تسعى هذه المقالة – التي تلخّص الأطروحات الأوّليّة من كتابي الذي صدر بالعنوان ذاته إلى تقديم صياغة واضحة وموجزة لخُلاصاتي الموقّتة حيال قضيّتين أساسيّتين في العلوم الاجتماعيّة: فكرتا الأيديولوجيا والطّبقة. وسأتناول فيها تباعاً أربع مشكلات:
- التمييز بين البنية الفوقيّة والبنية التحتيّة.
- العلاقة بين التحديد في المرحلة الأخيرة عبر الاقتصاد وهيمنة بنى فوقيّة متعدّدة
- المُكوّن «المثاليّ» للواقع الاجتماعيّ، والتمييز بين الأيديولوجيّ واللاأيديولوجيّ ضمن الوقائع المثاليّة
- دور العنف والقبول في سلطة هيمنة طبقة، نظام، إلخ (هل ثمّة مفارقةُ «مشروعيّةٍ» في ميلاد الطبقات والدولة؟).
أودّ التشديد، قبل المتابعة، على مدى استفادتي من تجربتي – وإنْ تكن جزئيّة – ومن غنى المعطيات الجديدة في الأنثروبولوجيا والتاريخ التي تتنامى مع الزمن. لا أملك سوى معرفة هاوٍ في الفرع المعرفيّ الأخير حيث وُجِّهت قراءتي أساساً نحو فهم مشكلة تشكّل الدولة وتحوّل العلاقات الطبقيّة. وبالطبع، كذلك، سأخيّب أمل بعض القرّاء الذين كانوا يفضّلون رؤية توصيف أدقّ للصّلات بين آرائي العامّة المجرّدة وغنى المعطيات الأنثروبولوجيّة الجديدة هذه.
البنى التحتيّة والبنى الفوقيّة
بالنسبة إلى الماركسيّ، ينبغي أن يكون البحث في الأيديولوجيا، وشروط تشكّلها وتحوّلها، وآثارها على حركة المجتمعات، بحثاً في العلاقة بين البنية التحتيّة، والبنى الفوقيّة والأيديولوجيا. هل يجب تسمية هذه الوقائع «مراحل» كما فعل ألتوسير؟ هل ينبغي أن تُعتبَر «مستويات» للواقع الاجتماعيّ، منازل ضمن الواقع الاجتماعيّ تكون مستقلّةً بذاتها بمعنى ما، تقسيمات مؤسّساتيّة في جوهره؟ لا أعتقد هذا. إذ لا يمتلك المجتمع قمّة أو قاعاً، أو حتّى مستويات، بمعنى فعليّ. ويعود هذا إلى أنّ التمييز بين البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة ليس تمييزاً بين مؤسّسات، بل هو في الأساس تمييزٌ بين وظائف.
ما معنى مصطلح «البنية التحتيّة» إذاً؟ إنّه يشير إلى الجمع، الذي يوجد في كل المجتمعات، بين ثلاث منظومات على الأقلّ من الشّروط الماديّة والاجتماعيّة التي تُتيح لأعضاء مجتمعٍ ما إنتاج وإعادة إنتاج وسائل ماديّة لوجودهم الاجتماعيّ. وهذه المنظومات هي:
١ الشروط الإيكولوجيّة والجغرافيّة المحدَّدة التي ينوجد المجتمع ضمنها، والتي يستخلص منها وسائل وجوده الماديّة.
٢ قوى الإنتاج: أي الوسائل الماديّة والفكريّة التي يُفعّلها أعضاء المجتمع، عبر «مسارات عمل» متعدّدة وذلك للفعل في الطبيعة واستخلاص وسائل وجودهم منها – وبذا يحوّلونها و«يؤمّمونها».
٣ علاقات الإنتاج الاجتماعيّة. أي تلك العلاقات، بصرف النظر عن ماهيّتها، التي تضطلع بوظيفةٍ أو أكثر من الوظائف الآتية:
أ.) تحديد الصيغة الاجتماعيّة لحريّة الوصول إلى الموارد والسيطرة على وسائل الإنتاج.
ب.) إعادة توزيع قوّة عمل أعضاء المجتمع بين مسارات العمل المتنوّعة التي تؤمّن قاعدتهم الماديّة، وتنظيم تلك المسارات.
ج.) تحديد الصيغة الاجتماعيّة لإعادة توزيع منتجات العمل الفرديّ أو الجماعيّ وبالنتيجة، تحديد صيغة تداولها أو عدم تداولها.
ولنتذكّر أنّ ما سمّاها ماركس بنية المجتمع الاقتصاديّة لا تعني، بالمعنى الصارم للمصطلح، إلّا علاقات الإنتاج الاجتماعيّة: «ويشكّل المجموع الكليّ لعلاقات الإنتاج هذه بنيةَ المجتمع الاقتصاديّة»١. ولنتذكّر أيضاً أنّ قوى الإنتاج وعلاقاته لا توجد على نحو منفصل أبداً، برغم كونها حقائق متمايزة، بل تكون مجموعةً دوماً بطريقةٍ محدَّدة. وإنّ «أشكال الإنتاج» أو «صيغ الإنتاج الاجتماعيّة» هي الصيغ المحدَّدة المتنوّعة لمثل هذا التجمّع. ولنمحّص بدقّة في هذه التعريفات التي تستدعي شيئاً من التعقيب.
أوّلاً، تتضمّن قوى الإنتاج ما كنتُ قد سمّيتها الوسائل «الفكريّة» للطبيعة المتحوّلة. وأعني بهذا كلّ «معرفة» الطبيعة التي يمكن للمجتمع امتلاكها، إضافةً إلى المجموع الكليّ للإجراءات الفنيّة، وقواعد تصنيع الأدوات، وقواعد استخدام الجسم قيد التصنيع، إلخ. ونرى أنّه في قلب العلاقة الأكثر ماديّة بين الإنسان والواقع الماديّ الذي يحيط به، لا بد من وجود منظومة معقّدة من التمثيلات، الأفكار، المخطّطات، إلخ، التي سأسمّيها «وقائع» مثاليّة، والتي يكون وجودها وتدخّلها ضروريّاً لحدوث النشاط الماديّ. وفي هذه الأيّام، أجرت الأنثروبولوجيا جرداً لهذه الوقائع المثاليّة المُحتواة في العمليّات الماديّة المتنوّعة للمجتمعات التي تقوم الأنثروبولوجيا بتحليلها. هذا هو المجال الواسع لعلم الإثنيّات Ethnoscience الذي يدرس تصنيفات النباتات، الحيوانات، المناخ، التربة، قواعد إنتاج الأدوات، إلخ. وهذا هو أيضاً موضوع العلميّة والتكنولوجيّة التي اضطلع بها علماء مثل جوزيف نيدام – بشأن الصين – أو أندريه أودريكور٢.
