من السجن إلى تأسيس الحزب الديموقراطي الثوري
خرجنا من السجن واستقبلَنا الزّملاء والأصدقاء، وبعد ثلاثة أيّام غادرنا إلى القرية لزيارة الوالدة والأصدقاء. وقد استقبلنا أهالي القرية بالزّغاريد والرّماية، وكنّا أنا وابن عمّي ناجي عمر الذي كان معي في السجن، وهو الوحيد من القرية، وزملاء آخرين. ومنذ وصولنا إلى القرية راح كلّ النّاس والكثير من الأهل يقولون «صارت أعماركم كبيرة بعد ٢٧ سنة، وزملاؤكم صار لهم أولاد وأنتم لازم تتزوجوا». وبالفعل كنّا نفكّر بوجوب الزواج مهما كلّف الأمر، وبادر بعض الزّملاء والأصدقاء وجمعوا مبلغ ٦٠٠ ريال، والبعض «جاب الملابس حقّ العروسة». وهكذا في أوّل عام ١٩٧٢ «تزوّجت على زوجتي غانية»، ولم أكن أعرفها من قبل، إلّا أنّ أمّي وعمّتي هما اللتان اختارتاها لي وقد تمكّنت من التّعرف إليها قبل الزواج بأسبوعين فقط. وعندما رأيتها وجدتها صغيرة وقلت لأمّي وعمّتي بأنّها جميلة لكنّها تصغرني بأكثر من ١١ أو ١٢ سنة. فقالتا لي: «من الأفضل أن تتزوّجها لأنّها من عائلة محترمة وهي جميلة، وأحسن لك أن تتزوّجها وهي صغيرة مِن أن تتزوّجها وهي كبيرة حتى تربيّها أنت».
وهكذا تزوّجت، وكانت مناسبة الزواج جميلة جداً بالنسبة لي. كان هناك احتفالات يحضرها النساء والرجال، وكانوا يومها «يعيشون مع بعض، ما كان في حجاب ولا شيء مثل هذه الأيام: احتفالات غنائيّة وطرب وطبول ومزمار ومظاهر الفرح كانت جميلة جداً». ولكن بعد أسبوع أو أسبوعين من العرس بدأت الأمور السياسيّة والامنيّة تضطرب، وبدأت المقاومة الشعبيّة في المناطق الوسطى تعمل ضدّ كبار المشايخ الموالين للحكومة وضدّ مسؤولي الحكومة في المنطقة. لم نكد ننتهي من شهر العسل حتى بدأت الاضطرابات في البلاد. كانت المقاومة الشعبية تحتجّ على الحكومة في صنعاء لأنّها صارت مع السعوديّة، وكان يرأس الحكومة القاضي عبد الله الحجري. وكان اليسار كلّه ضدّ الحكومة مع المقاومة، وبعدما بدأت الاضطرابات جاءت الحكومة بالقاضي عبد الله الحجري، وحصل التفاهم مع السعوديّة، وتمّ عقد الصّلح مع الملكيّين عام ١٩٧٠. «احتجّينا على الصّلح عام ١٩٧٠ - ١٩٧١ إحنا كلّنا، المقاومة واليسار كلّه، كنّا ضدّ الصلح». اعتُقلنا ولمّا خرجنا من السجن أرسلوا حملة عسكرية كبيرة إلى المناطق الوسطى حيث كنت أقضي إجازتي عندما تزوّجت كما سبق أن أشرت. وكانت الحملة العسكريّة كبيرة بقيادة العميد محمد الأرياني القائد العامّ للجيش، وإبراهيم محمد الحمدي (الرئيس الحمدي لاحقا)، فيها دبابات ومدفعيّة، والهدف تصفية المقاومة الشعبيّة التي قامت كردّة فعل على أحداث آب / أغسطس ١٩٦٨. وراحوا يطاردون كلّ من ينتمي إلى الأحزاب اليساريّة ويتّهمونه بالعمالة لحكومة عدن لأنّ الخلاف كان قد استفحل بين حكومة صنعاء وعدن.
فرار خلال شهر العسل
ولمّا علمتُ أنّهم يبحثون عنّي في القرية هربت إلى صنعاء، حيث قابلت جنديّاً، لم أعد أذكر اسمه، يعمل في حراسة رئيس الوزراء القاضي عبد الله الحجري. وأخبرني الجندي أنّ هناك أمراً من رئيس الوزراء بالقبض عليّ وإيداعي السجن، فاتّصلتُ بقيادة الحزب أسألهم ماذا أعمل. فطلبوا منّي التّوجّه إلى محافظة إب والاختفاء في مدينة جبلة التي تقع بالقرب من مدينة إب، وقد وفّروا لي مكان الاختباء. وجبلة هي مدينة الأخ يحيى منصور أبو إصبع (من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني).
