يترافق نظام اقتصادي تُشكّل فيه الملكيةُ الفرديةُ ومبدأ الربح قيمتين أساسيتين مع أدوات تنظيم الوعي اللازمة لتوسّعه كنظام. بما أن دور المصمم الغرافيكي يتعلق بالتعبير عن أفكار، وتوصيل معلومات، وبناء اللغة البصرية للثقافة العامة اليومية، يترتب علينا التأمل في الطرائق التي يساعد فيها عملنا على تنظيم ذاك الوعي.
سأنظر أولاً في دراسة حالتين على هامش الكيفية التي يعمل بها الوسم عادةً وفي هذا الفعل بما هو الدليل على آليات معقدة يخدم التصميم الغرافيكي من خلالها ثقافةَ الاستهلاك: من استراتيجيات الوسم التي تعتمدها شركة «بينيتون» Benetton متعددة الجنسيات للألبسة، إلى الاستراتيجيات الخاصة بمحل سندويشات فلافل محلّي على الناصية. أما المثال الثالث، فهو اليافطات التي يرفعها باعة الفواكه في جمهورية سوفييتية سابقة، والتي تقدّم الدليل على أشكال أخرى من المخاطبة العامة داخل أنظمة اقتصادية لا يلعب التنافس والاستهلاك دورًا أساسيًّا فيها.
١– «بينيتون» – الوسم بما هو فك ارتباط
شكلت إعلانات «بينيتون» للّذين عاشوا في الثمانينيات منظرًا مألوفًا يشاهدونها موزعة على شوارع مدننا والمحطات والمطارات. حتى أننا نستطيع القول إنه منذ ظهور تلك الإعلانات، نادرًا ما سكنت في مِخيالنا الاجتماعي صورةٌ بمثل وقعها الصادم في المساحات العامة التي نتشارك فيها.
يشكل التعاون الذي بدأ بين صاحب مصانع «بينيتون» الضخمة للألبسة والمصوّر المشهور عالميًّا، أوليفييرو توسكاني، في بداية الثمانينيات لحظة محورية في تاريخ التسويق والإعلان. فمن خلال معالجة حملاتهما الإعلانية المثيرة للجدل عن مواضيع ذات دلالات اجتماعية وسياسية، فتحا الباب أمام سلسلة من العلاقات الجديدة بين التجارة والسياسة.
إن شركة تصنيع الألبسة الضخمة، التي بدأت كمحترف صغير يصنع الكنزات القطنية الملونة للشباب، قد اتخذت «كل ألوان العالم» شعارًا بين شعاراتها الأولى. ومن خلال ربط ألوان ألبسة «بينيتون» (وهي منوّع من الألوان البسيطة متوافرة للزي ذاته والنموذج ذاته) بـ«ألوان» زبائنه عبر العالم – والألوان هنا تعني ألوان البَشرة المختلفة بما هي علامات دالّة على العرق، ركّز توسكاني على شباب متنوعين ثقافيًّا يرتدون ثيابًا من صنع «بينيتون» يقفون على خلفية بيضاء للحديث عن الاختلاف والتسامح والتناغم بين الأعراق، إلى أن تبنّت شركة «بينيتون» «ألوان بينيتون المتحدة» علامةً تجاريةً لها في العام ١٩٨٥.
في العام ١٩٩١ حصل تحوّل في استراتيجية «بينيتون» الإعلانية عندما استخدمت لأول مرة صورًا إخبارية لأحداث مهمة جارية في ذلك الوقت (ضحية قتلتها المافيا مضرّجة بدمائها؛ انفجار سيارة مفخخة؛ بطّة ملوّثة بتسرّب نفطي، إلخ.) لحقتها صورٌ تمثيلية تعالج مواضيع بأهمية «الإيدز» والإعدام والأسر المختلطة عرقيًّا، إلخ. وقد استخدمتْ الشركة في الغالب صورًا مثيرة للجدل لا صلة مباشرة لها بموقف سياسي، أو هي لا تدافع عن موقف سياسي على نحو سافر (سِفاد بين حصان أبيض وحصان أسود، صورة مولود جديد، إلخ.) على أن التكتيك الإعلاني الأوضح المستخدم هنا هو الربط بين مواضيع وصور وقيم وعناصر جمالية من جهة والسلع المعدّة للبيع من جهة أخرى.
