الأخبار سيئة كل يوم تقريبًا، أكانت محلية أم عالمية. عند كل باقة يومية من الأخبار السيئة، يزداد شعور الناس بأنهم محجورون. من هنا كانت الهبّات الغاضبة بين وقت وآخر كأنها صادرة من مدينة محاصرة. الأخبار السيئة تحفز على العداء. تضاف العنصرية إلى هذا النوع من العداء، وهو منوّع من منوّعات الفاشية التي تتربّص بنا في كل آن.
تمسّ الأخبار السيئة الذين يسمعونها أو يقرأونها مسًّا مباشرًا فيدرك الضحايا إذّاك الاسم المعطى لعذابهم. في أحيان أخرى، يتعلق الأمر بأحداث بعيدة، لكنها أحداث يمكن أن يشعر الذين يسمعونها بأنهم معنيون بها بشكل أو بآخر. فقد بات الكون عصيًّا على القسمة، كما ينبئنا الخبراء بفجاجة وإن على حق.
في حالة أو في أخرى، يشعر مشاهدو الأخبار السيئة ومستمعوها أو قرّاؤها بالعجز أمام ما ينزل بهم، أو أمام ما ينزل بآخرين باسمهم. في المدى البعيد، هذا الشعور بالعجز هو الذي ينبئهم بأسوأ الأخبار، لأنه هو خميرة العداء.
الأخبار السيئة تتعلق بأحداث حقيقية. في حين أن البشر يتلقّون تلك الأخبار السيئة من خلال مصفاة وسائل الإعلام. والعلاقة بين السلك الإعلامي والأحداث الملموسة بعيدة جدًّا من أن تكون علاقة بسيطة.
بالمناسبة، ليس الرسول بريئًا البتّة. لست ألمّح هنا إلى رقابة أو بروباغاندا مخصوصة وإنما إلى علاقة عميقة بين الحدث والنظام الذي ابتُكر لكي يذيع الخبر.
السلك الإعلامي أشْبه بحمّال منه برسول. كل ما «يلتقطه» من أجل أن يعيد توصيله، أكان معلومة أم ترفيها، رياضة أم فنًّا، خاضع كله إلى قيد واحد هو البيع. شبكات التلفزة، الصحف، مهرجانات أغاني الپوپ، المباريات الرياضية، كل منها تخوض المنافسة بغية أن تكسب لنفسها جمهورًا. وكلما اتّسع الجمهور، تحسّنت حظوظ كل وسيطة من تلك الوسائط لبيع مساحتها الخاصة للذين يملكون هم أنفسهم منتجات أخرى برسم البيع. إذّاك يلتقي الاستهلاك والإعلام ويتشابكان في شراكة جهنمية وهذه الشراكة هي التي تكوّن الحقيقة الإعلامية التي تحيط بنا. تمثّل أجهزة الإعلام، أولًا وقبل أي شيء آخر، عقدًا اقتصاديًّا يرتبط بموجبه كل ما يحدث في العالم بفعل البيع.
ذلك أن في عالم تعيش أكثرية ناسه أو تموت في العوَز، ثمّة احتمالات كبيرة لكي يستدعي ويكرّس الاستهلاكُ سريع الوتيرة الذي تمارسه أقليات متميزة نسبيًّا، أخبارًا سيئة جديدة بأعداد تتنامى هي أيضًا بالوتيرة ذاتها.
في مواجهة ذلك، تجهد أجهزة الإعلام في استرضاء جمهورها وإغرائه بوعود تزيده وهمًا وإيهامًا بتحقيق رغبات العنف البطولي، واقتناء أشياء مذهّبة وصرف نفقات جديدة.
والمثال الكاشف عن عملية الإغواء هذه هو الحدث المتلفز بامتياز، ولعبة الروليت المعمّمة، حيث الهدف هو لهط كل الكنوز المعروضة. هكذا يجبَر المتنافسون من البالغين على أن يتصرفوا مثل أطفال مدللين وسط متجر للألعاب. وأول الضحايا، في عالم العوز هذا، هم عادة الأطفال أنفسهم. أما النظام الإعلامي فيزدهر عندما ينجح في إرجاع بالغيه إلى وضعية الصِبية الأشقياء.
وكما يحدث غالبًا، ها نحن في حلقة مفرغة. هل نستطيع كسرها؟ الأخبار السيئة لن تتحول إلى أخبار مفرحة. والسوق حرّة. والجمهور يشعر بأنه عاجز. فهل لنا أن نتخيل القدرة على كسر تلك الحلقة؟ لعل الأنسب في البداية هو أن نحلم.
حلمت الليلة الماضية أنني واقف أمام لوحة معلّقة على جدار معرض فنّي. يستحيل وصف اللوحة. اللوحات تقاوم الكلمات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بلوحات ظهرت في المنام. عندما استيقظت، كان عنوان اللوحة لا يزال في ذهني «في انتظار أن أجسّد شيئًا منك» بالفرنسية والإنكليزية والألمانية.
