العدد ٣٣ - ٢٠٢١

صديقي الذي قَتَل!

لو حلفتَ لي على المصحف في قلب الكعبة في الهزيع الأخير من ليلة القدر أنّ ذلك البني آدم الوديع والمثقف، سيتحول فجأةً إلى قاتل لما صدّقتك.

قبل عشر سنوات من قراءة الأحرف الأولى من اسمه في الخبر الرئيسي لصفحة الحوادث بوصفه معترفًا بارتكاب جريمة قتل وسرقة ربّ عمله، كنتُ قد قرأتُ اسمه موقِّعًا على رسالة قصيرة هزّتني من الأعماق، وجعلتني أشعر بجدوى الكتابة وتأثيرها، وتمنّيت يومها لو أتيح لي أن أراسله لأدعوه إلى زيارة مكتبي، أو اللقاء على قهوة ما لأتعرف على دماغه أكثر، لكنه لم يرفق عنوانه بالرسالة التي كتبها بخط معقول وعدد محدود من الأخطاء الإملائية على ورقة بدا أنها منتزعة من كشكول مسطّر، وقد كانت أول وآخر رسالة من قارئ أقوم بتعليقها على الحائط المجاور لمكتبي، جنبًا إلى جنب مع صور جوليا روبرتس وسعاد حسني ونجيب محفوظ وليلى مراد وماركيز وديمي مور ومحمد الماغوط، ولعل جيران الرسالة يعطونك فكرة عن مدى غلاوتها عندي.

لم تؤثّر فيّ رسالته إلى ذلك الحد، لأنها كانت تمتدح أسلوب كتابتي أو تثني على جمال أفكاري، فقد سبق أن تلقيت الكثير من الرسائل المفعمة بالمديح منذ أن بدأ عملي في صحيفة (الدستور)، لكنني كنت أتعامل بحذر مع أغلب ما فيها، منذ أن عملت مشرفًا على صفحة بريد القرّاء الذين يعلمون بحكم التجربة أو الغريزة أنّ الكُتّاب كالغواني «يغرّهنّ الثناء»، بل أثرت رسالته فيّ بشدة، لأنها أكدت لي أن ما ترغب في وصوله إلى القارئ سيصل حتى لو قمتَ بتضمينه في شيفرة تبدو عصيّة على الترجمة، وهو ما كنتُ قد اضطررت إليه لكي أعبّر عن غضبي وقرفي من طوفان النفاق الذي كان يجتاح البلاد سنويًّا في الأيام الأولى من شهر مايو [أيار] احتفالاً بعيد ميلاد رئيس البلاد حسني مبارك، ولأنّ صحيفتنا كانت حاصلة على ترخيص قبرصي يضطرها للعرض على الرقابة قبل الطبع، قررتُ أن أكتب في زاويتي الأسبوعية مقالة قصيرة بعنوان (نفاقيات) نشرتها في العدد الصادر بتاريخ ٧ مايو ١٩٩٧ بعد ثلاثة أيام من عيد ميلاد مبارك، بدأتها قائلاً: «نافق ينافق نفاقًا فهو منافق، نافقًا ينافقان نفاقًا فهما منافقان، نافقتا تنافقان نفاقًا فهما منافقتان، نافقوا ينافقون نفاقًا فهم منافقون...»، ثم واصلتُ حتى نهايتها سرد كل ما يمكن تصوره من المشتقات المرتبطة بكلمة النفاق أو الجمل المفيدة التي يمكن وضعها فيها.

في الصحافة والنفاق

خلال الأيام التي أعقبت نشر المقالة، أحبطتني عدة رسائل ومكالمات تلومني على ذلك الهذر المضيع للوقت والذي لا يمكن استخلاص معنًى واضح منه، لذلك أبهجتني تلك الرسالة التي تؤكد نجاح فك الشيفرة، خاصةً أن كاتبها بدا مدركًا للسياق العام الذي صاحب نشرها، معربًا عن تقديره لأن هناك من يرفض المشي في زفّة الموالد المباركية التي تعالت أصوات الطبل والزمر فيها بصورة غير مسبوقة، منذ أن وقعت محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام ١٩٩٥، لتشتد بعدها قبضة الأمن في التعامل مع المعارضة، ويتخذ نظام مبارك من الحوادث الإرهابية المتزايدة ذريعة للبطش بالمعارضين، فيتم الاعتداء البدني على جمال بدوي، رئيس تحرير صحيفة (الوفد)، ويُعتقل عادل حسين، رئيس تحرير صحيفة (الشعب) لعدة أشهر، ويسقط العديد من القتلى والجرحى المؤيدين لأحزاب المعارضة ضحايا برصاص قوات الأمن خلال الانتخابات البرلمانية في خريف ٩٥ التي سجّل التزوير فيها أرقامًا قياسية في الفُجر. وفي ظل هذا كله وبعده، لم يعُد نشر التهاني والتبريكات في عيد ميلاد مبارك وفي ذكرى تولّيه الحكم وذكرى نجاته من الاغتيال مقصورًا على الصحف والمجلات الحكومية التي يتبارى كتّابها كل عام في فجاجة المديح وتلزيق المبايعة، فبسبب الكثير من الضغوط السياسية والأمنية، وجدَت تلك التهاني والتبريكات طريقها إلى العديد من الصحف المعارضة مشفوعةً بكلام رخيص من نوعية أننا قد نختلف مع نظام مبارك لكننا لا نختلف على شخص مبارك ونزاهته وأهميته من أجل استقرار البلد وأمن الوطن، وتحت وطأة كل هذا العفن، أرسل ذلك الصديق المجهول يقول في رسالته التي جاءت مشفّرة هي الأخرى:

«انتظرت (الدستور) هذا الأسبوع بفروغ صبر. انتظرتها وقد قررت إذا أنا وجدت الخبر الذي أبحث عنه فلن أتصفّحها ثانيةً ولن تمسّها يدي. هذا الخبر الذي أتى لنا عبر جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. خبر أثبت لي أن معظم صحافيي مصر منافقون، أقول معظم وليس كل، فلم تبقَ صحيفة لم تنشر الخبر أو تهلل له أو تمجد في صاحبه بشكل أو بآخر إلا (الدستور)، ربما لأن موعد صدورها جاء متأخرًا. قلت لنفسي فلأنتظر، اليوم هو الاثنين، باقي يومان وتنزل الدستور إلى الأسواق. وعندما طالتها يدي قلت لها –للجريدة– النهارده آخر يوم ليكي معايا يا حلوة. و... ولم أجد ما أبحث عنه، ولكن وجدتُ تعليقًا من بلال فضل عمّا حدث طوال الأسبوع الماضي من الصحافيين زملائه ومن الإذاعة والتلفزيون والمطربين وكان تعليقه فيه الكفاية. تحياتي».

