Apartheid— «التطور المنفصل» باللغة الأفريكانية- هو اسم نظام التمييز والاستغلال العنصري في ظل سيطرة الأقلية البيضاء على جنوب أفريقيا. والأفريكانيون هم المستوطنون الأوائل من أصل هولندي للبلاد الذين استعمروها منذ القرن السابع عشر.
تأسس نظام التمييز العنصري رسميًّا العام ١٩٤٨ وتكرّس بعد استقلال البلد العام ١٩٦١ وأنشأ تراتبًا بين البيض والآسيويين والملونين–الأفارقة.
شمل نظام التمييز العنصري الأصغر الفصل في النقل والمستشفيات وسيارات الإسعاف وفي السكن والأماكن العامة، وحرّم الزواج بين بيض وملونين، وأنشأ نقابات للبيض مستقلة عن نقابات الأفريقيين، وفصل بين الطلاب على أساس عرقي في النظام التعليمي الذي أنشأ للأفارقة نظامًا تعليميًّا يؤهل للعمل اليدوي المأجور ويعيد إنتاج التفاوت الكبير في الفرص بين المجموعتين السكنيتين، إلخ.
أما الأبرتهايد الأكبر فقد حرم الأفارقة من الحق في تملّك الأرض والأبنية وفصل العاملين في المناجم عن أسَرهم في معازل خاصة، وحرم الأفارقة من الجنسية ومن حق التصويت، ولتقسيم الأكثرية الأفريقية، نقل وهجّر ملايين السكان وقسّم البلد إلى عشر دويلات قبلية سمّيت بانتوستانات، كان عليها أن تتطور تطورًا منفصلاً بعضها عن بعض لتتحول إلى دول مستقلة. وكان التنقل بينها يتطلب جواز سفر رسميًا.
ومع أن حكم الأقلية البيضاء كان الوجه الأول لاستعمار البلاد، إلا أن الاستئثار السياسي لتلك الأقلية كان وسيلتها للسيطرة على الأرض والموارد وثرواتها الطبيعية والاقتصاد والاستغلال المكثّف لليد العاملة الرخيصة. فإلى فترة قريبة كانت جنوب أفريقيا أكبر منتِج في العالم للذهب والبلاتين والكْروم والمانغانيز والبلاتينوم والماس. ويشكل قطاع التنجيم حاليًّا ١٨٪ من الناتج الاجتماعي المحلي حيث يزيد دخله السنوي عن ١٠٠ مليار دولار تحتكره شركات متعددة الجنسيات لكنها مملوكة في أكثرها لرؤوس أموال بريطانية وأميركية.
من الإضرابات إلى الكفاح المسلّح
بدأ النضال الأفريقي ضد النظام العنصري منذ الخمسينيات بقيادة «المؤتمر الوطني الأفريقي» الذي لعب فيه الحزب الشيوعي الدور الرئيس. تميزت الفترة الأولى بالتظاهرات والمسيرات والإضرابات والاعتصامات العمالية، ولمّا جوبهت بالقمع والمجازر، كما في مجزرة «شارفيل»، قرر «المؤتمر الوطني الأفريقي» اللجوء إلى الكفاح المسلّح وتأسيس تنظيم «أومخونتو وي سيزوي» Umkhonto we Sizwe الذي باشر أعماله العام ١٩٦١. كان نلسون مانديلا أحد مؤسسي هذا التنظيم وكان حينها في السجن يقضي حكمًا لخمس سنوات بتهمة تنظيم إضراب عمّالي غير مشروع والتنقل في البلاد من دون جواز سفر. عام ١٩٦٤ اعتقلت الشرطة سبعة من قادة المنظمة المسلحة وأضيف إليهم مانديلا وحُكموا بالسجن المؤبّد بتهمة الشيوعية والتحضير لإطلاق ثورة مسلحة وممارسة أعمال عنف وتخريب، وتلقّي الأموال من دول أفريقية وعربية.
