النصّ التالي هو تطوير لمحاضرة أُلقيت يوم 22 كانون الثاني / يناير 2016 في النّدوة المنعقدة في الجامعة الأميركيّة في بيروت تحت عنوان «خمس سنوات على الثورات العربيّة: عُسر التحوّل الديمقراطي ومآلاته».لا شكّ في أنّ الشعار الأكثر شهرةً بين كافّة الشعارات التي ردّدتها ملايين الحناجر في ميادين المدن العربيّة وساحاتها خلال الانتفاضة التي عمّت المنطقة العربيّة في عام ٢٠١١، إنّما هو عينه أكثر شعارات الانتفاضة جذريّةً على الإطلاق: «الشعب يريد إسقاط النّظام». والحال أنّ هذا الشعار ينطوي على لغز سياسيّ بالغ التعقيد، غفلت عنه بالتّأكيد الغالبيّة العظمى من الذين ردّدوه، وهو اللغز المتعلّق بتشخيص ما يريد الشعب إسقاطه، أي «النّظام».
فما هو «النّظام»؟ وكيف يتميّز من «الدولة» التي لم يدعُ أحدٌ إلى إسقاطها، بل أصرّ بعض المشاركين في الانتفاضات على حرصهم على صيانتها ورغبتهم في إنقاذها من براثن «النظام». هذا السؤال الوجيه والبديهيّ يحيل بدوره إلى سؤال مصيري: هل يمكن إسقاط النظام بدون إسقاط الدولة معه؟ وبكلام آخر، هل «النّظام» حالة متميّزة من «الدولة» ومنفصلة عنها، أم تربط بينهما علاقة عضويّة تجعل من إسقاط الأوّل حدثاً لا يمكن حصوله بلا انفراط عقد الثّانية؟
فلنتأمل إذاً بالمصطلحَين وما ينطويان عليه من معنى. أوضحهما بلا شكّ مفهوم الدولة، وقد أجمع على تحديده عملاقا علم الاجتماع الحديث، كارل ماركس وماكس فيبر. فقد أشار كلاهما إلى أنّ وظيفة الدولة الأوّليّة هي القمع وأنّ عمود الدولة الفقريّ قوامه بالتّالي أجهزتها المسلّحة من جيش وشرطة، فيما تأتي بالمرتبة الثانية الوظائف الإداريّة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي التي يتولّاها الجهاز البيروقراطيّ، فضلاً عن الجهاز القضائي والأجهزة الأيديولوجيّة. وإذا اتّفق فيبر وماركس في تحديد الجهة التي خدمتْها الدولة في الأنماط الاجتماعيّة السياسيّة السابقة للرأسماليّة - عندما كانت الفئة الحاكمة طبقة وراثيّة ترأسها سلالة مالكة فقد اختلفا في تحديد طبيعة الجهة التي تخدمها الدولة الرأسماليّة «الحديثة» التي لم تعد السلطة الفعليّة فيها ملكاً شخصيّاً وراثيّاً (أمّا محور الخلاف المنهجيّ بين المفكّرين فهو رفض الليبرالي فيبر لتحليل ماركس الطبقيّ.) والحال أنّ علاقة الحكّام بالدولة هي بيت القصيد في ما يتعلّق بالتمييز بين الدولة والنظام كما سوف نتبيّن بعد قليل.
أمّا النظام، فإنّ أوّل استعمال تاريخيّ للتعبير ارتباطاً بالثورة هو ذلك الذي اشتهر مع الثورة الفرنسيّة بحيث بات مصطلح «النّظام القديم» (ancien régime) يشير إلى المَلَكيّة المطْلقة بتعارضها مع الشرعيّة الانتخابيّة «الديمقراطيّة» (سيادة الشعب). وقد انسحب المصطلح على مجمل الأنظمة المماثلة التي كانت قائمة في أوروبّا وتصادمت مع القوى الثوريّة المطالِبة بالديمقراطيّة الانتخابيّة («الثورة البرجوازيّة») سواء جاءت في إطار جمهوريّ أو مَلَكي دستوري. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تعبير «النّظام» في اللغة العربيّة يغطّي جملة المعاني التي تُخصّص لها اللغة الإنكليزيّة تعبيرين هما regime وsystem. فتعبير «النّظام» ذاته يُستخدم بالعربيّة في الإشارة إلى النّظام الاقتصادي (الرأسمالي، على سبيل المثال) system بالإنكليزيّة (système بالفرنسيّة) كما إلى أصناف النّظام الدّيمقراطي الانتخابي (برلماني أو رئاسي) system بالإنكليزيّة (régime بالفرنسيّة) فضلاً عن النّظام order في تعارضه مع الفوضى.