في تلك الأثناء صرت مدنياً ولم تعد لي علاقة بالشرطة حيث تمّ فصلي مع كلّ زملائي الذين كانوا معي في السجن. قضيت الوقت متخفّياً عند الرّفاق أتنقّل بشكل سرّيّ متنكّراً بمساعدة أعضاء الحزب. فمكثت في مدينة جبلة في منزل مدرّسٍ لم أعد أذكر اسمه لمدّة شهرين، وفّر لي الأكل والمؤن خلالها، وشهراً عند شخص آخر، وأسبوعاً هنا وأسبوعاً هناك. وفي نهاية عام ١٩٧٢ طلبتني قيادة الحزب في صنعاء للتشاور.
وكانت الحرب قد اندلعت بين الشمال والجنوب إثر حادثة بيحان التي قُتل فيها مجموعة من المشايخ على رأسهم الشيخ ناجي الغادر. أرسلتْني قيادة الحزب إلى عدن لكي أبلّغ قيادة الدولة والجبهة القوميّة بأنّ الوضع سيّئ وانّ احتمال الحرب قائم. حملتُ رسالة إلى قيادة الدولة في الجنوب نشرح فيها لهم الأوضاع هنا ونطلب رأيهم في ما نحن فيه. سلَكت سرّاً طريق جبال الحجرية في محافظة تعزّ. في عدن، قابلت رئيس الدولة سالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل وكنت على معرفة بهما من قبل حيث كان سالم ربيع في صنعاء عندما دخلنا السجن وهرب. وقابلت علي ناصر محمد، وكان وزيراً للدفاع، وشرحت لهم الأوضاع في الشمال وقلت لهم إنّ احتمال الحرب قائم. وفاجأني سالم ربيع عندما رد عليّ بأنّ الحرب الآن أفضل من بعد ذلك: «نريدهم يقومون بالحرب الآن». أدهشني أنّه كان يرحّب بالحرب ولم يكن خائفاً، مع أنّ الشمال كان أقوى.
وأثناء حديثي عن استراتيجيّة الشّمال ارتكبت خطأً ما زلت أتذكّره حتّى الآن، وكان هناك بعض الضبّاط المتخصّصين بالطوبوغرافيا يعرفون ذلك، قلت لهم إنّ قوّات الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة في تعزّ سوف تركّب مدفعيّة، وقالوا «إيش الهدف من هذا فهي منطقة فارغة وما فيها معسكرات؟»، فأشرت لهم إلى قلعة المقاطرة المطلّة على مديرية طور الباحة، فضحكوا من كلامي حول تركيب المدفعيّة في قلعة المقاطرة «من شان يضربوا مصفاة النفط في عدن». وقالوا إنّه لا يوجد أيّ سلاح مدفعيّة، حتى الآن، يستطيع أن يصل من قلعة المقاطرة إلى عدن إلّا الصواريخ، وحكومة صنعاء لا تمتلك هذه الصواريخ، والمسافة بين قلعة المقاطرة وعدن تقدّر بأكثر من ١٨٠ إلى ٢٠٠ كلم والمدى الأقصى لسلاح المدفعيّة لدى الشّمال هو ١٥ إلى ٢٠ كلم وهو لا يصل إلى أقرب منطقة عند حدود الجنوب. وهنا أحسست بالإحراج لجهلي بأنواع الأسلحة كما بالطوبوغرافيا ولانعدام موثوقية مصادر معلوماتي في هذه الشؤون. وكان هذا واضحاً أمام هيئة أركان الدولة وقيادة الجيش الحاضرين، لكنّهم تجاوزوا هذه الغلطة منتقلين إلى حديث آخر.
وبعد فترة وجيزة، أي بضعة أسابيع، شنّ الهاربون من الجنوب إلى الشمال هجوماً على الجنوب عن طريق قعطبة الضالع، ونشبت الحرب بين الجنوب والشمال، وكانت بدعم من السعوديّة ومساندة جيش الجمهورية اليمنيّة العربية، وتمكّن المهاجمون من احتلال عشر قرى من مديرية الضالع. كان جيش الجنوب ضعيفاً لكنّه جيش ثورة، وكانت معنويّاته أعلى، وكانوا قد حصلوا على صواريخ الكاتيوشا ذات المدى القصير، ١٤ كلم، أوّل مدفع كاتيوشا يأتي إلى عدن، وكان غير معروف في تلك الأيّام بنسخته الجديدة.
