يسجّل هذا النص عددًا من الأطروحات عن مفاهيم تنتمي إلى ما سمّي «علم الثورة» أو «فن الثورة» في فكر لينين. من البديهي أن تجهد الثورات، والحركات الثورية، لتتعلّم من تجاربها المتبادلة، فكيف إذا كانت الثورة المعنيّة هي أكبر ثورة في القرن العشرين، كما تأمّل فيها وكتب عنها أبرزُ قادتها. هذه الأطروحات أقرب إلى ملاحظات قراءة. ليست تدّعي الإحاطة بكامل الكتابات والممارسات المتعلقة بلينين والثورة الروسية، وإنْ تكن تلامس أبرز عناوينها. وليست تسعى إلى التعميم عن الثورات انطلاقًا من التجربة الروسية. إنها تطمح فقط إلى تقديم فكر وتجربة ينطويان على الوحي والتحدي للّذين يعملون في الفكر والممارسة من أجل التغيير الجذري للسلطة والمجتمع.
١– «البلورة المستقلة» للنظرية الماركسية
ينطلق لينين من فرضية تقول «لا ثورة دون نظرية ثورية» لإنتاج معارف عن الواقع الروسي من أجل تغييره. وعلى مدى النجاح في عملية المعرفة تلك يتوقف النجاح في فعل التغيير. والنظرية المعنية هي الماركسية. لكن الماركسية ليست نظرية كاملة جاهزة. إنها تحتاج إلى تطوير باتجاهين: الانتقال، في الفكر، من المجرد إلى العيني أو المحدد؛ وتطبيق المبادئ العامة بناءً على خصوصيات كل بلد، أي درجة تطوّره ونمط اقتصاده وطبيعة التركيبة الطبقية فيه، وطبيعة العلاقات المتبادلة بين قواه السياسية، إلخ. وهذا ما يسمّيه لينين «البلورة المستقلة» للنظريــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
«لسنا نعتبر أنّ نظرية ماركس كاملة وغير قابلة للمس. بل إننا، بالعكس تمامًا، مقتنعون بأنها اكتفت بإرساء حجر الزاوية لعلم ينبغي على الاشتراكيين تطويره بكافة الاتجاهات إذا هم أرادوا أن يماشوا الحياة. ونعتقد أن البلورة المستقلة لنظرية ماركس أمر جوهري بالنسبة للاشتراكيين الروس بنوع خاص، لأن هذه النظرية تقدّم المبادئ العامة المرشدة فقط، التي تختلف في التطبيق العملي المخصوص في بريطانيا عنها في فرنسا، وفي فرنسا عنها في ألمانيا كما تختلف في ألمانيا عنها في روسيا».
(المؤلفات الكاملة، المجلد ٤، ص٢١١–٢١٢).
يأخذ لينين على جورجي بليخانوف ومفكري الرعيل الأول من الماركسيين أنهم يعتمدون على المفاهيم الماركسية العامة. يقول عن بليخانوف، بطريرك الماركسية الروسية، إنه يبحث «عن أجوبة عن الأسئلة المحددة في التجلّي المنطقي المبسّط للحقيقة العامة»، في حين أن المطلوب في حال روسيا، صياغة الأجوبة المحددة عن السؤالين المحددين، بل على التحديين المحدَّدين، اللذين تقذف بهما الشعبوية (النارودنية): هل تنطبق الماركسية على الأوضاع الروسية؟ وبما أنّ تكوّن سوق داخلية هو المقياس الحاسم لسيادة الرأسمالية، هل تكونت مثل هذه السوق في روسيا؟
والشعبوية أبرز الحركات المعارضة للقيصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر. تتشبث بالخصوصية الروسية، وبـ«المير»، المشاعة الزراعية القروية البدائية التي تدير الأرض المزروعة والمشاعات وقد منحت حق انتخاب موظفيها وتحوّلت إلى وحدة إدارية لا مركزية بعد تحرير القنانة العام ١٨٦١. تدعو الشعبوية إلى الاعتماد على «المير» للانتقال إلى لون من الاشتراكية الفلاحية من دون المرور بالمرحلة الرأسمالية الصناعية. رفعت الحركة شعار «الذهاب إلى الشعب» ذهب بموجبه ألوف الشباب من أبناء الطبقات الوسطى للعمل في الأرياف وتحريض الفلاحين ضد الاستبداد القيصري. بعد سنوات عديدة، باءت حملات التعبئة بالفشل، ونشأت جمعية سرية باسم «نارودني فوليا» (إرادة الشعب) مارست العمل المسلح لإسقاط النظام، وقد تمكنت من اغتيال القيصر إسكندر الثاني العام ١٨٨١ ما أطلق حملة اعتقالات وإعدامات واسعة. نظّمت محاولة اغتيال فاشلة للقيصر إسكندر الثالث العام ١٨٨٦ استدعت حملة اعتقالات وقمع وإعدامات قضت عمليًّا على هذا التنظيم المسلح (اعتقل شقيق لينين الأكبر، ألكسندر، لعلاقته بتلك المحاولة وأعدم شنقًا وله من العمر ٢١ عامًا). مع تراجع العمل المسلّح، استمرت مجموعات شعبوية بالعمل بين الفلاحين، في ظروف من التردّي الكبير في معيشة سكان الأرياف عمومًا، ولقيت نجاحًا نوعيًّا إذ نشأ منها «حزب الاشتراكيين الثوريين»، واسع التمثيل للفلاحين، الذي سيلعب دورًا رئيسًا في العمل الثوري منذ العام ١٩٠٥.
خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، كرّس لينين جهده للإجابة عن هذين السؤالين في عدد من الدراسات ومراجعات الكتب والأبحاث الاقتصادية والمقالات توّجها بحثه «تطور الرأسمالية في روسيا» (١٨٩٨)، الذي لا يحظى بكبير اهتمام بين أعماله مع الأسف. حسم الكتاب القطيعة مع العقيدة الشعبوية، إذ أبان مميزات تطور اقتصاد رأسمالي سوقي في روسيا ومن أبرز نتائجه الاجتماعية: توسع الإنتاج الزراعي الموجّه للسوق، التمايز الاجتماعي المتزايد بين الفلاحين، نموّ الملكيات الزراعية الكبيرة، المكننة المتنامية للعمل الزراعي، نموّ العمل المأجور في الزراعة، ونشوء الإنتاج الرأسمالي المنزلي والقروي (المانيفاتورة)، وتكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة التي نمت بسرعة وتمركزت في المدن الرئيسة، إلخ. بعبارة أخرى، خلص البحث إلى الانهيار المتسارع للقاعدة المادية لمشاعات «المير» ولاستقلاليتها لوحدات إنتاج زراعي.
٢– عدم التطابق بين البنية الاقتصادية والبنية السياسية
دار الصراع الفكري بين البلاشفة من جهة والمناشفة والاشتراكيين الثوريين، من جهة أخرى، حول موضوع نظري بامتياز يمسّ الواقع الروسي وما ينجم عنه من تشخيص لطبيعة الثورة وقواها ودور الطبقة العاملة فيها خصوصًا. مثّل المنشفيون والاشتراكيون الثوريون النزعة الاقتصادوية التي لا تختلف في تعيين الاقتصاد الروسي على أنه رأسمالي، لكنها تخلص إلى أن الطبقة المسيطرة اقتصاديًّا هي بالضرورة الطبقة المسيطرة سياسيًّا. هكذا، لن تكون الثورة ثورة برجوازية إذا قامت بها البروليتاريا. أما إذا كانت الثورة ثورة البرجوازية فيتعيّن أن تقوم بها البرجوازية بذاتها ولا مكان فيها للبروليتاريا إلا كطرف ثانوي أو تابع.
ما لا يفقهه الاقتصادويون، حسب لينين، هو التفاوت بين القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقية السياسية (والأيديولوجية) للمجتمع الروسي، فهم يتجاهلون حقيقة أن البناء الفوقي ليس مجرد «انعكاس» للبناء الفوقي. التحتي إلى ذلك، يأخذ عليهم الاختزالية في تشخيص التركيب الطبقي للمجتمع الروسي، كما سنرى أدناه. وهو تجاهل يلقي بثقله على تشخيص طبيعة الثورة وقواها وأهدافها وطرائق الانتقال إلى الاشتراكية.
٣– بعض الخصائص العامة للثورات
في كتاباته عن الثورة الروسية، يورد لينين تعريفات ومميزات عدة للثورات بوجه عام، أهمها:
أولاً، طابعها المفاجئ بحيث تكاد تكون عجائبية: «لا يوجد معجزات في الطبيعة أو التاريخ، ولكن كل منعطف فجائي في التاريخ، وهذا ينطبق على كل ثورة، يتكشّف عن ثروة من المضامين، وعن تركيبات متعددة من أشكال النزاع، وعن اصطفافات قوى بين المتنازعين، مفاجئةً ومميّزة، إلى درجة أنه يتبدى للعقل العادي أنّ في الثورات الكثير من قبيل المعجزات» (أطروحات نيسان، ص ٢٩٧).
ثانيًا، الثورات كاشفة لآليات تشغيل المجتمع والدولة، وتكشف بسرعة فائقة للقادة والجماهير حقائق ووقائع وإمكانات لم تكن معروفة أو واضحة من قبل.
ثالثًا، الثورات تُوسّع إطار الممكن: «في الأزمنة الثورية تتسع حدود ما هو ممكن بنسبة ألف ضعف» (أطروحات نيسان، ص ٣٢٣).
