوافقها على أنه يجدر بنا أن نحاول. إنها لَخسارة كبرى إذا أُجبرنا على التخلي عن نقد المجتمع الرأسمالي على أنه مجتمع استلابي في الأصل، يفرض أنماط حياة سيئة.
النقد من منظار الحرية
إن نقد «الحرية» طريقة لمقاربة هذه المشاغل من دون تبنّي نظرة محددة إلى ما هي الحياة الجيدة. والفكرة هنا أن الرأسمالية تعتدي بالضرورة على الاستقلال الذاتي لأنها غير ديموقراطية في الأصل وتستبطن الاستتباع. إن المجتمعات الرأسمالية تحذف مروحة واسعة من الأسئلة الأساسية من عملية اتخاذ القرارات الديموقراطية الجمعية. وهي تسلّمنا لرأس المال، وبالأحرى، لمالكي رأس المال أو للمنذورين لتوسّعه اللامحدود، ليحددوا اللغة الأساسية لحيواتنا. يقرر هؤلاء البشر ما الذي يجب إنتاجه، وبأي كمية وممّن؛ وبواسطة أي نوع من الطاقة، ومن خلال أي نوع من العلاقات الاجتماعية. وهم يقررون، بالنتيجة، شكل العلاقات بين العاملين في الإنتاج وبينهم وأولئك الذين لا يعملون في الإنتاج، بمن فيهم أرباب الأعمال من جهة وعائلاتهم من جهة أخرى. هنا أيضًا يتحكم الاستثمار الرأسمالي بالعلاقات داخل العائلات، وبالجماعات والمناطق والدول والجمعيات كما يتحكم بعلاقاتنا بالطبيعة غير البشرية وبالأجيال القادمة. إن جميع هذه الأمور محذوفة من جدول الأعمال، وتُتّخذ بها القرارات من وراء ظهورنا. وإذ يوكل بها الرأسماليون والمستثمرون، تمأسس الرأسماليةُ الاتكالية وتُنكر علينا القدرة الجماعية على أن نصنع حيواتنا بأنفسنا. لذا يوجه نقد الحرية على العموم اهتمامنا إلى لغة الحياة، بما في ذلك «سوءُها» في ظل الرأسمالية. لكنه يتحاشى التورّط في تعريفٍ محدد لما هو الخير وما هو الشر، بل يترك ذلك المواطنين الاشتراكيين ليكتشفوا ذلك بأنفسهم.
حركات الاحتجاج ضد الرأسمالية
يحشد الفصل الأخير من الكتاب كل الشغل المفهومي السابق من أجل تحليل الوضع الراهن. وهدفه العملي كشف طاقات التحويل المجتمعي التحرري الكامنة في أوضاعنا. هذا هو معنى التنظير النقدي الذي يستخدمه ماركس الشاب عندما يتحدث عن «التوضيح الذاتي لنضالات عصرنا وتطلعاته». المَهمة في جزء منها مَهمةُ تشخيص القوى المجتمعية القابلة لأن تتجمّع خلف مشروع معادٍ للهيمنة يستطيع أن يتغلّب على تلك الصعوبات. يستعرض هذا الفصل النضالات الاجتماعية المختلفة المحيطة بنا والتي تُضمر هذا الهدف.
يقود هذا الشاغل تفكيري إلى مسألة الذات التحررية. المسألة بالنسبة لي مسألة التوصّل إلى أفضل طريقة لإغراء المرشحين للمشاركة في المشروع من أجل الانضمام إلى جبهة مضادة للهيمنة ناشئةً ذات مشروع تحرري. ولكن ما أدليتُ به إلى الآن يستلزم أن يكون المشروع مناهضًا للرأسمالية بالمعني الموسّع، لأن النضالات حول الرعاية الاجتماعية والبيئة والعرق والسياسة متجذرة في المجتمع الرأسمالي قدْر تجذر النضالات حول الاستغلال في موقع الإنتاج، لذا يتوجب على جبهة مناهِضة للرأسمالية رفعَ مطالب النسويات والبيئيين والمناهضين للعنصرية وللامبريالية والديموقراطيين الجذريين، بعضهم مع بعض ومع مناضلي الحركات العمالية. لكن هذا لا يجيب عن سؤال كيفية استدعاء الفاعلين المعنيين. أيّ نمط من المخاطبة الذاتية هو الأفضل لاستيعاد ذاك الإدراك وللنضال معًا من أجل ذاك المشروع؟
نحو طبقة عاملة موسعة
يبدو لي أن ثمة إمكانيتين لذلك. الأولى تتجاوز الفكرة القائلة بوجود عامل تحرر وحيد. بدلاً من فاعل كلّي القدرات يستوعب مكوّنات الجبهة المتنوعة، المطلوب التطلع إلى تحالف بين فاعلِين متعددين تختلف مشاغلهم الأولية لكنهم، مع ذلك، يتجذّرون في نظام مجتمعي واحد ومتماثل، لن يستطيع أي منهم أن يغيّر ذاك النظام بمفرده. ما يوحّدهم ليس موقعًا ذاتيًّا مشتركًا وإنما فهم مشترك للمجتمع الرأسمالي بما هو المصدر العميق لمشاكلهم المتنوعة وعدوّهم المشترك. ويشكل هذا التشخيص الأرضية التي ينهض عليها التضامن ويستمد منها التعاون دفْعه.
