مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، أغمض ميكيس ثيودوراكيس عينيه عن ٩٦ عامًا. خسرت اليونان وخسر العالم أحد أبرز موسيقيي القرن العشرين ومناضلاً منشدًا للحرية والعدالة والمساواة. عمّ الحزن في بلد الـ١١ مليون يوناني وأعلنت السلطات ثلاثة أيام حداد عليه سُجي جثمانه خلالها في كاتدرائية أثينا قبل أن يُنقل ليدفن في مسقط رأسه. «لقد خسرنا جزءًا من روح اليونان»، قالت وزيرة الثقافة والرياضة لينا مندوني، ونعاه الحزب الشيوعي مناضلاً «في مجابهة دائمة ضد الظلم والانهزامية».
يقول ثيودوراكيس عن نفسه إنه صاحب صوتين، صوت للسياسة وصوت للموسيقى. تجادل الصوتان وتناغما وتنافرا لإنتاج موهبة استثنائية في الموسيقى ومناضلٍ وطني وديموقراطي يساري من نمط فريد.
ولد في جزيرة تشيوس في ٢٩ تموز/ يوليو ١٩٢٥، ابنًا لموظف حكومي من جزيرة كريت لجأ إليها من إزمير بتركيا. تولّع فتًى بالموسيقى الشعبية اليونانية والألحان الكنسية البيزنطية. وتعلّم الموسيقى بالجهد الشخصي وألّف أول كونشرتو وهو في السابعة عشرة، قبل أن يغادر للدراسة في باريس.
انخرط فتًى في النضال الوطني عضوًا مرشحًا في «جيش التحرير الشعبي اليوناني»، بقيادة الحزب الشيوعي اليوناني، أبرز التشكيلات التي قاومت الاحتلال النازي. في نهاية الحرب العالمية الثانية، شنّت القوات البريطانية حملة عسكرية ضد قوى المقاومة وارتكبت مجزرة في «ديكمفريانا» في ٣ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٤٤، فتحت الطريق أمام الحرب الأهلية اليونانية ١٩٤٦- ١٩٤٩. اعتُقل ثيودوراكيس الشاب عام ١٩٤٧ بتهمة الانتماء إلى «الجيش الديموقراطي» في الحرب الأهلية ضد القوات الملكية اليمينية المدعومة من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. نُفي وعُذّب وأُطلق سراحه في آب/ أغسطس ١٩٤٩.
دخل الحياة السياسية عام ١٩٦٣ بعد اغتيال صديقه الطبيب والنائب اليساري غريغوريس لامبراكيس خلال تظاهرة من أجل السلام، فأسس ثيودوراكيس منظمة شبابية ثقافية على اسم النائب الشهيد وصلت عضويتها إلى ٥٠ ألف عضو وأنشأت نحو ٢٠٠ مركز ثقافي. وقد خلّد كوستا غافراس مسيرة لامبراكيس في فيلم «Z» الذي وضع ثيودوراكيس موسيقاه التصويرية. بعد الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا انشقّ ثيودوراكيس عن الحزب الشيوعي وشارك في تأسيس «الحزب الشيوعي اليوناني في الداخل» تأكيدًا على الاستقلال عن موسكو.
في نيسان/ أبريل ١٩٦٧ سقط الحكم المدني في اليونان في انقلاب عسكري نظّمته زمرة من الكولونيلات في امتداد الردة الأميركية ضد حركات التحرر والأنظمة الديموقراطية في العالم. أصدر ثيودوراكيس أول بيان يدعو إلى مقاومة الانقلاب وانتقل إلى العمل السرّي. اعتُقل في نهاية ذلك العام مع زوجته ميرتو وولديه مارغريتا ويورغو وصدر قرار رسمي بمنع تداول موسيقاه. نُقل ثيودوراكيس إلى معسكر اعتقال في أوروبوس حيث تعرّض لتعذيب وحشي كُسرت خلاله ساقُه وشارف على الموت في مناسبتين. أطلق سراحه عام ١٩٧٩ تحت ضغط حملة دولية وسُمح له بالمغادرة إلى باريس. ومن باريس انطلق في جولات عبر العالم يخطب ويحاضر ويعزف من أجل حرية اليونان. انعقدت صداقته مع فيديل كاسترو وزار مصر حيث التقى جمال عبد الناصر، وفي يوغسلافيا استقبله تيتو، ولبّى دعوة الرئيس الاشتراكي سلفادور ألليندي لزيارة تشيلي.
عند سقوط الحكم العسكري عام ١٩٧٤، عاد ثيودوراكيس إلى اليونان واستُقبل استقبال الأبطال ونظّم حفلات جماهيرية عزف فيها أناشيده ضد الديكتاتورية ومن أجل حرية اليونان بأداء ماريا فاراندوري، المغنّية الأيقونية التي رافقت مسيرته الفنية. لكن ثيودوراكيس صَدم رفاقه وجمهور اليساريين والديموقراطيين عندما أعلن تأييده لحكومة كونستانتينوس كارامانليس المحافظة، علمًا أن الحزب الشيوعي وجمهور اليسار لعبا الدور الأبرز في مقاومة الديكتاتورية. كان تبريره: كارامانليس أو الدبابات.
