كان ذلك في سايغون في شباط/فبراير ١٩٦٦. كان شارع «تو دو» (الحرية)، «شانزليزيه» العاصمة الفيتنامية، الممتدّ من الكاتدرائيّة الكاثوليكيّة في أقصى طرف المدينة إلى النهر بالقرب من السفارة الأميركيّة القديمة في الطرف الآخر، يعجّ بالمارّين في ذلك النهار، رغم المطر الذي تساقط عليهم فجأة، فاحتموا بالجدران منتظرين انقشاع السحب الموسميّة.
كنت على سطح مقهى فندق «الكونتيننتال»، العريقة قناطره ومراوحه وسقفه العالي، وذي الطراز الاستعماريّ، برفقة زميلٍ صحافي أمضى في الشرق الأقصى أكثر من ربع قرن يراقب أحداثه، ويتعلّم لغاته الصعبة، ويحفظ وجوهه المتشابهة. وكنت في أيّامي الأولى في سايغون، أتلمّس طريقي عبر الأشخاص والأسماء والأحداث، محاولاً أن أفهم ما يجري هناك. وإذ ذاك، كانت بداية الصراع السياسيّ العنيف الذي هدّد حكم الجنرالات بعد أكبر عاصفة سياسيّة قام بها البوذيّون بزعامة الرّاهب تيتش تري كوانغ، ومزّقت فيتنام الجنوبيّة من هيووي شمالاً حتّى دالات جنوباً. وهذه الأزمة السياسيّة كانت الشغل الشاغل للنّاس، لا الحرب التي اعتادها الفيتناميّون طوال ٢٥ سنة ونيّف مضت على نشوبها، حتّى أصبح الحديث عنها كأنّه لا يعنيهم.
وكان زميلي، رفيق الجلسة، من مدمني المجيء إلى «الكونتيننتال» كلّ يوم في مثل هذه الساعة، كسائر أفراد «المستعمرة الصحافيّة» المؤلّفة من نحو ٤٠٠ صحافيّ من مختلف أنحاء العالم، كانوا يسكرون كلّ ليلة ويلعبون البوكر ويتحدّثون في كلّ شيء إلّا في السياسة والحرب. وأثار زميلي منظرُ تساقط المطر بغتةً وتوقّف المارّون متجمعين تحت الشرفات وفي مداخل المحلّات والأبنية: من نساء في الزيّ الفيتناميّ الذي ربّما لم يُبتَدَع بعدُ أجمل منه، وصبيان صغار يدخّنون السجائر ويمسحون الأحذية ويبيعون البضائع المهرّبة ويسمسرون لأمّهاتهم وشقيقاتهم لقاء بضعة قروش، ورجال نحيلين صغار الأحجام يصعب التمييز فيما بينهم. وبعدما ألقى نظرة عميقة عليهم، كأنّه تفرّس في وجوه الكلّ، قال الزميل الصحافيّ:
ـ هل تعرف أنّ أكثر من نصف هؤلاء، رجالاً وأطفالاً ونساءً، من الفيتكونغ؟.
ـ كيف تعرف؟
ـ إنّ كلّ الناس يعرفون.
ـ حتى الأميركيّون؟
ـ حتّى هم.
ـ أيَّ نصف منهم تعني؟
ـ ها... ها... لو عرف الأميركيّون أيَّ نصف منهم هو الفيتكونغ، لما ظلّت الحرب ضارية إلى اليوم.
وتابع رفيق الجلسة حديثه عن الفيتناميّات، وهو ما زال يحدّق إلى الوجوه العابرة فوق رصيف المقهى.