لهذه النظرة بعض المعوّقات البديهية. ليست متساوقة مع شكوك يسراوية منتشرة من «اللينينية» وحسب، وإنما هي متواضعة ولا تحمل أي تهديد، أيضًا، فلا تتطلب من الفاعلين الاجتماعيين تعديل هوياتهم السياسية وإنما تعديل تشخيصاتهم المعرفية فقط. غير أني أتساءل ما إذا كان الاتكال على الجانب المعرفي، في مقابل «الغراء» العاطفي، يشكل نقطة ضعف هو أيضًا. هل سيكون هذا التوجه قويًّا بما يكفي ليؤمّن تماسك هذه الجبهة، خصوصًا نظرًا إلى حتمية قيام مخططات مؤيدة للرأسمالية تهدف إلى تجزئتها وإضعافها من خلال مزيج ذكي من سياسة الجزرة والعصا؟
الإمكانية الثانية أكثر قدرة على توفير «غراء» أقوى لكنها أصعب تسويقًا. والفكرة هنا هي مخاطبة القوى المجتمعية التي عرّفناها للتوّ وإنما بطريقة أكثر انسجامًا بمعنى ما: أي مخاطبتها بما هي مكونات طبقة عاملة متوسعة ولكن مختلفة التموضع. تنبثق الفكرة أيضًا من النظرة الموسعة للرأسمالية التي تكشف اتّكال رأس المال البنيوي على العمل الذي يعيد الإنتاج المجتمعي والعمل المسلوب قدر ما يتّكل على العمل المستغَل. فإذا كان التراكم يتطلب هذه الأنماط الثلاثة من العمل، فحريّ بالأنماط الثلاثة من «العمال» أن تتشكل منها الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية، وهذا يتضمن أيضًا العدد الكبير من الناس الذين يمارسون عملاً من أكثر من نوع واحد. بالنظر إلى الموضوع من هذه الزاوية، تبدو الطبقة العاملة على أنها مجندرة ومعرّفة عنصريًّا من حيث تكوينها قدْر ما هي كونية في الأصل. وخلافًا للنظرات السائدة عن الطبقة العاملة، التي تركّز الرجال المنتمين إلى الأكثرية الإثنية والعاملين في المصانع والمناجم وقطاع البناء، فإن الطبقة العاملة الموسعة تضم أيضًا أناسًا ملونين ونساءً ومهاجرين وربّات بيوت وفلاحين وعاملين في قطاع الخدمات، الذين يتقاضون الأجر والذين لا يتقاضون.
الميزة هنا هي فاعل سياسي يستطيع ادّعاء مقدار من الوحدة والعمومية، وأن يبقى متمايزًا داخليًّا وقادرًا على إفساح المجال للخصوصيات. وقد يكون الأثر من ذلك تعزيز التماسك التضامني للجبهة المناهضة للرأسمالية وللهيمنة. ولكن هذه المقاربة أكثر تطلبًا من سابقتها إلى حد بعيد، إنها تتطلب قفزة معرفية- شعورية تتجاوز الإدراك الذاتي الراهن للعديد من الناس. وربما أبانت النتائج القوية التي نالها بيرني ساندرز في حملتَي الانتخابات الرئاسية الأميركية أن مثل هذه القفزة ليست مستحيلة، على الأقل إذا توافرت ظروف مؤاتية.