بعد عشرة أشهر من وصول الرسالة، أُغلقت (الدستور) بقرار رئاسي لأن نظام مبارك لم يحتمل مشاغباتها، حتى وإن كانت تدور تحت الأسقف الرقابية «الواطية»، وفي إطار العلاقات المتشابكة بين أجنحة النظام المتصارعة، وحين لملمتُ أوراقي وأخليتُ مكتبي ذاهبًا إلى المجهول، حرصتُ على الاحتفاظ بكل ما على الحائط المجاور لمكتبي، ومع مرور السنين فقدت أغلب ما كان عليه من صور بتأثير من عوامل التعرية والإحلال والتبديل، لكني احتفظت بتلك الرسالة لتظل تذكارًا وتذكيرًا لي بالكتابة كما أحبها وأفهمها، وحين عدتُ إلى أوراقي مؤخرًا لأنقل نص الرسالة، لفت انتباهي أنني استخسرت أن يظل نصف الورقة التي كُتبت عليه خاليًا، فقمت بملء ذلك الفراغ بكتابة أربعة مقاطع من بعض الأغاني هي:

«وفي كلّ شيء يلوح الهوى، ولكن لمن ذاق طعم الهوى»
«جوايّا طيرْ قلقان في عشُّه، لا أنا قادر أشيله ولا قادر أهِشُّه»
«بسّ الحقيقة المذهلة، إنّ الجميع في السلسلة»
«دقَّيْت دقَّيْت وإيديّي اتجرّحوا، وقنديلكون سهران ليش ما بتفتَحوا».

وكلها مقاطع لم تعُد بعد مرور السنين والتجارب تحرّك أي أوتار عاطفية بداخلي، بل أصبح اختياري لها دون غيرها كاشفًا عن تردّي حالتي العاطفية وقتها، وحتى حقيقة أن «الجميع في السلسلة» التي بدت لي وقتها مذهلة، صارت الآن حقيقة مضحكة، بعد أن ثبتت قدرة السلاسل على التفلّت والتقلّب طبقًا للظروف والضغوط والعلاقات وأسعار السوق.

bid33_p.146-147.jpeg


مشهد من فيلم «واحد من الناس» (2006)، إخراج أحمد نادر جلال، كتابة بلال فضل.

 

تعارف على سندويتشات كبدة وسجق

أنْستني الأيامُ الرسالةَ وكاتبَها، وبعد سنوات تركت فيها الصحافة وتفرغت للكتابة السينمائية، ثم عدتُ في عام ٢٠٠٥ للجمع بين الكتابة للسينما والصحافة في الإصدار الثاني من صحيفة (الدستور)، ذهبت لحضور العرض الجماهيري الأول لفيلمي (واحد من الناس) في سينما شهيرة تقع في وسط القاهرة، وكانت من دور العرض القريبة إلى قلبي لما تحمله من ذكريات مرتبطة بأيام الصعلكة، وحين دخلت إلى السينما بصحبة بطل الفيلم كريم عبد العزيز ومخرجه أحمد جلال استقبلنا مديرُ السينما بحفاوة، وطلب منّا أن ننتظر في الكافتيريا الموجودة بالدور الأعلى، كيلا يتجمهر روّاد السينما حول كريم ويتأخر عرض الفيلم، وحين صعدنا إلى الكافتيريا استقبلنا شاب أسمر نحيل يرتدي بدلة سوداء مرهَقَة، ودعانا إلى وليمة من السندويتشات، وحين سألته مداعبًا عن مصدرها لكي آخذ قراري قبل الأكل، قال إنها من مطعم مجاور للسينما، شهير بسندويتشات الكبدة والسجق.

حين بدأنا الأكل، جلس الشاب النحيل إلى جواري، ومال عليّ وقال مداعبًا إنه لم يكن يتصور أن يأتي اليوم الذي يسمعني فيه أسأل بحذر عن مصدر سندويتشات كبدة وسجق وأنا الذي سبق وأن كتبتُ عن غرامي بها أيًّا كان مصدرها، فقلت ضاحكًا إنّ غدر الزمان وموت ذمم أصحاب عربات الكبدة والسجق هو الذي أجبرني على الحذر، فقال مشاكسًا: «يعني ده مش بسبب الانتعاشة الطبقية بعد نجاحات السينما؟». وحين نظرتُ إليه متحفزًا للرد، بادرني بابتسامة ودود وقال إنه صديق قديم لي، وإنه كان يلتقي بي كل أربعاء على صفحات (الدستور) ثم افتقدني لسنين قبل أن يجدد لقاءه بي في الأفلام ثم في (الدستور) الجديد، ثم فاجأني بالقول إنه سبق وأن راسلني في (الدستور) القديم، لكنه لا يدري ما إذا كنت قد قرأت رسالته التي أرسلها لي بعد أيام من عيد ميلاد مبارك، يهنئني فيها على النجاة من وباء النفاق الذي ضرب أغلب صحافيي البلاد، وفوجئ حين هتفت به متسائلاً عما إذا كان اسمه كذا، وحين هز رأسه بالإيجاب أخذته «حُضن مطارات»، وقبل أن آخذ فرصتي لشرح أسباب حفاوتي به لأصدقائي، جاء مدير السينما ليدعونا لدخول القاعة التي امتلأت عن آخرها بمشاهدين، كان لا بد أن نرصد ردود أفعالهم على الفيلم أولاً بأول، لكنني تركت لـ«صديقي القديم» رقم موبايلي، وطلبت منه أن يتّصل بي في أقرب فرصة لكي نتفق على موعد للّقاء، إن لم يكن في السينما التي قال لي إنه يعمل فيها خلال فترة الصيف فقط، ففي قهوة قريبة نتحدث فيها بالتفصيل عما فعلته بنا الدنيا خلال السنين الماضية.

لم يتواصل معي كما كنت أتمنى، لكن فيلم (واحد من الناس) الذي كان سببًا في التقائنا لأول مرة، كان سببًا في دفعه لمراسلتي من جديد بعد عام، وهذه المرة عبر بريدي الإلكتروني الذي كنت أنشره أسفل مقالاتي، ليذكرني بواقعة جرت بعد أسابيع من النجاح الفائق الذي حققه الفيلم، والذي دفع مسؤولي برنامج (البيت بيتك) الذي كانت تعرضه القناة الأولى في التلفزيون المصري الحكومي لاستضافة فريق العمل، وسأل أحد معدّي البرنامج بطل الفيلم عما إذا كان يمكن أن يحضر إلى اللقاء بمفرده مع مخرج العمل وبطلتيه منة شلبي وبسمة، فقال كريم إنه لن يحضر اللقاء إلا إذا حضرته، وشجعني رد فعل كريم على الحضور، خاصةً حين عرفت أن من سيستضيفنا في البرنامج هو الصديق الأستاذ محمود سعد.

قبل أن أدخل إلى الاستديو ليبدأ اللقاء على الهواء انتحى بي اثنان من الأصدقاء العاملين في الإعداد، وطلبا مني بعد بعض التلعثم أن أكون حذرًا في حديثي قدر الإمكان، وأن يقتصر كلامي عن الفيلم وأحداثه، لأن الأمن اعترض على ظهوري في البرنامج، لكن ظهوري على الهواء جاء على مسؤولية محمود سعد نفسه، فقلت لهما إنه لا يرضيني أن أتسبب في مشاكل لأي أحد وإنني سأكون في غاية الحذر حين أتحدث، لكن عليهما أن يطلبا من محمود سعد ألا يسألني عن تفاصيل قصة الفيلم، لأن مجرد حكي تلك التفاصيل قد يتسبب في مشاكل لأنها تحكي عن القهر الذي يتعرض له المواطن المصري البسيط ممثلاً في شخصية بطل الفيلم الذي يعمل حارس أمن خاص، ثم أضفت مازحًا أنه لو اجتهد في أن يوجه لي أسئلة شديدة العمومية والسطحية، لمرّ اللقاء على خير.