أوّل مهمّة كمراسل حربيّ
كان ذلك بعد وصولي ببضعة أيّام إلى مطار «تان سان نوت» العسكريّ الذي يبعد عن سايغون نحو عشرة أميال. يبدو المطار كمسرح حرب. الأميركيّون يسيطرون على كلّ شيء. إنّه الليل. أنزل من الطائرة التي أقلّتني من بانكوك، فيستقبلني ضابط أميركيّ دمث وأنيق. إنّه موفد خصّيصاً من أجلي، وأوّل ما سأنزل من الطائرة، سيقرأ عليّ حقوقي. فأنا بطريقة ما أسيرٌ صحافي لدى الجيش الأميركيّ. ولن يكون مسموحاً لي، ولا آمناً بأيّة حال، التحرّك خارج الإقليم الجنوبي لفيتنام. الشيوعيّون في الشمال، ولا خطوط تماسّ واضحة تفصلهم عنّا. لذلك لا ينبغي لي أن أجازف.
منذ شهرين، وأنا أقرأ عن فيتنام، عن انقساماتها السياسيّة، والمعارك التي خاضها الفرنسيّون في منتصف الخمسينيّات في «ديان بيان فو» التي مدّها رجال «هو شي منه» بالعتاد الثّقيل والذّخيرة، وقد نقلوها مستعملين الدرّاجات الهوائيّة، وفوق ظهورهم، وجرّوا المدافع سيراً على الأقدام، عبر غابات كثيفة، وجبال ووديان، لتنهي قرابة مئة عام من وجود فرنسا الكولونياليّ. لقد حدثت فظائع، ولم ينسّ الفيتناميّون كيف كان الفرنسيّون ينفّذون الإعدامات الجماعيّة، حيث تُقطَع الرؤوس، ثمّ تُصوَّر فوتوغرافيّاً، لتُطبع على بطاقات بريديّة تُرسل إلى حَبيبات الجنود في باريس، مذيَّلة بعبارات الحبّ الدّافئة كـ«قبلاتي من هانوي».
وعندما غادر الفرنسيّون فيتنام أخذوا معهم كلّ شيء، الآليّات العسكريّة والمصانع التي بنوها. حتّى أنّهم نبشوا قبور موتاهم، لينقلوهم معهم أيضاً إلى بلاد فولتير. لكنّ الأميركيّين لم يتعلّموا الدرس. لمسات آيزنهاور، وجون كينيدي الذي اغتيل قبل ثلاث سنوات، والرئيس الفيتناميّ «ديم» الذي بدوره قُتِل رمياً بالرصاص قبل كينيدي بثلاثة أسابيع، لا تزال حاضرة في فيتنام. فوق ذلك، أوفد الأميركيّون إلى صحف العالم يريدون مراسلين لتغطية ما بقي من «العمليّة الديمقراطيّة» التي تسابق العدّاء الشيوعيّ البطيء «هو شي منه» على امتداد فيتنام. لقد قرأت عن كلّ هذا، ورغم ذلك، ظلّ يساورني شعور من بيروت إلى بانكوك وأنا في طائرة الـ«بان أميركان»، بأنّ رحلتي هذه ستكون أشبه بنزهة، وكنت بالطبع مخطئاً.
الضابط الأميركيّ يقترب منّي حاملاً اسمي في لائحة. «أهلاً بك سيّدي معنا في فيتنام»، يقول بلهجة جدّيّة دون أن يتنازل عن ابتسامته. حسناً، هذا أكثر من كافٍ لأفهم خلفيّة هذه اللقطة التي أنا الآن جزء منها. طائرة تهبط في مطار عسكريّ على متنها مراسل «غريب»، وثمّة ضابط في استقباله. «في أيٍّ من هذه الفنادق تفضّل أن تكون إقامتك؟»، يسأل. أقرأ اللائحة وأختار من بينها الفندق الذي اسمه «إمباسي». إنّه ربّما حسّي بالنكتة أو حاجتي الملحّة لأن أطمئِن نفسي. ففيتنام هي أولى رحلاتي الصحافيّة بصفتي مراسلاً حربيّاً، وفاتحة مشاهداتي بين أفريقيا والخليج العربيّ وآسيا وأوروبّا. إنّها، لأيّ صحافيّ مبتدئ في هذا المجال، تمرين ثقيل. أن تطارد الحرب، ولاعبيها البارزين، وأن تعقد هدنة مع فكرة الموت الذي قد يختطفك عند أقرب شارع أو منعطف خلال مقابلة صحافيّة، أو حتّى وأنت في داخل هليكوبتر مفتوحة من الجانبين وتحلّق على ارتفاع آمن فوق الأدغال. لا صحافيّ يريد أن يصبح خبراً عاجلاً في فيتنام. لقد هزّتني رائحة الخراب الآتية من عمق الأراضي الفيتناميّة أوَّل ما هبطت الطائرة. أمّا هيئة الضابط الصّارمة، فتكفّلت بإحراق ما بقي من شعوري الساذج بأنّني سأحظى في فيتنام ببعض المرح. تماماً كما أضرم راهب بوذيّ قبل ثلاث سنوات النّار في جسمه، مولّداً شرارة الاضطرابات في سايغون، التي سأصلها الليلة.