ويتمّ تبيُّن هذه الوقائع «المثاليّة» – في المقام الأوّل – في خطاب الجماعات السكّانيّة والاجتماعيّة التي تستخدمها. فهي توجد، بالتالي، كوقائع لغويّة، كوقائع عصيّة على الانفصال عن اللغة والفكر، ولهذا السبب يمكن التواصل معها ضمن الجسم الاجتماعيّ ونقلها من جيل إلى آخر. وابتداءً من هذه النقطة، يبدو التمييز بين البنية التحتيّة، والبنية الفوقيّة، والأيديولوجيا تمييزَ وظائف، لا تمييز مؤسّسات، بما أنّنا رأينا للتو أنّ بإمكان الفكر واللغة أن يعملا كمكوِّنَيْن للبنية التحتيّة، ويعملان في هذه الحالة مكوِّنين لقوى الإنتاج. وبذا فإنّ التمييز لا يكون بين الماديّ واللاماديّ، بما أنّني أعجز عن اعتبار أنّ الفكر يقلّ ماديّةً عن باقي [مجالات] الحياة الاجتماعيّة. وهو ليس تمييزاً بين الملموس واللاملموس. إنّه تمييزٌ خاص بالموقع ضمن تلك النشاطات اللازمة لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعيّة.
والنقطة الثانية التي تحتاج إلى تمحيص هي مفهوم مسار العمل. أوّلاً، ينبغي ملاحظة أنّ مفهوم «العمل» لا يوجد في المجتمعات كلها. ففي الإغريقيّة القديمة، ثمّة فعلان poein وprattein لا يعنيان «يعمل»، بل «يصنع» أو «يفعل». وفي اللاتينيّة، تدلّ مفردة labor على أيّ نشاط بغيض، وكذا مصطلح ponos في اليونانية. وتدلّ مفردة negotium على نشاط يقاطع أو يناقض otium، الراحة أو الفراغ، سمة الإنسان الحرّ وشرط نشاطاته الثقافيّة والسياسيّة. وعلاوة على ذلك، من النادر جدّاً للفعل «يعمل»، عند وروده، أن يقتضي أو يتضمّن فكرة وجود «تحوّل» للطبيعة على يد الإنسان. وجميع هذه التمثيلات جزءٌ من مسار العمل، وهي تكتمل بأخرى تُجيز الحضور أو الغياب في مسار عملٍ لهذه الجماعة الاجتماعيّة أو تلك: على سبيل المثال، تمثيلات تُبرّر حقيقة أنّ النّساء هنّ مَنْ يجمعن غلال البرّية، ويحملن الحطب، إلخ، ويقمن بهذه النشاطات التي لا تليق بالرجال الذين يُخصَّص لهم (كحقٍّ لهم، يمكننا القول) النشاطات الأرقى كالصيد، وشنّ الحروب، وإقامة الشّعائر. ولكن عند مقاربة هذا المجال، سنكون في الواقع قد قاربنا نقاط التّلاقي والصّلة بين علاقات الإنتاج وتقسيم العمل.
علاقات الإنتاج وعلاقات القرابة
ولا بدّ لنا الآن من أن نولي شيئاً من الاهتمام لتحليل علاقات الإنتاج. الأمر الجوهريّ هنا هو ملاحظة وإدراك أنّ علاقات الإنتاج تحتلّ مكاناً مختلفاً، وتتّخذ صيغاً مختلفة بحسب المجتمع والحقبة التاريخيّة، وسيكون لها بالنتيجة تأثيرات مختلفة على حركة المجتمعات. سأعطي مثالين على ما قد يدعوه المرء مواضيع [الحيّز] الاقتصاديّ: الطوبولوجيا المقارنة لعلاقات الإنتاج. أوّلاً، في مجتمعات الصيد والجمع، مثل مجتمعات السكّان الأصليّين الأستراليّين، يلاحَظ أنّ العلاقات الاجتماعيّة التي تحكم منطقة الصيد والجمع، وتنظّم تكوين الجماعات التي تصيد وتجمع، وتشارُك المنتجات بين أعضائها، علاقات قربى: أيْ علاقات نسَب، وقرابة، وسكنى. وابتغاءً لدقّة أكبر، يمكن القول إنّ الشرط المسبق المجرّد إلى حدٍّ ما لمقاربة الطبيعة هو الانتماء إلى جماعة نسبيّة ترث، جيلًا بعد جيل، حقوقاً مشاعيّة، ولكن «غير حصريّة»، في الموارد الطبيعيّة لمناطق مختلفة. ولكن في العمليّة اليوميّة للتّحصيل الملموس المباشر من الطبيعة، نجد أنّ علاقات القرابة هي التي تشكّل الإطار للتعاون في الصيد والجمع وإعادة توزيع المنتجات. ولا بدّ أن نتعمّق أكثر لأنّ العُصبة الأستراليّة – وهي الوحدة التي تنفّذ التحصيل اليوميّ المباشر من الطبيعة – تمتلك بنية مُركَّبةً عملياً. وحول نواة مجموعة بشريّة تتحدّر عن طريق البنوّة من أسلاف مشتركين كانوا ورثةً لحقوق في منطقة، سنجد حلفاء – أي ممثّلي جماعات وهبتْ أو استقبلتْ نساءً في أجيالٍ سابقة. وهذا يضمن إمكانيّة استخدام مناطق متعدّدة، إذا دعت الحاجة. وبذا تُوسَم المنظومة بفعل وجود ملكيّة مشتركة للموارد تخصّ جماعات نَسبٍ، دون أن تكون ملكيّة حصريّة، إذ يمكن لجماعات الحلفاء استخدامها ضمن ظروف حرجة محدّدة.
وهنا نمسّ نقطة جوهريّة: تلك الخاصّة بالعلاقة بين طبيعة قوى الإنتاج وطبيعة علاقات الإنتاج الاجتماعيّة. خلف هذه المنظومة للملكيّة المشاعيّة، ولكنْ غير الحصريّة، للموارد، يكتشف المرء أنّ الأمر لا يقتصر على أنّ على الفرد الإنتاج ضمن جماعة، لا بمفرده، فحسب، بل أنّ الجماعات كذلك عاجزةٌ عن الإنتاج بمفردها بل عليها ممارسة هذا فيما بينها. هذه هي الصلة بين قوى الإنتاج والصيغة الاجتماعيّة من علاقات الإنتاج. سأعود إلى هذه النقطة، ولكنّ الخُلاصة التي ظهرت أساساً هي أنّ علاقات النّسب تعمل هنا كعلاقات إنتاج، وأنّ هذا يتمّ من الداخل. فالتمييز بين البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة ليس تمييزاً بين مؤسّسات، بل تمييز بين وظائف ضمن المؤسّسة ذاتها.