٤– مفهوم «الوضع»: التحليل المحدد للواقع المحدد
ينطلق لينين من منهجية متماسكة تقول إن كل عمل سياسي قائم على العلم يبدأ بطرح سؤال الراهنية ومميزاتها. بناءً عليه، بلور مفهوم «الوضع» Conjuncture، و«الوضع» كما يستخدمه لينين هو حقل الفعل المركّب لقوى طبقية عينيّة. وينبغي معاينة «الوضع» من منظارَين: منظار تمايزه عن الوضع الذي سبقه؛ ومنظار مصالح البروليتاريا، إذ لا يجوز للجهد الفكري الثوري أن يكتفي بالوصف والتمييز. إنه منحاز إلى التغيير، تغيير الوضع الراهن. ويملي هذا التعيين لـ«الوضع» مهمّتين متلازمتين: الأولى، ضرورة الانطلاق من «الوضع» الراهن باتجاه تغييره؛ والثانية، استشراف معالم النقلة الممكنة واللازمة إلى «وضع» جديد من منظار مصالح البروليتاريا بعيدة المدى. وهذا ما يسمّيه لينين «الاستراتيجية».
وصف لينين ثورة ١٩٠٥–١٩٠٧ على أنها «التمرين الأخير» على الثورة ضد النظام القيصري، وقد عرّت الثورة فساد ذلك الوضع وكشفت جميع «الفاعلين» و«الممثلين» و«اللاعبين» فيه، أي الطبقات والشرائح الاجتماعية والجماعات الإثنية والقومية وممثليها، في علاقاتها المتبادلة ومواقعها بكل تفاصيلها وحركتها.
على أنّ تسمية لينين ثورة ١٩٠٥ بـ«التمرين الأخير» لا تُفهم بالكامل إلا من منظار الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨) وهي الحرب الاستعمارية التي سرّعت من مجرى التاريخ العالمي وتولدت عنها أزمات وانعطافات مفاجئة أسهمت في إسقاط النظام القيصري الدموي بضربة واحدة في شباط/ فبراير ١٩١٧. يلجأ لينين إلى الاستعارة المسرحية لتعيين «الوضع» الجديد الذي تولّد عن تلك الثورة بعدما أنجزت المسرحية تمارينها.
انطلقت ثورة شباط/ فبراير من تظاهرة للنساء العاملات في بتروغراد لمناسبة يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار/ مارس، حسب التقويم القديم، احتجاجًا على تردّي الظروف المعيشية. وترافق الإضراب النسائي مع إضراب عمّالي عام في المدينة بمشاركة ١٦٠ ألف عامل، واجتاحت وسطَ المدينة جماهير شعبية حاشدة وغاضبة عبّرت عن مطالب متداخلة:
ربّات البيوت يطالبن بالخبز جرّاء ندرة المواد الغذائية بسبب الحرب؛
شاركت في التظاهرات أعداد واسعة من جنود المواقع العسكرية، وزحف نحو مليونين منهم عائدين إلى روسيا لاستعادة الأرض. هؤلاء هم الجنود — الفلاحون الذين سيقول عنهم لينين إنهم «اقترعوا للثورة بأقدامهم».
فلاحون يطالبون بالأرض.
الإضرابات العمّالية تطالب بتخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور، وبرز أيضًا في تلك الفترة مطلب جديد هو الإدارة العمالية للمصانع.
ارتفعت خلال الإضرابات والتظاهرات شعارات «الخبز! الخبز!»، «يسقط الاستبداد»، «تسقط الحرب»، «الصلح فورًا». وأخذت النساء في تحريض الجنود على إلقاء السلاح والانضمام إلى التظاهرات. ترددت فرق خيّالة الكوزاك في قمع التظاهرات وبدأ الجنود بالتآخي مع الجماهير. يوم ١١ آذار/ مارس بدأت الانتفاضات في الثكنات ضد الحرب وانضمام الضباط والجنود إلى الجماهير الثائرة. لقد تعطّلت آلية القمع، آخر ملجأ للنظام. بعد أربعة أيام من الفوضى، تنحّى القيصر وسلّم الحكم لحكومة انتقالية من الليبراليين بعدما تعذّر على الجيش قمع الثورة. في تلك الأثناء، نبتت مجالس السوفييت كالفطر في كافة أنحاء روسيا.
يعزو لينين نجاح ثورة شباط/ فبراير بتلك السرعة المشهودة إلى أنه وليد وضع تاريخي فريد، أبرزُ سماته تقاطع تيارات متنافرة ومصالح طبقية عديمة التجانس ومتضادة كليًّا، من حيث مساعيها السياسية والاجتماعية، وتلاقيها على نحو متناسق مدهش ضد روسيا الإقطاعية والبرجوازية، وضد سفيرَي بريطانيا وفرنسا، العاملَين على مواصلة الحرب، إضافةً إلى بروز شكل جديد للتمثيل الشعبي هو مجالس السوفييت. دفع الضغط البريطاني — الفرنسي على بافل مليوكوف — أحد قادة الحزب الدستوري الديموقراطي («الكاديت») لأن يتسلّم وزارة الخارجية من أجل مواصلة مشاركة روسيا في الحرب وتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه أصلاً بين الحلفاء في «اتفاقية القسطنطينية» العام ١٩١٥. وهي اتفاقية تقاسم غنائم الحرب في أراضي السلطنة العثمانية، تحصل بموجبها روسيا على القسطنطينية (إسطنبول) والمضائق، وتحصل بريطانيا على العراق، وفرنسا على سورية الكبرى، وتتولى الدول الثلاث إدارة دولية مشتركة لسنجق القدس (لم يكن إعلان بلفور قد صدر بعد ولا بريطانيا احتلت فلسطين).