قادني هذا العنوان الغريب، وهو استشرافي إلى حد ما، إلى التفكير بالجوقة في التراجيديا الإغريقية. كانت هذه الجوقة تنتظر مع الأوركسترا، مثلما يشير عنوان اللوحة التي حلمت بها: تنتظر أن تستطيع المشاركة، أن تستطيع مواكبة تجربة أولئك المشغولين بالفعل في مقدّمة المسرح. في نهاية مسرحية «أوديب ملكًا» تتلو الجوقة هذا التعليق بعدما شاركتْ بكثير من الأفعال والحركات:
«ليس يوجد بشري واحد واكبناه بأعيننا إلى يومه الأخير، يستحق أن نهنّئه لأنه لم يعرف الألم قبل أن يجوز النهاية».
اللحظة التي تحتلها المأساة الإغريقية تحيّر حتى العلماء أنفسهم. من أين أتت؟ لماذا على هذه اللحظة أن تنتهي تمامًا؟ لقد أنتجت مسرحيات خالدة عظيمة نعرفها معذّبة وعنيفة، تهجس بالعدالة وتستدعي الرحمة.
«يا لخبر لا تستطيع النفس أن تستقبله ولا أن تتهرب منه»، تنشد الجوقة المليئة بالرحمة في «آجاكس» لسوفوكليس.1
غير أن هذه اللحظة التاريخية ستنتج رغم ذلك ما يزيد عن شكل مسرحي. لأول مرّة موثّقة، نلقى الاعتراف للرحمة بما هو قابلية إنسانية. في العادة كانت الجوقة هي التي تعبّر عن هذه الرحمة – الجوقة التي تزامن ظهورها في المسرح تاريخيًّا مع نشأة الديموقراطية الآثينية. هذه مثلًا جوقة تقدّم تعبيرًا جديدًا عن الحرب:
«آريس2، صرّاف الموت، قد نصب موازينه وسط وغى الحرب ومن إيليون3، يعيد للأهل، عند منطلق الشعلة، غبارًا مثقلًا بتأوّها قاسية على شاكلة إنسان، وبرمادٍ، يكدّسها بسهولة في القوارير! ننوح مفاخرين بمحارب كثير الخفّة في القتال، أو بآخر سقط سقوطًا مجيدًا في حومة الصراع الدامي – وبامرأة لم تكن تعني له شيئًا، ولكن بصوت خفيض فيما الألم الأصمّ يمضي مختلطًا بالحقد ضد أبناء آتريه4، أبطال الثارات». (إيسكيلوس)
الأعمال الفنية الكبرى علامات استدلال ليس فقط في تاريخ الفن وإنما في تاريخ الأماني الإنسانية أيضًا، وما أن تُصاغ حتى تتحول إلى نبوءات أبدية. بعض مقاطع «الأوماديات»5 تستشرف القديس يوحنا الرسول قبل أربعة قرون. وبالرغم من كل ما حصل منذ ذلك الحين، لا يزال الخيال المتضمن في الرحمة مستمرًّا إلى يومنا هذا: نلقاه ليس فقط في النصوص القديمة، وإنما أيضًا في ردود الأفعال العفوية لبشر من لحم ودم بشرط عدم كبْتها.
كلمة رحمة لا تحتاج إلى حرف كبير يتقدّمها. ذات يوم من أيام الأسبوع، قبيل عيد الميلاد، في ضاحية فرنسية رجلان سائران على الرصيف باتجاه السوبرماركت يرتدي كل منهما مريلة بيضاء ويحملان أيّلًا في طرف الذراع. وأحدهما ممسك بقائمتيه الخلفيتين. الحيوان مذبوح الوريد وصدره ملطخ بالدم. يستعد الرجلان لتعليق الجثة في واجهة ملحمة. رحمة المارّ الرحيم تمكّنه أن يلاحظ ببساطة التضحية بهذا الدم وهو ما سوف يلاحظه صيّاد بالتأكيد.
في الصف أمام صندوق السوبرماركت، عجوز. صغَر حجمها يوحي بقفّاز بلا يد تملأه. العربة التي تدفعها أمامها تحوي كشكولًا من حليب مخفّف، وعلبة «لا ڤاش كي ري»، وقطعة بيفتيك منمنمة في وعاء من البولستيرين مغطّى بورقة بلاستيك. وحْدهما يداها المنتفختان جرّاء حياة من العمل تبدوان كبيرتيَن. تحمل خاتم زواج في اليد اليمنى. يوحي محتوى العربة أنها أرملة.
«أعرف كم كان ذلك قاسيًا. مع ذلك، كان ثمة دومّا كلمة، كلمة، نتشبّث بها – الحُب. لقد أحببتك كما لا أحد غيري أحبك. والآن عليك أن تواصلي طريقك بدوني» («أوديب»، في سوبرماركت في الضواحي). تفترض الرحمة أن نعترف بخسائر ليست هي خسائرنا الشخصية بالدرجة الأولى.