أمّا عن مثالي الثاني، فسأتبع تحليلات فرانكفورت وأوبنهايم وآدامز وآخرين بشأن التنظيم السومريّ القديم٣. يبدو أنّ الأرض، في الدول-المدن في بلاد ما بين النهرين، كان يُنظَر إليها بكونها مُلكاً للربّ أساساً – الرّبّ الذي ينتصب معبده في مركز المدينة. كان الاقتصاد يعمل كمنظومة مُمَركزة هائلة، تتموضع جماعات البلدة والريف المحيط داخلها تحت سلطة كهنة الرّبّ مالك الأرض، الذي يدينون له بجزءٍ من عملهم ومنتجاتهم. وبذا يمكن مشاهدة العلاقات الدينيّة هنا، من الداخل، على أنّها قد اضطلعت بدور علاقات الإنتاج. وفي الكفّة الثانية، في حالة الدولة-المدينة الإغريقيّة، تمنح عضويّةُ الدولة-المدينة بالولادة المواطنَ الحرّ حقوقاً خاصّة وعامّة في أرض المدينة. وتعمل السياسة، بالمعنى الإغريقيّ للكلمة، هنا من الداخل كعلاقة إنتاج.
وقبل إدراج خُلاصات عامّة من هذا التحليل، أودّ العودة إلى نقطة أساسيّة، وهي مبعث كثير من التخبّط لدى الماركسيّين: التمييز بين مسار العمل وعمليّة الإنتاج. كان بعض الأنثروبولوجيّين، مثل تيريه وريه، قد أطلقوا اسم «شكل الإنتاج» على صيغ متنوّعة من مسارات العمل التي وجدوها في وصف مجتمعٍ ما – تحديداً، في توصيف كلود مياسّو لطرائق الصيد والزراعة والعمل الحِرفيّ بين أفراد قبائل الكورو في ساحل العاج٤. وبذا يكون لدينا أشكال إنتاج صيد، زراعيّة، ورعويّة، إلخ. وعلى أيّة حال، هذا يخلط أشكال تقسيم العمل مع أشكال الإنتاج. من الممكن الجمع بين ممارسة تربية الماشية، والزراعة، والحِرف اليدويّة المحليّة ذات النطاق الضيّق ضمن علاقات الإنتاج نفسها، دون أن يعني هذا تضمين وجود أشكال إنتاج مختلفة سيكون من الواجب بالتالي تحديد تمايزها. وفي هذه النقطة يبدأ تشغيل «التشكّل السوسيو-اقتصاديّ». وفي الواقع، يُعرَّف شكل الإنتاج على نحو أساسيّ عبر صيغ مختلفة من الاستيلاء على الموارد، ووسائل الإنتاج، والمنتَجات. وبذا سيكون هناك صيغ مختلفة من مسار العمل ومن التعاون في العمل تمتزج على أساس أشكال الملكيّة ذاتها. وبوسعنا تخيّل مقدار التفكير العلميّ الذي يمكن أن ينتج من تحليلٍ تفصيليّ لكلّ غنى المادّة الأنثروبولوجيّة والتاريخيّة الهائل. ولكن في الوقت ذاته، بإمكاننا رؤية أنّنا لم نستنفد القول بشأن الأفكار المجرّدة مثل «قوى الإنتاج»، وأنّ ثمّة مناطق مظلمة كبيرة متبقّيةً ضمن هذه الأفكار، لا يمكن إنارتها إلّا بالتحليل النظريّ.
تمييز بين وظائف وتمييز بين مؤسّسات
وفي جميع الأحوال، ثمّة خلاصة ذات مغزى عام يمكن طرحها الآن: التمييز بين البنية التحتيّة والبنى الفوقيّة ليس تمييزاً بين مؤسّسات أو مراحل، بل بين وظائف. ولا يتطابق هذا التمييز بين الوظائف مع التمييز بين المؤسّسات إلّا في مجتمعات بعينها، بخاّصة في المجتمع الرأسماليّ. وبرأيي، هذا هو السبب الحقيقيّ لـ«القَطْع المعرفي» الذي حقّقته أعمال ماركس – قَطْع لا تكمن أسبابه الأوّليّة في فكر ماركس، بل في واقع الأسلوب الرأسماليّ للإنتاج، الذي يفصل للمرّة الأولى بين الاقتصاد والسياسة والدين والنّسب والفن، إلخ، وكذا بين مؤسّسات متمايزة كثيرة.
لكن سنجد فوراً أنّ ثمّة منطقةً شاسعةً قد انفتحت أمامنا وتحتاج إلى توضيح: الأسباب والشروط التي كانت قد قادت تاريخياً إلى التغيّرات في موقع علاقات الإنتاج، وفي صيغتها بالتالي. ولنبدأ هذا البث، علينا رفض أيّة محاولة للاستدلال على موقع وصيغة الحيّز الاقتصاديّ في مجتمعٍ ما انطلاقاً من أحد المفاهيم النظريّة المجرّدة. فعلى الماركسيّ، كأيّ شخص آخر، إلقاء نظرةٍ أدقّ إلى الامر. ليست الماركسيّة تنويعاً من تنويعات الإمبيريقيّة، بكل تأكيد، لكنّها هي بالذّات، من بين جميع المقاربات النظريّة، التي ينبغي أن تُسلّم كلياً إلى تنوّع التجربة الملموس. وعلاوةً على ذلك، ففي البحث موضع الدراسة هنا لا يكون الماركسيّ أعزل تماماً. فعمل ماركس توحى له بفرضيّة وجود «توافق» بين طبيعة قوى الإنتاج وطبيعة علاقات الإنتاج. هنا، تُحيل «الطبيعة» إلى الموقع والصيغة والأثر. وعلى أيّة حال، لن أحاول إخفاء حقيقة أنّ هذه الفرضيّة ليست سهلة الاستخدام، لمجموعةٍ كاملةٍ من الأسباب. فمصطلح «التوافق» ليس واضحاً. فهل يُحيل إلى علاقة سببيّة، أم إلى علاقة تناغم؟ وكذلك الأمر، ليست لدينا التحليلات الجديّة لقوى الإنتاج ولتطوّرها التي نحتاج إليها إذا أردنا المتابعة. فوحْده مثلُ هذا التحليل سيُتيح لنا المضيّ أبعد من المرحلة الحاليّة من تكرار أنّ من المستحيل أن نرى بوضوح ما تسمح به قوى إنتاج محدّدة – دع عنك ما تفرضه، مع أنّ بإمكاننا رؤية ما تمنعه بسهولة. ومع أنّ من المؤكّد أنّ الصيَغ الاجتماعيّة لا يمكن أن يُستدَلّ عليها من قوى الإنتاج، إلّا أنّ علينا – برغم هذا – فهم حدود مجال الاحتمالات التي تقدّمها، وماهيّة الآليّات التي تُوجدها من أجل اختيار إحدى تلك الإمكانيّات.