حين بدأ اللقاء، لم يفوّت محمود سعد فرصة المشاغبة بتوجيه أسئلة عن قصة الفيلم وما تحمله من نقد لأحوال البلد، لتمتقع وجوه العاملين معه خلف الكاميرات. وحين بدأ تلقّي بعض المكالمات من جمهور البرنامج، فوجئت باتصال من أستاذ جامعي يهاجمني فيه بشراسة لأنني كتبت مشهدًا يشكو فيه البطل الذي كانت زوجته على وشك الولادة لصديقه عسكري الأمن المركزي من اضطراره بسبب ظروفه المادية لإدخال زوجته إلى مستشفى الجلاء للولادة متسائلاً بسخرية: «هوّ في مستشفى ولادة يبقى اسمه الجلاء، طيب جلاء مين عن إيه؟»، واتّهمني المتصل الغاضب بالسخرية من ذكرى الجلاء العظيمة وهو ما يزعزع روح الانتماء لدى الشباب، وطالب بحذف العبارة من الفيلم على الفور قبل أن يتم تقديم بلاغ يسائل الرقابة عن إجازة هذه العبارة التي لا يمكن التسامح معها. وحين بدأت أسخر من المتصل الغيور على الوطن أكثر من اللازم، فرملني محمود سعد لكي يمر اللقاء على خير، وبعدها لم تتخذ الرقابة أي إجراءات ضد الفيلم، برغم أن أحد كتّاب الصحف الحكومية المعروف بقربه من جمال مبارك نجل الرئيس التقط الخيط من المكالمة وكتب مطالبًا بحذف العبارة من الفيلم حرصًا على علاقة الأجيال القادمة بمعنى (الجلاء)، لكنها لم تُحذف، على الأقل حتى الآن.

رسالة في الحَمْل والهرب من المستشفى

كل هذا شاهده صديقي القديم وتذكّره، حين اضطرته الظروف للذهاب مع زوجته إلى مستشفى الجلاء للولادة، فعاش فيها تجربة مريرة قرر أن يكتبها لي في رسالة بدأها بالاعتذار عن عدم اتصاله بي لأنه لم يرغب في إزعاجي وتخوف أن أفهم أنه راغب في مصلحة، خصوصًا أنه قال لي في السينما إن لديه بعض المحاولات في الكتابة التي يهواها، لكن ظروف أكل العِيش تمنعه من الانشغال بها، إلّا أنه في الوقت نفسه شعر بأهمية مشاركتي في تجربته، أنا وقرّاء (الدستور)، التي كنت أكتب بانتظام في إصدارها اليومي، فنشرت فيها رسالته التي قال فيها:

«عندما أقرأ وأشاهد ما يقال عن اهتمام السيدة الأولى في مصر وكبار المسؤولين بصحة المرأة المصرية أسأل نفسي عن أي امرأة يتكلمون، هل يهتمون بصحة المرأة البسيطة التي لا يتجاوز مرتّب زوجها ٤٠٠ جنيه ولديه ثلاثة أطفال يشقى ليؤمن لهم «الممّ»، أم يهتمون بصحة النساء السوبر زوجات أعضاء مجلس الشعب وعضوات نوادي الروتاري والليونز. ما علينا، مش وقت الكلام ده، خلّينا في حكايتنا وصلّي بينا على النبي.

«ذهبت مؤخرًا لمستشفى الجلاء للولادة مع زوجتي، وكان لا بد في نهاية شهور الحمل من إجراء عملية قيصرية عاجلة، ولأن الحمل كان بدون ترتيب، وكانت آخر ولادة لها منذ عام ونصف فقط، وكانت حالة جرح عملية الولادة القيصرية صعبة لأن الجرح لم يكن قد التأم تمامًا بسبب اضطرارها للعمل، فالراحة التامة كانت رفاهية غير ممكنة بالنسبة لنا، وكانت زوجتي قد تخطت منتصف الشهر التاسع، وكان المفروض أن تعمل العملية فورًا، لكننا تأخرنا في عملها يومين أو ثلاثة أيام، ليه، لأننا يا سيدي داخلين القسم المجّاني فمحسوبك من مشنوقي الدخل ولا مؤاخذة، وطالما داخلين المجّاني يبقى ما فيش عملية على طول، لأ، لازم الأمّ تستنّى حدوث طارئ يحكم الطبيب بعده بعدم وجود بديل عن إجراء العملية، هوّ ده نظام المستشفى، لكن لو انتَ داخل ما يُطلق عليه القسم الاقتصادي وفلوسك حاضرة نعمل لك العملية على طول، لكن طالما انتَ مواطن مجّاني فحياة زوجتك وجنينها مجّانية هي الأخرى، ولذلك برغم أن موعد الولادة كان قد فات، لم يكن أحد يريد التحرك، وعلى زوجتك أن تتعذب، يا إما تدفع ٨٠٠ جنيه والعملية تتعمل النهارده مش بكره.

«المهم، استجاب الله لدعائنا وأكرمنا بواسِطة وصلْنا عن طريقها إلى سكرتيرة مدير المستشفى، والتي أرسلتنا إلى دكتور صغير قام بالتوقيع على الأوراق، ولم يعُد أمامنا لدخول العملية سوى تحديد موعدها وكل ذلك بمكالمة تليفونية خلّصت كل الإجراءات في نصف ساعة. كان الإجراء الأخير هو رسم نبض للجنين، من خلال جهاز تجلس عليه الأم لمدة ٤٥ دقيقة، وكان يوجد أمامنا ٢٣ حالة، يعني كان علينا أن ننتظر ١٧ ساعة وربّنا يلطف بينا لأنّ المستشفى المتطور في هذا العهد المتطور ليس بها سوى جهاز واحد فقط، قُلنا نطْلع الدور الرابع لندفع رسوم استخدام الجهاز، قابلتنا هناك مدام قالت لنا بمنتهى القرف: «إنتوا تنزلوا تحت.. إنتوا تبع المجاني.. هِنا بنعمل للاقتصادي بس لأن الجهاز الخاص بالمجاني عليه حالة». وبدأت المشاكل تزيد بين المرضى وموظفي المستشفى، لدرجة إنّ واحدة اشتدت بها آلام الولادة بينما الممرضة بتقولها: لِسّه دورك ما جاشْ ومعادِك على الجهاز بعد خمس ساعات، بينما ولدت سيدة أخرى على باب المصعد، وجوزها عَمّال يتخانق عشان دورها، فأصبت أنا وزوجتي باليأس، وقلنا نتوكل على الله ونمشي من المستشفى، وزيّ ما تيجي خصوصًا بعدما قالوا لنا إن العملية ستتم بعد أربعة أيام مع إن معادها المقرر كان قبل ثلاثة أيام، وكل ما قالوه لنا في المستشفى عندها هو تحذيرنا أن التذكرة الطبية سيكتب عليها هروب وعلينا أن نتحمل المسؤولية، لكن زوجتي برغم خطورة حالتها اتفقت معي على أن نمشي مهما حصل فلم يكن لدينا استعداد أن نواصل تحمل معاملتنا على أننا بقر ولسنا بشرًا».