٥– الصراع الطبقي: فاتح إمكانات/ راسم حدود
في وجه الاقتصادوية، بلور لينين مفهوم الاقتصاد الاجتماعي، الذي يضع الاقتصاد داخل التشكيلة الاجتماعية. وفي بلورته المستقلة للنظرية الماركسية لتأمين تطبيقها على واقع بلد متخلف اقتصاديًّا، وسّع لينين تعريف الطبقات ذاته بحيث يتجاوز ثنائية البرجوازية/البروليتاريا.
«الطبقات مجموعات كبيرة من البشر يتمايز بعضها عن بعض بالموقع الذي تحتله في نظام محددٍ تاريخيًّا من الإنتاج الاجتماعي، وبعلاقتها بوسائل الإنتاج، وبدورها في تنظيم العمل الاجتماعي، وبالتالي بأحجام الحصة من الثورة الاجتماعية التي تتصرّف بها وبوسيلة الاستحواذ على عمل مجموعات أخرى نظرًا للمواقت المختلفة التي تحتلها في نظام محدد من الاقتصاد الاجتماعي»
(طرابلسي، الطبقات الاجتماعية، ٢٠١٦، ٣١–٣٢).
هكذا توصل لينين إلى ضرورة مبادرة البلاشفة إلى تسلّم السلطة بناءً على تشخيصه لفعل القوى الطبقية في المجتمع الروسي في وضع روسيا العيني. ويتبدّى التعيين الطبقي المتضافر (الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي، الأيديولوجي) ليس فقط بما يطلقه من ديناميات وإنما أيضًا بما هو راسم حدود في ما تستطيعه هذه الطبقة أو تلك من حيث الوعي والفعل.
في تحليل ذلك «الوضع»، تكشّفت للينين أربع قوى طبقية أساسية — الملكية القيصرية، البرجوازية الملكية، البروليتاريا، الفلاحون — أخذ يعاين سلوكها من حيث مداه وحدوده، من منظار وضع جديد كل الجدّة هو النزاع العسكري على الصعيد العالمي. عيّن التناقض الرئيسي على أنه بين القيصرية والرأسمالية من جهة والشعب المتجسد في العمّال والجنود والفلاحين وفئات واسعة من البرجوازية الصغيرة، من جهة أخرى. ويقوم هذا التعيين على الجدل إياه بين الممكنات والمستحيلات:
أولاً — تحالف القيصرية والرأسمالية محكوم باستحالة انفكاك الثانية فيه عن الأولى، بسبب حاجتها للجهاز البيروقراطي القيصري لتسيير أعمالها؛
ثانيًا — حكومة تحالف «الأوكتوبريين» (الملكيون المحافظون)، و«الكاديت» التي تسلّمت الحكم بعد ثورة شباط/ فبراير محكومة بعدة استحالات بناءً على قواها الطبقية:
لن تستطيع تحقيق السلام لارتباطها بمعسكر الحلفاء — بريطانيا وفرنسا — الذي يقود الحرب
لن تستطيع توفير الخبز لعدم استعدادها لوقف الحرب
لن تستطيع توفير الحرية لارتباط تحالف مالكي الأرض والرأسماليين بالنظام القيصري الاستبدادي الرجعي
لن تستطيع تلبية المطلب الرئيس للفلاحين في توزيع الأراضي لتحالفها مع كبار ملاكي الأرض والقيصر.
٦– الوضع الجديد
على أنّ هذا التشخيص البنيوي تطرأ عليه مستجدات تستدعي إعادة اكتشاف سمات الوضع الجديد:
مترتبات الحرب العالمية الأولى. الحكومة تريد مواصلة الحرب ضد ألمانيا، والبلاشفة واليسار ضد مواصلتها لأنهم في الأصل يمثلون التيار المعارض للحرب داخل «الأممية الاشتراكية» على اعتبارها حربًا بين القوى الاستعمارية المتسابقة على الغنائم، ويدعون إلى تحويلها إلى حروب أهلية بين الشعوب والطبقات الحاكمة.
ازدواجية السلطة. مع ثورة شباط/ فبراير، تولّدت سلطتان: سلطة الحكومة الانتقالية ومجلس الدوما من جهة، والسلطة المجالسية من جهة ثانية. تولّد عن تلك الازدواجية تناقض وصراع بين المؤسستين على الإمرة والشرعية. لم يعد يكفي التنسيق بينهما ولا مجرد فرض رقابة السلطة المجالسية على سلطة الحكومة المؤقتة المتمركزة في الدوما. يجب حسم النزاع لصالح واحدة من السلطتين، بتعبير آخر استيلاء مجالس السوفييت على السلطة.
