في أي تساؤل حول موضوع «الاستهلاك»، كما حول قضية الرأسمالية الاستهلاكية في سياق ما يسمّى «الدول النامية»، لا محالَ سوى لإرفاق تساؤل موازٍ: «هل يمكن الاكتفاء بأقل من هذا؟». وحالما أطرح على نفسي هذا السؤال الضروري، أسارع إلى محاولة اعتصار ولو جوابًا واحدًا عنه، لكن من دون فائدة تُرجى، لدرجة اعتقدت فيها بأنني أعاني من انسداد في الكتابة بعدما استهلكت كل مخزوني الفكري والأدبي. وها أنا فارغة مثل فرضية الكرة الأرضية التي استنزفت كافة مصادرها وها هي تعاني أزمة نقص حادّة. باختصار، إنني مثال لا لبس فيه على معضلة حدود النمو الملازمة لإشكالية الاستهلاك المفرط.
الاستهلاكية المفرطة
برغم ذلك، لا أستسلم. أستمر بالعصر والحفر لاستخراج ولو ذرة مادة واحدة يمكنني اعتمادها في إنتاج نص ما حول الموضوع، إلى أن وصلتُ إلى جدتي.
لقد توفّيت جدتي قبل ثمانية عشر عامًا، بعدما عاصرت الإمبراطورية العثمانية حيث وقع في حبّها ضابطٌ أناضولي، ثم فترة الانتداب البريطاني التي عُيِّن خلالها زوجُها، أي جدّي، مسؤولاً عن زراعة آلاف الدونمات بأشجار السرو، ثم عاشت بقية حياتها تحت سلطة دولة إسرائيل وقد ترمّلت، بل ولحقت نهايةَ الحرب الباردة وانهيارَ جدار برلين، وتوفيت أخيرًا خلال حرب الخليج الأولى. ولقد فكرتُ في ما كانت ستعلّق جدتي لو طرحتُ عليها معضلةَ الاستهلاك والميل نحو الاكتفاء بما هو أقل، بحكْم أنها واكبت حقبات تاريخية مختلفة رافقتها تحولات اقتصادية وفي أساليب الحياة، فقد اشتهرَت بعبارة كانت ترددها بازدراء على مسمعنا ونحن أطفال كلما عبّرنا عن استيائنا من عدم امتلاكنا لشيء ما: «في مثل عمركم كنتُ أشرب الماء المتجمّع في حُفر الصخور». وجدتي كانت ستستمع إلى سؤالي «هل يمكن الاكتفاء بأقل من هذا؟» ثم ستشيح بنظرها عني متأففة. هذا هو كل ما كانت ستردّ به على الأغلب.
في الواقع، ليست جدتي المتوفاة قبل ما يقارب العقدين وحدَها التي كانت لتردّ على سؤالي بهذه الطريقة، إنما الملايين ممن يقطنون العالم العربي، والذين ما زالوا يعيشون بطريقة لا تختلف جذريًّا عما عاشته جدتي من قبل، أو قد تكون سنحت لهم الفرصة بأن يستهلكوا أكثر بكثير مما استهلكت، حتى من مواد أساسية. بالتالي، كان تساؤلي سيعني بالنسبة لهؤلاء: «هل يمكن الاكتفاء بأقل من هذا الأقل؟»، إذ لم يتسنَّ لهم أن يدركوا إلى الآن معنى معضلة الاستهلاكية المفرطة في حياتهم.
لستُ بالخبيرة الاقتصادية، لكن لإدراك ذلك يكفي أن يتجه المرء من بيننا إلى حيّ ما في إحدى المناطق السكنية الكثيرة المدمرة جرّاء الحروب أو المنسية من قِبل النخب السياسية الفاسدة في البلدان العربية وغيرها من الدول النامية، وإن لم يستطع أو يرغب في ذلك، فيمكنه الاكتفاء ببحث صغير لاكتشاف كيف تحيا غالبية المواطنين هناك. تشير أبحاث وإحصائيات عدة إلى أن معدل دخل الفرد لدى ثلاثة أرباع سكان العالم العربي يتراوح بين دولار وخمسة دولارات في اليوم، وإلى أن نسبة البطالة تقارب خمسة وعشرين في المائة، هذا طبعًا من دون احتساب الذين يعملون في وظائف تقع ضمن نطاق ما يسمّى «البطالة المقنّعة»، حيث يؤدي العامل وظيفة ليست أقل من قدراته فحسب، بل أيضًا لا حاجة لأحد بها، كحمل حقيبة مسافرٍ ما إن يخرج من المطار، أو مسح حذاء أحدهم. وما الأحداث والثورات السياسية خلال العقد الأخير في الكثير من البلدان العربية سوى النتاج الطبيعي لهذه الحقائق.