سأعود إلى هذه المشكلات في نهاية القسم التالي. هناك، سأحاول استخدام تحليلي لفكرة البنية التحتيّة كي أقيّم الجدال الذي يقسم الماركسيّين وغير الماركسيّين (والماركسيّين فيما بينهم) بشأن الأساس الذي تُهيمن به مجتمعات متنوّعة عبر ما يعتبره الماركسيّون بنى فوقيّة: النّسب في بعض المجتمعات البدائيّة، الصيغ الدينيّة-السياسيّة في مصر الفرعونيّة، إلخ. كيف يمكن للماركسيّين التوفيق بين فرضيّة التحتيم في نهاية المطاف عبر البنى التحتيّة مع حقيقة هيمنة مجتمعات تاريخيّة بعينها عبر بنية فوقيّة؟
التحديد الاقتصاديّ والهيمنة عبر البنية الفوقيّة
من الشائع هذه الأيام لدى أنثروبولوجيّين ولدى مؤرّخين كثيرين كتابة أنّ الوقائع التي يختصّون فيها تُفنّد الماركسيّة. وفقًا لرادكلِفْ-براون، يكفي تبيان أنّ النّسَب مهيمنٌ بين السكّان الأصليّين في أستراليا كي يتحقّق التّفنيد٥. ووفقاً للوي ديمون، يتم التفنيد بفعل الهيمنة الساحقة للدين في الهند، وبفعل تراتبيّة منظومة المراتب الهندوسيّة بناءً على التعارض الأيديولوجيّ بين النقيّ والنجس٦. ووفقاً للمؤرّخ إدوارد ڤيل، فإنّ هيمنة السياسة بين الإغريق القدماء تُظهر بوضوح أنّ الجانب الاقتصاديّ لم يلعب دوراً مُحدِّداً هناك، بل لم يشكّل منظومة أساساً٧. ما حقيقة المسألة؟
إذا حلّلنا هذه الأمثلة في ضوء التعريف الذي طرحتُه والخاصّ بعلاقات الإنتاج، سيكون بوسعنا رؤية أنّ «البنية الفوقيّة» التي تهيمن، في كلّ حالة من هذه الحالات، هي في الوقت ذاته تشتغل بما هي علاقة إنتاج. في جميع هذه الحالات الثلاث –وفي كل مجتمع فعليّاً – يُنظّم النّسَب القرابةَ والتحالف، لكنّه لا يهيمن إلّا في حالة واحدة – تلك الخاصّة بسكّان أستراليا الأصليّين. وفي المجتمعات الثلاثة، يُنظّم الدينُ العلاقات بين الإنسان والقوى الخارقة للطبيعة، ولكنّه لا يهيمن إلّا في حالة واحدة – في المجتمع الهندوسيّ. وبذا قد نعرض الفرضيّة القائلة إنّه برغم أنّ الوظائف الجليّة للنّسَب أو الدين هي تنظيم إعادة إنتاج الحياة (عبر تنظيم الزواج والقرابة) من جهة، ومن جهة أخرى تنظيم العلاقات مع القوى اللامرئيّة التي تُعتبَر مسؤولة عن إعادة إنتاج الكون، إلّا أنّ تلك الوظائف الكونيّة لا تكفي لجعل واحدةٍ أو أكثر من تلك «البنى الفوقيّة» مهيمنةً.
وبذا فإنّ فرضيّتي المطروحة هي الآتية. وكي يلعب النشاط الاجتماعيّ – ومعه الأفكار والمؤسّسات التي تتوافق معه وتنظّمه – دوراً مهيمناً في تفعيل المجتمع وتطويره، وبالتالي في فكر الجماعات والأفراد التي تشكّله وأفعالها، لا يكفي أن يأخذ هذا النشاط على عاتقه وظائف متنوّعة: بل عليه كذلك، فوق ومع غائيّته الواضحة ووظائفه، أن يضطلع مباشرةً ومن الداخل بوظيفة علاقة الإنتاج. ولا تقول هذه الفرضيّة شيئاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعيّة التي يمكن أن تقوم بوظيفة علاقات الإنتاج. بل تفترض مسبقاً شيئاً عن أسباب الوزن النسبيّ والأهمّيّة المتفاوتة لصيغ متنوّعة من الفعل الاجتماعيّ في تفعيل المجتمعات وتطويرها. ويعتمد هذا الوزن على ماهيّة تلك العلاقات الاجتماعيّة (النّسب، الدّين، إلخ) أقلّ ممّا تفعله أو تُسبّب حدوثه. وإذا أُثبت أنّ العلاقات الاجتماعيّة تهيمن حين تعمل كعلاقات إنتاج، فسنكون قد أعدنا اكتشاف فرضيّة ماركس عن الدور المُحدِّد للبنى التحتيّة في نهاية المطاف. وينبغي أن تُفهَم هذه الفرضيّة بكونها تضع الوجود الكونيّ للهرميّة بين الوظائف التي يجب أن تضطلع بها العلاقات الاجتماعيّة إذا كان على المجتمع أن ينوجد بما هو مجتمع وأن يعيد إنتاج نفسه. وعلى أيّة حال، لا يمكن أن يُستخلَص منها أيّ شيء بشأن طبيعة الإنتاج أو شكله في أيّ مجتمع محدَّد. وبذا سيكون من المستحيل تحدّي الماركسيّة عبر الإشارة إلى هيمنة البنى الفوقيّة.
وأودّ التشديد على أنّ هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء مختلفة عن تلك التي تَصوَّرَ فيها ألتوسير وباليبار ومريدوهما في الأنثروبولوجيا والتاريخ، أنّ السببيّة موجودة في المرحلة الأخيرة من الاقتصاد. بالنسبة إليهم، يختار الاقتصاد مرحلة واحدة من بين مراحل عديدة، ويضعها في موقع مهيمن. ويشكّل هذا الفعل المزدوج الآليّة السببيّة التي تشتغل البنية التحتيّة من خلالها. وللأسف، لا يمكن لهذا المفهوم أن يأخذ بالاعتبار حقيقة أنّ المؤسسة ذاتها – النَّسب مثلاً – هي التي تلعب دور علاقة الإنتاج والبنية الفوقيّة في آن. وبصرف النّظر عن نتيجة هذا الجدال، يجب علينا أن نتابع البحث عن أسباب شغل النّسَب (أو الدين) كعلاقة إنتاج، الأمر الذي يؤدّي إلى هيمنتها. قد نفترض، في حالة النَّسَب، أنّ قوّة العمل الحيّة في المجتمعات البدائيّة أكبر من العمل المتراكم على شكل أدوات، وموارد مُستولى عليها، إلخ. وتتمّ الآن إعادة إنتاج الحياة في جميع المجتمعات بصيغة علاقات النَّسَب. وبذا سيسعى المرء إلى معرفة الأسباب الأوّليّة التي تحتّم على علاقات النَّسَب أن تعمل كعلاقات إنتاج – وتهيمن بالتالي – بوجود قوى الإنتاج: أي بما هي علاقة بين العمل الحيّ والعمل الميت.
