العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

تحقيق صحافي عن مصرفيّ سجين اسمه يوسف بيدس

كتب التحقيق في ٩ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٦٧

 

في عام ١٩٦٧ وقعت كارثة بنك إنترا، وكان أول انهيار مصرفي كبير في لبنان، وغادر صاحب البنك ومديره العام، يوسف بيدس، إلى سويسرا، وأقامت الدولة اللبنانية دعوى ضده، ولاحقته بواسطة الإنتربول.

حينها، كلّفتني جريدة «النهار» (كنتُ أحد مراسليها) متابعة قضية هذا المصرفي الأشهر في لبنان.

إذا كان لا بد لقصة يوسف بيدس من أن تنتهي في مكان ما، فإن لوسيرن كانت، حتمًا، آخر الأمكنة التي أراد لها صاحبها أن تنتهي فيها. وإذا كان لا بد للمغامر من أن يستريح في وقت ما وفي مكان ما، فإن سجن لوسيرن المركزي ليس المكان الذي تمنّى يوسف بيدس أن يمضي فيه عيد الميلاد المقبل. حتى لوسيرن نفسها، المدينة السويسرية التي تنام في الشتاء من البرد ومن قلة السيّاح، لم تكن تحلم بسجين بهذه الأهمية بين جدرانها.

قصص كثيرة وروايات مختلفة ومتضاربة رُويت عن اعتقال بيدس. بعضها استسلم للخيال، وبعضها استرسل بدافع التشفي، والبقية الباقية انساقت وراء الشائعات. لكنني رحتُ وراء القصة الحقيقية أبحث خلال ستة أيام من التحقيق المضني بين جنيف وبرن ولوسيرن وبالعكس، عن أبطالها الحقيقيين، وعن خيوطها التي تربطها، بعضها ببعض، محاولًا أن أصل إليها من أولها.

لكنّ قصة اعتقال بيدس لا تبدأ من اليوم الأول الذي أعلنت فيه شرطة لوسيرن رسميًا اعتقاله، الاثنين ٢٧ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٦٧، بل من يوم الأحد ١٩ تشرين الثاني/نوفمبر، عندما دخل بيدس، في اعتقاد السلطات، الأراضي السويسرية، إلى حين اعتقاله يوم الخميس ٢٣ تشرين الثاني/نوفمبر أمام مبنى البريد المركزي في لوسيرن. وقد تأخر الإعلان الرسمي لاعتقاله أربعة أيام، أي من الخميس ٢٣ إلى الاثنين ٢٧، حتى تأكدت شرطة لوسيرن من هويته الحقيقية، وهو إجراء يبدو أنه متعارَف عليه في سويسرا.

الشاهد الأول: ضابط التحري

بطل القصة الحقيقي لم يكن يوسف بيدس، بل كان شيئًا اسمه «الصدفة»، أو «الحظ»، أو ما سمّاه العرب «ساعة التخلي»، وللقصة أكثر من أربعة شهود – ما عدا بيدس نفسه – ظللتُ أستصرحهم وأسألهم ساعات طويلة خلال الأيام الستة. وكان الشاهد الأول والمصدر الحقيقي الوحيد لعملية الاعتقال، ضابط التحري العام في شرطة لوسيرن الجنائية والخبير الاختصاصي بشؤون التزوير، جون هرزيك (٤٣ سنة، يجيد لغات عديدة، عازب) الذي روى لي خلال أربع ساعات بعد ظهر الثلاثاء ٥ كانون الأول/ديسمبر ١٩٦٧، القصة من بدايتها.

باشر هرزيك، بعدما قابلنا معًا رئيس شرطة لوسيرن الجنائية الدكتور هانس شرايبر، واستحصل على إذن منه، بالتحدث إلى صحافي من لبنان جاء خصيصًا ليسمع القصة منه، وهو شاعر بأهميته وأهمية السجين الذي في عهدته.