لقد تسنّى لي أن أرى سايغون من الجوّ، بلمحة طويلة، خاطفة أيضاً. قبل أن نصل إلى «تان سانت سونغ»، حلّق القبطان فوقها على ارتفاع منخفض وبطيء. لقد بدت لي سايغون من فوق أشبه بمدينة مُنهكة، صبَّ أحدهم بإبريق ضخم، نهراً كئيباً بين بيوتها ومساحاتها الخضراء. مع ذلك، فقد كنتُ توّاقاً لأنزل بين هذه البيوت، أحتكّ بسكّانها، أتعرّف إلى شوارعها وأحيائها، وأحمل انطباعاً عميقاً قدر الإمكان عنها إلى الصحافة العربيّة. إنّه فضاء من ثقافاتٍ شتّى، رقعة تمزّقت بين الشيوعيّين، والقوميّين، والبوذيّين، والفرنسيّين والأميركيّين. أخذ القتال شكلاً محتدماً وشرساً في الأربعينيّات، ولم يهدأ منذ ذلك الوقت.
الشرارة البوذيّة
لكنّ الاضطرابات تأجّجت قبل ثلاث سنوات من وصولي. تحديداً، عندما تظاهر رجال دين بوذيّون احتجاجاً على قتل الجيش الفيتناميّ المدعوم من الولايات المتّحدة ثمانية رهبان في إحدى القرى. الرئيس «ديم»، الذي عيّنته إدارة جون كينيدي، لم يأبه لهم في ذلك الوقت. دعاهم إلى اجتماع، وخاطبهم بتعالٍ قائلاً: «اذهبوا وأصلحوا ديانتكم. لا يكفي أن يكون المرء حليق الرأس ومرتدياً مثل هذه العباءات الصفراء لكي نظنّ أنّه مواطن صالح». بعد ذلك قرّر أحد الرّهبان أن يجعل من جسده شعلة للاحتجاجات. أضرم النار في نفسه في الشارع. كان رجلاً نحيلاً. نزل من سيّارة وجلس بهدوء على الأرض، كما لو أنّه يصلّي، ثمّ قام أحدهم بصبِّ البنزين فوقه. المدهش أنّ كلّ جسده احترق وهو بوضعيّة الصّلاة، وعندما جمع رفاقه الرهبانُ رماده وجدوا أنّ النّار لم تمسس قلبه. قلبه لم يحترق، لم يتفحّم. حملوا القلب وأضرموا النّار فيه مرّتين، إلّا أنه لم يحترق. بقي طازجاً، كما لو أنّه مستخرج من جسده الحيّ للتوّ.
هذا ما قيل، وصُوِّر وأُذيع في نشرات الأخبار. إلّا أّن زوجة الرئيس سخرت من المسألة، واصفة ما حدث بأنّه سخيف. «ما الذي فعلوه غير أنّهم قاموا بشيِّ لحم أحد أصدقائهم حياًّ؟»، قالت. ثمّ في صيف عام 1963، أصبح البوذيّون العمود الفقري للاحتجاجات في سايغون ضدّ الحكومة، وانضمّ إليهم الطلّاب، ووجدت الولايات المتّحدة نفسها غير قادرة على الإمساك بزمام الأمور. تلا ذلك انقلاب عسكريّ، ووُجِد الرئيس وشقيقه مقتولين رمياً بالرّصاص.