جريمة في دار السينما

بعد أن نشرت الرسالة كتبتُ معلقًا عليها: «يا صديقي لو حكيت حكايتك المؤلمة هذه لأحد المسؤولين المباركين لألقى عليك باللوم أنت وسيدتك الأولى لأنكما لم تسمعا كلام الرئيس والسيدة الأولى بضرورة الالتزام بتحديد النسل واندمجتما في وصلات عاطفية نسيتما فيها واجباتكما كمواطنين صالحين، ولذلك حق عليكما الجلاء التام أو الموت الزؤام. حمدًا لله على سلامة المدام، وتذكر أنّ ما فعلته معك الحكومة في مصلحتك تمامًا، عشان كلما تقرّب من المدام تفتكر مستشفى الجلاء فتجلي نفسك من غرفة النوم وتنام في الصالة».

انتظرتُ بعد نشر الرسالة أن يعاود صديقي مراسلتي لكي نتفق على موعد للقاء، خاصةً أنني حرصتُ على إرسال رسالة شخصية له على الإيميل، أطلب منه أن يحدد موعدًا لكي نلتقي في أحد مقاهي وسط البلد القريبة من السينما التي يعمل فيها. وحين لم أتلقّ منه ردًّا، توقعت أن يكون السبب خجله ورغبته في عدم الإثقال عليّ، وقررت أن أنتهز أقرب فرصة لزيارته في السينما، لكن تلاهي الدنيا عطّلت ذلك المشوار، حتى جاء بعد أشهر معدودة اليوم الذي وجدت فيه اسمه منشورًا في كل صفحات الحوادث بوصفه القاتل الذي قام بمداهمة صاحب سينما شهيرة بوسط البلد في بيته وقتله لكي يسرق إيراد السينما، وكان أول ما فكرت فيه حين قرأت الخبر أن هناك تشابهًا في الأسماء، لأن بعض الصحف وصفت صديقي بأنه مدير السينما، وبعضها وصفتْه بأنه مدير كافتيريا السينما، وقمت بإرسال رسالة على البريد الإلكتروني لصديقي كي أطمئن عليه، ولم أتلقّ منه ردًّا. وبعد أسابيع زال ظني بوجود تشابه للأسماء، حين قررت خلال مروري بالصدفة إلى جوار السينما أن أدخلها لأسأل عنه، ليقول لي بعض زملائه المتوترين إنهم لم يصدقوا الخبر حين سمعوه وإنهم ما زالوا يعتقدون بوجود لغز ما في القضية، لأن صديقي الذي يعرفونه لا يمكن أن يرتكب جريمة مثل هذه وهو الإنسان الطيب المثقف، صحيح أنه كان على خلافات مع مدير السينما اضطرّته من قبل لترك العمل في السينما، لكن يستحيل أن توصله مثل هذه الخلافات إلى السرقة أو القتل.

فشلت محاولتي في العثور على وسيلة للتواصل مع أسرة صديقي عن طريق من التقيت بهم في السينما، والذين كان حديثهم معي متوترًا وحذرًا لعدم رغبتهم في إغضاب أقارب المجني عليه الذين تواجد بعضهم في السينما حين زرتُها، كما فشلت محاولات معرفة السجن الذي تم احتجازه فيه لكي أقوم بتقديم طلب لزيارته، لكي أطمئن عليه وأفهم ما الذي حدث له ليتحول من مواطن صالح وديع إلى قاتل يرتكب مثل هذه الجريمة البشعة، لكن من استعنت بهم من الأصدقاء العاملين في صفحات الحوادث لم يجدوا طريقة لمساعدتي. ولأني لم أكن على عَمار مع وزارة الداخلية بسبب ما أكتبه في (الدستور)، لم يكن بمقدوري الحصول على استثناء للتواصل مع مسؤولي مصلحة السجون، لكي يصلوني بصديقي القديم في محبسه. وبعد فترة من الانشغال بتفاصيل قصته، أنساني الشيطان أن أذكره، ولم يكن يخطر على بالي أن الإنترنت سيجمعني به بالصدفة.

قبل عامين ونصف، كتبتُ على صفحتي في (الفيس بوك) حاكيًا عن قصيدة جميلة كنت ولا أزال أحبها لأحمد فؤاد نجم، وكيف قمت في شرخ الشباب بكتابة أبياتها أسفل صورة لعارضة أزياء فرنسية جميلة نسيت اسمها، لكني لا يمكن أن أنسى سحر عينيها وسحبة رقبتها وجمال صدرها الفسيح. ثم تحدثت عن تعوّدي على كتابة مقاطع من أشعار وأغانٍ على الصور التي كنت أعلّقها على جدار مكتبي، مشيرًا إلى رسالة صديقي القديم، التي كانت الورقة المسطرة الوحيدة المعلقة وسط صحبة من الصور الجميلة لفتيات أحلامي وأبطال وجداني، ثم تحدثت باقتضاب عن مصير ذلك الصديق الوديع الذي تحول فجأة إلى قاتل ذاكرًا اسمه، ومتسائلاً عما فعلته به الأيام، ومتمنيًا أن تجمعني الظروف به من جديد، لأطمئن عليه وأفهم ما الذي حدث له.

في حذف اسم وخروج من السجن

بعد ساعات من نشر التدوينة التي لم تكن سوى فضفضة عابرة، تلقيت رسالة من أستاذتي العزيزة الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم ترجوني فيها أن أقوم بحذف اسم الرجل من التدوينة بناءً على طلب زوجته التي راسلتها فور أن قرأت التدوينة وأصيبت بالذعر لأنها لا تريد أن تحدث أي مشاكل لأبنائها، خصوصًا أن زوجها خرج من السجن لتوّه. وقبل حتى أن أردّ على الأستاذة صافي ناز، حذفت الاسم ثم عدت لأسألها عن طريقة للتواصل مع الزوجة، لكي أطمئن على زوجها، فقالت الأستاذة صافي إنها لا تعرفها شخصيًّا، وأنها حين سألتُها لماذا تواصلت معها بالذات، قالت إنها قرأت تدوينة كتبتها قبل ذلك عن صداقتي بالأستاذة صافي ناز وتصورت أنني لن أردّ طلب حذف الاسم إن جاء منها، وأنها حين فكرت في مراسلتي بشكل مباشر، خافت ألا تصل إلي الرسالة سريعًا. ثم أرسلت لي الأستاذة صافي رابط صفحة الزوجة لأتصل بها. وسرعان ما فعلت لأتلقى منها ردًّا تشكرني فيه على سرعة حذف الاسم، فاعتذرت لها إن كنت قد تسببت في أي مشاكل بنشر الاسم، لكنني في الوقت نفسه شكرت الظروف التي جعلتْني أنشره لتتاح لي فرصة الاطمئنان على زوجها الذي فشلت في الوصول إليه منذ سنين. وحين طلبت منها إيصالي إليه، قالت متحرجة إنها ليست على وفاق معه في الفترة الحالية، لأنها عانت كثيرًا خلال فترة سجنه من أجل الحصول على عمل لتربية أبنائهما، لكنهما لا يزالان على علاقة طيبة، ووعدتني بأنها ستطلب منه التواصل معي في أقرب فرصة.