جلسنا، أنا وهرزيك، وحدنا في غرفة الانتظار في مبنى شرطة لوسيرن المركزي، وهي غرفة رمادية واسعة فيها مقاعد مريحة وطاولة اجتماع طويلة حولها كراسيّ، وعليها مجلات عديدة، وعلى جدرانها رفوف عليها كتب مختلفة، بما في ذلك قواميس وموسوعة ومراجع قانونية، لا توحي أنها غرفة تستعمل للتحقيق أيضًا، إلا أن بابها يُغلَق من الخارج، وفيها ساعة كهربائية وشارة كهربائية تضيء، مُظهرةً اسم الشرطي المطلوب ورقمه. ولعلها تبدو إلى حدٍّ ما غرفة انتظار في عيادة طبيب.

قال هرزيك: «بعد ظهر الخميس ٢٣ تشرين الثاني/نوفمبر، اتصل أحد المواطنين بالشرطة، وقال إنه شاهد في الصباح سيارة أميركية ضخمة أمام مبنى البريد المركزي في لوسيرن، وحولها ثلاثة رجال، وسائقها في داخلها، ومحركها دائر، وهو يخشى أن تكون هناك عملية سطو على مبنى البريد أو أحد المصارف المحيطة به، لأنه عاد بعد ثلاث ساعات ووجد وضع السيارة كما رآه من قبل، والأشخاص الثلاثة حولها والسائق وراء المقود كأنه يستعدّ للإقلاع بها في أية لحظة. ومن عادة المواطنين في لوسيرن أن يتعاونوا كثيرًا مع الشرطة، وغالبًا ما كنّا نتلقّى مكالمات من هذا النوع من مواطنين شاهدوا عمليات سطو أو سرقة أو خطف. لذلك، كانت هذه المخابرة من النوع الروتيني الذي نتلقّاه باستمرار.

رجل أنيق بالمعطف الأسود

«وهرعتُ مع زميلي ضابط الشرطة جوزيف ستادلمان، في سيارة من سيارات التحري العادية (فولكسفاكن صغيرة سوداء مزوَّدة بجهاز لاسلكي، وليس فيها ما يكشف أنها من سيارات الشرطة) إلى المكان الذي دلّنا عليه أمام مبنى البريد، فوجدنا سيارة أميركية كبيرة سوداء من طراز لينكولن مقفلة ومتوقفة، وليس فيها أو حولها أحد. وانتظرتُ أنا وزميلي ستادلمان نحو ساعة نراقب السيارة من بُعد معقول، حتى جاء رجل أنيق المظهر يرتدي معطفًا أسود، حاملًا معه أغراضًا مشتراة، كأنه كان يتبضع، وحاول فتح باب السيارة، وكانت الساعة قد قاربت السادسة مساءً، فتقدمنا منه، وقلنا له: «نحن من الشرطة»، وأبرزنا له بطاقتينا، فمدّ يده إلى جيبه وأبرز لنا بهدوء تام جواز سفره، كما هي الحال في هذا الوضع. وأمسكت بجواز السفر، فإذا هو برازيلي، فسألته بالبرتغالية – مفترضًا –: «هل تتكلم البرتغالية سيدي؟».

(هرزيك يتكلم الألمانية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية والإسبانية والبرتغالية).

وكأنه فهم ما قلت، فردّ عليَّ بإنكليزية سليمة:

«أنا لا أتكلم البرتغالية. لقد وُلدت فقط في البرازيل، وعندما كان عمري أربع سنوات جئت إلى بريطانيا حيث تلقيت تعليمي وبقيت». وتابع هرزيك: «ورأيت أن إنكليزيته ليست إنكليزية الإنكليز مئة بالمئة – فقد درست أنا في بريطانيا سنة كاملة – لكنني لم أقل شيئًا. ونظرتُ في جواز سفره، وكان يحمل اسم جوزيه كارلوس كوري، ويعمل تاجرًا. فسألته عن أيِّ نوع من التجارة يتعاطى، فأجاب: «تجارة الجلود الوحشية، كجلد النمر والفرو». وعدت أسأله عمّا إذا كان يعرف أيًّا من تجار الجلود أو وكالاتها في لوسيرن، فردّ بأنه وصل توًّا من بعد ظهر اليوم من ألمانيا، وأنه وحده، ولم يقابل ولا يعرف أحدًا. «وعدتُ أدقق في جواز سفره البرازيلي – ونحن ما زلنا وقوفًا أمام السيارة – فبدا لي أنه جواز صحيح صادر عن برازيليا، إلا أنني شككتُ في الختم الذي على جانب الصورة، لأنه غير مطبوع بكامله على بقية زاوية الصفحة، كما هي العادة، ومثل هذا يحدث غالبًا، ولا يشكل إثباتًا على عدم صحة الجواز. لكن عناصر الشك كانت قد تجمّعت عندي، وهي: عدم إجادته البرتغالية، الاشتباه في جواز السفر، وإصراره على أنه وحده وأنه قدم من ألمانيا اليوم. وكان التأكد من السبب الثالث صعبًا، لأن السلطات السويسرية لا تختم جوازات سفر القادمين إليها من أوروبا بالبر، إلا إذا طلبوا منها ذلك. فسألته أن يأتي معنا إلى المكتب».

هوية مكسيكية من بيروت

أضاف هرزيك: «في المكتب عاد إلى إصراره على أنه برازيلي اسمه جوزيه كارلوس كوري، وأنه قدِم اليوم من ألمانيا. وطلبنا تفتيشه، فوجدنا في جيوبه بطاقات هوية عدة عليها صورته وتحمل اسم يوسف بيدس. واحدة برازيلية صادرة عن برازيليا، وأخرى مكسيكية صادرة عن سفارة المكسيك في بيروت، وبطاقات غيرهما باسم يوسف بيدس أيضًا تحمل لقبه، مدير بنك إنترا. وتلقائيًا في مثل هذه الحالة، بحثنا في ملفاتنا عن اسم بيدس، فرأينا أنه ملاحق من الإنتربول بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية. وعندئذٍ فقط، وكان قد مرّ أكثر من ساعة على استجوابه في المكتب، وإصراره بثقة على شخصيته البرازيلية، اعترف بيدس بهويته الحقيقية، فاعتقلناه. وأعلمنا الإنتربول فورًا، وبعد يومين جاءنا التأكيد من الإنتربول أنه بيدس المطلوب».

«وفي أثناء تفتيشنا له، عثرنا في جيوبه على ٧ آلاف دولار نقدًا، ونحو ألف فرنك سويسري نقدًا أيضًا. والحقيبة الوحيدة التي في السيارة، لم يكن فيها إلا ملابسه العادية وعدة حلاقة وتوابعها. مضت ثلاثة أيام، فاتصل بنا فندق «شاتو غوتسش» في لوسيرن، وقال إن رجل أعمال أميركيًا لم يعد إلى الفندق منذ ثلاثة أيام، وقد ترك حقائبه، فأدركنا أن من المعقول أن يكون بيدس. وعند تفتيشنا للحقائب الثلاث في الغرفة، عثرنا على أوراق باسم يوسف بيدس وملفات لها علاقة ببنك إنترا، وعلى جواهر، من خواتم وأساور وأقراط، غير مستعملة وملفوفة بأغلفتها، وما زالت أوراق الأسعار معلّقة بها. كذلك وجدنا عددًا كبيرًا من الشيكات السياحية والخاصة (تقدّر بعض المصادر الخاصة المقربة من بيدس في جنيف قيمتها بأكثر من ٣٠ ألف دولار). وعثرنا أيضًا على مفاتيح لصناديق حديدية عديدة، وعلى ملاعق وشوك وسكاكين تحمل علامات فنادق مختلفة في أوروبا». وتابع هرزيك: «وأعدنا فتح التحقيق مع بيدس لسؤاله عن الموجودات الجديدة، فقال إن الشيكات له، وإن الجواهر اشتراها من بيروت منذ سنوات، وهي لزوجته. أما عن سبب احتفاظه بأوراق الأسعار عليها، فحتى يعرف قيمتها دائمًا إذا احتاج أن يبيعها. أما الملاعق والشوك والسكاكين، فهي هدايا تذكارية «سوفنير» من الفنادق التي كان ينزل فيها. وعاد فأقرّ بأنه كان مقيمًا في هذا الفندق، وأنه مرت أربعة أيام وهو في لوسيرن قبل أن يعتقل. لكنه أصرّ على أنه وحده، ولا يعرف أحدًا، وأنه قدم من ألمانيا. لكن في ضوء أقوال بيدس الجديدة، والتراجع والتناقض مع الكثير مما قاله من قبل، كان لا بد لنا من أن نفترض أن الجواهر مسروقة، وخاصة أنه لا يذكر أسماء المحلات التي اشتراها منها. وبقينا نوالي تحقيقاتنا في الموضوع، رغم تأكيد زوجته أن الجواهر ملكها، لأن هذا إجراء قانوني لا مفرّ منه. أما الشوك والسكاكين والملاعق، فهي حتمًا غير مسروقة ولا تستحق الاهتمام. وبيدس غير متهم بالسرقة، على عكس ما ذُكر في بعض الصحف، لكنّ التحقيقات تجري لمعرفة مصدر هذه الموجودات».