لكن لا إمكان للتنبؤ بالطبع عن احتمال تجلّي هذين السيناريوهين وكيف.
عندما يموت القديم ولا يولد الجديد
أجاد أنطونيو غرامشي في وصف حالتنا حين قال: «القديم يموت والجديد لا يولد. في المرحلة الانتقالية، تظهر كل أنواع العوارض المرضية». لن تستطيع أن تجد تشخيصًا أفضل للمشهد الحالي.
الآن أريد تقديم ملاحظتين هرطوقيّتين بالنسبة للوجه الرجعي المباشر لهذا المشهد. الأولى، أنّ أنصار الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة يتطلعون إلى دولهم، أو بالأحرى إلى الزعماء الذين يجسّدون تلك الدول، طلبًا للحماية الاجتماعية من القوى التي تدمّر حياتهم، وهي قوى لا يفهمونها بدقّة أو على نحو كامل. وهكذا، فتلك الأحزاب والحركات، مهما تكن منحرفة وتسلطية، تجسّد تمردًا ضد الأيديولوجيا النيوليبرالية– أي ضد التعويذة التي كرّرت، حد التقيّؤ، لعقود من الزمن، أنّ الأسواق وحدها تستطيع أن تحررنا، وأنّ سلطة الدولة ليست هي الحل وإنما هي المشكلة. لذلك، حتى الحركات اليمينية الأكثر إثارة للمخاوف تتضمن إعادة نظر في السلطات العامة. وهذا أمر يمكن ليسار حذق أن يبني عليه.
ثانيًا، يوجد شيء من الفراغ في أمر دونالد ترامب، وجايير بولسونارو، وناريندرا مودي، ورجب طيب أردوغان وماتيو سالفيني وأمثالهم. إنهم يذكّرونني بـ«ساحر بلاد أوزّ». إنهم استعراضيون يتهندمون ويختالون أمام الستارة، فيما السلطة الحقيقية قابعة خلفها. والسلطة الحقيقية هي طبعًا رأس المال: سلطة الشركات الجبارة، والمستثمرين الكبار، والمصارف والمؤسسات المالية، التي يحكم تعطشها الذي لا يرتوي للربح على مليارات البشر أن يعيشوا حيوات معاقة وقصيرة في أرجاء الكرة الأرضية. والأكثر من ذلك، لا يملك هؤلاء الاستعراضيون حلولاً للمشكلات التي يعاني منها أنصارهم، فهم شركاء القوى ذاتها التي أنتجت تلك المشكلات. جلّ ما يستطيعون حرْف الأنظار بالبهلوانيات والاستعراضات. وفيما تتفاقم المآزق وتفشل «حلولهم» في أن تتحقق، يزايد هؤلاء الاستعراضيون بمزيد من الأكاذيب الفظّة وأعمال تحوير الذنب الشريرة. وهذه الدينامية قابلة لأن تستمر إلى أن يقدم أحدهم على رفع الستارة وفضح زيفهم.
وهذا بالتحديد ما فشلت المعارضة التقدمية السائدة في أن تفعله. بعيدًا من أن تنزع القناع عن القوى القابعة خلف الستارة، اختلطت التيارات المهيمنة في «الحركات الاجتماعية الجديدة» بها. إني أفكر في الجناح الليبرالي- التكنوقراطي من الحركات النسوية والمنظمات المناهضة للعنصرية وتلك المدافعة عن حقوق المثليين والبيئيين وسواهم، الذين عملوا لسنوات عديدة بما هم شركاء ثانويون في «جبهة نيوليبرالية تقدمية» ضمّت أيضًا قطاعات «طليعية» من رأس المال الكوني. (تكنولوجيا المعلومات، المال، الإعلام، الترفيه). وهكذا، فهم أيضًا خدموا كاستعراضيين، ولكن بطريقة مختلفة، إذ عملوا على إضافة قشرة طلاء من الكاريزما التحررية على الاقتصاد السياسي النيوليبرالي المفترِس.
نحو شعبوية يسارية
... في عودة إلى غرامشي، أقول إنه لا يمكن «أن يولد الجديد» إلا إذا مزّقنا تلك الستارة وبنينا يسارًا قاطعًا في عدائه للرأسمالية. وهذا يتطلب التعليق على ثلاثة مصطلحات مفتاحية: الانفصال، إعادة الاصطفاف، الشعبوية.