أرعب الكاتيوشا الجديد المتقدّمين بصوته الجديد ودويّه المزلزل، وانسحب المهاجمون، وتمكّن الجيش الجنوبيّ بقيادة علي عنتر وآخرين من أن يحتلّوا مدينة قعطبة. وانتقلتُ أنا من عدن إلى الضّالع لكي أشاهد المعركة. هُزم الجيش «حقّ الشمال». وكان من أسباب هزيمته أنّه كان لايزال لليسار قياديون في الجيش وفي سلاح طيران الشّمال، ولم يكونوا يضربون الأهداف بدقّة كي لا يصيبوها وكان الجيش «حق الشمال» لا يزال جيش الثورة، «ثورة ٢٦ سبتمبر».
حرب ونظرتان للوحدة
انتهت الحرب بانتصار الجنوب انتصاراً جزئيّاً. وعملت بعض الدول العربيّة على جمع الشّمال بالجنوب في مفاوضات في القاهرة وطرابلس في ليبيا ومصر، وتوصّلوا إلى اتّفاق هدنة إثر مفاوضات متشعّبة، واتّفقوا على إقامة الوحدة مستقبلاً، وكان الجنوب أكثر إلحاحاً في طرح قضيّة الوحدة اليمنيّة وكان يعتبر النّظام في صنعاء نظاماً رجعيّاً، وكانت كلّ القوى والأحزاب السياسيّة في الشّمـــال مؤيّدة للجنوب لأنّ الأحزاب القوميّة قامت على أساس الفكر الوحدويّ. ثمّ إنّ كثيرين من الشماليّين كانوا موجودين في عدن وكثيرين من الجنوبيّين موجودون في صنعاء. وكان كلّ طرف يعتبر أنّ شعار الوحدة يمسّه لأنّ الشّعب اليمنيّ كلّه كان يؤيّد الوحدة، فالّذي كان يرفع شعار الوحدة يحصل على تأييد كبير.
في هذه الأثناء كتب بعض قدامى ضبّاط الثّورة رسالة إلى القاضي عبد الرحمن الأرياني ورئيس الحكومة محسن العيني، احتجّوا فيها على الحرب بين الشطرين، ومن ضمنهم وزير الداخليّة أحمد الرّحوي الذي كان متعاطفاً معنا. وكانت هذه الرسالة عنصر دعم وتأييد للجنوب فيما أضرّت بسمعة الشّمال. طبعاً اتفاق القاهرة وبيان طرابلس بين الشمال والجنوب كان عبارة عن هدنة مؤقّتة «مش» بيان جدّيّ. حالة إيقاف حرب مسلّحة لم يسيطر فيها أحد على الآخر. كانت عبارة عن اتّفاق سياسيّ لكنّ الصّراع ظلّ بين الطرفين. الشّمال يعتقد أنّ الجنوب متمرّد و«لازم» يُضَمّ إلى الشمال ويجب تحقيق الوحدة بالقوّة. والجنوب بقيادة الجبهة القوميّة، التنظيم السياسي، وباقي الأحزاب في صنعاء يعتقدون بوجوب إسقاط النّظام في صنعاء لأنّه نظام رجعيّ مُوالٍ للسعوديّة، وتوحيد اليمن تحت قيادة الأحزاب القوميّة والماركسيّة وبالذّات التنظيم السياسيّ والحزب الديموقراطيّ الثوريّ المؤيّد له هنا في صنعاء وكلّ الشخصيّات اليساريّة والتقدّميّة الموجودة في الشّمال.
وهنا بدأ الشطران نوعاً جديداً من الحرب، حرباً دعائيّة وإعلاميّة واقتصاديّة، وإغلاق حدود وتأييداً لحرب العصابات التي يشنّها كل شطرٍ ضد الآخر. وكان لدى الشّمال قوّة كبيرة من الهاربين من الجنوب قدّم لهم الدعم ودفع بهم للقيام بحرب عصابات ضدّ الجنوب بواسطة عناصر «جبهة التحرير» والذين انشقّوا عن الجبهة القوميّة. ومعروف أنّ الجبهة القوميّة انقسمت إلى يمين ويسار، وهرب كوادرها إلى الشّمال، وكانت تدعمهم السعوديّة والأردن والعراق أحياناً.