«أما التهم الموجّهة إليه من السلطات السويسرية، فهي الدخول إلى البلاد بطريقة غير قانونية (وكان قد مُنع من دخول سويسرا منذ نحو سنة، إثر صدور تعميم الإنتربول، لأسباب لم يستطع أحد أن يفسرها لي)، بجواز سفر مزوّر. وهي تهم عقوبتها خفيفة، لا تتجاوز في أسوأ الحالات غرامة ضئيلة».

واستراح هرزيك على كرسيّه في رأس الطاولة، وقد انتهت روايته. فسألته عمّا إذا كان بيدس أهمّ شخص يُلقى القبض عليه حتى الآن، وقد أجاب: «خلال ٢٣ سنة من الخدمة في الشرطة يمرّ العديد من الحوادث على المرء. لكن بيدس كان أهمّ «صدفة» مرّت عليّ. ولا شك في أنّ اعتقاله أثار اهتمامًا في الخارج أكثر مما كان يخطر على بالي». وأخذني هرزيك ليريني سيارة بيدس في كاراج المركز، وهي تحمل رقم ولاية نيوجرسي “N.J. JZA-٦١٧ GARDEN STATE”

وما زالت أعداد «التايمز»، «تايم»، «الهيرالد تريبيون» الصادرة يوم الخميس ٢٣ تشرين الثاني/نوفمبر، على مقعدها الأمامي، ورفض هرزيك أن ألتقط صورة له، مع السيارة، قائلًا: «لا تصوروني، فأنا ضابط تحرٍّ، يجب ألّا يعرف المجرمون صورتي، وإلا فما الفائدة؟». وسألت هرزيك وأنا أودعه: «كيف تصرّف بيدس عندما اعتقل وانكشف أمره؟»، فردّ وهو يشدّ على يدي: «كجنتلمان، أرتج عليه لبعض الوقت ودهش. لكن كجنتلمان، لا شيء معيب». وأضاف وهو يرافقني إلى الباب: «أتمنى أن أزور لبنان، ليس برفقة سجين بأهمية بيدس. لقد سمعت عن عجائب مار شربل. هل هي صحيحة؟ إنني أريد زيارة ديره، لكن ليس برفقة مستر بيدس. ربما قريبًا، من يدري؟».