كان عليّ أن أرتدي الزيَّ الموحَّد والخاصّ بالصحافيّين، الذي يشير إلى أنّني من البعثة الصحافيّة الأجنبيّة للولايات المتّحدة. وجدتُ اسمي مكتوباً عليه كما تُكتب أسماء الضبّاط ذوي الرّتَب. وقيل لي إنّ من غير المسموح أن أخلعه إلّا إذا كنت في اجتماع ليليّ. ما لم يقله الأميركيّون لنا نحن الصحافيّين، أنّ بزّة كهذه كانت ستسهّل كثيراً على الـ«الفيتكونغ» قتْلنا أو اختطافَنا لو خرجنا من منطقة النفوذ الأميركيّ. ومع ذلك لم تؤثّر فيَّ حماستي للتعرف إلى سايغون عن قرب.
أتذكّر أنّ السيّد بونيم، وهو مدير المركز الصحافيّ في سايغون، قال لي وهو يسلّمني البطاقة التي ستسمح لي بالتجوال وتمنحني صلاحيّات وتسهيلات صحافيّة: «فيتنام تعيش الآن أدقَّ أوقاتها دقة وأحرجها. بل هي اليوم أنشط من ذي قبل. إنّها تكافئك على الأرجح. فأنت أوّل صحافيّ من الشرق الأوسط كلّه يزور فيتنام». رميتُ نفسي في أوّل «بَدِي كاب» صادفتها، وهي وسيلة النّقل الأكثر انتشاراً والأسهل في ذلك الوقت: مجرّد عربة تجرُّها درّاجة هوائيّة، وتزدحم بها الشوارع والزواريب، وطفتُ في المدينة. لاحقاً تنقّلت بسيارة تاكسي، أو سيراً على القدمين. حاولت طوال الوقت أن ألتقط الإشارات الدالّة على وجود فرنسا في السابق، ولم يكن ذلك بمهمّة صعبة. فالشوارع العريضة، التقاطعات، أسماء الطرق، العمران فرنسيّ الطابع، الأبنية ذات السقوف العالية، والكتب والمجلّات التي تباع. كان أثر فرنسا حاضراً، جميلاً لكنّه قاسٍ، إذ يذكّر أيضاً بحقبة استعماريّة دمويّة تحتّم على الفيتناميّين أن يدفعوا ثمنها الآن.
لقد بدت لي سايغون كئيبة، لكنْ ساحرة، شرقيّة وأرستقراطيّة، عطرة ومهملة. ولم تكن قطّ «باريس الشرق الأقصى» التي أرادها الفرنسيّون امتداداً لحلمهم الكولونياليّ. كان يمكنك أن تلمح هذا في لهجة الناس، في صورة فرنسا المترسّبة حتّى في أحاديث سائقي التاكسي الذين كان صعباً التفاهم معهم، ما ذكّرني بسيّارات السرفيس في بيروت. ففي سايغون في ذلك الوقت، كنتَ بحاجة لأن تخلط ما تعرفه من الإنكليزيّة والفرنسيّة وربّما العربيّة، ولن تستغرب إذا كان جواب السائق مطعّماً بالفيتناميّة. كلّ ذلك المشهد مشوّش بمشاهد الجنود الأميركيّين والآليّات العسكريّة الأميركيّة عند كلّ منعطف وكلّ زاوية. إنّهم يراقبونك، يسلخون عن سايغون كلّ محاولة لأن تكون عابثة أو لامبالية، كما كانت باريس خلال الحرب العالميّة الثانية. لقد اعتاد الناسُ الحربَ، لدرجة أنّهم لم يعودوا يتحدّثون عنها.