إن كانت قضية «الاستهلاك بدرجة أقل» يجب أن تعني وتشغل أحدهم في هذه البلدان، فهو طبقة من الأقلية التي تعرف ما معنى «أكثر»، وبالتالي يمكنها تقييم فكرة الاستهلاك بدرجة أقل. لكن السؤال هو: هل ممكن لمثل هذه الطبقة أن تفكر بهذا؟
الأكثر والأقل
في العادة، هذه الطبقة خليطٌ من نخبة اقتصادية تتكون من أصحاب رؤوس الأموال والنخبة السياسية الحاكمة. والتحالف بين هاتين النخبتين وما تتمتعان به من قوة وسلطة، وليس فقط من استهلاك مفرط لموارد البلد المعيّن والموارد الطبيعية على الكرة الأرضية، إنما ينتهي أيضًا باضطرار الأكثرية إلى الاكتفاء بأقل مما هو ممكن، بما في ذلك حرّيات أقل وشروط إنسانية أقل، لا تمكّنهم بدورها من التفكير بأكثر من كيفية الحصول على رغيف الخبز على نحوٍ دائم. وأشد ما يساهم في الحفاظ على هذه الحال، هو غياب ما يمكن اعتباره حيّزًا مفتوحًا للنقاش العام، والمسؤولة عنه وسائلُ الإعلام العربية على اختلافها، والتي تكرّس نفسها لخدمة تحالفات سياسية- اقتصادية إقليمية لصالح النخب ممّن تتمتع بأكبر قدر من الملكيات. وهذه النخب بدورها تحاول من دون كلل إقناع الفرد بأنه لا سبيل للعيش من دونها ولما تروّجه، أكان ذلك منتوجًا سياسيًّا أم اقتصاديًّا، محليًّا أم غير محلي قد وُجد له شريك محلي من أفراد تلك النخبة. حتى الإسلام في وسائل الإعلام في الديكتاتوريات العربية الإسلامية، تمّ تغليفه وتسويقه كما الترويج له، إما عبر منتجات ذات طابع إسلامي، بدءًا بلباس المرأة الصالحة وحتى بالادّخار في مصارف إسلامية، أو كوسيلة للحصول في الجنة أو الآخرة على ما لا يمكن الحصول عليه الآن، بما في ذلك المنتجات والسلع التي تُعرض عبر وسائل الإعلام ذاتها، جرّاء الفقر والبؤس الناجمين عن الاضطهاد الاقتصادي والسياسي. باختصار، الإسلام الذي يسوَّق حاليًّا يضع حلّ هذه الأزمات في السماء لا على الأرض، وإن بحث عنها في الأرض، فيلتفت إلى الماضي وأمجاده، لا إلى الحاضر وأزماته، بينما يتم احتساب ما يقدّمه المرء من خير، وفق منظومة ادّخار الحسنات ليوم الآخرة.
وطبقات القوة هذه، اقتصاديةً كانت أم سياسية، دينية أم علمانية، ليست تعرف جيدًا فقط بأنه لا يمكن للواحدة منها الاستمرار من دون الأخرى، إنما أيضًا لا يمكنها الاستمرار من دون الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي وبحركته بشكل مباشر والقوى التي تمثّله، ولا مثال أفضل على ذلك من التحالف الغربي مع السعودية وقطر والإمارات ومصر والمغرب إلخ، وهي بعض أعرق الديكتاتوريات العربية.