أمّا «النّظام» الذي أراد الشعب ذاتَ يومٍ إسقاطه، فيحيل إلى معنى خاصّ آخر تشير إليه الإنكليزيّة والفرنسيّة على حدّ سواء بتعبير regime، لاسيّما عندما يُستعمل هذا التّعبير بلا نعت إضافيّ، فيجري الكلام عن «the regime» «le régime»، أي النّظام مع إحالة «أل» التعريف إلى حالة بعينها) تدليلاً على نظام حكم سلطويّ معيّن، سواء كان استبداداً جماعيّاً (حكم طغمة عسكريّة) أو فرديّاً عائليّاً. والحالة الأخيرة هي الأكثر انتشاراً في منطقتنا العربيّة حيث تشيع الإشارة إلى صاحبٍ فرديّ للنّظام، فيجري الحديث عن «نظام فلان»: نظام بن علي ونظام مبارك ونظام القذّاقي ونظام الأسد، وهلمّ جرّاً.
وهنا تكمن المشكلة الرئيسيّة في علاقة النّظام بالدولة في منطقتنا. فحرص الجمهور على الدولة هو حرصٌ على وظائفها المفيدة للعموم من حفظٍ للنّظام (order) كنقيض للفوضى، وإدارة للشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة بما فيها الخدمات العامّة (صحّة، تعليم، نقل، إلخ). ويسهل الفصل بين تلك الوظائف والمصالح الطاغية في التسيير العامّ للدولة عندما تنتمي الدولة المعنيّة إلى فئة «الدولة الحديثة» كما ميّزها فيبر عن دولة النظام القديم، أي دولة لا يمتلكها أحد، بل يكون جميع العاملين فيها من أسفل الهرم إلى أعلاه مأجورين لديها، ويتمتّع أصحاب القرار السياسيّ فيها بتفويض مؤقّت مصدرُه انتخابيّ في أساسه. ومع ذلك، أكّد ماركس أنّ تلك الدولة «الحديثة» هي في جوهرها كما في شكلها دولة الطبقة الرأسماليّة، وشدّد على ضرورة استبدالها بدولة قائمة على الديمقراطيّة المباشرة، مستوحياً من كومونة باريس لعام ١٨٧١ التي أشاد بإنجازاتها (في كتابه «الحرب الأهليّة في فرنسا»).
الدولة النيوميراثية العربية
أمّا ضرورة الإطاحة بدولة «النظام القديم» واستبدال كافّة أجهزتها بأجهزة من النّمط الحديث، فأمر لا يختلف عليه الليبراليّ والاشتراكيّ من حيث المبدأ إذ إنّها دولة في خدمة طغمة حاكمة تمتلكها وتتناقل ملكيّتها وراثيّاً. وهي دولة تتلاءم مع الدور المنوط بها في صيانة الحكم الاستبداديّ. إزاء تلك الدولة، يكون الليبراليّ البرجوازيّ نفسه ثوريّاً عندما لا تكون لديه خشية من أن تجرف الثورة النظام (system) الرأسماليّ برمّته مع النّظام (regime) الاستبداديّ. وهي ذي المعضلة: فإن إحدى أهمّ خاصيّات المنطقة العربيّة (كما حاولتُ أن أبيّن في كتابي «الشعب يريد») هي أنّها أكبر تركّز معاصر لدول من نمط «النّظام القديم» القائم على السلطة المطلقة الوراثيّة. وتتميّز المنطقة العربيّة بطغيان «الدولة الميراثيّة» (Patrimonialstaat) حسب تصنيف فيبر،وهي دولة يعتبرها حكّامها ملكاً خاصّاً لهم ويتناقلونها وراثيّاً سواءٌ كان شكلها مَلَكيّاً أو جمهوريّاً زائفاً (ما أُطلق عليه تعبير «الجملوكيّة» الموقّت). ويضمن حكّام الدّول الميراثيّة في المنطقة العربيّة ولاء أجهزة دولهم لأشخاصهم وعائلاتهم باستغلال العصبيّات القبَليّة والطائفيّة والإقليميّة (الجهويّة، بالتعبير الشائع في البلدان المغاربيّة). ومن نتائج استمرار نموذج هذه الدّول في منطقتنا أنّنا ما زلنا نحتاج إلى ابْن خلدون في تحليلها بقدْر ما نحتاج إلى ماركس وفيبر. وهو ما يجعل النّظام والدّولة متلاحمَين إلى حدّ أن «إسقاط النّظام» في الدّول الميراثيّة يستحيل بغير التصادم مع أجهزة الدولة بدءاً بأجهزتها المسلّحة وهزمها.