أتذكّر أنّني دخلتُ مرّة أحد المقاهي، فتقدّم منّي رجل فيتناميّ، وكان شابّاً نسبيّاً، دمثاً ومهذّباً حدَّ الإحراج. اقترب منّي بلطف، وبادر إلى التّحدّث معي. كان سهلاً على النّاس أن يعرفوا هويّتي. فنحن الصحافيّين كنّا الغرباء الوحيدين في سايغون في ذلك الوقت. ذلك أنّ المدينة، على رغم نشاطها الظاهريّ، وصخبها، إلّا أنّك لم تكن لتجد فيها سائحاً واحداً. أمّا الأجانب المقيمون فيها، فكان جلّهم من الفرنسيّين الذين تزوّجوا سابقاً نساءً فيتناميّات. قال لي الرجل الدخيل إنّهم يعلِّمون الأطفال القراءة والكتابة في قرية استعيدت من الـ«فيتكونغ». تعليم الأطفال، هو نصف حياته، أمّا النصف الآخر فيذهب بعد انتهاء دوامه لحمل السلاح والقتال. «أنا لا أستطيع أن أمنح وطني أكثر من حياتي»، قال. عرفت منه أنّ كلّ فيتناميّ عمرُه ما بين الرابعة عشرة وما فوق يحارب في مكان من جنوب البلاد أو شمالها. أمّا الباقون فهم من الطلّاب، وحرفتهم السياسّية صناعة التظاهرات وحمل اللافتات. قال لي: «أرجو أن نراك بعد الحرب»، ثمّ خرج من المقهى.
سايغون التي تذكّر ببيروت
لا تترك لك سايغون فرصة لتشعر فيها بالأرق. لا مكان لذلك. لقد أزيلت كلّ الحدود الفاصلة بين الليل والنّهار وبين النّوم والأرق، والفكرة ونقيضها. هناك، كان عليّ أن أسابق الخوف أو أن أؤجّله كثيراً، وألّا أستغرق في التفكير بصورة وجوديّة. كان عليّ أن أتلقّى الواقع كما هو، وأن أفسِّره لاحقاً. وهذا ما حدث بالفعل، حيث إنّني لم أكتب أيّة كلمة لجريدة «الحياة» خلال وجودي في سايغون. كنت أدوّن الملاحظات، أمّا الكتابة فلم تأخذ شكلها النّهائيّ إلّا بعد عودتي إلى بيروت. كما لو أّنني كنت بحاجة إلى الخروج قليلاً من مشهد الحياة الكثيف والمتجاور والمتناقض. ففي سايغون، الجميع بانتظار الانفجار. إنّهم يتوقّعونه. مع ذلك، فإنّك لو نزلت إلى الشوارع، فستجدها ممتلئة بالباعة في أوقات المساء، الذين يفرشون أغراضهم، الثمينة وغير المجدية، جنباً إلى جنب، وستجد المقاهي ممتلئة، رغم أنّ الأرصفة لم تعد تشكِّل امتداداً لها بسبب التّهديدات.
هناك، في فندق «الكونتيننتال»، عرفت لأوّل مرة أنّ الليموناضة اسمها بالفرنسية citron pressé. وهي مع البيرة القاسم المشترك بين الصحافيّين والزبائن. فوضى تذكِّر ببيروت. مدن تعلن مفاتيحها الكبيرة باستعراض مظاهر حياتيّة متمرّدة على ظرفها السياسيّ. إنّها مسألة وقت، وعليّ الإفادة من هذه الفترة التحضيريّة للحرب قدر الإمكان. لقد كان كلّ شيء يمضي في تسارع. وبعد وصولي بفترة، خرجت أولى التظاهرات المندّدة بحكم الجنرالات الذين كانوا قد خلعوا إمبراطور فيتنام عن عرشه وقتلوا الرئيس وتولّوا الحكم. كانت التظاهرة تندّد أيضاً بالوجود الأميركيّ في فيتنام، وهذه سابقة لم تحدث من قبل. كان ثمّة مؤشّر على أنّني أسير على حافّة بركان، إذ كان عليّ إجراء المقابلات التي أحتاج إليها بسرعة. اهتممت بثلاث شخصيّات كانت قد لعبت في ذلك الوقت دوراً مهمّاً في الأزمة، وكانت تشكّل الأقطاب الثلاثة المؤثّرة في إقليم فيتنام الجنوبي. الجنرال كاو كي، رئيس وزراء فيتنام الجنوبيّة الشاب الجذّاب، والراهب البوذيّ «تري كونغ» فارس البوذيّين الأوّل كما سمّيته، والطبيب «تران فان دون» وزير خارجيّة فيتنام الجنوبيّة، الخبير بأصول لعبة الحرب الفيتناميّة. لكنّ الوصول إليهم لم يكن سهلاً.