تميّزت سنوات السبعين بنضالات حاشدة برز فيها العمّال والطلاب بنوع خاص وقد انضمت الكنيسة إليها، ومن أبرز وجوهها الأسقف ديزموند توتو. ومع صعود حركات التحرر الوطني في أفريقيا والعالم الثالث ونيل العديد منها استقلالها، أخذ «المؤتمر الوطني الأفريقي» يتلقّى الدعم المالي والعسكري من عدد من الدول المستقلة حديثًا، ومُنِحت وحدات «جيش التحرير الشعبي» تسهيلات لشنّ غارات عبر الحدود من أنغولا وزامبيا وموزامبيق وزيمبابوي وناميبيا. ردّت قوات جنوب أفريقيا بشنّ غارات مضادة على أراضي تلك البلدان ما لبثت أن تحوّلت إلى عمليات استباقية في الثمانينيات، وتدخّلت أفريقيا الجنوبية مباشرةً في الحرب الأهلية الدائرة رُحاها في أنغولا دعمًا لتحالف أونيتا و«الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا» ضد «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» اليسارية.
وهذه الفترة هي أيضًا فترة العسكرة القصوى للنظام العنصري الذي حاول كسْر المقاطعة التي بدأت تفعل مفاعيلها فيه بعقد شراكة متعددة الوجوه مع إسرائيل وحظيَ بدعم عسكري كبير منها بما في ذلك في مجال السلاح النووي.
في ١٦ حزيران/ يونيو ١٩٧٦ اندلعت انتفاضة «سويتو» العارمة التي شارك فيها نحو ٢٠ ألفًا من الطلاب الأفريقيين وُوجهوا بالرصاص وسقط منهم ٥٧٥ طالبًا واعتُقل الألوف خلال الموجة الأولى من الاحتجاجات. وخلال أربعة أشهر، شارك لا أقل من ٢٥٠ ألفًا من الأفريقيين في ١٦٠ من التجمعات السكانية في المقاومة على امتداد البلد. ردًّا على مجزرة «سويتو» ١٩٧٦ وقمع إضراب عمال المناجم الذي شارك فيه ٢٠٠ ألف عامل- وكان أطول إضراب عمّالي في جنوب أفريقيا- قررت قيادة «المؤتمر الوطني الأفريقي» نقل الكفاح المسلح إلى الداخل واستهداف الأقلية البيضاء ومؤسساتها.
مع مطلع الثمانينيات، تبدأ محاولات الاستيعاب للتذمّر الشعبي والغضبة المتصاعدة عالميًّا، منها مجالس التمثيل الثلاثة لكل من الملوّنين والهنود والبيض. ووجهت بمقاطعة شعبية وحصدت الفشل الذريع إذ لم يشارك أكثر من ١٨٪ من الناخبين في الانتخابات. وتَشكّل، في المقابل، «اتحاد القوى الديموقراطية» يضم ممثلي الكنيسة، وقبائل ومقاطعات إلى جانب المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي. ونشأت في تلك الفترة أيضًا فيدرالية نقابات جنوب أفريقيا وبدأت حملة شعبية عارمة ضد النظام ومنتجاته سرعان ما لقيت استجابة دولية واسعة النطاق.
خلال ذاك، اعتُمد أسلوب نضالي جديد هو مقاطعة العمل. في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٨٤ تخلّف نصف مليون عامل و٤٠٠ ألف طالب عن العمل والمدرسة. وأردفتْها حملة امتناع عن دفع الإيجارات، وإسقاط رموز السلطة في الأحياء الشعبية وتولّى مناضلو «المؤتمر الوطني الأفريقي» إدارتها. وتصاعدت في الوقت ذاته أعمال العنف ضد مؤسسات الأقلية البيضاء في المدن خصوصًا.
في المقابل، تصاعدت حملة التنديد والمقاطعة والعقوبات الدولية والشعبية لجنوب أفريقيا (مع أن أثرها المادي على الاقتصاد بقي محدودًا). وانطلقت حملة تنديد ومقاطعة عالمية شملت أفريقيا برمّتها بقيادة «الاتحاد الأفريقي» وشاركت فيها أكثرية دول أوروبا ومعها الفاتيكان، وأعلنت الأمم المتحدة التمييز العنصري جريمةً ضد البشرية مع أنها لم تستطِع فرض عقوبات على النظام العنصري بسبب لجوء الولايات المتحدة وبريطانيا إلى حق النقض. في ضوء حملات المقاطعة وفرض العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة على أوسع نطاق منذ عقود من الزمن، يجدر التذكير بأن الحجّة الأميركية لرفض المقاطعة آنذاك كانت أن المقاطعة الاقتصادية منافية لمبدأ «حرّية التجارة» و«الاقتصاد الحر»! هذا بالإضافة إلى اعتبار نظام الأقلية البيضاء دعامة في وجه تَمدُّد «الخطر الشيوعي» في أفريقيا. من جهة أخرى، قاومت أميركا وبريطانيا لآخر لحظة ممارسة الضغط على الشركات متعددة الجنسيات المسيطرة على المناجم من أجل المساهمة في تفكيك النظام العنصري.