هذا ما يدركه فطريّاً سكّان الأنظمة المَلَكيّة، وهو ما يفسّر بقاء الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النّظام» هامشيّاً في حراكات تلك الدول. فقد فطن النّاس لخطورته وأدركوا أنّ تحقيقه يقتضي ميزان قوى أو ظروفاً استثنائيّة لم تكن متوفّرة في أيٍّ من المَلَكيّات سنة ٢٠١١ (هذا هو السبب الرئيسيّ في كون الإمارات والملَكيّات، باستثناء البحرين، لم تشهد موجة ثوريّة عارمة على غرار تلك التي غمرت تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وليس السبب في أنّ تلك الأنظمة تحوز على شرعيّة أكبر، كما ادّعى مستشرقون غربيّون سطحيّون). وأمّا سكّان الجملوكيّة الليبيّة، التي كان زعيمها يدّعي أنّها «جماهيريّة»، فإنّ إدراكهم التامّ للأمر قد أدّى إلى تحوّل انتفاضتهم بسرعة إلى عصيان مسلّح، ومن ثَمّ حرب أهليّة. وأمّا سكّان الجملوكيّة السوريّة، فقد توهّموا بأنّهم يستطيعون إسقاط نظام الأسد، كما أسقط أهل تونس نظام بن علي وأسقط شعب مصر نظام مبارك، بدون التغلّب على دولة الأسد (اعتقد بعضهم أنّ التدخّل الغربيّ في ليبيا سوف يردع أجهزة الدولة السوريّة عن ارتكاب مجزرة)، وقد استفاقوا من هذا الوهم ليواجهوا أكبر مآسي التاريخ العربيّ المعاصر.
والحال أنّ الدولتين اللتين بادر سكّانهما إلى العصيان في بداية الانتفاضة العربيّة إنّما تنتميان إلى فئة غير ميراثيّة من الدول العربيّة، هي فئة الدول «النيوميراثيّة» (neopatrimonial، وهو مصطلح من ابتكار العلم السياسيّ المعاصر) التي يستغلّ فيها الحكّام الدولة وينهبونها في ظلّ حكم ديكتاتوريّ، لكنّها ليست ملكاً لهم وليس توريثها لأفراد عائلتهم بالمضمون (وإنْ جرى التخطيط له كما حصل في مصر مبارك). وسبب ذلك أنّ جهاز الدولة سابق بتركيبه لحكمهم، مستقلّ عن شخص الحاكم الذي وصل إلى سدّته، في حين تتميّز الدول الميراثيّة بأنّ أجهزة الدولة فيها قد جرى تشييدها من الأساس أو إعادة تركيبها من قِبَل الأسرة الحاكمة بما يلائم إدامة سلطتها. في كلٍّ من تونس ومصر، حاز جهاز الدولة على استمراريّة تاريخيّة وتقاليد سبقت نظامَيْ بن علي ومبارك بعقود طويلة. وهذه الميّزة هي التي تفسّر كون الدولة في البلدين هي التي أطاحت بـ«النظام»، بأضيق معاني هذا التعبير الأخير، أي بحصره بشخص الرئيس وعائلته وأبرز محاسيبه، تلبيةً لضغط الانتفاضة الشعبيّة العارمة. لا بل رأينا «الشعب» في مصر يطالب العمود الفقريّ للدولة المصريّة، ألا وهو الجيش، بأن يتولّى «إسقاط النظام»، ورأيناه من ثَمّ يهلّل للمجلس الأعلى للقوات المسلّحة عندما أقال مبارك وتولّى الحكم.