قوة البلاشفة. إنهم الحزب الأوسع نفوذًا في المجالس بسبب صحة شعارهم المركزي الذي يلخّص ويكثّف مطالب الأكثرية الشعبية: «خبز. سلم. حرية»، وقد كسبوا الأكثرية في سوفييت بتروغراد وسوفييت موسكو، ويملكون فوق ذلك تنظيمًا مسلحًا هو «الحرس الأحمر».
الردة المضادة للثورة. كل ثورة تستدعي ردة ضدها تسعى إلى توظيف قوى أكبر من قوى الثورة بهدف الدفاع عن الوضع القائم أو الارتداد إلى ما سبقه. مع انهيار الحاميات العسكرية الأساسية في المدن، تجمّعت قوات الردة الرجعية، المدعومة من قوات «الحلفاء» (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) بقيادة الجنرال لافار كورنيلوف الذي تحرك ضد الجمهورية والحكومة المؤقتة في آب/ أغسطس ١٩١٧ وأخذ يهدّد بتروغراد. أعلن سوفييت بتروغراد التعبئة العامة واضطرت «الحكومة المؤقتة» برئاسة ألكسندر كرنسكي إلى توزيع السلاح على العمّال والاستنجاد بـ«الحرس الأحمر» للمساهمة في المعركة. وقد لعب البلاشفة دورًا مركزيًّا في صدّ الهجوم الرجعي، مؤكدين أنهم الطرف الأكثر جذرية واستعدادًا للدفاع عن الجمهورية الوليدة.
مع إعلان الردة الملكية الحرب على الثورة، بات الخيار الوحيد حاسمًا: إما تجديد النظام القيصري وإما إطلاق الثورة العمّالية. ولا حلّ وسطًا بينهما. هنا برزت مسألة التوقيت: إنها الآن. هكذا تضاف إلى مسألة الثورة عند لينين مسألةُ الوقت. متى الانتقال من الدفاع إلى الهجوم؟
٧– «الحلقة المركزية» أو «الحلقة الأضعف»
يعرّف لينين روسيا على أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية لأنها الحلقة الأقل تطورًا لم يبلغ تطورُ نمط الإنتاج الرأسمالي فيها كامل مداه لكي يصبح نمط إنتاج استعماريًّا — احتكاريًّا. وهذه «هرطقة» ثانية عند لينين. بناءً على ما يقوله ماركس، وما ينقله عنه كثير من الاشتراكيين والماركسيين الروس، يجري تصوير البلد الذي بلغ ذروة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، أي بريطانيا، على أنه البلد الأكثر تأهيلاً لقيام الثورة الاشتراكية فيه. عند لينين، العكس هو ما ينطبق على روسيا: إنها البلد الأضعف في سلسلة البلدان الاستعمارية المتحاربة على إعادة توزيع مغانم الاستعمار. لذا كانت فرصة قيام الثورة فيها سابقة على الدول الاستعمارية المتطورة، بسبب ثورتها الأولى والأزمة التي تستدعي مسألة السلطة فيها.
ليس ينتهي الأمر عند هذا الحد، ذلك أن «روسيا المتخلفة اقتصاديًّا هي روسيا المتقدمة سياسيًّا». وتَقدمها السياسي هو نتاج عناصر «الوضع» المخصوص الذي يسمح بانقلاب في علاقات القوى الطبقية والسياسية لصالح تسلّم الطبقة العاملة وحلفائها للسلطة السياسية. وأولوية السياسة تستكمل «هرطقة» لينين ضد الماركسية الكلاسيكية التي ترهن انتصار الثورة الاشتراكية باستكمال نضج الرأسمالية في البلدان الصناعية الأكثر تقدمًا. وهي نفسها «الهرطقة» التي لحظها عنده وأيّدها أنطونيو غرامشي في مقالته «الثورة ضد كتاب رأس المال» وروزا لوكسمبورغ في كرّاسها «الثورة الروسية».
٨– التعلّم من الممارسة
لنتوقف برهةً أمام جديد آخر في الوضع: عفوية أو عبقرية الجماهير وما أنتجته من مؤسسات وممارسات وما يستتبعه ذلك بالنسبة لفكر الثورة ومساراتها.
بعد عودته إلى بتروغراد، خاض لينين السجال خلال أيام نيسان/ أبريل ١٩١٧، داخل الحزب بل ضد أكثرية القيادة. من أبرز المعترضين على طرح مسألة استيلاء البلاشفة على السلطة ليف كامنييف، أقرب مساعدي لينين. في ردّ لينين عليه، نبّه إلى ما أنتجته «العفوية» الجماهيرية: مجالس السوفييت. هذه المجالس، التي تنازل عنها القيصر بُعيد ثورة ١٩٠٥ بما هي مؤسسات تمثيلية، وسرعان ما تحولت إلى أجهزة للتمثيل الشعبي المباشر وإلى مؤسسات سلطة بديلة، نشأ عنها ازدواج في السلطة. وصار بإمكان العملية الثورية أن تقوم بتغليب شرعية على شرعية وسلطة على سلطة خصوصًا أنّ للشرعية الجديدة أجهزتها العسكرية وأبرزها اللجنة العسكرية لسوفييت بتروغراد و«الحرس الأحمر» التابع للبلاشفة.