داخليًّا، تعاقبت وزارات بدأت بمنح تنازلات، منها حق الأفريقيين بتملّك الأرض. وبرز تيار في الحزب الحاكم منحاز إلى تسوية تسعى للحفاظ على وجود الأقلية البيضاء– حتى لا يتكرر حال مستوطني الجزائر– مع الاحتفاظ بالسيطرة على الاقتصاد والثروة المنجمية.
عام ١٩٨٥ بدأ التفاوض مع مانديلا الذي كان رئيس الوزراء، بيتر ويليم بوطا، يصفه بأنه «ماركسي متشدّد ملتزم بالثورة العنيفة». وضع بوطا شرطًا للتفاوض هو تخلّي «المؤتمر الوطني» عن العنف المسلح، فردّ عليه مانديلا من سجنه بقوله «إن تحقيق الديموقراطية ينفي الحاجة إلى العنف».
استمر التفاوض لعقد من الزمن. عرفت تلك الفترة حدثين عجّلا من انحياز الدول الأوروبية وأميركا والشركات متعددة الجنسيات إلى خيار تفكيك النظام العنصري. الأول هو انهيار أنظمة دول الطوق التي كان نظام الأقلية البيضاء يشتري ولاءها بالمساعدات المالية. وقد لعبت كوبا والاتحاد السوفييتي دورًا في انتصار حركات التحرر اليسارية في كلّ من أنغولا والموزامبيق. والثاني هو انهيار الاتحاد السوفييتي وكتلته الذي سهّل بدوره من فرص التسوية.
أطلق سراح مانديلا العام ١٩٩٠ وشكّل لقاؤه مع رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر (وقد وصفتْه سابقًا بـ«الإرهابي») علامة فارقة على طريق الاعتراف بالمؤتمر الوطني الأفريقي ممثلاً لشعب جنوب أفريقيا. بدأ التفاوض على انتقال السلطة وأبرزُ خطواته تنظيم انتخابات بناءً على حق الاقتراع للجميع والاعتراف بشرعية الأحزاب الوطنية والديموقراطية، وخصوصًا المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي.
شارك ٢٠ مليون مواطن في انتخابات العام ١٩٩٤ التي منحت أكثرية نواب المجلس التشريعي للمؤتمر الوطني الأفريقي (٢٣٠/٤٠٠) وسمحت بتشكيل حكومة اتحاد وطني. أعلن عدد من قادة الأقلية البيضاء الاعتذار عن الانتهاكات التي ارتكبها نظامهم العنصري. وشكلت الحكومة «لجنة الحقيقة والمصالحة» التي بدأت أعمالها عام ١٩٩٦ للنظر في الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان خلال العهد السابق. استمعت اللجنة إلى شهادات واعترافات وتظلم عدة آلاف من الضحايا ومن عناصر الجيش والأجهزة الأمنية على حد سواء، وكانت تتمتّع بالحق في إصدار أحكام العفو عن المرتكبين، وأعفت بالفعل عن معظم من مثل أمامها من مسؤولين عسكريين وأمنيين. واعتمدت في المقابل على مبدأ «حفظ كرامة الضحايا» وتولّت التعويض على من طالب بالتعويض من الضحايا.
على أن التسوية الكبرى التي أشرفت على تفكيك نظام التمييز العنصري كانت نقل السلطة للأكثرية الأفريقية في مقابل بقاء قمم الاقتصاد، وخصوصًا المناجم، بيد الأقلية البيضاء والشركات الأنكلو- أميركية متعددة الجنسيات. وأبرز تنازل قدّمه «المؤتمر الوطني الأفريقي» في تلك التسوية هو حذف هدف تأميم المناجم من برنامجه وإعلان الإيمان باقتصاديات السوق.
بإيجاز، نالت الأكثرية الأفريقية الديموقراطية ولكن بالتنازل عن تحرير الاقتصاد والسيطرة على الموارد وعن تحقيق الديموقراطية الاجتماعية.