أن تَلقى الجوقة في التراجيديا الإغريقية نفسها عاجزة أمام هذا الحدث أو ذلك لم يكن مرة مصدر عداء بالنسبة لها. لم تكن تبحث عن الحل، وإنما عن التعبير كما حدث. هكذا تخفّفت من وطأة عجزها بواسطة اليقين بأن دورها، دور الشاهد، يسمح لها بأن تتساءل، وأن تعلّق وأن تأمل انطلاقًا من تجربتها الشخصية: فإليها يعود الإعلان أن المأسوي هو مأسوي، في الوقت الذي تجده مناسبًا.
يكفي أن نكشف هذا الأمر لنظهّر المفارقة مع الطريقة التي تقدم بها أجهزة الإعلام أخبارَها السيئة في أيامنا هذه، والطريقة التي بها تتوجّه للذين يتلقّونها. تقدَّم الأخبار السيئة على أنها انقطاع مألوف ومؤسف وأليم في المسار العادي للحياة اليومية. إنها اقتحام. كما لو أن إشارة مرور وُضعت في صندوق بريدك. أما التراجيديا الإغريقية فإنها تفرض التواضع على الجميع.
تتساءلون عمّا إذا كنت أخلط هنا بين مسرحياتٍ وأحداث حقيقية، بين سوفوكليس وإيسكيلوس وفوضى حروب طروادة الحديثة التي تصمّ الآذان؟ الحقيقة أنْ لا، لأني أتحدث عن الاستعداد للرحمة الكامنة عند كل جمهور يتعرض للألم ولحالة العالم كما هي الآن.
الادّعاءات التي يزعمها السياسيون باسم الجمهور غالبًا ما تكون كاذبة، لكن الجمهور المعنيّ يستطيع أن يصوّبها من خلال التصويت في الانتخابات أو التظاهرات الجماعية. أما الادعاءات التي تقدّمها أجهزة الإعلام باسم الجمهور فهي عمياء ومعميّة في آن معًا، والطريقة الوحيدة لإبطالها هي في الإجابة بنعم أو لا عن أسئلة استطلاعات الرأي الخرقاء. كما لو أن بيانًا تخطيطيًا يستطيع التعبير عن الرحمة، أو عن نسبة مئوية من الإرهاب!
وربما أنه في هذا الموقع بالضبط يعاني شكل الديموقراطية الذي نعيش في ظلّه القتلَ البطيء. إذا صحّ ذلك، فإنها تتعرّض للاغتيال بالرفض. رفْض أجهزة الإعلام الاعتراف بأن الجمهور يعرف العالم في قلبه. ورفْض التوجه إليه، على اعتباره كيانًا قابلًا لمعرفة العالم. إن الجمهور يقاسم سوفوكليس الكثير من معارفه:
«الأمل النبيل يعزّي البشر حقًّا، لكن كثيرًا من البشر يتلاعبون بالرغبات الساذجة: والغافل عن انزلاقها يحرق نفسه بنفسه! لقد مسّت قدمَه النار... أية حكمة تتفجر من المثل الشهير: النفس التائهة ترى إلى الشر على أنه خير. تكفي لحظة واحدة لحرفها عن طريقها». (آنتيغون)
إن علّة الرفض الذي يهدد شكلنا المخصوص من الديموقراطية، علّة سوء التقدير المنهجي الذي تمارسه أجهزة الإعلام لكل ما هو مشترك بيننا، هذه العلّة تتلخص في الأمر ذاته دومًا: الحاجة المنحرفة إلى البيع.
لن أشيح بنظري عن أن عدد سكان آثينا كان أقلّ من مئة ألف نفْس في القرن الخامس قبل الميلاد. لست أقترح أن نُدخل الجوقات الراقصة إلى أخبار التلفزيونات. ولست أرافع عن أن يكون لدول «الشمال» الحق في أن تتلوى يأسًا أمام بؤس دول «الجنوب». أطالب بأن يعي الناس البغض الذي تعاملهم به أجهزة الإعلام بما هم جمهور من المشاهدين. البغض؟ نعم لأن الأمر يتعلق بكرامة المشاهد كما بكرامة ذلك الذي يجري عرض عذابه على الشاشة.
أعيدوا لنا بعض الكرامة – امنحونا المزيد من الوقت، انتقلوا من الأماكن المألوفة – فلا تعود الأخبار السيئة مجرّد انقطاع لتتحوّل إلى حقيقة.
في مواجهة حقائق عديدة، ليس يوجد أي حل فوري. إن مصطلح «حل» لا يمكن أن يرقى إلى مستوى المأسوي. يترتّب علينا نحن أن نلمسه وأن نمكنه من أن يلمسنا. إنّ تسميته يمكنها أن تجعل منا بشرًا مختلفين. المأسوي، إذ نسمّيه، يبقى مأسويًا – لكنه يفقد أثره بما هو مجرد أخبار سيئة. إذّاك فقط يمكننا أن نفكّر في قيام سياسة واقعية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.