المظهر المثاليّ للواقع ومشكلة الأيديولوجيا
هل يمكن أن نشتقّ من المقاربة والأطروحات التي طوّرناها للتوّ طريقةً جديدةً لمعالجة مشكلة تمييز الوقائع الأيديولوجيّة وغير الأيديولوجيّة من بين الوقائع المثاليّة التي تكوّن جزءاً من كلّ مجتمع؟
قد يبدو أنّنا لم نُجرِ أيّ تغيير في مفهوم الأيديولوجيّات وهيمنتها الذي يُتوافَق حالياً على اعتباره ماركسياً. بناءً على الفكرة التي طُرحت للتوّ – فإنّ علاقات الإنتاج المهيمنة ضمن مجتمعٍ ما هي تلك التي تعمل كعلاقات إنتاج بصرف النظر عن ماهيّتها – يمكن للمرء أن يقترح أنّ الأفكار التي تمثّل وتُشرْعن علاقات الإنتاج المهيمنة هذه لا بدّ أن تلعب دوراً مهيمناً على نحو أوتوماتيكيّ تقريباً. أو، إذا أخذنا العلاقات الاجتماعيّة كما هي عليه فعليّاً – علاقات ملموسة بين جماعات اجتماعيّة متمايزة تحتلّ مواقع مختلفة داخل علاقات الإنتاج (تأخذ وظيفة علاقات)، أكانت علاقات هيمنة الرجال على النساء في مجتمعات لاطبقيّة، أم هيمنة طبقة دينيّة أو طبقة اقتصاديّة على غيرها – فسيكون بإمكاننا توقّع أنّ الأفكار التي تُشرْعن هذه الهيمنة عبر جنسٍ أو طبقة دينيّة أو اقتصاديّة ستكون هي الأفكار المهيمنة على نحو يكاد يكون أوتوماتيكياً. وعلى الأساس ذاته، بإمكاننا توقّع أنّ تطوّر التناقضات المُحدَّدة المحتواة في الأنماط المختلفة لعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعيّة سيتضمّن تغيّرات في العلاقات – علاقات القوّة وعلاقات الأيديولوجيا – بين المُهيمِن والمُهيمَن عليه، وسيحوّل صيغ وعي الثاني بما يتعلّق بالواقع الذي يحكمها.
وفي جميع الأحوال، ما إن تتمّ إعادة تأكيد هذه الأطروحات الماركسيّة التقليديّة، حتى تبدأ مصاعبنا. أوّلاً، لا يمكننا أن نجد في هذه الطروحات أيّ معيار دقيق لما يحوّل الفكرة إلى تمثيل «أيديولوجيّ». ومن الواضح أنّ أيّة فكرة ستكون أيديولوجيّة إذا شرْعنتْ وجود نظام اجتماعيّ قائم وعلاقات الهيمنة أو سوّغت الاضطهاد التي يتضمّنها. وفي نهاية المطاف، فإنّ مضمون الفكرة – أكانت صحيحة أم خاطئة، إلى هذه الدرجة أو تلك – لن يرتبط بالمسألة، وستصبح أيّة فكرةٍ أيديولوجيّةً طالما أنّها عملت في مصلحة الجماعة الاجتماعيّة المهيمنة وقدّمت هيمنة هذه الجماعة بوصفها الأمر الواقع. وفي الوقت ذاته، ألن تصبح الفكرة خاطئةً جزئياً على نحو أوتوماتيكيّ حالما تقدّم نظاماً اجتماعياً واحداً بعينه بوصفه النظام الاجتماعيّ الممكن الوحيد العصيّ على الاستبدال؟ وبذلك ستصبح الكذبة التاريخيّة خطأً نظريّاً.
لنتعمّق أكثر في الأمر. وهل الافتراض القائل بوجود الأفكار المهيمنة في خدمة الطبقات المهيمنة يعني الافتراض بأنّ ثمّة أفكاراً خاضعةً ستنوجد أوتوماتيكياً لدى الطبقات الخاضعة؟ ألا تكون الأفكار المهيمنة مهيمنةً لأنّها – بالتحديد – مُتشارَكةٌ على نحو واسع من الطبقات الخاضعة؟ وبالطبع، تُبيّن لنا التجربة أنّ ثمّة قسماً من الطبقات الخاضعة، في أيّة منظومة اجتماعيّة، يمتلك أفكاراً تضعهم بمواجهة الطبقة الحاكمة، يطرح طروحات مضادّة لها. وهل ينبغي أن نَخلُص، على ضوء هذه المحاجّة الحاليّة، إلى أنّ الأفكار الخاصّة بالطبقات الخاضعة، والتي هي تشكّل الأفكار المضادّة، تشكّل أيديولوجيا مضادّة، وبالتالي أيديولوجيا أخرى؟ أم ينبغي القول إنّها لم تعد أيديولوجيّة لأنّها لا تُشرعن وجود النظام القائم أو تشاركه كذْبته؟ ولكن هل تكون كلُّ فكرةٍ مُشرعِنةٍ خادعةً؟ وتكون خادعةً وفقاً لمن؟ ليست وفقاً لأولئك، الحكّام والمحكومين، الذين يتشاركونها. إذاً هي بالنسبة إلى الآخرين الذين لا يقبلون هذا النظام الاجتماعيّ ويريدون تغييره، أم بالنسبة إلينا كمراقبين خارجيّين (ولكن ما قيمة وعينا إن لم يكن له أدنى تأثير في تاريخ المجتمع المعنيّ). وبذا نجد أنّ من المستحيل اعتبار فكرةٍ ما على أنّها فكرة أيديولوجيّة تبعاً لمعيار وحيد (معيار زيف أو صحّة، شرعنة أو لاشرعنة)، أو تبعاً لمجموع أو تبعاً لتلاقي الأمرين بما أنّهما لا يتوافقان. في كلّ مرّة، تسقط المحاجّة أرضاً. وفي الواقع، كي نتملّص من معضلة التعريفات الشكليّة أو الوظيفيّة للأيديولوجيا، علينا تطوير نظريّة عن مكوّنات سلطة الهيمنة والاضطهاد، نظريّة عن العلاقة بين العنف والتقبّل.
وعلى أيّة حال، لا يمكن لهذه النظريّة – باعتقادي – أن تتطوّر إذا تابعنا دراسة الأفكار بمفردها بكونها الانعكاس المنفعل في الفكر للعلاقات الاجتماعيّة التي تولد خارجه، ومن دونه، وهي سابقة عليه. سنواجه هنا مشكلة جوهريّة، نقطة انعطاف استراتيجيّة لكلٍّ من تأويل الوقائع الاجتماعيّة وتأويل التاريخ ولممارستنا معاً. إننا فعليّاً أمام مفترق طرق بين وسائل مختلفة في أنّ الانتساب إلى المذهب الماديّ. وهنا بوسعنا الاستفادة من التحليل السابق الذي كنتُ قد طرحتُ خطوطه العريضة، التحليل المتعلّق بالعنصر المثاليّ المُتضمَّن في كلّ علاقة ماديّة مع الطبيعة الماديّة التي تحيط بنا. وقد رأينا كيف أنّ كلّ قوّة إنتاج ماديّة تتضمّن، منذ ولادتها، عنصراً مثاليّاً معقّداً لا يكون تمثيلاً منفعلاً واستدلاليّاً في فكر قوّة الإنتاج هذه، بل يكون منذ البداية جزءاً مكوِّناً فاعلاً فيها، شرطاً داخليّاً لوجودها. والآن، سيسْهل تبيان أنّ هذا التحليل يمكن تعميمه على كلّ علاقة اجتماعيّة.