جدير بالذكر أن التسوية ترافقت مع محاولات، ولو متواضعة، لتجسير هذه الفجوة، أبرزها اعتماد مبدأ المحاصصة في المواقع والمناصب الاقتصادية والإدارية لتصحيح الاختلالات الكبيرة بين الأقلية البيضاء والأكثرية الافريقية. خصصت مناصب إلزامية للأفريقيين في القوات المسلحة والأمن والإدارات الحكومية ومجالس إدارة الشركات في القطاعين العام والخاص، ومُنحوا حق تملّك الأسهم وتأسيس الشركات وغيرها. إلا أن كل تلك الحصص والنسب لم تتجاوز الخمسين في المئة وظلّت تسمح للبيض بالاحتفاظ بمواقع السيطرة في كافة تلك القطاعات. وكم هو معبّر أن يعلن مانديلا في آخر أيامه أنه فشل في محاربة آفّتين: الفقر و«السيدا»، ونَسب الثانية إلى الأولى.
أدّت التطورات التي أعقبت تفكيك نظام التمييز العنصري إلى تنويع في اقتصاد جنوب أفريقيا والنموّ المتسارع لقطاع الخدمات، وللخدمات المالية خصوصًا. مع ذلك، لم يغِب عن المسرح السياسي مطلب سيطرة جمهورية جنوب أفريقيا على مواردها وثرواتها الطبيعية. ظل الحزب الشيوعي يطالب بتأميم المناجم، يسانده تيار واسع في «المؤتمر الوطني الأفريقي» وفي حزب «الفدائيون الاقتصاديون» الذي انشقّ عن الحزب الحاكم حاملاً هذا الشعار وسرعان ما تحوّل إلى ثالث أكبر حزب في البلاد.
عام ٢٠١١، أعلن الرئيس جاكوب زوما إنشاء شركة تنجيم حكومية «الشركة الأفريقية للتنقيب والتعدين والمال». أثار القرار مخاوف المصالح الداخلية والخارجية المرتبطة بالقطاع المنجمي من أن يكون الإجراء خطوة نحو التأميم. ومع أن الرئيس زوما نفى أن يكون تأميم المناجم ضمن سياسة الحكومة، إلا أنه أكد أن هذا لا يمنع الدولة من أن تشارك بنشاط في قطاع التنجيم وأن تنافس الشركات الأخرى.
لقد استُخدمت استعارة الأبرتهايد لإعادة تعريف القضية الفلسطينية وألهمت باعتماد تقنيات «العدالة الانتقالية» في أفريقيا الجنوبية مثل حملات المقاطعة، وإدانة الجدار الفاصل بين أراضي فلسطين ٤٨ والضفة الغربية (وتشبيهه بجدار برلين)، وترتفع أصوات بين حين وآخر تطالب باعتذارٍ إسرائيلي رسمي عن احتلال فلسطين كشرط لحل نهائي لقضية فلسطين، إلخ. وفي حالات أخرى، استخدم نموذج «لجان الحقيقة والمصالحة» وسيلة لتجاوز آثار الحروب الأهلية، كما في الحالة اللبنانية.
العدالة الانتقالية مجموعة آليات وأنظمة وإجراءات تعالج أعمال العنف الجماعية والانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان في مجتمعات تهدف إلى التعافي من سنوات الحروب الطويلة أو الأنظمة الدكتاتورية.
يعرّف «المركزُ الدولي للعدالة الانتقالية» العدالةَ الانتقالية على أنها «الوسائل التي تعتمدها بلدان خارجة من نزاعات وأعمال قمع لتعالج بها انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق أو المتكررة التي تشمل أعدادًا كبيرة من البشر وتبلغ درجات من الخطورة بحيث لا يستطيع النظام القضائي العادي أن يوفر لها الجواب المناسب». وتوصَف المبادئ التي تهتدي بها أطر العدالة الانتقالية بأنها متجذرة في المبدأ الحكمي القاضي بتعريض المرتكبين للمحاسبة، والتعويض على الضحايا، والاعتراف بالكرامة الإنسانية. ويُنظر إلى الكرامة، في هذا السياق، على أنها القيمة الأرقى المتضمّنة في كل شكل من أشكال العدالة والتي لا يمكن بناء مجتمع لائق بدونها.