إلّا أّن السَّكْرة ما لبثت أن راحت لتجيء الفكرة، كما نقول بالعامّيّة. وكانت الاستفاقة مريرة بالنسبة إلى الشبيبة التي شكّلت صميم الانتفاضة في البلَدين، وقد وجدت نفسها في مصر أمام عودة لما هو أسوأ من النظام القديم برئاسة وجه جديد، وفي تونس أمام عودة ملطّفة للنظام القديم برئاسة أقدم وجوهه، رجل يناهز عمره التسعين. والدرس جليّ في الحالتين: فبينما يتمحور «النظام» بشكل مطلق حول شخص الحاكم وحاشيته في الدول الميراثيّة ويرتبط ارتباطاً عضويّاً بالدولة، بحيث يصعب جدّاً إسقاط النظام بلا إسقاط الدولة معه على غرار ما حصل في ليبيا وكما سيحصل في أيّ دولة من الدول الميراثيّة قد يتمّ فيها إسقاط النظام، فإنّ «النظام» في الدول النيوميراثيّة يتعدّى الحاكم وحاشيته بحيث يغدو طاقم الحكم أشبه بقمّة جبل الجليد: عندما تسقط، تطفو فوراً فوق سطح الماء، بفعل مبدأ أرخميدس، قمّة جديدة لا تختلف نوعيّاً عن سابقتها.
هذا لأنّ «النظام» في الدولة النيوميراثيّة، باستبداده الذي يقلّ بوجه عامّ عن استبداد الدولة الميراثيّة وبفساده ونهبه اللذين يفوقان بوجه عام فسادها ونهبها وذلك لسبب بسيط هو أنّ حكام الدولة النيوميراثيّة أقلّ اطمئناناً لبقائهم المديد في الحكم «النظام» في الدولة النيوميراثيّة إذاً، إنّماا يقوم على دولة ينخر أجهزتَها الاستبداد والفساد بقدر ما ينخران أجهزة الدولة الميراثيّة. والفارق الوحيد بين الحالتين هو أنّ سلطة الحاكم مطلقة إزاء الأجهزة في الدولة الميراثيّة بينما هو مضطرّ إلى المساومة مع الأجهزة في الدولة النيوميراثيّة. وبكلام آخر، فالأولويّة هي للطّغمة الحاكمة في الدولة الميراثيّة ولأجهزة الدولة في الدولة النيوميراثيّة. ومؤدّى ذلك أنّ «النظام» في هذه الأخيرة، إذا فُهمَ كنمط ٍاستبداديّ من الحكم وليس كحكم جماعة (عائلة) بعينها، لا يقلّ ارتباطه بالدولة عن ارتباط «النظام» بها في الدولة الميراثيّة، وكلا الارتباطين عضويّان.
وها بنا قد عدنا إلى معضلتنا الأساسيّة: لا يمكن إسقاط النظام بالمعنى الأشمل للتعبير بغير تفكيك الدولة، ما دامت الدولة والنظام المرتكز عليها قائمين على الاستبداد والتملّك الفرديّ للملْك العام، سواء أكان الأمر في إطارٍ ميراثيّ أم نيوميراثي. وهذا الواقع هو ما بات يشكّل المعضلة الرئيسيّة للانتفاضة العربيّة، كما للسيرورة الثوريّة العربيّة طويلة الأمد، إذ إنّ هاجس الفوضى المدمِّرة بات على أشدّه في المنطقة العربيّة في ضوء المآسي الجارية في ليبيا وسورية واليمن. وقد أصبح هذا الهاجس الحجّة الجديدة التي يحاول الاستبداد العربيّ شرعنة نفسه بها، وذلك بتخيير الشعب بين الاستبداد والفوضى المسلّحة على الطرازين الليبيّ والسوريّ.