الشاهد الثاني: المحامي والسيكار

ومن «الصدفة» إلى «الحظ» حتى «ساعة التخلي» التي دفعت يوسف بيدس إلى اختصار طريق الهرب الطويلة عبر سجن لوسيرن المركزي، كان الشاهد الثاني محامي بيدس في لوسيرن، الدكتور كيسلين، يروي طرفًا آخر من القصة. في مكتب متواضع ذي فوضى غريبة من الأوراق والكتب والمطبوعات، جلس كيسلين، وهو رجل في الخمسين، بَدين، له شخصية محببة قريبة من القلب، يدخن سيكارًا غليظًا، ليحدثني عن «الزبون» الجديد الذي جاءه بغتة، دون سابق إنذار، لينفجر أهمية في أيام قليلة بعد إفصاحه عن شخصيته.

قال كيسلين: «إذا جئت لتسألني كيف اعتُقل يوسف بيدس، ولماذا، فأنا لا أعرف أكثر مما نُشر أو قيل، اذهب واسأل الشرطة عن ذلك. أما إذا جئت لتسألني عن الوضع القانوني، فأقول لك إن السلطات السويسرية، وبالتالي سلطات لوسيرن، لا تملك اتهامًا ضده. وفي أقصى ما تحمله تهمة دخول البلاد بجواز سفر – لم يثبت أنه مزور – يحمل اسمًا غير اسم صاحبه الحقيقي، غرامة مالية ضئيلة. لكن السلطات الفيدرالية السويسرية، بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية لاسترداده، تحقق بواسطة سلطات لوسيرن القضائية، في التهم الموجهة إليه من حكومة لبنان. ولا تنوي حكومة لوسيرن المحلية أن تقيم عليه أية دعوى».

لقاء واحد مع بيدس

وأضاف كيسلين، ونحن نتحدث صباح الثلاثاء ٥ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٦٧، ومع بداية ثلج يضرب نوافذ المكتب من الخارج: «صدّقني، لم أعرف يوسف بيدس من قبل، ولم أقابله إلا أمس – الاثنين ٤ تشرين الثاني/نوفمبر – للمرة الأولى، وكان اللقاء الأول بيننا. فالقانون السويسري، وقانون لوسيرن، لا يبيحان للمحامي أن يقابل موكله إلا بعد انتهاء التحقيق معه، وخاصة في قضية كالتي اعتقل في الأساس من أجلها. أما الآن وقد أصبحت هذه القضية هامشية، فإن مهمتي تتعلق بطلب الاسترداد اللبناني الذي علمت أن السلطات الاتحادية في برن تسلمته اليوم. وبانتظار دراسة الملف كله، لا أستطيع أن أقول شيئًا، سوى أن يوسف بيدس سيبقى عندنا طويلًا».

وسألت كيسلين عمّن اختاره ليتولى قضية بيدس، فأجاب، وكأنه ارتاب في سؤالي: «زوجته السيدة وداد بيدس. بعد إعلان نبأ اعتقاله بنحو أسبوع جاءت إليّ وكلفتني الدفاع عن زوجها».

وما الخطوة التالية الآن؟ سألتُ المحامي الذي كان مستعدًا للحوار معي. قال: «ستكلف السلطات الاتحادية سلطات لوسيرن التحقيق في التهم الواردة في الاسترداد اللبناني، في الوقت الذي درستُ أنا فيه كمحامٍ ملف القضية كلها. وإذا وجدت السلطات القضائية في لوسيرن أن في الملف نواقص أو نقاطًا بحاجة إلى إيضاح، فإنها تطلب من الحكومة الاتحادية في برن رفع هذه الإيضاحات إلى الحكومة اللبنانية، وهي عملية – كما ترى – تستغرق وقتًا طويلًا».

bid36_p25.jpg

يوسف بيدس (في الوسط)، في المقر الرئيسي لبنك إنترا في الحمرا.

يوسف بيدس (في الوسط)، في المقر الرئيسي لبنك إنترا في الحمرا.