يُنظر عادةً إلى مناخ أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية (وإلى نموذج محاكمات نورنبرغ وحملات وأد النازية في ألمانيا) على أنها في أساس نشوء هذا الحقل. إلا أن أطر العدالة الانتقالية لم تتحدد بوضوح إلا خلال العقود الثلاثة الأخيرة بما تزامن مع نشوء النيوليبرالية- خصوصًا عن طريق الجهود في محاكمات رجالات الدكتاتورية العسكرية في اليونان والأرجنتين في عامي ١٩٧٥ و١٩٨٣ على التوالي. بعد ذلك تطورت سياسات وأدوات العدالة الانتقالية وطُبّقت تدريجيًّا بالتوازي مع تعزيز السياسات النيوليبرالية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأجزاء مختلفة من القارة الأفريقية.
مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، أدى نشوء لجان التحرّي عن الحقائق في دكتاتوريات أميركا اللاتينية (الأرجنتين والأوروغواي وتشيلي) إلى تأسيس فكرة «الحقيقة» بما هي القيمة الأساسية لتأمين الانتقال من الحرب والعنف إلى السلام، وإلى الإنصاف والديموقراطية والاستقرار. خلال تسعينيات القرن الماضي، أدت إدانة عدد من الأجهزة الأمنية السابقة وإنشاء محاكم استثنائية (تتعلق ببلدان سابقة مثل ألمانيا الشرقية أو يوغوسلافيا) إلى مزيد من توسّع هذا المفهوم للعدالة في الفترات الانتقالية. وفي مطلع التسعينيات أيضًا ظهر مصطلح «العدالة الانتقالية» في الأوساط الأكاديمية في أميركا الشمالية. وكان يغطي عمومًا حقلًا بحثيًّا وشكلاً للممارسة السياسية متجذرَين في النزعة الإنسانوية لمعالجة عواقب الحروب والانتهاكات في بلدان يقع معظمها خارج أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وسرعان ما اكتسب المصطلح رواجًا كبيرًا، بدافع من مصالح أكاديمية وسياسية، في مجريات ما بعد تفكك الكتلة السوفييتية. بالإضافة إلى ذلك، في العام ١٩٩٥ استلهمت جنوب أفريقيا تلك النماذج فأنشأت «لجنة الحقيقة والمصالحة» لمعالجة آثار نظام التمييز العنصري، وهي آثار صيغت بلغة جرائم ضد حقوق الإنسان. وسوف تساعد حالة جنوب أفريقيا على ترسيخ دور «لجان الحقيقة والمصالحة» بما هي ممارسة لا غنى عنها لرسم حدود مسارات الانتقال إلى الديموقراطية. أخيرًا، مثّل إنشاء «محكمة العدل الدولية» وإقرار «اتفاقية روما» المرتبطة بها عام ١٩٩٨، لحظةً هامة في تاريخ العدالة الانتقالية، وقد حددت الاتفاقية أربعة أنواع من الجرائم خاضعة للعدالة الدولية: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، العدوان، وجرائم الحرب.
في العالم العربي، استخدمت المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية أدوات العدالة الانتقالية في الحروب الأهلية والانتفاضات الشعبية عام ٢٠١١. في هذه الأخيرة، اتخذ تدخّل العدالة الانتقالية في الدرجة الأولى بالدفاع عن حقوق وكرامة ضحايا القمع والاضطهاد السلطوي. في لبنان، جرى التركيز على الذاكرة، خصوصًا تذكّر أعمال العنف- دون كبير اهتمام بأسباب الانتقال من النزاعات السياسية إلى النزاعات المسلّحة- والعمل على كشف الحقيقة عن مصير المفقودين، والدعوة إلى محاسبة قادة المليشيات، والتبشير بنزعة سلموية قابلة لأن تخلط بين مقاومة الاحتلال والعنف الإرهابي.