وهي حيلة قديمة نظّر لها في القرن السابع عشر أحد مشاهير الفلسفة السياسيّة، الإنكليزي توماس هوبز (في كتابه «لوياثان»)، مبرّراً المَلَكيّة المطلقة بتخيير الناس بينها وبين «حالة الطبيعة» (state of nature) التي تسود فيها «حرب الجميع ضدّ الجميع» (bellum omnium contra omnes، باللاتينيّة). ولم تنْطل الحيلة على ليبراليّي ذلك العصر، وفي طليعتهم جون لوك، الذين ردّوا بتأكيدهم أنّ الإنسان أقلّ أماناً في ظلّ استبداد جبّار، لا يقدر عليه، ممّا هو في ظلّ حالة طبيعةٍ يستطيع فيها الدفاع عن نفسه بحيث تكون «حالة الطبيعة» أقل فوضويّةً وخطورةً من تلك التي صوّرها هوبز متعمّداً المبالغة.
أمّا في منطقتنا العربيّة، فحيلة تشريع الاستبداد بالمفاضلة بينه وبين الفوضى المسلّحة هي على أقواها إذ إنّ سيناريو هوبز الكارثيّ يكاد يكون محقَّقاً بالفعل وبلا مبالغة، وقد تكاثرت لدينا بالفعل نماذج «حرب الجميع ضدّ الجميع». فلا يفيد أو لا يكفي دحض الحيلة فلسفيّاً أو بأيّ نوع من الحجج الفكريّة، بل لا بدّ من مواجهتها على أرض الواقع. فالقناعة بالتلازم التامّ بين النظام والدولة في البلدان التي يسود فيها نظام ديكتاتوريّ متزاوج مع رأسماليّة محاسيب وهي حالة الغالبيّة العظمى من البلدان العربيّة (باستثناء لبنان والعراق وتونس مؤقّتاً، وهي بلدان غير ديكتاتوريّة لكنّها تواجه تعقيدات من نوع آخر) من شأنها أن تضاعف قوّة المحاجّة المذكورة.
إسقاط الدولة أو النظام؟
فلنعُد إلى السؤال الذي انطلقنا منه: هل يمكن إسقاط النظام بدون إسقاط الدولة معه؟ ولنوضّح السؤال في ضوء ما ناقشناه حتّى الآن: فقد بيّنّا أنّه لا بدّ من إعادة تركيب الدولة بصورة جذريّة من أجل القضاء فعلاً على النظام بالمعنى الأشمل للتعبير، أي بما يتعدّى الإطاحة برأس الدولة وحاشيته التي لا تحول وحدها دون عودة نظام مماثل. فلا بدّ من إسقاط كافّة المتربّعين على مواقع القرار المتعلّقة بالاستبداد والفساد، وكذلك تفكيك تلك المواقع تلازماً مع إشاعة الشفافيّة والرقابة الديمقراطيّة في كافّة أجهزة الدولة. والحال أنّ هذه المعضلة إنّما تشبه المعضلة التي تناولها المفكّر الماركسيّ النمساويّ-الألمانيّ كارل كاوتسكي، أبرز قادة الحزب الاشتراكيّ-الديمقراطيّ الألمانيّ والأمميّة الثانية في عصرها الذهبيّ، في مناقشته للتجربة البلشفيّة (في كتابه «الثورة البروليتاريّة وبرنامجها») في مجال الاقتصاد. فقد ردّ كاوتسكي على الاستعارة التي تقارن المجتمع إزاء الثورة بالبيت الذي يحتاج إلى إعادة بناء من أساسه، بقوله إنّ الشعب ليس لديه مكان آخر يقطنه أثناء إعادة البناء تلك، فلا يستطيع بالتالي أن يهدم البيت بكامله ويشرع من ثَمّ في إعادة بنائه، بل ينبغي أن يعيد بناءه تدريجيّاً بحيث لا ينفكّ ينعم بغرفٍ يسكنها. فالاستعارة تلك تنطبق على الدولة بقدر ما تنطبق على الاقتصاد.