صدقت الزوجة في وعدها، وأبلغت رسالتي للصديق القديم الذي تواصل معي سريعًا، وقال إنه تأثر كثيرًا حين وجد أنني ما زلت أتذكر الرسائل التي أرسلها لي ولقائي به في السينما، لكنه في نفس الوقت شعر بالحزن لأن اسمه لم يعد محل فخر لأولاده وأسرته بعد ما جرى له. وحين حكيت له عن فشل محاولاتي في الوصول إليه لأفهم حقيقة ما جرى، وعدني أن يحكيه لي بالتفصيل، لكنه قال إنه يحتاج إلى بعض الوقت لكي يستوعب حياته الجديدة خارج السجن. وبعد شهور أرسل إليّ هذه الرسالة التي حذفت منها كل ما يمكن أن يُستدل به على شخصيته وبعض المقاطع التي تحدّث فيها عن زملاء له لا يزالون في السجن، مفضّلاً عدم إعادة صياغة الرسالة أو تلخيصها، لأنني شعرت أن نشرها كما كتبها سيكون أفضل لفهم الفاجعة التي جرت والتي اتّضح أن وقائعها أكثر عبثية ورعبًا مما ظننت:

«أخجلني ورب الكعبة تذكرك لي وإعادة طلبك إنك تسمع حكايتي، وكنت أظن أن الأمر لم يشغلك وقتها، فسامحني على تأخري في الرد. طبعًا الموضوع تم تصويره وقتها بالصورة الكلاسيكية المعروفة في إعلامنا، ما دام القاتل فقير والمقتول غني يبقى أكيد السرقة هي الدافع الرئيسي، وعشان أقدر أحكي لك الحقيقة فقط بدون تجميل أو تبرير، محتاج أرجع لِما قبل الحادث بفترة بسيطة. قبلها بعدة شهور كان زواجي في طريقه للانهيار، بسبب مزيج من المشاكل الأسرية وقلّة الدخل جعلت الطلاق ضرورة، لكني وقتها تمسكت بزوجتي، ورأيت أن السبب الرئيسي في مشاكلنا يكمن في قربها من عائلتها وقررت أنقل سكني لمكان بعيد، واتفقت مع صاحب البيت على مبلغ مقابل التنازل عن الشقة.

لن ألعب دور فانتوماس!

يوم الحادث صباحًا، جاءني نسيبي عند صديق كنت أقيم عنده بعد خناقة منزلية تركت البيت بعدها للزوجة والأولاد، يومها جاءني يهددني لأنه على علاقة عمل بضابط شرطة، وقال لي: عرفنا باتفاقك مع صاحب المنزل وفلان بيه بيقول لك هات العقد أو هيحبسك، وانصرَف نسيبي بعدها، وتركني أغلي من الغضب لأني لم أتخيل أن الأمور ممكن توصل لتهديدي بهذا الشكل. في مساء نفس اليوم كنت على موعد في وسط البلد لأمرين مهمين: الأول موعد مع صاحب كافيه أمام السينما، وكنت اتفقت معه على صناعة نسخ من تمثال كأس العالم الذي كان صاحب الكافيه يعرض مبارياته، ولذلك صنعت عدة نسخ من التمثال لكي يتم وضعها في الكافيه بمناسبة البطولة، وكان التمثال سعره يتجاوز الـ٣٠٠ جنيه، وكنت أستطيع صنع نفس النسخة بسعر لا يتجاوز الخمسين جنيه. وكان معي شنطة فيها كل ما أحتاج من عدة شغل لإنجاز العمل، يعني أنابيب سيليكون، مطّاط لصناعة اسطمبة، وشاكوش صغير وقاطع حاد cutter وحلقات معدنية وغيره.

الأمر الثاني كان المفروض عندي لقاء مع صاحب السينما الذي كان قد وعدني بالعودة للعمل في السينما مع بداية موسم الصيف. ويومها كانت البداية الفعلية للموسم الصيفي بنزول فيلم محمد سعد، وذهبت للقائه وأنا محمّل بكل هذه المشاعر والهموم، وسألت عنه فقالوا انصرفَ من عشر دقائق ومعه مساعده، ذهبت في اتجاه منزله ومكتبه والذي أعرفه جيدًا من سابق عملي عنده في السينما، لعلّي ألقاه وآخذ منه القرار بشكل عاجل لأني كنت محتاج للعودة إلى العمل سريعًا. وحين وصلت إلى محل إقامته لم أجده كما كنت آمل، وقررت أن أعود وألا أنتظره لإنّ ماليشْ نصيب. لكن في طريق العودة وجدته، وسلّمت عليه وقال إنه ذهب إلى سوق التوفيقية لشراء بعض الفاكهة، وحملت عنه بعض الأكياس التي كانت معه، ومشيت بجواره في طريقه إلى بيته، نتكلم عن السينما وتفاصيل إدارتها، وأخذنا الكلام حتى وصلنا أمام باب شقته فتوقفت طبعًا، مش هتوصل لدرجة الدخول معه الشقة.

وقفنا على الباب ودار بيننا حوار مفاده أنني سأستلم العمل فورًا، بشرط واحد هو إن البنات اللي شغّالين في شباك قطع التذاكر يكونوا تحت عيني وأبلّغه بكلّ صغيرة وكبيرة تخصّهم. ملحوظة مهمة هنا لفهم الموضوع، هو الله يرحمه كان معروف عنه حاجات كتير مشينة كلّ بنات الشباك بتشكي منها، يعني طلبات مش لطيفة بيطلبها منهم، واللي بتوافق على طلباته، بالعربي بتركب فوق مدير السينما نفسه، واللي بترفض بيفضل يقرفها لغاية ما تمشي. ومساعده كان مشهور بلقب ساخر هو فانتوماس–نسبةً للشخصية اللي لعبها حسن مصطفى في فيلم مطاردة غرامية وده جاي من فكرة إنه بيساعد على تلبية الطلبات المشينة لصاحب السينما–والحقيقة إنّ طلبه ده كان مؤذي ليّا جدًّا مع الظروف النفسية اللي كنت بمرّ بيها، وضايقتني فكرة إني عشان ظروفي الصعبة لازم أرفض طلبه بأدب ومن غير غضب، لكن كنت حريص على إنه يبقى واضح ليه إني مش بلزم نفسي بشيء قدامه في الموضوع ده، لإنه كان معروف إنه من السهل عليه يهين مساعده قُصاد الكل، ويقول له فلانة دي ما قُلت ليش ليه إنها مش جاية وخلّيتني أستنّاها كل ده في البيت. ده حصل فعلاً على الملأ في بهو السينما قبل كده، فكان مهم بالنسبة لي إني ما ألعبش دور فانتوماس مهما حصل.

المهم، لمّا رديت عليه بإني أفضّل إن شغلي في السينما يكون جوّه القاعات نفسها، وأكيد مش هاعرف أنتبه مع بنات الشباك وهمّا برّه القاعات في شباك قطع التذاكر، قلت ده بلطف شديد، فقال لي ده شرطي ولازم تتصرف وفلان يقصد مساعده مش أحسن منك، فما لقيتْش قدّامي مفرّ غير الاعتذار، لإنّ القبول حتى لو كان كلام فَضّ مجالس ممكن يعرّضني للإهانة بعد كده زيّ ما حصل لمساعده بالضبط. المهم لمّا اتأسّفت له وأنا بَناوله الأكياس بمنتهى الأدب والله، لقيته زيّ ما يكون رفضي لعرضه طعَن كرامته، وفوجئت بإنه ثار عليّ وشتمني وقال لي أمّال أنا كنت هاشغّلك ليه وكنت بتوجع دماغي ليه، وكل شوية تقول لي عايز أرجع أشتغل معاك. قال لي الكلام ده وهو ماسكني من ياقة القميص، وبيزقّني من أعلى السلّم اللي كنّا واقفين قُصاده، وأنا قعدت أقول له يا بيه مش كده حقّك عليّا، تخيّل ده اللي كنت بقوله، لعله يسيب القميص ويخليني أمشي في حالي، لكن هو أصرّ على إنه يفضل ماسك في قميصي وهو بيزقّني بكل قوّته في اتّجاه السلّم لغاية ما بقى فاضل خطوة وهيرميني على السلالم.