نحو حرب عصابات في الشّمال
وبدأ الجنوب يفكّر بشنّ حرب عصابات تنفّذها المعارضة في الشّمال ضدّ النّظام في صنعاء. قابلتُ بعض القياديّين في الدولة في الجنوب، وأخبرتهم بعزمي على التّوجّه إلى صنعاء، فحمّلوني رسالة إلى قيادة الحزب في صنعاء يطلبون فيها من أعضاء الحزب وأنصاره وأعضاء أحزاب اليسار في صنعاء أن يدافعوا عن النّظام في الجنوب ويُنشئوا وحدات عسكريّة تقاتل الحكومة في صنعاء، وأنّهم مستعدّون لدعمهم. نقلتُ هذه الرّسالة إلى صنعاء، وكان شعوري أنّي رجعت متأثّراً وقلت «لازم نعمل شي» وهمْ كانوا مستعدّين للدّعم، وكان في بالي تجربة كوبا وأفريقيا وفيتنام وغيرها. كنّا نعتقد أنّنا ندافع عن النّظام في عدن ونسقط النّظام في صنعاء بتطويقه من القرى والأرياف. وناقشت قيادة الحزب الموضوع وانقسمت إلى قسمين يمين ويسار، قسم يؤيّد حرب العصابات وقسم يعارض هذه الحرب ويقول «مفيش إمكانيّة لأنّ الحزب ضعيف ومجتمع متخلّف وقبائل، وما في إمكانيّة لحرب عصابات في الشمال». وكان على رأس هذا القسم السياسيّون: عبد الحافظ قائد والسياسيّ الكبير عبد القادر سعيد، رحِمه الله. كنّا نعتبرهم من «اليمين»، لكنّهم كانوا أنضج منّا وكانوا يفكّرون بشكل صحيح. وإلى جانب هؤلاء كان يحيى عبد الرحمن الأرياني وأحمد زيد وكثير من أعضاء اللجنة المركزيّة، وكانوا يرون أنّ من الأفضل الاستمرار في العمل السياسي السلميّ. وكان هناك قسم آخر بزعامة سلطان أحمد عمر ومالك الأرياني وعلي مهدان الشنواح وآخرون، يؤيّدهم صغار الضبّاط ونحن الذين خرجنا من السجن، المطارَدون المختبئون من السلطة، لذلك كنّا نريد الحرب. وكنت أنا مع المؤيّدين للجناح اليساريّ.
استمرّ الخلاف داخل القيادة والجنوب، ومورس ضغط كبير على الحزب ليشنّ حرب عصابات يشارك فيها ضبّاط كثر هاربون من الجيش. وعندما لاحظتْ قيادة الدّولة في عدن أنّ الحزب الديموقراطيّ في صنعاء لم يستطع حسم الموقف وهو منقسم على نفسه، عملت هذه القيادة على إنشاء منظّمة لها في الشمال سمّتها «منظّمة المقاومين الثوريّين اليمنيّين» واستقطبت إليها بعض أعضاء الحزب الديموقراطيّ الذين توجّهوا إلى عدن وتسلّحوا وتدرّبوا على أساس أنّ الحزب متردّد. في عام ١٩٧٣ كنت أنا أتنقّل بين الشمال والجنوب بصورة سرّيّة، وفي العام نفسه زاد الانقسام في الحزب الديموقراطيّ في صنعاء، وازداد ضغط الدّولة في الجنوب.
وبرز في الأثناء جناح يساريّ في الحزب يرأسه سلطان أحمد عمر الّذي كان في قيادة حركة القوميّين العرب، ومن مؤسّسي الحركة في اليمن. انتقل من عدن إلى بيروت، ثمّ عاد إلى عدن وبدأ يتزعّم الصفّ اليساريّ وكنت أنا من مؤيّديه. وعقدنا دورة اللجنة المركزيّة للحزب في الشّمال ولم نتّفق. ثمّ عقدنا مؤتمراً للجناح اليساريّ في عدن عام ١٩٧٣ وانتخبنا قيادة جديدة أقصينا عنها كلّ التّيّار المعتدل، الذي كان من أبرز قادته عبد القادر سعيد هادي وعبد الحافظ قائد الذي انتخب عضواً مرشّحاً في اللجنة المركزيّة، وكان ذات يوم الشّخص الأوّل أو الثّاني في حركة القوميّين العرب. وكان هذا الاستبعاد على أساس أنّهما يمثّلان الجناح اليمينيّ الّذي كان يرفض الانخراط في المعركة المسلّحة، ولكنّني أقول للتّاريخ، إنّ عبد القادر سعيد هادي كان الرّجُل الأكثر نضجاً والأكثر تطوّراً منّا جميعاً.