 

بين المنع والتبليغ

قيل لي في جنيف إن القرار الذي أصدرته الحكومة الاتحادية بمنع بيدس من دخول الأراضي السويسرية، قد يضطرها إلى مقاضاته بتهمة الدخول إلى البلاد بطريقة غير مشروعة. وعدتُ أسأل كيسلين، لكنه ابتسم هذه المرة، وأجاب: «هل هذا ما يقال عندكم في لبنان؟ صحيح أن الحكومة السويسرية منعت بيدس من دخول أراضيها بعد تعميم الإنتربول، لكن الحكومة السويسرية لم تبلغه بأمر منعه، لأنها لا تعرف مكانه، ولأنه كان مجهول الإقامة. وبما أنه لم يبلَّغ، فهو قانونًا غير ممنوع. وهناك أكثر من اجتهاد في هذا الموضوع. أما أمر مقاضاته، فلم يبلغني بعد».

وسألتُ المحامي: ما انطباعك عن لقائك الأول مع يوسف بيدس؟ أجاب كيسلين: «بدا لي أنه رجل متماسك، لا يمكنه أن يكون مهرِّبًا أو مزوِّرًا أو سارقًا. كانت كبرياؤه أوضح ما لمست. سألني هو: «إلى متى سأبقى هنا؟»، رددتُ: وقتًا طويلًا يا سيدي. ورغب إليَّ أن أخبر زوجته أنه لا يريد أن يرى أولاده في عيد الميلاد وهو في السجن».

وما زال محامي بيدس ينتظر نسخة من ملف الاسترداد اللبناني لدراسته، دون أن يستعجل الزمن، كأنّ بيدس مصطاف في لوسيرن، وليس سجينًا. وبلباقة ذكية ماكرة، ابتسم كيسلين وقال لي: «إنه ضيفنا!».

الشاهد الثالث: المدعي العام في لوسيرن

صباح الأربعاء ٦ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٦٧، كنتُ في مكتب المدعي العام لمقاطعة لوسيرن، الدكتور فالكر، أستمع إليه يروي قصة بيدس بدقّة الساعات السويسرية المتناهية. قال: «إنّ يوسف بيدس سجين عندنا، فقط لأن الحكومة الاتحادية طلبت منّا أن نبقيه، وليس لشرطة لوسيرن أو قضائها أية دعوى ضده. وهو نزيل في عهدتنا إلى أن تقرر حكومة برن ما تراه مناسبًا، فنحن نعمل بالنيابة عن الحكومة الاتحادية. ولولا ذلك، لأطلقنا سراحه من زمان. هو مسجون لأن هناك طلباً من الحكومة اللبنانية لاسترداده، ما زالت برن تنظر فيه. هذا ما أستطيع أن أخبرك، وأجهل غيره».

وسألتُ الدكتور فالكر عمّا إذا كنتُ أستطيع أن أقابل بيدس في السجن، فأجاب: «أنا لا مانع عندي، وكنتُ أمنحك فورًا إذنًا، لو كان سجيني، طبعًا مع الافتراض أن بيدس لا يمانع في ذلك. لكن – وللأسف – هو سجين الحكومة الاتحادية، ولا أملك سلطة فوقها. آتني بإذن من المدعي العام الاتحادي، بشرط أن يقبل بيدس نفسه، فأسمح لك بالتحدث إليه ولقائه». وودعني الدكتور فالكر إلى الباب معتذرًا عن «قانونية القانون وصعوبته»، وقال: «اذهب إلى برن وآتني بإذن منها، وأنا بانتظارك. وسأرى بيدس بعد الظهر، وأقول له إنك ترغب في التحدث إليه».

الشاهد الرابع: المدعي العام الاتحادي

بعد ظهر اليوم نفسه، الأربعاء ٦ تشرين الثاني/نوفمبر، كنتُ في مكتب نائب المدعي العام الاتحادي الدكتور مولر في مبنى وزارة العدل والشرطة في برن (المسافة بين لوسيرن وبرن في القطار تستغرق نحو ساعة ونصف ساعة). قلتُ للدكتور مولر: «أريد أن أعرف أولًا أين صارت قضية بيدس بالنسبة إلى الحكومة الاتحادية، ثم إذا كنت أستطيع التحدث إليه وزيارته في السجن».