قتل وشلل ولا سرقة

هنا كل ضغوط اليوم انفجرت، وسبّيت له الدّين، وقعدت أضربه بالكيس اللي كنت ماسكُه واللي كان فيه عدة الشغل بتاعة التماثيل، في اللحظة دي كل المشاهد بتتداخل في ذاكرتي، هو بيسبّ وبيضربني وبيقولي هاسجنك، وأنا دمّي فاير وباضرب فيه دون وعي، لدرجة إننا وقعنا على الأرض في بسطة السلّم قدام باب شقته، وكنت تحته وهوّ فوقي، واحنا على الوضعية دي، لقيت جسمه هَمَد فجأة فافتكرته أغمى عليه. زقّيته بعيد عني، وزحفت لحدّ ما سندت ضهري للحيطة جنب باب الشقة وولّعت سيجارة وأنا باترعش من الانفعال وعمّال أفكر هيعمل فيّ إيه لمّا يفوق. وفضلت قاعد كده لغاية السيجارة ما انتهت، وكنت عرضة لأيّ حد طالع أو نازل يشوفنا، وطبعًا عمارات وسط البلد في الوقت ده بتبقى شبه فاضية لإن المكاتب اللي بتشتغل في أغلب الشقق بتكون قفلت، يعني قعدت كده تقدر تقول من سبع لعشر دقائق، قمت بعدها قلت أفوّقه ويحلّها الحلال، خلاص أنا هاتحبس هاتحبس أكيد بعد كل الجروح اللي في جسمه واللي شفت إنها مغرّقة الأرض دم بالشكل ده.

جيت عشان أفوّق فيه، اكتشفت إنّ سلاح الـ cutter مكسور جوّه رقبته. حالة ذهول مسكتني، خلتني مش عارف أعمل إيه. كان مفتاح شقته متعلّق في كالون الباب، كان حطّه في الكالون عشان يفتح قبل ما ينهي حواره معايا. مش عارف إيه اللي خلّاني فجأة رحت فاتح الشقة وجرّيته جوّه. ولمّا دخلت الشقة لقيت شمّاعة كبيرة متعلّق عليها قمصان كتير، أخذت كام قميص منهم وخرجت أمسح الدم اللي قُصاد باب الشقة، ما جابْش نتيجة، رُحت على التلاجة، سحبت علبتين كانز حاجة ساقعة، ودلقت واحدة على وِشّه، لعلّه يفوق، كان لسه عندي أمل إنه يفوق، وواحدة كنت هاغسل بيها الأرض برّه. طيب السؤال أنا ما هربتش ليه على طول والسلّم كان قُصادي والمصعد كمان، لأني فقدت العقل في اللحظة اللي شفت فيها السلاح مكسور في رقبته.

لكن لمّا أيقنت بعدم جدوى الجهد اللي باعمله، تملّكتني فكرة الهروب أو بمعنى أدق الاختفاء من المشهد ده، وعقلي قال لي إنّ أسرع طريقة أبعد بيها عن المشهد هو الشبّاك، من غير ما أفكّر هو احنا أصلاً في الدور الكام برغم إني عارف المفروض، وفجأة رحت فتحت الشباك ونطّيت من الدور الخامس. أنا عارف طبعًا إنّ اللي باحكيه ده يتصنّف فانتازيا مش كلام واقعي، بس والله ده اللي حصل بالتفصيل، ده اللي حكيته في النيابة والمحكمة، هوّ هوّ نفس الكلام، وأضفت عليه إني لو كنت مرتّب أصلاً لقتله وسرقته، فكلّ العاملين في السينما اللي زيّي، عارفين إنّ للرجل مكتب في الدور الرابع غير الشقة اللي في الخامس وفيها خزنته وفلوسه، يعني كان مفروض على الأقل آخد المفتاح وأنزل، يعني الاتهام بإني عملت كده عشان سرقة إيراد السينما مش صحيح ولا منطقي، لإنّ العاملين كلّهم عارفين إنّ الإيراد بيفْضَل في السينما لتاني يوم ويروح موظف بيه البنك ويحط النسب اللي بيتقسم بيها الإيراد، يعني شوية في حساب صاحب السينما، وشوية في حساب صاحب الفيلم، غير فلوس الضريبة اللي بتتورد يوميًّا. يعني مبدأ السرقة مش مطروح ولا ليه منطق.

المهم بعد ما نطّيت من الشباك، نزلت من الدور الخامس على سيارة مركونة تحت البيت، فخفّفت الصدمة لكن وقعت من غير ما أقدر أتحرك، وبعد شوية جَت الإسعاف والناس اتلمّوا عليّ، وأنا ما بقولش غير: «في قتيل فوق»، وده اللي شهدوا بيه بعض الناس بعد كده، شالني الإسعاف على مستشفى الدمرداش. وِجَه بعد كذا ساعة مفتّش مباحث القاهرة عشان يحقق معايا، وبصراحة فكّرت أكذب، لكني ما عرفتش طبعًا من الصدمة والألم، خصوصًا إن مفتش المباحث منع الدكاترة من إعطائي أي مسكن غير لما أحكي له في الأول. مش متذكر اللي حكيته بالضبط ولو إني متأكد إني لو كنت حاولت إني أؤلف أي كذبة، فأنا فشلت.

عنبر المعتقلين

بعد كده جالي وكيل النيابة على باب حجرة العمليات، أخد أقوالي ومِشي. خرجت من العمليات على عنبر المعتقلين بقصر العيني القديم، وفضلت هناك ٣ شهور، عرفت فيهم إنّ عندي شلل كامل حصل لي بسبب وقوعي من الدور الخامس. وخلال الفترة دي ما فيش مخلوق شفته أو زارني، وعرفت بعد كده إنّ مفتش المباحث هدّد أسرتي إنّ أيّ حد هيسأل عني هيحط اسمه معايا في القضية، واحنا ناس جرائم القتل دي بنشوفها في الأفلام ما فيش حد في محيطنا حصل وشاف أو يعرف حد شاف جريمة قتل، وبالتالي الرعب تملّكهم وما فكّروش أبدًا يسألوا عليّا وأنا عاذرهم طبعًا.

الثلاث شهور بتوع عنبر المعتقلين كانوا الأصعب عليّ، لأني كنت نائم على سرير وأنا عاري، لأن الملابس قصّوها من عليّ بوصفها أحراز للقضية، ومفيش أهل ممكن يجيبوا لي ملابس، فكنت عريان ومتغطي بملاءة المستشفى. ولمّا جاء ميعاد ترحيلي لمستشفى سجن طرّة، تبرّعت لي ممرضة ببالطو تمريض قديم. وما فيش أحداث تُذكَر خلال الثلاث شهور دي، إلا عدم انتظام وجبات الأكل، كان ممكن يمرّ ٤٨ ساعة يجي لي خلالهم وجبة واحدة من أصل ٣ وجبات وممكن ما تجيش. كمان الوقعة الصعبة اللي وقعتها تسبّبت في كسر في الفقرات القطنية وقطع في الحبل الشوكي وبالتالي شلل تام هاكمّل بيه بقية عمري.