مأخذ لينين على كامنييف أنه يرفض التعلّم من الممارسة. لذا فهو يتجاهل الوضع الجديد: مجالس السوفييت، أجهزة السلطة النقيضة والبديلة التي نشأت بالمبادرات الجماهيرية.
٩– عيّنة عن عِلم القيادة
ما العمل في حال تعذّر تحقيق هدف من الأهداف أو مهمة من المهمات؟ جواب لينين: عود على بدء. يجدر التوقف عند الطريقة التي فكّر بها قائد ثورة أكتوبر بالانعطاف الكبير الذي دعا إليه في العام ١٩٢٢ معلنًا اختتام مرحلة «شيوعية الحرب»، المتوافقة مع الانتصار في الحرب الأهلية بأكلاف استثنائية، وافتتاح مرحلة «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي أعيد بموجبها العمل ببعض آليات السوق وسُمِح بأشكال معينة من الملكية الفردية.
في نصه القصير «ملاحظات داعية» — المكتوب في شباط/ فبراير من العام ١٩٢٢ — استخدم لينين تشبيهَ متسلّق الجبال المضطر إلى العودة أدراجه بعد محاولة أولى لبلوغ قمة الجبل وذلك لوصف ما الذي يعنيه التراجع في المسار الثوري من دون خيانة القضية انتهازيًّا.
«لنتصور رجلاً يرقى جبلاً مرتفعًا وسليطًا وغير مكتشف من قبل. ولنفترض أنه قد تجاوز مصاعب ومخاطر غير مسبوقة ونجح في بلوغ نقطة أعلى من تلك التي بلغها أيٌّ من سابقيه، لكنه مع ذلك لم يصل إلى القمة. يجد نفسه في وضع لا يقتصر الأمر فيه على مواصلة الصعود في الاتجاه وفي المسلك الذي اختاره وحسب، لكن بات الصعود مستحيلاً بالمطلق أيضًا».
ويضيف لينين عن متسلّق الجبل:
«إنه مضطر للعودة أدراجه، للنزول، والبحث عن مسلك آخر، لعله سيكون مسلكًا أطول، لكنه مسلك سوف يمكّنه من بلوغ القمة. وربما تبيّن أنّ نزوله من ارتفاع لم يبلغه أحد قبله أخطر وأصعب بالنسبة لرحّالتنا المتخيل ممّا كان صعوده — فأسهل عليه الانزلاق؛ وأصعب عليه أن يجد موطئ قدم؛ أما النزول فليس مثيرًا للبهجة، تلك البهجة التي يشعر بها المرء وهو يصعد قُدمًا إلى أعلى نحو الهدف، إلخ. على المرء أن يلفّ حبلاً حول جسمه/ خصره، وعليه أن يقضي ساعات يستخدم فيها كامل عدة صعود الجبال ليستطيع حفر موطئ قدم أو ليجد نتوءًا يربط الحبلَ فيه بإحكام؛ وعليه أن يتقدم ببطءِ حلزونة وهو يتحرك باتجاه النزول، بعيدًا عن الهدف؛ وهو ليس يدري أين سينتهي به هذا النزول بالغ الصعوبة والمشقّة، وما إذا كان ثمة عطفةٌ آمنة تمكّنه من أن يصعد بحزم أكبر وبسرعة أكبر وعلى نحو أكثر مباشرة إلى القمة...
مع ذلك يختم لينين النص بقوله إن المجاز ليس بمثابة برهان، فـ«كل مجاز أعرج». («دروس الأزمة»، الأعمال الكاملة، الجزء ٢٤).
١٠– عِلم الشعارات
يطرح لينين فكرتين رئيستين حول الشعارات.
الفكرة الأولى — لا يكفي أن تكون الشعارات صحيحة، يجب أن تفهمها الجماهير.
تبدو صحة الشعارات ووضوحها في حالة الثورة الروسية مضمونة، لأننا أمام حالة نادرة حيث الشعارات صحيحة بسبب صدورها عن الجماهير وتلخيصها ما عبّرت عنه وهي في ذروة الفعل الثوري. لقد التقى التحليل النظري، وتعيين تميّز «الوضع الراهن»، وما يترتب عنه من تحالف قوى ومهمات ووسائل نضال، مع ما عبّرت عنه الجماهير خلال التظاهرات والإضرابات في ثورة شباط/ فبراير، وعلى رأسها ربّات البيوت والعمّال والجنود: الاحتجاج على بؤس الأحوال المعيشية، رفض مواصلة الحرب، والتصميم على إسقاط النظام الاستبدادي القيصري. وقد تحولت هذه إلى الشعارات الثلاثة للثورة بسبب صحتها والوضوح، وتعدّت الحزب البلشفي الذي صاغها لتصير الشعارات — الأهداف لمجمل الحركة الاشتراكية والعمّالية والمجالس الشعبية التمثيلية — «خبز، سلم، حرّية». وتكثّف في ذلك الثالوث تعيينُ أهداف الثورة ووسائل التوعية والتعبئة والحشد لتحقيقها في آنٍ معًا. لكن هذه الحالة هي الشواذ الذي يثبت القاعدة ولا يبطلها. أي أنها لا تلغي الحاجة إلى بناء الصلة المباشرة بين عدة عمليات فكرية: التحليل الاجتماعي-السياسي، تقدير الوضع الراهن، واستنباط الشعارات — الأهداف الملائمة من منظار الطبقة الأكثر تقدمًا وجذرية.