وسوف أكتفي بمثال واحد، هو النَّسَب. لا يمكن أن توجد علاقات نسب تنشأ وتعيد إنتاج نفسها لأجيال دون أن تكون هناك مفاهيم وقواعد مُكرَّسة للنّسَب والقرابة والسّكنى، أي فكرة عمّا هو نسب وما هو ليس بنسب: مفاهيم، وقواعد، وأفكار ليست انعكاسات ذات مفعول رجعيّ لعلاقات النّسب، بل هي جزء مُكوِّنٌ لتلك العلاقات لا بدّ أن يكون موجوداً فيها منذ البداية. وبالطبع، لا يمكن أن تُختزَل علاقات النّسب إلى هذه المكوّنات المثاليّة المتنوّعة، ولكن لا يمكنها أيضاً أن توجد بدونها. وإذا شئنا التعميم، يمكن تقديم الفكرة القائلة إنّ كلّ علاقة اجتماعيّة تولد وتوجد داخل الفكر وخارجه في آن – وإنّ كلّ علاقة اجتماعيّة تتضمّن جزءاً مثاليّاً، منذ البداية، لا يكون انعكاساً لاحقاً لها، بل شرطاً من شروط وجودها، فيصبح مُكوِّناً لازماً من مكوّناتها. ولا يكون هذا الجزء المثاليّ موجوداً بصيغة مضمون الوعي فحسب، بل في جميع مظاهر العلاقات الاجتماعيّة التي تُحيل العلاقات الاجتماعيّة علاقاتٍ دالّة وتكشف معناها، أو معانيها.
تناسى بعض الماركسيّين بسهولة أنّ الفكر لا «يعكس» الواقع على نحو منفعل، بل يؤوّله بفاعليّة. هذا ليس أسوأ ما في الأمر، فقد تناسوا أيضاً أنّ الفكر لا يؤوّل الواقع فحسب، بل ينظّم جميع الممارسات الاجتماعيّة التي تعمل وفق هذا الواقع، ويساهم بالتالي في إنتاج وقائع اجتماعيّة جديدة. وهنا الفيصل بين مختلف الطرق المتعدّدة للانتساب إلى المذهب «المادّيّ» في الممارسة العلميّة والسياسيّة. وستتوضّح الاختلافات أكثر إذا خلط المرء بين علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بالتاريخ. فالطبيعة موجودة، وقد وُجدت وستوجد خارج الإنسان، خارج فكر الإنسان، ويمكنها أن تنوجد، في جزئها الجامح، من دون الإنسان. وعكساً، لا يمكن للعلاقة الاجتماعيّة أن تنوجد إلّا في صيغة مزدوجة: داخل الفكر وخارجه في آن، كواقع ماديّ ومثاليّ معاً.
وختاماً، سأحاول استخدام هذه التحليلات لتوضيح مسألة مولد الطبقات والدولة. وسأذكّر القرّاء أنّ ثمّة مجتمعات طبقيّة موجودة بلا دولة، كمؤسّسة سلطة طبقة حاكمة متمايزة ومركزيّة، كما أبان بونتي بشأن طوارق كيل غريس في النيجر٨.
العنف والقبول: أصل الطبقات والدولة
إنّ سلطة الهيمنة بأسرها مكوّنةٌ على نحو عصيٍّ على الفصم من عنصرين يمنحانها قوّتها عند اجتماعهما: العنف والقبول. ومع أنّني أخشى أن أصدم البعضَ، سأطرح الفكرة التي تقول إنّالقوّة الأكبر، بين مكوِّنَيْ السلطة هذين، ليست عنف الحكّام بل قبول المحكومين للهيمنة الواقعة عليهم.
لا أودّ أن يُساء فهمي هنا. فأنا مدرك تماماً لجميع الاختلافات الموجودة بين الموافقة القسريّة، والقبول المنفعل، والدعم الحذر، والاقتناع المشترك. وأنا واعٍ تماماً لحقيقة أنّ جميع المجتمعات، حتى اللاطبقيّة منها، لا تتضمّن قبولاً تامّاً للنّظام الاجتماعيّ، حتّى من النّوع المنفعل، بين جميع الأفراد والجماعات. وحتّى حين يكون القبول فاعلاً، فإنّه لن يكون خالياً من التحفّظات والتناقضات. ويكمن سرّ هذا بعيداً عن الفكر، في حقيقة أنّ جميع المجتمعات، بما فيها البدائيّة والمساواتيّة، تحوي مصالح مشتركة أو فرديّة تعيش تناقضات وتسويات يوميّة. وإلا لن يكون هناك تاريخ. ولكن برغم أهميّة الأمر الهائلة بالنسبة لتطوّر المجتمع وللمصير الفرديّ والجماعيّ لأعضائه في آن، أكان المحكومون قد أحسّوا باقتناع شديد بشرعيّة نظامهم، أو بدعمٍ هادئ له، أو بقبول متردّد حياله، أو بمعارضة مستترة له، أو حتى لو عبّروا أخيراً عن عدائهم نحوه، لا نزال نتعامل هنا مع الصيغ المحتملة المختلفة لقوّة تاريخيّة أساسيّة من أجل تحوّل المجتمعات أو إبقائها على حالها هي قوّة الأفكار، أو الأيديولوجيّات، قوة لا تنبع من مضمونها فحسب بل من طريقة تشاركها أيضاً.
وسيتعلّق السؤال النظريّ المطروح بالتالي باكتشاف شروط هذا التشارك، من جانب جماعات خاضعة، لتأويلات عالم ستشرعن النظام الاجتماعيّ الذي يخضعون له لا في عيون الحكّام فحسب بل في عيونهم أيضاً. وكان بعض الفلاسفة والأنثروبولوجيين مثل دولوز وغواتاري في «ضد-أوديب» أو لوفور وكلاستر في تحليلهما لكتاب لا بويسوييه «مقالة في العبوديّة الطوعيّة»، قد طرحوا عدة أمثلة عن قبائل بدائيّة اختيرت على نحو اعتباطيً ولكن بعد إعادة تأويلها بصرامة، كي يبيّنوا أنّ الطبقات والدولة (وهما ليسا الشيء ذاته بطبيعة الحال) ولدت من اتّحاد رغبات البعض الأوليّة في امتلاك عبيد وآخرين في أن يُستعبَدوا٩. وعلى أيّة حال، يبقى ظهور الدولة، والطاغية، «المختار»، عصياً على التفسير ضمن إطار التطور الداخليّ للمجتمعات البدائيّة. ولا يبدو لي أنّ بإمكان الطبقات أن تكون تجسّداً للرغبة، مع أنّني لا أُنكر سلطة الرغبة، والمشاعر والقوى الفعّالة في حركة الأفراد والمجتمعات. ولكن يبدو لي، أكثر فأكثر، أنّنا نجد أنفسنا بمواجهة مفارقة تعاكس تماماً تلك التي أشار إليها كلاستر، وغواتاري، ولوفور، إلخ: المفارقة التي تشير إلى أنّ الطبقات ولدت على نحو شرعيّ في المجتمعات التي لا طبقات فيها فقط. أو على الأقل، لا بدّ أنّه قد تكوّنت لها شرعيّة ودانت لها الغلبة لفترة طويلة على ممارسة العنف، واغتصاب الحقوق، والخيانات، إلخ.، خلال عمليّة تحوّل مديدة.