بهذه المزاوجة، وفّرت المواضيع المثيرة للجدل دعاية إضافية. لكن يبقى السؤال الكبير: هل كان توسكاني يستغل المرضى والمُحتضرين لبيع كنزات قطنية وسراويل؟ أم أنّ توسكاني كان يستغّل مجتمعًا يهتم بالاستهلاك فوق أي شيء آخر للحديث عن مواضيع هامة على هذا الكوكب؟
كُتِب الكثير عن تلك الحملات وعن دلالاتها بالنسبة لوسائل الاتصال التي تعتمدها الشركات في الفضاء العام. النقطة التي تهمّني، بما أنا مصممة غرافيكية، هي السابقة التي خلقتها تلك الحملات في ميدان الوسم من خلال عملية «فك ارتباط». فيما فكرة استخدام «ألوان» متنوعة للثياب كحافز للحديث عن اختلاف أعراق الزبائن تسفّ بالمشكلات العرقية إلى مواضيع سطحية تدور مدار لون البشرة، فإن الموجة التالية من الإعلانات تذهب بالأمر إلى أبعد من ذلك بالحديث عن مواضيع لا علاقة لها بالثياب أصلاً: فلا تظهر الثياب في الإعلانات، ولا تتصل سياسة الشركة بأي شكل من الأشكال بالقضايا التي تصوّرها، علمًا أن الطابع المثير للجدل والصادم لمعظم الصور يتباين إلى حد كبير مع المظهر العادي لعارضات أزياء العلامة التجارية أنفسهن.
وإن فك الارتباط هذا بين صورة الوسم والمنتَج يَظهر لاحقًا في بعض الخيارات الشكلية: واضح أن بعض الصور هي نتاج التصوير الصحافي، لكن ثمة أخرى تصوّر مواضيع على خلفية بيضاء (راهبة وراهب يتبادلان القُبل، واقٍ ذكري، مسافدة بين حصان أسود وحصان أبيض، مولود جديد لم يُقطع حبل سرّته بعد، إلخ) كوسيلة لمحو أي سياق لتلك الأوضاع. فيسهم هذا القرار الفني بوضوح في نزع الطابع السياسي عن تلك القضايا لصالح إعادة استيعابها وتزويقها جماليًّا وحسب. فإذا أصحاب الصور أشبه بأيقونات أو علامات تجارية لا تتحمل خلفية أو إطارًا وبمقدورها أن تنتمي إلى أي شيء: إلى صحيفة أو إعلان، إلى مناسبة اجتماعية أو نزعة استهلاكية، إلى الحياة أو السوق، في حين أن المستطيل الأخضر الصغير في أسفل زاوية اليمين، كأنه التعليق على الصور، يكرّس معانيها ويربط تسليعَ المأساة البشرية بضرورات التعرّف إلى العلامة التجارية.
٢– فلافل أبو الزيز
تصميم «لا تصميم» لهوية العلامة التجارية
فتح ذاك المحل أبوابه قرب مرسَمِي في حيّ الوردية ببيروت وقد عثرتُ عليه بالصدفة ذات عصرية بعد يوم طويل كثير الاجتماعات ولم يكن من وقتٍ لتناول الطعام. بينما كنت أنتظر سندويش الفلافل، قمتُ بجولة في المكان. المريح جدًّا عند أبو الزيز أن المحل يبدو فسيحًا مع أنه ضيّق جدًّا، ويبدو فيه كل شيء جاهزًا ونظيفًا وهادئًا. على الجدار بعض الصور لبيروت القديمة، وهي عادة مألوفة في محلات الوجبات الخفيفة والمطاعم. وفيما كنت أراجع لائحة الطعام، بدا مظهرها غريبًا بعض الشيء، وللدقة أقول: بدا لي الأمر أليفًا جدًّا. وهذا ما يفعله مصممو الغرافيك دائمًا: يتصرفون مثل مصممين غرافيكيين في وقت يتعين عليهم أن يكونوا مجرد زبائن في مطعم فلافل (أو مَرضى في مستشفى أو مُشاهدي مسلسلات تلفزيونية). إن قراءة لائحة طعام قصد طلب الأكل يحوّل الأمر بسرعة إلى مسعًى مختلف كليًّا: إذا بنا نصحح ذهنيًّا الحيّز المزدوج بين الكلمات (والحيّز المتغيّر بين الحروف في اللغات اللاتينية)، ونطلق الآراء عن الألوان، وعن الورق المختار وحجم الخط. لقد وجدتها! أستطيع أن أتعرّف على الخط، أو على الأقل أستطيع أن أرى نوع القرارات الطوبوغرافية المتخذة (خط نسخ أو نستعليق في العربية ممزوج بخط «سان سيريف» وبَنط مضخم للأحرف اللاتينية).