وكان اليمن حقلَ اختبار أساسيًا لأساليب فض النزاعات والعدالة الانتقالية التي طُبّقت برعاية الأمم المتحدة. انعقد مؤتمر الحوار الوطني الموسع (بين آذار/ مارس ٢٠١٣ وكانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٤) في العاصمة صنعاء واتخذ عددًا كبيرًا من القرارات. لكن في الوقت الذي كانت فيه هيئات العدالة الانتقالية والمنظمات غير الحكومية تبحث في تمثيل النساء والشباب والتشديد على حقوق الإنسان- وإغفال العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتفاوت المناطقي في تفجير الأزمة- كانت المبادرات الدولية (الأميركية والخليجية) تستبدل الرئيس (علي عبد الله صالح) بنائبه (عبد ربه منصور هادي)، وتمنح الرئيس الجديد صلاحيات استثنائية على حساب حكومة ائتلافية يفترض أنها تمثّل كافة أطراف النزاع. وبناءً على مخرجات الحوار سُنّ دستور اعتمد النظام الفيدرالي وقسّم الجمهورية إلى ستة أقاليم في تجاهل واضح لمطالب أبرز كتلتين شعبيتين مسلحتين، «أنصار الله» في صعدة بالشمال، والحراك الجنوبي في المحافظات الجنوبية. وقد أسهمت تلك العوامل مجتمعةً إسهامًا كبيرًا في تجدد القتال واستدراج التدخلات الأجنبية في حرب مستمرة منذ العام ٢٠١٤.
آليات العدالة الانتقالية
إن العدالة الانتقالية إذ تستلهم حقوق الإنسان الدولية والقانون الدولي، تقدّم نفسها على أنها مسار يرتبط بالترويج لحقوق الإنسان ويتمايز عنها في آن معًا. وفيما قد تتنوع الأهداف الاجتماعية للعدالة الانتقالية بين سياق وآخر، إلا أن أدواتها وآليّاتها موحدة ومحددة بوضوح. إنها تشكل جزءًا من مقاربات وسياسات مؤسسات دولية مثل «اللجنة الدولية للعدالة الانتقالية» والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية. وتتضمن تلك الآليات لجان التحقيق والوفود والبعثات التي تعمل من أجل كشف «الحقيقة» ودفع الأطراف المتنازعة نحو المصالحة؛ وتجريم المرتكبين؛ وتحقيق الإصلاحات؛ ودفع التعويضات؛ وإعادة الاعتبار للضحايا، أكانت رمزية أو مادية؛ والتحقيق في موظفي الخدمة العامة لكشف منتهكي حقوق الإنسان وإقصائهم؛ ونزع أسلحة المليشيات وإعادة دمج الجنود والمقاتلين السابقين في حياة المجتمع؛ وتتضمن أيضًا الشغل على الذاكرة وعلى تذكّر المجازر وروايات العذاب من أجل الاعتراف بكرامة الضحايا وتوفير الفرص من أجل إقفال النزاع وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
لأنها قائمة على فهم مخصوص للعدالة يقابل بين ثنائيات الخير/ الشر، السلطوية/الديموقراطية، العنف/السلام، النزاع/ ما بعد النزاع، والضحايا/ المرتكبين، لا تأخذ أطرُ العدالة الانتقالية بالاعتبار العدالةَ التوزيعية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية. إن تلك الأطر تربط مسارات العدالة ومفاهيمها بمفاهيم الانتقال بطريقة تتطلب تصحيح انتهاكات حقوق الإنسان من أجل إفساح المجال أمام قيام مجتمع جديد متصالح، ما يؤدي فعليًّا إلى إزاحة النضالات الاجتماعية والجماعية وتحويلها إلى انتهاكات لحقوق الإنسان. وفي إيحائها بأنه يتعيّن على الأفراد أن يتعاطوا مع انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، وأن يتصدّوا لها من أجل أن يسيروا قدمًا إلى الأمام، تحجب آليات العدالة الانتقالية الأسباب والنتائج والديناميات الاجتماعية الكامنة وراء اندلاع النزاعات والتي تبرّر الأنظمةَ السلطوية وترسّخها. وإذ تقوم بهذا الدور، تعيد العدالة الانتقالية إنتاج العنف بتحويل الدول الممزّقة بالحروب إلى مجتمعات تسيطر عليها اقتصاديات السوق. فهي تروّج ضمنًا، وبالتالي تعزز، الإصلاحات المنحازة لاقتصاد السوق بأن تشرعن إعادة بناء الدولة والمجتمع على قاعدة سياسات حقوق الإنسان التي لا تتصدى لعدم المساواة البنيوية ولا للمطالب الجذرية مثل إعادة توزيع الأعباء والخسائر الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة والأراضي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.