إنّ الوظائف الرئيسيّة للدولة في حفظ الأمن وإدارة الشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وظائف لا غنى عنها في أيّ مرحلة انتقال من نظام استبداديّ إلى نظام مغاير، سواء كان ليبراليّاً تقدميّاً أو اشتراكيّاً (فإنّ ضرورة الدولة في طور الانتقال إلى الاشتراكيّة هي الحجّة المركزيّة في دحض الماركسيّة للفكر الأناركيّ). وإذا كان يمكن تصوّر انتقال سلس تضمحلّ فيه وظائف الدولة القمعيّة وتكون فيه عمليّة تشييد دولة من نوع جديد ميسّرة في ظروف بلدان اعتادت شعوبها على الديمقراطيّة واحترام القانون التلقائيّ ومراعاة قواعد العيش الاجتماعيّ، وذلك من خلال تجربة تاريخيّة مديدة وبفضل الحيازة على مستوى معيشيّ وثقافيّ رفيع نسبيّاً، فإنّ مثل هذا التصوّر مستحيل في ظروف بلدان تعمّدت أنظمتها تجهيل شعوبها وتلويث عقولها بشتّى العصبيّات والخرافات، وحقنها بأشدّ درجات الكبت بحيث يقوم المجتمع برمّته على العنف بدءاً بخلاياه الأساسيّة (العوائل، ويسود فيها العنف الأبويّ والجندريّ) وحتّى رأسه، وحرمانها من أبسط مقوّمات العيش الكريم. إنّ حالة «الفلتان» بمثل مجتمعاتنا حالة مشحونة بخطر الانزلاق إلى «حرب الجميع ضدّ الجميع» وتفشّي العنف الموضعي سدّاً لفراغ العنف المركزيّ، واستشراء النهب محلّ احتكاره من قبل الحكّام، فضلاً عن الأخطار الخارجيّة في منطقة تتميّز باستدامة حالة الحرب بين الدول الإقليميّة وحروب العدوان الإمبرياليّة والصهيونيّة.
ولا حلّ لهذه المعضلة سوى بوجود تنظيم قادر على قيادة عمليّة التغيير الثوريّ بحيث يجري الانتقال بشكل مضبوط ولا يؤدّي إسقاط النظام إلى انهيار الدولة برمّتها ومن ثمّ الانحدار إلى الهاوية على غرار ما حصل في ليبيا، البلد العربيّ الوحيد الذي جرى فيه إسقاط النظام بصورة جذريّة سنة ٢٠١١. وهذا يعني أنّ القضاء التاريخيّ على «النظام القديم» العربيّ يتطلّب قيادة قادرة على إدارة عمليّة التغيير بشقَّيها: شقّ التفكيك وشقّ إعادة البناء. أمّا الشرط الذي لا بدّ من توفّره إذا كان لتلك القيادة أن تنجح في تأطير عمليّة التغيير بتفادي الأخطار الملازمة لها، فهو الرّكن الأساسيّ في الاستراتيجيّة الثوريّة كما نظّر لها المفكّر الماركسيّ الإيطالي أنطونيو غرامشي، ألا وهو تحقيق هيمنة (egemonia) سياسيّة - ثقافية في المجتمع والدولة مضادّة لهيمنة الطبقة السائدة والنظام القائم، وذلك من خلال «حرب مواقع» (بالمعنى المجازيّ للحرب) تسبق «حرب المناورة»، أي العمليّة الثوريّة.