بدا أنّ هذا المزيج يوحي بمقاربة شائعة للتصاميم مزدوجة اللغة العائدة إلى الستينيات والسبعينيات. يبدو التصميم عند أبو الزيز كأنه يشير إلى زمن لم يكن يوجد فيه مصممون غرافيكيون في البلد، وهذا ما يؤكده خيار تعليق بعض الصور القديمة لبيروت. لست أقصد مصممين تخرجوا من الجامعات في اختصاص «التصميم الغرافيكي»، أتحدث عن زمن كان فيه معظم التصاميم من صنع حِرفيين وخطاطين وفنانين. كذلك بدا لي أن مصممًا غرافيكيًّا تخرّج في مثل ذاك الاختصاص (ومن واحدة من كبريات الجامعات الخاصة) هو مَن اتخذ تلك القرارات المُلِمّة. وما ساعدني أيضًا على الوصول إلى تلك الخلاصة هو نوعيةُ صور الفلافل على لائحة الطعام. إن تصوير الطعام حقل صعب جدًّا. وجعلُ حبة فلافل تبدو شهية وطازجة يتطلب أن يكون المرء محترفًا حقًّا. شيئًا فشيئًا، تكشّفت لي بعض التفاصيل: عناصر غرافيكية، قرارات إخراج، إلخ. وبعد هذا كله، لاحظت بعض الأقوال المأثورة الموزعة في المكان (في ماعون المخللات، على الجدار، إلخ).
بعد شهر من ذلك، اكتشفتُ بمحض الصدفة، خلال حديث مع بعض المصممين من أصدقائي، أن الذي صمّم هوية أبو الزيز التجارية هو شركة الإعلانات اللبنانية «وندرايت» Wondereight التي وضعت على نفسها شعارًا متحدّيًا هو «تصميم لا تصميم لعلامة شركة تجارية». وكما ورد في الموقع الالكتروني: «المهمة هي تصميم هوية تجارية بلا تصميم لمفهوم طعام الشارع». وبعبارة أخرى: «لا تصميم على الإطلاق».
عمومًا تتولى عملية الوسم تقليدَ محلات بيع الفلافل في بيروت من خلال مقاربة أنظف وأكثر استهدافًا. «حتى أن الاسم يعكس اسم التحبب الشعبي الذي يعطى لمن اسمه زياد (وهو اسم زبوننا)».
لقد تحقق نجاح كبير في الجواب التصميمي على هذا الشعار ولكن بشرط أن يكون المرء مستعدًّا لإساءة فهم الشعار ذاته. ليس يوجد من الناحية التقنية تصميمٌ هو «لا تصميم». المزيج من القرارات البصرية والنصوص والصور على لافتة المحل وعلى جدرانه ولائحة الطعام فيه وعلى طريقة تعليب منتجاته، إلخ - هذه كلها نتاج تصميم مؤكد. يستطيع المرء أن يحاجج بأنّ التوزيع العشوائي للعناصر على صفحةٍ يمكن أن ينتج من «لا تصميم» للائحة طعام، مثلاً، لكنّ المؤكد أنّ ما أنتجته «وندرايت» إنما هو طاقم مصنوع صناعة حذقة من مخرجات الهوية البصرية. علمًا أن ما ينبئنا به هذا عن وسم العلامة التجارية عمومًا أمران: يعطينا الانطباع بأن ما يعنيه المصممون المحترفون بـ«لا تصميم»– أي تصاميم ليست تلتزم المبادئ ذاتها - تستلزم القدر ذاته من الطاقة الإبداعية التي يملكونها هم أنفسهم. وهو ينبئنا أيضًا بأن محاكاة محلات الفلافل الأصلية والتقليدية والشعبية التي يتولاها عادةً «من ليسوا مصممين» ليست أبدًا «لا تصميم على الإطلاق» ولكن، عندما تقلّد وكالة علامات تجارية محترفة ذلك المحل، تكون النتيجة علامة تجارية مصممة تصميمًا جيدًا وعلى حد أدنى من الجمال.