لنأخذ مثال قبيلة سو في أوغندا، وهم شعب زراعيّ درسه تشارلز وإليزابيث لافلِنْ١٠. من بين الخمسة آلاف شخص الذين يشكّلون أفراد القبيلة، تنحصر السلطة السياسيّة والدينيّة بأيدي خمسين مُسنّاً تقريباً، وهم مسنّون يمثّلون الجماعات المتنوّعة المنحدرة من نسبٍ أبويّ. ينتمي هؤلاء الرجال إلى مجتمع مغلق، الكينيسان. ويمتلكون سلطة متفرّدة في التواصل مع الأسلاف، وبالتالي مع الإله الذي يتحكّم بالمطر والصحة والرخاء. وحين تُحلَّل نشاطاتهم، سنجد أنّ هؤلاء المسنّين يتدخّلون في جميع الشّعائر التي تساهم في هطول المطر ومباركة الذرة وطرد الأمراض وإيقاف العدوّ عند الحدود: باختصار، كلّ ما يتعلق بالعدالة والسلام والرخاء. لا توجد شرطة – ولكنْ ثمّة خطر دائم مُسلَّط على كلّ من لا ينتمي إلى هذه العصبة، بحيث إذا حاول التواصل مع أسلافه وتحدّي احتكار المسنّين المختارين، سيُبتلى بالجنون ويأكل برازه. وبذا يمكننا رؤية أنْ لا قبولَ بلا عنف، حتى إذا بقي هذا العنف احتمالاً بعيداً.
وعلى أيّة حال، من الخطأ بالقدر ذاته تخيُّل إمكانيّة وجود سلطة هيمنة واضطهاد دائمة تستند إلى العنف المحض والإرهاب حصراً، أو إلى قبولٍ تام من جميع أعضاء المجتمع. هذه حالات مقيَّدة ليس لها أكثر من واقعٍ عابرٍ وسريع الزوال داخل عمليّة التطوّر التاريخيّ. وحتى المجتمعات المؤسَّسة على الغزو، مثل مملكة موسي في ماتنكا التي حلّلها ميشيل إزار على نحو مدهش١١، تعمل بعد فترة عبر سير المؤسّسات التي تستلزم قبولاً جزئيّاً للخضوع ممّن تم غزوهم. ولدينا الشعائر الكاملة لتتويج ملك جديد ورحلة رينغو الشهيرة، حيث يمضي الملك الذي اختاره الغزاة مرتدياً أسمالًا ليزور من تمّ غزوهم، قريةً إثر أخرى، كي ينال قبولهم واعترافهم به كملك. وبعد أن يتكرّس ملكًا، مُتسربلًا في ثياب الملك وزينته على حصان أبيض، يعاود دخول العاصمة أخيراً في نهاية رحلته.
ويمكن صياغة الفرضيّة الآتية: كي تتمكّن علاقات الهيمنة والاستغلال من التشكّل ضمن المجتمعات اللاطبقيّة ومن أن تعيد إنتاج نفسها على نحو مستدام، ينبغي عليها أن تقدّم نفسها كعملية تبادل، كتبادل لخدمات. هذا ما يجعلها تلقى قبول المحكومين الفاعل أو المنفعل. وبإمكاننا بالقدر ذاته رسم إطار لفرضيّة تقول إنّه من بين عوامل التمايز في المكانة الاجتماعيّة والتشكّل السريع نسبياً بهذا القدر لهرميّات جديدة مؤسّسة على انقسامات منظمة، وطبقات دينيّة، وطبقات اقتصاديّة، ثمة دور جوهريّ تلعبه حقيقة أنّ خدمات الحكّام مرتبطة قبل أيّ شيء آخر بالقوى والظواهر اللامرئيّة التي تحكّمت (في عيون تلك المجتمعات) بإعادة إنتاج الكون والحياة.
وكان على احتكار الوسائل (التي نعتبرها مُتخيَّلةً) لإعادة إنتاج الكون والحياة أن يسبق احتكار وسائل الإنتاج الماديّة المرئيّة – وسائل يمكن للجميع، بل وينبغي عليهم، إنتاجها كي يتمكّنوا من إعادة الإنتاج، تبعاً لبساطتها النسبيّة.
والآن، في التوازن المُكرَّس بين الخدمات (المتبادَلة)، تبدو الخدمات التي يؤدّيها الحكّام أكثر جوهريّة ما دامت تتعلّق بالجانب اللامرئيّ من العالم، وتبدو خدمات المحكومين أقلّ قيمة، ما دامت أكثر ماديّة واكثر وضوحاً. وفي نهاية المطاف، كان تشكّل الطبقات قد أخذ شكل تبادلٍ متفاوت، أكثر إفادة للحكّام من المحكومين، ولعلّ هذا هو ما يُسمّى الاغتراب المطلق. وعلى أية حال، لا بدّ للحكّام من أن يقدّموا «برهاناً» على أنّ حيوات التابعين لهم معتمدة عليهم. والمثال على ذلك أنّ ملوكاً أفارقة بعينهم كانوا يُرسَلون إلى الموت حين يهرمون أو يعجزون، بما أنّ حالتهم ستهدّد المملكة بمواسم سيئة وأوبئة وكوارث أخرى.
أتردد في طرح اقتراح يقول بأنّ مثل هذه التغيّرات تحدث في سياق دقيق: الاستقرار الأخير لجموع الصيّادين-الجامعين والتنامي اللاحق للزّراعة والرعي. ففي حالات كهذه الأخيرة تبرز اعتماديّة جديدة: لم تعد مقتصرة على اعتماديّة إنسان همجيّ على طبيعة همجيّة، بل باتت شيئاً فشيئاً اعتماديّة طبيعةٍ مأهولةٍ على بشر «متحضّرين» يعيدون إنتاجها. ولعلّ هذا السّياق هو الإطار الذي تطوّر فيه الدين على نحوٍ تسبَّبَ فيه بتوليد هرميّات وأرستقراطيّات اجتماعيّة مستقرة، ما خلق واحداً من شروط استخلاص فائض عمل من الناس العاديّين. وثمّة مثال مهم ينبغي دراسته في عمل فيرث على شعب جزيرة تيكوپيا١٢. إذ يبيّن لنا أنّ الأرستقراطيّة كانت تمتلك احتكاراً مطلقاً للتواصل مع الآلهة، ولكنّها لم تكن تتمتّع إلّا بامتيازات نسبيّة على مستوى المواّد الماديّة والموقع ضمن عمليّة الإنتاج.