هذا يقتضي أن تسعى القيادة الثوريّة إلى كسب الهيمنة في قاعدة الهرم الاجتماعي كي تتمكّن من الإطاحة بقمّته الأمر الذي يتطلّب استبدال الانشطار العموديّ للمجتمع المدنيّ (قبائل، أقاليم / جهات، طوائف) بانشطار أفقيّ (الشعب ضدّ النظام، الكادحون والمحرومون ضدّ المحاسيب ولصوص السلطة) وتسعى كذلك إلى مدّ هذا الانشطار الأفقيّ من المجتمع المدنيّ إلى داخل أجهزة الدولة بالذات. وتصبح القضيّة المفصليّة في هذا السياق قدرة القيادة الثوريّة على بسط هيمنتها المضادّة في صفوف الأجهزة المسلّحة من جيش وشرطة، ونقل الانشطار الاجتماعي إلى داخلها، وذلك بكسب عطف القاعدة والمراتب الدنيا المؤلّفة من أبناء الشعب الكادح، وسلخها عن هيمنة القمّة المنتفعة من النظام. هذا هو الشرط المصيريّ الذي يتيح أن تنشطر الأجهزة المسلّحة أثناء الثورة وتنتقل صفوفها القاعديّة إلى جانب الثورة ضدّ النظام. ومن نافل القول إنّ قيادة ثوريّة كالتي وصفنا لا توهم الشعب بوقوف القيادة العسكريّة إلى جانب الثورة كما أوهمت شعب مصر القوى المهيمنة في انتفاضة ٢٥ يناير / كانون الثاني ٢٠١١، وكانت تقصد بهتاف «الجيش والشعب يد واحدة» الجيش بكامله وعلى رأسه المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة بينما قصدت أقليّة ثوريّة بالجيش جنوده المتواجدين في ميدان التحرير، أملاً منها بأن يتمرّدوا على قيادتهم في حال أمرتهم بقمع المحتشدين.
قلب النظام بأقل الخسائر
إنّ تحقيق جملة الشروط المذكورة هو ما يسمح بقلب النظام جذريّاً بأقلّ الخسائر المادّيّة والبشريّة الممكنة وبلا انهيار كامل لوظائف الدولة الرئيسيّة. وهو ليس بأمر سهل بالتأكيد، لكنّه ليس بالمستحيل أيضاً. وقد شهد تاريخ الثورات عدّة حالات من هذا القبيل، منها في منطقتنا الثورة الإيرانيّة في عام ١٩٧٩، حتى ولو كانت قيادتها أصوليّة إسلاميّة بما أدّى بالمخاض الثوريّ إلى توليد نظام رجعيّ حلّ فيه رجال الدين محلّ الشاه وحاشيته. وإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث لدولة مصر التي تطغى فيها أجهزتها المسلّحة، رأينا أنّ الانتفاضتين الأهمّ اللتين سبقتا «ثورة ٢٥ يناير» هما «انتفاضة العيش» لسنة ١٩٧٧ في عهد السادات وانتفاضة الأمن المركزيّ («أحداث الأمن المركزيّ») لسنة ١٩٨٦ في عهد مبارك. وكانت هذه الأخيرة انتفاضة لمجنّدي الأمن المركزي ذاتَ طابع طبقيّ جليّ. هذا وحتّى في ظلّ الرّدّة الاستبداديّة العنيفة التي تعيشها البلاد الآن، فقد شهدت مصر حركات تمرّد في صفوف رجال الشرطة في صيف ٢٠١٥، تجلّى فيها مرة أخرى الانشطار الطبقيّ الذي يمرّ داخل الأجهزة المسلّحة مثلما يمرّ داخل المجتمع بأسره (انظر كتابي «أعراضٌ مَرَضية»).
إنّ مستقبل السيرورة الثوريّة طويلة الأمد التي انطلقت من تونس في كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٠ واجتاحت عموم المنطقة العربيّة مرهونٌ بقدرة القوى التقدّميّة على تحقيق هيمنة مضادّة في المجتمع، أو إحياء هذه الهيمنة المضادّة حيث سبق أن تحقّقت خلال انتفاضة سنة ٢٠١١ قبل أن تتلاشى في مرحلة الثورة المضادّة التي تلت. وهو مستقبل مرهونٌ على الأخصّّ بقدرة تلك القوى التقدميّة على مدّ هيمنتها المضادّة إلى داخل أجهزة الدولة، ولا سيّما الأجهزة المسلّحة،، بحيث تستطيع شلّ النظام وهزمه بأقلّ كلفة بشريّة ممكنة وتشكيل حكومة ثوريّة مؤقّتة تحوز على مقوّمات الدولة الأساسيّة، بدون انفلات أمنيّ وانهيار اقتصاديّ وأزمة معيشيّة حادّة. هكذا فقط سوف يمكن إسقاط النظام والشروع في إعادة تركيب الدولة بدون أن تنهار وظائفها التي يحرص عليها المجتمع.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.