٣– محلات بيع الفواكه في يريفان
لا منافسة، لا علامات تجارية
شاهدتها لأول مرة، والأحرى لاحظتها لأول مرة، في أرمينيا. كنتُ هناك للإشراف على مشغل تصميم غرافيكي لطلاب مركز «تومو»، وهو مركز تعليم مجاني للمراهقين متخصص بالتكنولوجيا والتصميم. وكانت أول شقة توفّرت لي في يريفان في واحدة من تلك البنايات المتجاورة حول باحة مشتركة. وتوفر الهندسة السوفييتية للشقق مدخلاً وإطلالة على الخارج (إلى الشارع) ومدخلاً وإطلالة نحو الداخل (إلى داخل الباحة). والباحة مشتركة بين عدة بنايات ومتكونة من موقف سيارات وساحة لبائعي الفواكه وملعبٍ للأطفال، لكنها أيضًا مركز لتوزيع الكهرباء والغاز المركزيين. وفي الباحة مقاعد وبعض المساحات الخضراء.
هناك رأيتها لأول مرة: لافتة بائع الفواكه هي ببساطة ورق جدران عليها صور ثمار مثبّتة داخل إطار معدني يرتكز على منصة على الأرض. لا كلمات عليها: لا اسم، لا علامة، لا شعار، لا وصف للمنتوج أو لمميزاته يجعله جذابًا أو أفضل مما لدى باعة فواكه آخرين. إنها لافتة تُعْلِم الزبائن المحتملين بوجود بائع فواكه في هذا المكان بالذات، ولا تقول علامته أكثر من كلمة «فواكه».
ثمة أمران مسرّان في لافتة هذا الدكان:
إنها مريحة جدًّا للعين وتقتصر وظيفتها على التزيين فقط. وتبدو الورقة كأنها من نوع الأوراق التي تُستخدم لرفوف الخزائن أو الأدراج. تتناسب ألوانها على نحو جميل مع رمادية المشهد المديني، ويشيع تصميمها المتناسق الهدوء داخل هذا الإطار. مع أنّ مزيج الكلمات والصور المعدّ لتوليد المعنى يثير اهتمامي إلى حد كبير، وهو المبدأ الأول للتصميم، ثمة أمر أشدّ جاذبية في هذا الانفصال بينهما وسط جلبة الحياة المدينية.
من جهة أخرى، ثمة أمر باعث على الهدوء في هذه المخاطبة الرقيقة. أنها لا تسعى إلى جذب انتباهنا، بل تمدّنا فقط بمعلومة إن كنا نحتاجها. ليست تصرخ، ولا تروّج، ولا تغري، ولا تنافس، إنها تُعلِم فقط. تُصمَّم الملصقات، لوحات الإعلانات، الإشارات واليافطات عادةً قصد منافسة الواحدة منها للأخرى على الطرقات، والتي تجذب الانتباه أكثر من غيرها تصل معلومتها بأسرع منها، إلخ.
ومع أني مدركة كل الإدراك إلى أي مدى يشكّل الحقل الذي أعمل فيه أداةً في خدمة نظام اقتصادي مخصوص، وكيف أنه يشكل مفتاح استراتيجيات الرأسمالية لتسويق فائض إنتاجها، لم أستوعب كليًّا الآليات التي يتحقق بها ذلك، ولا حتى شهدت استراتيجية توصيل بديلة لتلك التي مرّت عليّ ودرَستها ودرّستها أو استخدمتها في عملي ذاته.
ولكن ها هي تلك اللافتات القادمة من نظام اقتصادي آخر تفعل فعلها: إنها علامات مصممة بلا حاجة لخدمة أي نوع من المنافسة. ليست تحلّ محل التواصل بين البشر. وإني عند الالتقاء بتلك الإعلانات، وعند ملاحظة مدى خلوّ يريفان من الإعلانات على أنواعها، أدركت فجأةً أنه قد جيء بي إلى يريفان لأدرّس التقنيات الضرورية لخلق رغبات في منتجات معينة ولتغذية الاقتصاد السوقي. فمع قيام نظام سياسي واقتصادي جديد تأتي كل التجهيزات لتشغيله. وقد أدخلت أرمينيا عناصر من السوق الحرة والخصخصة إلى نظامها الاقتصادي في أواخر الثمانينيات وهي تواصل تطبيق إصلاحات ما بعد الشيوعية منذ ذلك الحين. وهذه العناوين الجميلة لحوانيت الفواكه التي لم تمسّها بعد حِيَل الترويج والإغراء والمنافسة، تنتصب في شوارع يريفان علامات على مقاومة متواضعة في مجرى الانتقال بين عالمين: واحد انهار منذ زمن بعيد، وآخر يصل إلى أرمينيا حاملاً بذور انهياره الآتي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.