الفكرة الثانية — يجب أن تخضع سائر الشعارات للشعار الرئيس.
«كل السلطة للسوفييت» هو الشعار الراهن المعدّ للتنفيذ. وإخضاع سائر الشعارات له مفهوم في هذه الحالة لأن تنفيذ الشعار هو الشرط اللازم لتحقيق سائر الشعارات. لكن هذه القاعدة موجّهة لحالات تتعدد فيها الشعارات، الأمر الذي يستوجب تعيين أولويات بينها.
١١– «الدكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين»
يبدو عنوان النظام الجديد والسلطة الجديدة متناقضًا. وهو كذلك. إنه مبنيّ على مفهوم التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي الذي بلوره لينين في سجاله مع النزعة الاقتصادوية التي تقول بمرحلتَي الثورة. ومعادلة «روسيا المتخلفة اقتصاديًّا والمتقدمة سياسيًّا» هي التعبير المحلّي عن هذا التفاوت. فيكون هدف الثورة أن تتولى روسيا المتقدمة سياسيًّا قيادةَ روسيا المتخلفة اقتصاديًّا نحو التقدم. وهو المفهوم الذي يتحكم بتعريف الثورة المنتصرة، أهدافها، قواها، مؤسساتها ووسائلها.
بُعيد سقوط الحكومة المؤقتة، بدأ لينين خطابه الأول أمام سوفييت بتروغراد بإعلانه «الآن سنبدأ في بناء المجتمع الاشتراكي». لم يباشر ببناء المجتمع الاشتراكي. عيّن له تحليلُه للدولة والمجتمع في روسيا القيصرية التي انهارت، ولديناميات وحدود قوى الثورة، وأيضًا تبيّن له من إدراكه التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي، أنّ «تخلّف» روسيا الاقتصادي يقتضي على السلطة القائمة باسم العمّال تنفيذَ العدد الأكبر من المهمات المسمّاة «ديموقراطية»، أي تلك تصفّي بقايا العهد القيصري الإقطاعي الاستبدادي وهي المهمات التي تُنسب نظريًّا على أنها واجبة التحقيق في ظل صعود البرجوازية إلى السلطة أو التي تتحقق في ظل سلطتها. على أنه، في مجرى التاريخ الفعلي، نادرًا ما تم تنفيذ تلك المهمات البرجوازية والديموقراطية المفترضة بواسطة السلطة البرجوازية، أو أنها نُفّذت جزئيًّا أو فُرض تنفيذها على البرجوازية بالنضالات الشعبية والثورات المديدة. فإذا أخذنا إجراءً واحدًا من الإجراءات الديموقراطية الأساسية، الذي هو الحق في الاقتراع العامّ، قد رفعتْه الحركات الشعبية في بريطانيا شعارًا لها منذ القرن السابع عشر للرجال فقط خلال ثورة ١٦٤٢ والحرب الأهلية التي أعقبتها، وتبنّته الحركة العمّالية مطلبًا سياسيًّا رئيسًا لها وناضلت من أجله في القرن التاسع عشر بقيادة الحركة الشارترية خصوصًا. لكن هذا المطلب لم ينفّذ إلا مطلع القرن العشرين في العام ١٩١٨ للرجال من دون شروط ملكية، ولم يشمل النساء إلا بعد عقد من الزمن. كذلك الأمر، أعلنت الثورة الكبرى في فرنسا حق الاقتراع للرجال في دستور العام ١٧٩٢ في ظل سيطرة اليعاقبة على الثورة، لكنه لم يطبّق بعد سقوط الثورة. ولم يتحقق هذا الإنجاز الديموقراطي إلا تحت ضغط ثلاث ثورات — ١٨٣٠، ١٨٤٨ وعاميّة باريس ١٨٧١. فقد أعلنت ثورة ١٨٤٨ حق الاقتراع للرجال، ثم ألغي في الردّة التي أعقبتها، ونفّذته عامّية باريس، مع حذف الشروط الملكية التي كانت تلازمه، ثم سقط الإجراء مع هزيمة العامّية. واقتضى الأمر عقودًا من النضالات الشعبية ليُستكمل الحق في الاقتراع في العام ١٩٤٤ عندما شمل حق الاقتراع للنساء.