غداة اليوم التالي، كما أذكر، سافرتُ إلى دانانغ في الشمال، ومنها إلى هيووِي، العاصمة الإمبراطوريّة القديمة والمركز الثقافيّ والروحيّ لكلّ فيتنام، ووقفتُ على مشارف المنطقة المجرّدة من السلاح بالقرب من خطّ العرض ١٧ الذي يفصل بين الفيتنامَين. وفي هيووي سمعت للمرّة الأولى باسم «خي سانه»، قبل بدء القتال في المنطقة المجرّدة، وقبل أن يحتلّ الفيتكونغ والفيتناميّون الشماليّون «خي سانه» القرية، ويتركوا للأميركيّين «خي سانه» المعقل، كآخر «خطّ ماجينو» في الحروب الحديثة، بل قبل أن تتوارد في الخواطر المقارنة بين «ديان بيان فو» و«خي سانه». وهذه أرض تقع في وادٍ تكسوه أحراج كثيفة على بعد ١١ كيلومتراً من لاوس، تحيط بها تلال عالية وجد الأميركيّون أنّ من الأسهل لهم إطلاق أرقام عليها بدلاً من إطلاق الأسماء. وهناك خمسة آلاف أميركيّ اليوم يلعبون لعبة خطرة يسمّونها «الانتظار الكبير» في تلك الأرض ذات التراب الأحمر الذي كان لها منذ سنتين، على الأقلّ، وجعلت منها «الإضافات الأميركيّة» شيئاً شبيهاً بمدينة «كاو بوي» في الغرب الأقصى الأميركيّ، كما نراها في السينما.
لكنّ «خي سانه» ١٩٦٦، بعد أكثر من أسبوعين مضيا على أكبر وأعنف هجوم قام به الفيتكونغ في كلّ أنحاء فيتنام الجنوبيّة منذ اشتعال الحرب الفيتناميّة الثانية، كان لا بدّ لها من أن تصبح شيئاً آخر. فمعظم القوّات الأميركيّة المدافعة كانت من «المارينز»، مشاة البحريّة، وكانت مطوّقة «بجدار انتحاريّ» من قوّات فيتنام الجنوبيّة، وفي مؤخّرتها فرقة من القوّات الخاصّة المعروفة بـ«البيريات الخضر»، وهي معدّة خصّيصاً ومدرّبة على حرب العصابات، وكان الرّئيس الرّاحل كينيدي قد أمر بتنظيمها عام ١٩٦١ إثر فشل غزو «خليج الخنازير» في كوبا. إنّها خليط من تقاليد «الفرقة الأجنبيّة» في الجيش الفرنسيّ و«الغوركا» في الجيش البريطانيّ. إلّا أّن أغلب أفرادها كانوا من المتطوّعين الأميركيّين.