النظام، المرتبة، الطبقة
بقيت مشكلة أخيرة: أليس من قبيل إساءة استخدام الكلمات أن نتحدّث عن الطبقات والدولة في مجتمعات هرميّة قبل -رأسماليّة إكزوتيكيّة أو قديمة؟ أوّلاً، أودّ اقتراح أنّ على الماركسيّين إعادة قراءة الأيديولوجيا الألمانيّة لماركس بانتباه أكبر. نجد هناك تمييزاً شديد الحرص بين النظام أو المرتبة (كما في تعبير «المرتبة الثالثة») والطبقة. وهذه الأخيرة هي جماعة اجتماعيّة لا تُعرَّف إلا تبعاً لعلاقتها مع وسائل الإنتاج. ولكن ليست هذه هي الحال مع هرميّات المنزلة والمكانة في المجتمعات الأرستقراطيّة الإكزوتيكيّة أو مع الأنظمة التي كانت تحكم في اليونان القديمة أو المدن اللاتينيّة. قامت الرأسماليّة بتبسيط العلاقات الاجتماعيّة، مُعرّفةً مكانة الأفراد تبعاً لمعيار اقتصاديّ قبل أي شيء آخر. ما الذي عناه ماركس إذاً حين استخدم مصطلح «الطبقة» لما كان يدرك أنّها تراتبيّة في العصور القديمة والوسطى؟ بالتأكيد، لم يكن ماركس يقصد أنّ علينا البحث عن طبقاتٍ متخفّيةٍ خلف النظام التراتبيّ – طبقات لا يمكن أن يراها إلّا الماركسيّون، فيما كان الإغريق والرومان – ممثّلو التاريخ الفاعلون – عاجزين عن تبيّنها. ما عناه ماركس هو أنّ هذه الاختلافات الاجتماعيّة ينبغي تأويلها عبر البحث عن مسبّباتها في قاعدتها الاقتصاديّة، في علاقات الإنتاج، وعبر إظهار السمة الجائرة لعلاقات استغلال الإنسان للإنسان.
هل بإمكاننا ربط هذا التحليل مع الجزءين الأوّلين من الاستغلال الحاضر: بطريقتنا لتعريف علاقات الإنتاج وتفسير هيمنة البنى الفوقيّة؟ نعم، كما بإمكاننا أخذ مثال أثينا ليساعدنا. إذ يمكن تبيّن أنّ حقيقة كون العلاقات السياسيّة في المدينة تشتغل كعلاقات إنتاج، وتهيمن على أفكار وأفعال أعضاء المجتمع، أكانوا أحراراً أم عبيداً، تمنع ظهور التناقضات بين الأحرار والعبيد على المستوى السياسيّ على نحو مباشر. وبمعنى ما، فإنّ مكان أو صيغة علاقات الإنتاج وصلتها الحميمة مع السياسة جعل من المستحيل أو من غير الممكن للعبيد التفكير أساساً في اكتساب وعي سياسيّ بمشكلاتهم، وقيادة صراعاتهم السياسيّة على نحو مباشر لإنهاء عبوديّتهم واضطهادهم. ومع هذا، كان مُقدَّراً على منظومة العبوديّة أن تُراكم شيئاً فشيئاً عقبات داخليّة ستسهم في إضعافها على المدى الطويل وتتسبّب في ركودها ببطء. ولكن كان على أمور كثيرة أخرى أن تحدث، بما فيها الغزوات الهمجيّة، قبل أن تُفسح علاقات العبوديّة المجال لولادة صيغ هيمنة أخرى. وبذا طغى ما هو قابل للإدراك والتحقّق على حدود التفكير، ولكنّه لم يطغَ على تلك الحدود التي رسّختها طبيعة علاقات الإنتاج وطبيعة قوى الإنتاج الموجودة في المجتمع. ولعلّ هذا ما تعنيه عبارة «الضرورة التاريخيّة»١٣.
- ١. Karl Marx, ‘Preface to A Contribution to the Critique of Political Economy’, appendix to Early Writings, Pelican/NLR edition, London 1974, p. 425
- ٢. Joseph Needham, Science and Civilization in China, Cambridge 1954 A. G.Haudricourt and M. J-B. Delammare, L’homme et la charrue à travers le monde, Paris 1955
- ٣. Henri Frankfort, Archaeology and the Sumerian Problem, Chicago 1932; A. Leo Oppenheim, Ancient Mesopotamia: Portrait of a Dead Civilization, Chicago 1964; and Robert McCormick Adams, Land behind Baghdad: A History of Settlement on the Diyala Plains, Chicago 1965
- ٤. Claude Meillassoux, Anthropologie économique des Gouro de Côte d’Ivoire, Paris 1965
- ٥. Alfred R. Radcliffe-Brown, The Social Origin of Australian Tribes, Oceania Monographs No. 1, Sydney n.d.; and Structure and Function in Primitive Society, London 1952
- ٦. Louis Dumont, La civilisation indienne et nous, Paris 1964; From Mandeville to Marx: the Genesis and Triumph of Economic Ideology, Chicago 1977; and Homo Hierarchicus: the Caste System and its Implications, London 1970
- ٧. Edouard Will, Histoire politique du monde hellénistique, Nancy 1966; Korinthiaka, Paris 1955, etc.
- ٨. Pierre Bonte, ‘Le problème de l’ état (forthcoming). at chez les Touareg Kel Gress’, Cahiers du CERM, No. 121, pp. 42–62; ‘Social formations of the nomadic peoples’, in J. Friedmann and N. Rowlands (ed.), Evolution of Social Systems, London
- ٩. Gilles Deleuze and Félix Guattari, L’Anti-Oedipe, Paris 1972; Claude Lefort and Pierre Clastres, afterword to Miguel Abensour’s new edition of the sixteenth-century French philosopher étienne de la Boétie’s Discours sur la servitude volontaire, Paris 1976
- ١٠. ‘Kenisan: economic and social ramifications of the ghost cult among the So of northeastern Uganda’, in Africa (London), Vol. 42, No. 1, Jan. 1972
- ١١. Michel Izard, ‘Mission chez les Mossi du Yatenga’, in L’homme, VI, No. 1, January 1966; Introduction à l’histoire des royaumes Mossi, Paris 1970; Traditions historiques des villages du Yatenga, Paris 1965
- ١٢. Raymond Firth, We, the Tikopia, London 1936;
- ١٣. في ما يخصّ القابل للإدراك والتحقّق، أودّ توضيح نقطة مهمة. انطلاقاً من حقيقة أنّ القرابة، مثلاً، تهيمن في مجتمعٍ ما، تأخذ كلّ مشكلة وكلّ حدث صيغة مشكلة قرابة. وفي حالة اليونان القدماء، لأنّ السياسة هي ما كانت مهيمنةً، كان على كلّ مشكلة أن تأخذ صيغة «سياسيّة» كي تتشكّل مفاهيمياً. وتبعاً لموقع وصيغة علاقات الإنتاج، ثمّة صيغة وهم محدّدة في كلّ حالة من الحالات يكون الفاعلون التاريخيّون مسؤولين عنها وفقاً لشروط وجودهم. وبذا يولّد كلُّ شكل إنتاج على نحوٍ عفويّ نمطاً محدّداً من الاستتار، كما في الفهم العفويّ الذي يمتلكه أعضاء المجتمع بما يخصّ مضمون وأساسات علاقاتهم الاجتماعيّة. وبعيداً من «اعتبار الأوهام التي يكرّسها المجتمع حول نفسه بوصفها حقيقةً»، فإنّ مقاربتنا النظريّة – على العكس – ستقدّم الوسيلة لتفسيرها
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.