بعد كده لمّا نقلوني إلى سجن طرّة، هناك كانت الدنيا أفضل بعض الشيء لمّا نقارنها بالثلاث شهور اللي قبلها، يعني مستشفى عبارة عن عنبر نوم كبير لكل واحد فراش مستقل، مقارنةً بعنبر المعتقلين اللي عبارة عن زنزانة تشبه حجز قسم الشرطة، ما فيش فيها لا أطباء ولا علاج، والممرضين همّ اللي بيقوموا بكل الشغل وكله بثمنه. لكن في سجن طرّة، كان الوضع أفضل نوعًا ما، في المساحة الممنوحة لكل واحد والناس كمان كانت معاملتهم أفضل، يعني هناك تعرفت على ضباط سابقين متهمين بالاتجار في المخدرات وغالبًا بيكونوا مغضوب عليهم من قياداتهم، لكن برغم كده الضابط أو أمين الشرطة عمومًا اللي بيتسجن بيكون له معاملة خاصة من إدارة السجن كزميل سابق لهم وغالبًا بيشغلّوهم معاهم في الخدمات جوّه السجن، وبيبقى لهم سلطة كمان زَيّ أمين الشرطة الوحيد اللي اتسجن بتهمة قتل المتظاهرين كمثال.

طبعًا بعد كده جت لي فرصة إني أشوف زوجتي وبعض أفراد أسرتي. وأدركت إنه بعد اللي حصل، لم يعد هناك مبرّر للتمسك بالزواج طبعًا. وفي أول زيارة لمراتي، فَتحنا الموضوع واتفقنا إني أشوف لوائح السجن تسمح ازّاي أطلّقها بس اتضح إنه ما ينفعش لإني بسبب اللي حصل لي أعتبر فاقد الأهلية، وكان أسهل طريقة إنها ترفع قضية طلاق، ولمّا تجيلي ورقة الطلاق أمضي عليها بالموافقة، يعني ده حقها وربنا يعوّضها خير، خصوصًا أني كنت منتظر حكم بالإعدام مش أقل من كده، لإني كنت معترف بالقتل، لكن رافض لمبرر السرقة اللي موجود في محضر الشرطة. وبعد كده جالي الورق الرسمي اللي مفروض هاروح بعده إلى المحكمة، وأخرجوني لمقابلة الضابط عشان أوقّع على الأوراق، لقيت واحد قاعد قصاده ترابيزة عليها سجائره وتليفوناته واللاب توب بتاعه، ومضّاني على الورق ومشيت مع المخبر، فشكرت للمخبر في أدب الضابط اللي اتكلم معايا بأدب واداني سيجارة كمان، فلقيت المخبر بيقول لي ده مش ضابط رسمي في الخدمة، ده محسن بيه السكري لو تسمع عنه. وطبعًا أنا كنت أعرف إنه ده ضابط أمن الدولة شريك طلعت مصطفى في قضية قتل سوزان تميم، والقضية ثابتة عليه ومع ذلك بيتعامل معاملة ما يحلمش بيها أيّ حد في السجن وبيشتغل معاهم في الخدمات، وده مثل بسيط يوضح لك حال ضباط الشرطة اللي بيتم حبسهم لأي سبب.

«أنا مدبولي»

في يوم من الأيام وأنا نايم على المرتَبة اللي ما باقدرش أتحرك منها بسبب الشلل، سمعت واحد نزيل في العنبر بيقول لجاره إنه كان أول صاحب دار نشر يعمل مرتب شهري للكتّاب، وإنه عمل ده مع صالح مرسي. وطبعًا أنا في الأول تخيّلت إنه بيكذب على جاره، لكن سألته قلت له: انت بتتكلم عن صالح مرسي الكاتب بتاع «رأفت الهجان» و«دموع في عيون وقحة»، قال لي: آه، قلت له: ده كان بينشر مع مدبولي. حضرتك عملت له مرتّب إزاي؟ قال لي: أنا مدبولي. طلع اللي بيتكلم ده الحاج سيد مدبولي الناشر صاحب مكتبات مدبولي اللي ورثها عن الحاج مدبولي الكبير. وقال لي إنه تعرض لمحاولة سرقة، فضرب نار على السارق، لكن اللي حاول يسرقه رفع عليه قضية بالاتفاق مع نقيب الصحفيين وقتها وحبسوه. طبعًا القصة غير منطقية شوية لكن هوّ ده حال السجن، لازم المسجون يلفّق قصة يبيّن فيها إنه بريء، بعد شوية الكل بيتكاشف وما فيش حاجة اسمها أسرار وخصوصية. وعِرِفت إنّ القضية الأساسية للحاج سيد كانت في الميراث، بعد ما الحاج مدبولي الكبير مات وساب مكتبات متعددة، الورق بيقول إنها ملك الحاج سيد لوحده، وولاد أخوه بيقولوا إنّ ليهم في الميراث لإنّ المكتبات كانت ملك للاتنين، وفي ورق رسمي اتهموا الحاج سيد بتزويره وعشان كده اتسجن. وكان الحاج سيد مريض بالكبد وقعد يعاني معانا شوية في المستشفى، وبعدها خرج وتوفاه الله بعد خروجه بشهور قليلة، لكن المهم إنّ من بعد أول حوار بقينا أصدقاء أنا وهو، لإنه لقى في شخص عارف يعني إيه كتب وأدب وثقافة بصرف النظر عن فقري الواضح.

العيشة جُوّه العنبر بتكون جماعات، كل جماعة بترتاح مع بعض بيعيشوا مع بعض من ناحية الأكل والشرب وغيره، واحد يعمل الأكل، وواحد يغسل المواعين وهكذا. عادةً بتوع المخدرات بيتجمّعوا مع بعض، بتوع السرقة مع بعض وهكذا. كنت أنا والحاج سيد مع بعض في معيشة واحدة، ومعانا ناس تقدر تسمّيها أعجب مجموعة اتلمّت في مستشفى السجن، أنا كانت قضيتي قتل، الحاج سيد جاي في قضية تزوير، واحد صاحب كافتيريا شهيرة في الدقّي كان بيدفع كل يوم إتاوة لأمناء شرطة عشان يمشّي شغله في الكافتيريا، ومرة أهانوه وضربوه وكان معاهم ضابط، ففاض بيه الكيل وخطف سلاح الضابط وضرب منه نار على البوليس فقتل اتنين منهم، الداخلية عملت له قضيتين مش قضية واحدة، فأخذ حكمين مؤبد مش حكم واحد، ولما قابلناه كان بقاله ٢٩ سنة مسجون تقريبًا، كان معانا برضه دكتور طبيب أسنان قضيته تزوير، ورجل أعمال فلسطيني الأصل كان شهير بلقب (حوت السكر)، وطبعًا جوّه السجن زيّ برّه السجن، لازم يكون معاك فلوس أو واسطة عشان الواحد يرتاح في عيشته، يعني بعكس حالتي، اللي كانوا معايا كان متاح لهم أي شيء يطلبوه حتى لو طلبوا تليفونات يتكلموا بيها مع أهلهم برّه السجن.