أبدأ بالانفصال. إني أقترح في الواقع استراتيجية تتضمن نوعين من الانفصال: انفصال يقضي على التحالف النيوليبرالي- التقدمي المذكور أعلاه، وانفصال يقضي على الجبهة النيوليبرالية الرجعية التي يعارضها. يتطلب الانفصال الأول فصل أكثرية النساء والملوّنين والمثليين والبيئيين عن القوى الرأسمالية الليبرالية التي أسرَتهم لعقود من الزمن. أما الانفصال الثاني فيتضمن فصل تلك العناصر من قواعد اليمين التي يمكن كسبها إلى صف اليسار. هكذا تتوافر العناصر المنشقّة من الطرفين لتشكيل إعادة اصطفاف جديد.
هذه الاستراتيجية قائمة أيضًا على هرطقة. إنها ترفض الرأي الليبرالي السائد الذي يقول إن الفاشيين باتوا على الأبواب، وإن اليساريين يجب أن يؤجّلوا طموحاتهم الراديكالية، وأن يتحركوا باتجاه الوسط، ويرصّوا الصفوف مع الليبراليين. وهي– الهرطقة– تعارض أيضًا الرأي الذي يَرِد تكرارًا بأن الاستقطابات الراهنة متجذرة إلى درجة أنها لا توفر الفرصة لجذب أكثرية من الناخبين الإثنيين ومن العمال بعيدًا من اليمين. النظرتان كلتاهما خاطئتان وذاتا مردود عكسي. الأولى لأنها تكتيك تخويفي استُخدم العام الماضي لدفع بيرني ساندرز إلى الانسحاب المبكر من الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الحزب الديموقراطي. والثانية تؤدي إلى التعطيل الذاتي، إنها وصفة للهزيمة. في رأيي، إن هذا الوقت وقتٌ للانفصال لا للوحدة لأن الفاشيين ليسوا فعلاً على الأبواب ولأن الوسيلة الوحيدة لإبقائهم بعيدين عنها هي أن نقدّم لمؤيديهم في الطبقة العاملة بديلاً تقدميًّا معاديًا للرأسمالية. وبالمثل، فالاصطفافات الحالية ليست منحوتة في صخر. بل بالعكس، فجمهور الناخبين هوائي في سلوكه، يجرّبون وضعيات سياسية مختلفة قبل أن يعتمدوا على واحدة، فتلقى في الولايات المتحدة مثلاً، أنّ جمعًا كبيرًا من الذين اقترعوا لترامب العام ٢٠١٦ كانوا قد اقترعوا سابقًا لباراك أوباما أو ساندرز ثم عادوا إلى صفوف الجمهوريين في العام ٢٠٢٠. وبالمثل، العديد من أنصار بولسونارو في البرازيل اقترعوا سابقًا للويس إيناسيو لولا دا سيلفا وديلما روسيف وها هم مستعدّون للاقتراع للولّا مجددًا. وقد عرفنا مسارات مشابهة في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. فبالضد من أيديولوجية التحالف التقدمي- النيوليبرالي، ليس العديد من ناخبي اليمين عنصريين «بالمبدأ» وإنما هم عنصريون «انتهازيون»: سوف يقترعون لمرشح عنصري عندما لا يظهر مرشح يعرض خطًّا مؤيدًا للطبقة العاملة. وهم قيد التجاذب في سائر الحالات. ومن ذروة الخبل أن يستبعَد هؤلاء على أنهم «يستحقون الشجب» بدلاً من السعي إلى استمالتهم.
أصلُ هنا إلى إعادة الاصطفاف. لنفترض أن المكوّنات الأساسية لأي جبهة سياسية جديدة هي العناصر المتنافرة التي وصفتُها للتوّ، فما الذي سوف يشجعها على أن تنضم بعضها لبعض؟ وأين هو هذا «الغراء» المتين إلى درجة أن يتغلّب على العداء الشديد الذي يقسمها الآن؟
واحد من الاحتمالات الواردة في الكتاب هو الشعبوية اليسارية. لكن فهمي للعبارة يختلف عن فهم مفكرين آخرين، بمن فيهم شانتال موف. الشعبوية، بالنسبة لي، ليست سمة ملازمة للسياسة بما هي سياسة ولا هي هدف سياسي بذاته. بالأحرى، إنها تشكيلة انتقالية تظهر عادةً في أوضاع من أزمات الهيمنة وترتكز على رفض النخب الحاكمة. وقد تتخذ شكلين رئيسين. الشعبوية اليمينية التي تجمع بين معارضة النُخب وشيطنة الطبقات الدنيا، فيما تمجّد «الشعب» الذي يحتل منزلة بين المنزلتين. أما الشعبوية اليسارية فإنها توجّه نيرانها إلى أعلى، وتتحاشى استخدام الطبقات الدنيا ككبش محرقة، وتعرّف «الشعب» من الداخل، بما هو يضم الوسط والأدنى. وهذا فارق كبير بين البديلين.