أجاب نائب المدعي العام الاتحادي، وهو جالس وراء مكتب متواضع في غرفة تتميز بكل الأناقة والنظافة السويسريتين: «لقد سلّم اليوم – الأربعاء – السفير اللبناني في برن وزارة الخارجية السويسرية ملف الاسترداد بحق بيدس، ونحن في وزارة العدل لم نتسلمه بعد، لأنه يجب أن يمرّ بالطرق التقليدية في الروتين الحكومي، وسندرس نحن الملف خلال ثلاثة أشهر في حدٍّ أدنى. وإذا وجدناه ناقصًا أو غير واضح في نواحٍ معينة، فإننا نطلب من الحكومة اللبنانية المزيد من الإيضاحات، حتى نصل إلى قناعة قانونية في الموضوع. وسيستغرق ذلك، ولا شك، وقتًا. وإذا رأينا أن الطلب اللبناني غير مستوفٍ الشروط، نُطلق سراحه فورًا. إذ ليس للحكومة السويسرية أي اتهام ضده».

«أما مقابلته فمستحيلة. ومع تقديري للمشاقّ التي تكبدتَها، فإن القانون ينص صراحة على أنه لا يحق لأحد أن يقابله إلا محاميه وزوجته وأولاده. وإذا أراد هو أن يتحدث إلى الصحافة، أو يقول شيئًا، يجب أن يقوله للحكومة السويسرية وبواسطتها، وليس للصحف مباشرة. لذلك، لم يقابله أي صحافي حتى الآن، سويسريًا كان أو لبنانيًا أو أجنبيًا. أما وضعه القانوني، فنحن في وزارة العدل بانتظار دراسة الملف».

bid36_p27.jpg

بنك إنترا، بيروت.

بنك إنترا، بيروت.

الشاهد الخامس: الزوجة والسجين

تجمعت لديَّ خيوط القصة الكاملة لاعتقال بيدس وحقيقة وضعه القانوني من فم أصدق الناس وأصحاب العلاقة المباشرين. بقي الشاهد الإنساني الأخير، وهو زوجته المقيمة في لوسيرن منذ أكثر من أسبوع، وقد قابَلَته ثلاث مرات، كانت آخرها اليوم. وكانت المقابلات تجري في غرفة المدعي العام، لا في غرفة السجن حيث هو في الانفراد، ويسمح لها بأطول وقت ممكن معه. وهو يأكل طعامًا خاصًا، وسلطات لوسيرن تعامله معاملة خاصة ضمن ما يسمح به القانون، كذلك فإنها سهّلت مهمة زوجته، ويطلب بيدس الصحف الإنكليزية باستمرار، لأن الصحف الوحيدة التي تصله هي الألمانية. وستقيم زوجته في لوسيرن، بانتظار ما سيسفر عنه التحقيق.

إنترا جنيف وبيدس

في جنيف علمت أن «إنترا جنيف»، وهو بنك سويسري مستقل، طلب من محاميه ومحامي بيدس السابق الدكتور جان لاليف، عدم التوكل عن بيدس في هذه الدعوى، لأن هناك دعوى عالقة بين البنك في جنيف منذ حادثة الإفلاس، وبيدس، ولأنه يخشى من تضارب في الولاء. وقبِل لاليف، وهو يعمل على تصفية «إنترا جنيف» على مهل، تمهيدًا لبيعه لأحد المصارف السويسرية قريبًا.

وتبقى قصة يوسف بيدس الشخصية، السجين البعيد المرفَّه في لوسيرن، تعدّ الأيام، لتُروى مرة أخرى على حقيقتها، بعد أن يكون ملف الاسترداد اللبناني قد مرّ على جميع الأيدي التي تريده، وتكون العيون قد تعبت من قراءته، أو على الأغلب ملّت، فتطلق سراحه أو تعيده، لتعود القصة فتبدأ، كما في الأصل، من لبنان.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.