مهما يكن، يفسّر لينين مفهوم «الدكتاتورية» على أنه حكم الأغلبية المجالسية. وفي دفاعه عن هذه الصيغة للسلطة السياسية، يساجل ضد ما يسمّيه «الوهم النموذجي للبرجوازية الصغيرة» وهو فكرة «الأغلبية». يقول عنها إنها فكرة غامضة، ذلك أن الأغلبية ذاتها قد تغيرت بعد ثورة شباط/ فبراير. في الوضع الثوري الجديد، لم تعُد الأكثرية الانتخابية — النيابية في مجالس الدوما هي مقياس الشرعية الشعبية، لأن أجهزة تمثيلية شعبية مباشرة وبديلة قد نشأت، هي مجالس السوفييت. والأغلبية الواجب كسبها موجودة في مجالس السوفييت. لكن الأخيرة، قياسًا إلى مجموع سكان روسيا، أقلية، وإنْ تكن مجالس فاعلة وتضم أوعى العناصر من عمّال وفلاحين وجنود. كيف حلّ هذه المفارقة؟ يحلّها لينين على هذا النحو: مجالس السوفييت أقلية تمثل الأكثرية، لأنها تمثل الأكثرية الفعلية، ويقصد بها الأكثرية السكانية العددية. والأهم أن ما يجعل التمثيل المجالسي حقيقيًّا هو طابعه المباشر. العمّال والفلاحون والجنود يمارسون فيه سلطتهم مباشرةً على مندوبيهم من خلال حقهم في نزع الثقة عنهم واستبدالهم في أي وقت.
يبقى أنّ شرط تحقيق التمثيل الحقيقي للأكثرية الحقيقية، وفق لينين، هو انضمام غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في اللحظة الحاسمة والمكان الحاسم. فهذه هي الحليف الرئيس و«الخصم الأيديولوجي» الرئيس للطبقة العاملة في آن. أمّا اللحظة الحاسمة فكانت انحياز غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في شهر أيلول/ سبتمبر بعد هزيمة مؤامرة كورنيلوف، عندما استطاع الحرس الأحمر البلشفي منع سقوط الجمهورية في وجه جيوش الجنرال القيصري.
يكتسب مفهوم «ديموقراطية» عند لينين معنيين رئيسين: تصفية المؤسسات والقوانين والإجراءات والقيود التابعة للنظام القيصري الإقطاعي من جهة، وتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين والاعتراف بحق شعوب روسيا في تقرير المصير، من جهة أخرى. ومن أبرز الإنجازات الديموقراطية التي حققتها السلطة السوفييتية الوليدة، والتي نادرًا ما يتمّ ذكرها فهي:
الاقتراع العام، بما فيه حق الاقتراع العام للنساء. ولم يقتصر الأمر على هذا بل كانت روسيا السوفييتية أول دولة في العالم تعيّن امرأة في منصب وزاري، هي ألكسندرا كولونتاي، المناضلة الشيوعية والنسوية؛
إعلان حق تقرير المصير لقوميات وإثنيات ومذاهب روسيا في ظل نظام اتحادي؛
فصل الكنيسة عن الدولة؛
اعتماد نظام مدني للأحوال الشخصية؛
إطلاق حملة لمحو الأميّة؛
تحقيق ديموقراطية التعليم؛
عدم التمييز بين أطفال وُلدوا خارج الزواج وأطفال وُلدوا داخل الزواج؛
إلغاء القوانين التي تمنع الإجهاض وتلك التي تفرض عقوبات السجن على المِثليين، إلخ.
تعرّض هذا المفهوم البلشفي للسلطة، والممارسات التي ارتبطت به، إلى الكثير من النقد في الحركة الشيوعية والاشتراكية داخل روسيا وخارجها. من أبرز النقّاد القائدة الشيوعية الألمانية روزا لوكسمبورغ التي كانت في طليعة من أيّد ثورة أكتوبر. وروزا صاحبة مفهوم للديموقراطية الاشتراكية لخّصته في معادلة شهيرة «الحرية لأنصار الحكومة فقط، لأعضاء الحزب الواحد فقط — مهما كان عددهم — ليست حرية على الإطلاق. الحرية هي دومًا وحصرًا حرية الذي يفكّر على نحو مخالف». وقد برّر لينين وليون تروتسكي الأمر في ردّهما على روزا بحجة أن نمط السلطة السوفييتية تفرضه ظروف روسيا المتخلفة.
بعد تبنّي «السياسة الاقتصادية الجديدة»، في ختام الحرب الأهلية ونهاية مرحلة «شيوعية الحرب»، تحوّلت مهمات «الدكتاتورية الديموقراطية للعمّال والفلاحين» إلى تحقيق التراكم الأوّلي لرأس المال، أي أنّ مهمة السلطة السياسية المتقدمة باتت مهمة انتشال روسيا من تخلّفها، وهو هدف تنموي تحديثي، الأمر الذي دفع لينين إلى إعادة تعريف الشيوعية على أنها «سلطة المجالس وكهربة روسيا».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.