أما الفارق الآخر فهو أن الشعبوية اليمينية تعرّف الأعداء بواسطة مصطلحات هوياتية محددة، بما هم مسلمون ومكسيكيون وسود أو يهود، مثلاً. بالمقارنة، الشعبوية اليسارية تعرّف أعداءها رقميًّا بما هم الـ١٪ أو طبقة أصحاب المليارات مثلاً. في الحالتين، يمكن تفضيل الشعبوية اليسارية على مقابلها اليميني إلى أبعد حد. لكن هذا التفضيل ليس دقيقًا نظريًّا. لكي ندرك حقيقة ما يجري نحتاج إلى تحليل طبقي أكثر دقة. أي أننا بحاجة إلى مفهوم لرأس المال وإلى منظور موسع للمجتمع الرأسمالي. بالنسبة لي، تحمل الشعبوية اليسارية إمكانات وحدودًا معًا. لجهة الإمكانيات، فهي قد تخدم أحيانًا كتشكيلة انتقالية تكسب معارك وتوسّع مراميها وتعمّق نقدها المجتمعي فتصير أكثر جذرية. ولكن هل تستطيع تربية البشر خلال النضال، بتوضيح معالم النظام الذي يقاتلون ضده وبالشرح الدقيق لمعنى القول إن هذا النظام «مزوّر»؟ أخمّن أن الشعبوية اليسارية مدخل إلى الصراع الطبقي. لكني لست متأكدة من أنها تنجح في توليد منفذ أصيل إلى كيفية اشتغال النظام وما المطلوب من أجل تغييره.
لذا أنا ميّالة إلى التأمل في احتمالات لتشكيلة بديلة للشعبوية اليسارية – تشكيلة يكون منظورها «أدقّ تحليليًّا» وأكثر تطلبًا من الناحية السياسية. إن مثل هذا المنظور، الذي يسمّيه البعض في الولايات المتحدة «اشتراكي ديموقراطي»، يدعو المرشحين للمشاركة فيه كي يروا إلى انفسهم على أنهم أعضاء في طبقة عاملة بالمعنى الذي عرّفتُها أعلاه. والحيلة هنا هي إرضاء ضرورتين غالبًا ما تقدَّمان على أنهما متضادّتان، ولكن يجب التوفيق بينهما في آن معًا: أولاً، الحاجة إلى تنمية حس قوي من المشاركة في العضوية الطبقية، المبنية على وجود عدوٍّ نظامي مشترك؛ والثانية، الحاجة إلى الاعتراف بواقع التمايز الطبقي الداخلي– خصوصًا بين محاور الجندر والعرق والأمّة. ومع أن هذا يبدو صعبًا، إلا أنه ليس مستحيلاً، نظرًا إلى النظرة الموسعة للرأسمالية التي بلورتُها أعلاه. تطرح هذه النظرة نظامًا مجتمعيًّا واحدًا يتعيّش على انقسامات من صنعه بين المستغَلين، والمسلوبين من أملاكهم، والذين يجري تطويعهم للخدمة - وعلى مركبات متنوعة منها. إن إعادة اصطفاف قائمة على هذا الفهم للرأسمالية ستكون قوة جبارة للتغيير التحرري.
في كل الأحوال، رأيي الحالي أن الشعبوية اليسارية جواب عفوي نسبيًّا على الأزمة. وعليه، يمكن ويجب التعامل معه بما هو كذلك. لكن الأجدر أن ندركه كمحطة انتقالية على الطريق إلى مشروع تحرري أكثر جذرية. وإني أصرّ على أن هذا الأخير يجب أن يكون مناهضًا للرأسمالية بمعناها الأوسع.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.