ثورة يناير تغيّر وجوه السجناء

صدر ضدّي حكم بالسجن المؤبد، وكان مفروض إني أقدّم إجراءات لنقض الحكم خلال ستّين يوم بعد صدور الحكم، لكن قررت عدم عمل إجراءات النقض، لعدم توفّر فلوس أدفعها للمحامين، وبكده الحكم أصبح نهائي. وده كان من كرم ربّنا وتدابيره، لإني لو كنت عملت إجراءات نقض، النقض كان بياخد وقت قد يصل لخمس سنوات على ما يتم البتّ فيه. وبعد كده بسنين لما جَت لجنة من الطب الشرعي تشوف الحالات اللي تستحق إنها تخرج بعفو صحي لخطورة السجن على حياتهم، كان من الشروط إن المسجون يكون واخد حكم نهائي، ولو كنت عملت النقض كان ورقي سيتم رفضه، طالما لسّه في فرصة لقبوله وإعادة المحاكمة، وكل مواضيع الطب الشرعي بتترفض عادة، لكن تصادف إنه في الفترة دي إنه كان لازم تخرج حالات من السجن مع تغيّر الأوضاع في البلد، فكنت من ضمن الحالات اللي خرجت وأخذت إفراج صحي لإن حياتي جوّه السجن ما كانش ينفع تكمّل وأنا مشلول.

عايز أرجع للكلام عن أيامي في سجن طرّة، وآسف على الاستطراد. لمّا قامت ثورة يناير والدنيا اتقلبت بعدها، وخرج من السجن كل الإسلاميين اللي كانوا مالكين السجن حرفيًّا، يعني كان الإسلاميين قبل يناير مسجونين في عنابر لوحدهم لكن كان مسموح لهم الخروج من العنبر لأي مكان آخر وأي عنبر آخر، لو أنا مثلاً محتاج طعام من برّه السجن أو ملابس بطلبها من واحد منهم كان اسمه شافعي، وده كان يكتب الطلبات كلها في ورق ويِدّيها لأمين شرطة يروح يشتريها، وييجي شافعي يِدّي كل واحد طلبه وياخد حسابه، وكله بموافقة الإدارة. فلمّا قامت الثورة وحصلت فوضى كبيرة ما حدّش من طرّة هرب، بس جالنا في المستشفى بعد فترة المصابين من المساجين اللي حاولوا الهرب من السجون الأخرى كلّ منهم بيحكوا عن اللي حصل لهم، كلّها حكايات صعب التأكد منها، منها مثلاً إنه في عدد ضخم من المساجين اتقتلوا برّه أسوار سجون وادي النطرون واتدفنوا تحت الرمال المحيطة بالأسوار.

المهم بعد الثورة، اتغيّرت وجوه سادة السجن من الإسلاميين الملتحين إلى رجال أعمال عهد مبارك، زيّ المغربي وأحمد عز والشلة دي، بس مش لدرجة مبارك وعياله اللي كانوا في سجن ملحق المزرعة. وجالنا رئيس مباحث جديد، كان ابن حرام مصفّي، كان الشاهد الرئيسي في قضية هروب السجون اللي كان متهم فيها محمد مرسي، كان رئيس مباحث مفتري يجيب كرسي ويقعد بين العنابر ولو شاف مسجون يحطّه على الفلكة بدون أي سبب. كان أحمد عز خارج في اليوم من زنزانته المجهزة اللي الكلّ بيتكلم عنها، ورايح المستشفى، فلسببٍ ما قابل الضابط ده وطلب منه حاجة، فالضابط قال له: طيب يا أحمد روح وأنا هاشوف الموضوع ده، فأحمد عز، زيّ ما كل المخبرين حكوا الواقعة، بَصّ له برخامة، وقاله اسمي أحمد بيه، وبعد أسبوع كان الضابط ده اتنقل من السجن.

أخشى أكون باطوّل على حضرتك، لكن هاحاول أختصر. بالنسبة لِحدّ مريض زيّ حالاتي، في المستشفى ما فيش علاج ولا أطباء تخصصيين، الأطباء دي بتيجي تقعد في الاستراحة، واللي بيقوم بالكشف على المساجين إما الطبيب اللي شَغّال في العيادات، يعني يشوف عند المتهم ويدّيله مطهّر معوي أو مسكّن، أو يحيله لممرض من الممرضين الكتير. ونادر جدًّا لمّا طبيب ييجي يعاين حالة بنفسه إلا لو الحالة دي شخصية مهمة، أو هييجي من وراها وجع دماغ. ولمّا حد بيموت في المستشفى، وده بيحصل بصورة مستمرة، ووارد في يوم تلاقي حالتين وفاة وتلاتة، المفروض في كام إجراء بيتعمل قبل إعلان الوفاة على الورق بصورة رسمية منها وضع المريض ذو الحالة الخطيرة على أجهزة معينة وتحت المراقبة والملاحظة لعدد ساعات معين حتى لا يكون هناك شبهة تلاعب أو تمثيل، لكن عادةً الأطباء هناك بيختصروا كل الإجراءات دي بولّاعة السجائر بأنهم يصوّبوا لهب الولاعة لعين المتوفي ودا طبعًا كفيل بكشف أي تمثيل أو ظهور أي ردة فعل تبيّن إنه لسّه بيحس وما ماتش فعلاً، وبعدها يكتبوا التقرير، اللي غالبًا هبوط في الدورة الدموية، ويمضي عليه ويخلّي اتنين مساجين يمضوا على ورقة الإجراءات كمان. وكنت طول الوقت حاسس إنّ ده هيكون مصيري، وما كانش يخطر على بالي إني هيتكتب لي عمر جديد، وإني ممكن أشوف عيالي برّه السجن، حتى لو كنت هاشوفهم وأنا مشلول.

معتقل أبدي: ادخلوه آمنين

ملحوظة أخيرة وباعتذر على الإطالة، كلامي اللي قلته في الأول عن عائلة زوجتي وعن نسيبي ما كانش قصدي إني أذمّ فيهم والله ما حدّش وقف جنبي إلا همّ، بسّ ده كان الواقع وقتها ودي كانت مشاكلنا اللي كانت جزء في اللي حصل لي. مودتي وتقديري لحضرتك، ربنا يحفظك ويحفظ أسرتك وأحبابك».

انتهت رسالة صديقي القديم. قبل أن أتلقاها، كان لدي الكثير من الأسئلة عن ملابسات ما جرى له، وتفاصيل حياته قبل ما جرى، وعن حياة أبنائه وزوجته وعلاقته بهم وتخيّله لشكل حياته في المستقبل، لكنني بعد أن قرأت رسالته المريرة، فقدت رغبتي في معرفة أي إجابات عن المزيد من الأسئلة، ليس فقط لكي لا أقلّب عليه المواجع، وإنما لأن قصته أصبحت أشد رعبًا وأثقل وطأةً على نفسي، وأظنها ستكون ثقيلة الوطأة على نفس كل من يظن أن كونه شريفًا وديعًا مسالمًا وماشيًا «جنب الحيط» أو حتى «جوّه الحيط»، يمكن أن ينجيه من تقلبات الدنيا، ويؤمّنه من الخوازيق المهلكة لبلادنا التي ستكون فرصك في النجاة من شرها أكبر وأقوى، لو قبلت على نفسك أن تأكل من عَرَق «بنات الشباك»، أو تعمل في خدمة الأسياد المسيطرين على الوطن الذي يواصلون بهمّة ونشاط تحويله إلى معتقل أبدي، يستتبّ فيه الأمن الظاهري، وينعدم الخيال، ويُجرّم النقد، ويعلو صوت التعريص فوق كل صوت، وتحلّ على جلّاديه وخُدّامهم بركات تلك اللافتة المثبتة على واجهته منذ قديم الأزل: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين».

العدد ٣٣ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.