«المونتانيار»
أمّا القوّات الفيتناميّة الجنوبيّة في «خي سانه»، فكانت بقيادة ضبّاط من «البيريات الخضر» وكانت تتألّف من قبائل «المونتانيار» التي تُعَدّ من أكبر الأقلّيّات في فيتنام. وأفراد هذه القبائل من الجبليّين، يعيشون حياة بدائيّة في قرى صغيرة تعيل نفسها بنفسها من الأرض التي حولها، أشدّاء، سمر البشرة على عكس الفيتناميّين البيض، شبيهون إلى حدٍّ ما بالهنود الحمر، عراة دائماً. ومن قبائل «المونتانيار» انطلقت شرارة العصيان الأولى ضدّ الفرنسيّين منذ عودتهم إلى فيتنام بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية. ومن «المونتانيار» شكّل الجنرال جياب كشافة «الفيت منه» لحربه ضدّ الفرنسيّين، وذلك لخبرتهم بالجبال والغابات ومسالكها. ومن «المونتانيار» شكّل الفيتناميّون الجنوبيّون أشدَّ فرق جيشهم بأساً. وكانوا يحاربون بالرماح والأقواس السامّة، ويعوزهم الانضباط في استعمال السلاح الحديث. والسؤال العسكريّ الذي كان مطروحاً في «خي سانه»: إلى متى يستطيعون الصمود في لعبة «الانتظار الطويل؟»، إنّهم مشكلة اجتماعيّة وسياسيّة قديمة في فيتنام قائمة منذ عشرات السنين، فعِرقهم غير عرق الفيتناميّين، لهم لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم، وهم وثنيّون لم تصلهم البوذيّة ولا المسيحيّة، يحتقرون الفيتناميّين والعكس صحيح. وزادت فرنسا، خلال عملها الطويل في الهند الصينيّة، من هذه المشكلة وغذّتها بأسلوبها الاستعماريّ التقليديّ، عنصرياًّ وإقليميّاً، فحكمتهم حُكماً خاصّاً، على نحوٍ يختلف عن حكمها لسائر البلاد، وشجّعت دعوتهم إلى الاستقلال الذاتيّ عن فيتنام.
لكنّ «المونتانيار» كانوا أوّل من أطلق الشرارة الأولى في العصيان على فرنسا عام ١٩٤٧، فانضمّوا، أو ضمّهم هو شي منه، إلى حركة «الفيت منه»، وكانوا عمادها حتّى هزيمة الفرنسيّين. ومع انقسام فيتنام جنوبيّة وشماليّة عام ١٩٥٤، خرج «المونتانيار» عن طاعة «هو شي منه» لأسباب ثلاثة: أوّلاً، عدم عقائديّتهم وتماسكهم القَبًلي ولا فيتناميّتهم. ثانياً، محاولة جعلهم «شيوعيّين»، قسراً من قبل الفيتناميّين الشماليّين، وتمرّدهم على المحاولة، باعتبار أنّ هزيمة فرنسا العدوّ، هي نهاية المطاف بالنسبة إليهم. ثالثاً، لوقوع بلادهم بلاد «المونتانيار» في المرتفعات الوسطى من فيتنام الجنوبيّة، بالقرب من مدينة «بليكو» وحدود كمبوديا الغربيّة، وعودة أكثرهم إلى قراهم على أثر جلاء الفرنسيّين وانتهاء الحرب الفيتناميّة الأولى.
وكانت الحياة تبدأ في «خي سانه» في العاشرة صباحاً عندما ينحسر الضباب وتصل الطائرة الأولى من طراز «سي ١٣٠» من دانانغ إلى مطار المعقل الصغير، فنهبط على المدرج القصير وتلقي بحمولتها من المؤن والعتاد وتحمل ركّاباً جدداً. ومن غير أن تقف تدور وتقلع نحو دانانغ، على بعد نصف ساعة طيراناً، وغالباً ما كانت تحطّ وعليها سلسلة ثقوب من الرّصاص في أجنحتها أو مؤخّرتها. وقبل ساعة من الغروب تهبط الطائرة الأخرى، بعد أن تكون آخر طائرات الاستكشاف والهليكوبتر الحربيّة والإسعاف قد أقلعت. حتى إذا ما حلّ الليل لا تبقى أيّة طائرة، ولا يبقى في «خي سانه»، إلى غداة اليوم التّالي، أيّ اتّصال بالعالم إلّا بالراديو. ثمّ إنّ «خي سانه» لا يتحرّك فيها شيء، سوى تلك الطائرات وبضعة رجال، ولا تسمع منها إلّا أصوات الشتائم ضدّ العدوّ والحرب والطقس. أمّا عبر المتاريس الأماميّة، فصمت جاثم، هو الموت الذي هو وحده الحدود الطبيعيّة...
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.