إن من بعض الأمثلة القاتمة حول التأثير الفعلي لمثل هذه التحالفات المتعلقة بمعضلة الاستهلاك وتمتّع الأقلية بالأكثر، هو مَشاهد الصفوف الطويلة خلال العقدين الأخيرين للعراقيين الواقفين بانتظار الحصول على بضعة لترات من الوقود بسبب وجود أزمة نقص في الوقود في العراق الذي يملك ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم. إلا أن الأمر لا يقتصر على بلد كالعراق يعاني من تبعات الاحتلال الأميركي ومن قَبل الحصار الدولي، إنما على بلد كالسعودية، حيث تتمتع الطبقة الحاكمة المكونة من عائلة واحدة وحلفائها بخيرات البلد، بينما هنالك الآلاف من السعوديين وغير السعوديين، كالعمّال الأجانب الذين لا يخلو بيت سعودي منهم، الذين يحيون بغير خيار على الأقل، أحيانًا تحت السقف ذاته لذلك الذي تحيا تحته العائلات التي تنتمي إلى النخبة السياسية والاقتصادية وتحاول انتهاج نهجها. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستكتفي هذه الأكثرية في العالم العربي بالأقل لأسباب مبدئية مثلاً، كالرغبة في مقاومة النزعة الاستهلاكية التي نشهدها اليوم، أو حتى التهديدات البيئية؟
في الوقت الحالي لا يمكن الاعتقاد بأن لهذه الأكثرية القدرة على اختيار نوع حياة مغاير للّذي تعيشه لتقبل بما هو أقل، كما قد يكون الأمر مثلاً لمجموعات أو أفراد تنازلوا عن النزعة الاستهلاكية لأسباب مختلفة، قد تكون أخلاقية أو بيئية أو سياسية. فمن جهة، هناك مثلاً المواطن الأميركي الذي يحيا في منطقة نيو هامبشاير في ولاية ماساتشوستس ويستخدم أقل ما يمكن من السلع والماء والكهرباء المتوافرة حاليًّا وبكثرة في حياته اليومية، مستعيضًا عنها بوسائل أخرى أقل إهدارًا للمصادر والموارد الطبيعية. ومن جهة أخرى، هناك المواطن الفلسطيني الذي يقطن في مخيم جباليا في قطاع غزّة ويستخدم هو أيضًا أقل ما يمكن من السلع والماء والكهرباء في حياته اليومية، لكن بسبب ندرة هذه المواد نتيجة الحصار المفروض على غزة. السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف يمكننا التعامل مع هذين التصرفين المتشابهين للوهلة الأولى في ندرة الاستهلاك، إلا أنه لا يمكن غضّ النظر عن أن ما قاد إليهما هي أسباب مغايرة تمامًا؟ فبينما سلوك المرء في الحالة الأولى ناجم عن قدرة على الاختيار بعدم الاستهلاك، في الحالة الثانية هو ناجم عن عقاب، مما لا يساهم إلا في جعل المرء في هذه الحالة يعتقد بأن نهاية هذا العقاب هي الحرية في الاستهلاك، وهو ما عليه أن ترتكز كرامته الانسانية، وهو ما تروّج له فعليًّا سياسة «اللجنة الرباعية» والقيادة الإسرائيلية في فلسطين وهو أن الحل للقضية الفلسطينية يكمن في تسهيلات اقتصادية.
من الصعب إذن مجرد طرح سؤال اللجوء إلى القليل بدل الكثير، لمقاومة النزعة الاستهلاكية، في سياقٍ لا يوجد فيه إلا القليل. لكن ذلك لا ينفي أن ينتهز من هو غارق في الأكثر تأمّل مثل هذا الوجود، ليس فقط من زاوية السمو الإنساني والأخلاقي والبيئي حيث يتم التنازل عن الأكثر واللجوء إلى الأقل لتفادي أن يكون في ما بعد أقل، بل لأن الأكثر حاليًّا إنما هو ناتج أيضًا من منْح الكثيرين ما هو أقل، والذين لا يجدر تحميلهم مسؤولية الإجابة عن أزمة الاستهلاك التي لم يكن لهم الدور الرئيسي فيها، بل يجري فرضها عليهم أحيانًا كتهديد، وأحيانًا أخرى كعقاب. وأعتقد أن كل هذا هو ما كانت ستعنيه جدتي مختصرةً إياه بتأفّفها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.