ما لبث أن تصالح مع الحزب الشيوعي وانتُخب نائبًا عن الحزب بين ١٩٨١ و١٩٨٦. لكنه عاد إلى عام ١٩٩٠ مع كتلة اليمين بقيادة قسطنطين ميتسوتاكيس وشارك في الحكومة كوزير بلا حقيبة، لكن التعاون لم يدُم أكثر من عامين، اهتمّ ثيودوراكيس خلالهما بتشجيع الموسيقى والفنون ومكافحة المخدرات وأسس مع الموسيقي والمخرج السينمائي التركي زولفو ليفانيل «جمعية الصداقة التركية اليونانية» لتنقية العلاقات بين تركيا واليونان وقبرص.
لثيودوراكيس مواقف حاسمة عنيفة ضد السياسات الأميركية والإسرائيلية والتضامن مع الشعوب المناضلة للحرية والعدالة. دان الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق. وقال عن الأميركيين إنهم «كريهون، جبناء، قتلة شعوب العالم».
ومع أنه مؤلف مقطوعة موسيقية من ثلاثة أجزاء عن المحرقة النازية بعنوان «أنشودة ماوثاوزن»، لم يمنعه ذلك من التعبير عن مواقف صريحة وجريئة تجاه إسرائيل. دان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة وهاجم أرئيل شارون وجورج بوش الأب على غزو لبنان، وخصّ إسرائيل بأقسى الكلام: «أمّة صغيرة هي أساس السوء في العالم»، كما زار بيروت عام ١٩٨١ بدعوة من ياسر عرفات وألّف نشيدًا لفلسطين. وانتقد رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو لمبادرته التقارب مع إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الذي اتهمه بالمسؤولية عن «جرائم حرب في لبنان وغزة». جهر بعدائه للصهيونية، وذهب إلى حد الإعلان عن نفسه «معاديًا لليهود» لكنه ما لبث أن تراجع واعتذر مؤكدًا أن مواقفه تدين سياسات دولة إسرائيل وليس اليهود.
bid33_p.157.jpeg
في مهرجان لدعم الفلسطينيينفي ميدان سنتغما، أثينا، اليونان.
الميتاسيمفوني
ترك ثيودوراكيس نحو ألف عمل موسيقي. مساهمته المميزة هي «الميتاسيمفوني»، وهو الاسم الذي أعطاه لسيمفونياته، جمع فيها الموسيقى الكلاسيكية مع الأغاني الشعبية والتراثية اليونانية والألحان الكنسية البيزنطية، واستخدام الآلات الموسيقية اليونانية، وخصوصًا البوزوكي (الطنبور او البزق).
إلى سبع سيمفونيات عرض معظمها في ألمانيا الديموقراطية، لحّن المعلّم اليوناني قصائد للشعراء اليونانيين يانيس ريتسوس، وجيورجيوس سفيريس، وأوديسياس إليتيس وأيضًا لبول ايلويار، وفريدريكو غارسيا لوركا، وبابلو نيرودا الذي وضع الموسيقى لملحمته الشعرية عن أميركا اللاتينية، «النشيد العام». وضع موسيقى لرقصات الباليه منها «أنتيغوني»، التي عرضت في لندن، ولأعمال الأوبرا والمسرحيات التراجيدية اليونانية ومنها «ميديا»، ١٩٩١ و«إلكترا»، ١٩٩٥. ووضع ثيودوراكيس اسمه على الموسيقى التصويرية لمسلسلات تلفزيونية وأفلام، أشهر هذه الأخيرة «زوربا اليوناني» لميكائيل كاكويانيس، بناءً على رواية نيكوس كازانتزاكيس، ١٩٦٤؛ و«حالة حصار» لكوستا غافراس، ١٩٧٢، وموضوعها الكفاح المسلح المديني لحركة التوباماروس الماركسية في الأوروغواي؛ و«سيربيكو» لسيدني لوميت، ١٩٧٣، تمثيل آل باتشينو. وألّف أناشيد تضامن لجمال عبد الناصر وللاشتراكية في فنزويلا ولفرنسوا ميتران والحزب الاشتراكي الفرنسي ومنظمة التحرير الفلسطينية وغيرها.
عام ١٩٩٧ ختم ميكيس ثيودوراكيس عروضه الموسيقية بحفلة في «بيت ثقافات العالم» ببرلين. وأصدر سيرة ذاتية تروي حياته الزاخرة في خمسة أجزاء.
غادر العالمَ شيوعيًّا
على كثرة تقلباته في السياسة، ظلّت حياة ثيودوراكيس تدور مدار التزامه الشيوعي. في رسالة إلى ديميتريس كوتسومباس، الأمين العام للحزب الشيوعي اليوناني (٥ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠) أعلن بما يشبه الوصية: «الآن، في أواخر حياتي وقد آن زمن الحساب، تبْهت التفاصيل في ذهني وتبقي الصورة الكبرى. أرى أني أمضيت أهم وأغنى وأنضج سنوات حياتي تحت راية الحزب الشيوعي اليوناني. لذا أريد أن أغادر هذا العالم وأنا شيوعي».
bid33_p.158-159.jpeg
خلال حفلة تاريخية في ملعب كارايسكاكيس في أثينا
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.