اُنتخب سلطان أحمد عمر أميناً عامّاً للحزب، وجار الله عمر وعبد الوارث عبد الكريم وأحمد الحربي أعضاء في المكتب السياسيّ، كما انتُخب عبد الحميد خيبر أميناً عامّاً مساعداً، وأعلنّا تأييدنا للكفاح المسلّح. لكنّ الحزب لم يمارس الكفاح المسلّح باسمه لأنّه كان لديه عناصر مدنيّون في صنعاء وغيرها، حيث تمّ تشكيل منظّمة تحت اسم «منظّمة جيش الشعب» الّتي شاركت في الكفاح المسلّح إلى جانب «منظّمة المقاومين الثوريّين في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة»، فاضطرّ الإخوة في عدن إلى الاعتراف بـ«منظّمة جيش الشّعب»، إلّا أنّ الأفضليّة لديهم كانت لـ«منظّمة المقاومين الثوريّين» لأنّها هي الّتي بادرت، لكنّهم دعموا «منظّمة جيش الشعب» بالسّلاح والمال. وبدأ جيش الشّعب يدرّب النّاس على الأسلحة في مناطق الشّمال. في تلك الأثناء بقيت أنا في عدن وزوجتي في القرية، «كهال»، وجاء أعوان السّلطة إلى قريتنا وهدموا منزلي وكثيراً من منازل الهاربين في عدن، وطلبوا من زوجات الهاربين في عدن فسخ عقود زواجهنّ من أزواجهنّ الهاربين في عدن باعتبارهم ملحدين، واعتقلوا العديد من آباء الهاربين وأقاربهم.
وإذا ما نظر المرء في قضيّة الكفاح المسلّح في ذلك الوقت والفلسفة الّتي كانت ترتكز عليها فإنّه سوف يجد أنّ هناك تأثيراً للأفكار الجيفاريّة والماوية، التي تقول بإمكانيّة محاصرة المدن من الأرياف أو الاستيلاء على السّلطة عن طريق الكفاح المسلّح، وقد كانت الحملات العسكرّية ترسل من صنعاء إلى المناطق المختلفة فتدمّر المنازل وتعتقل المواطنين رجالاً ونساءً، وتقدّم كلّ من تشتبه في ممارسته الكفاح المسلّح او تأييده، ولم تكن هناك إمكانيّة بعد ذلك لأيّ موقف وسط.
وإذا ما نظرنا اليوم إلى الأمر من الزّاوية السياسيّة فقد كان الدّفاع عن النّظام في الجنوب مبرّراً في ظلّ الهجوم الذي كان قائماً عليه من معارضيه لمحاولة إسقاطه، ولكن من وجهة نظر موازين القوى وإمكانيّة الاستيلاء على السلطة عن طريق الكفاح المسلّح، لم يكن الخطّ السياسيّ المتّبَع صائباً.
أمّا من النّاحية الأخلاقيّة، فلا شيء يمكن النّدم عليه. لماذا؟ لأنّ الطّرف الذي كان حاكماً في صنعاء كان ممسكاً بالسّلطة بالقوّة، وقد صفّى معارضيه في أحداث آب / أغسطس بوحشيّة وارتكب المجازر ونصب المشانق في صنعاء وغيرها. إذاً، من وجهة نظر العمل السياسيّ لم يكن هناك إمكانيّة لنجاح ذلك التكتيك لأنّ موازين القوى الداخليّة كانت مختلّة، ولم يكن النّظام في عدن قادراً على تقديم الدّعم الكامل للمقاومة، كما أنّ حلفاءنا في الخارج كانوا يعارضون تلك السياسة ولا سيّما الاتّحاد السّوفييتيّ، الّذي كان يضغط على الجنوب للقبول بسياسة التّعايش بين النّظامين في اليمن، وعدم تدخّل أيٍّ منهما في شؤون الطّرف الآخر على أساس أنّ هناك دولتين ومعسكرين دوليّين.
خطّان في عدن حول الكفاح المسلّح
أمّا موقف القيادة في عدن من قضيّة الكفاح في تلك الأثناء فقد كان هناك خطّان أيضاً، الأوّل بزعامة المرحوم الرّئيس سالم ربيع علي ويقف إلى جانبه علي عنتر وصالح مصلح قاسم وعلي شائع هادي يؤيّد خيار النّضال المسلّح، وكان هذا الخطّ يرى وجود إمكانيّةً لإسقاط النّظام في الشّمال وتحقيق الوحدة اليمنيّة بالقوّة.
وكان هناك خطٌّ آخر في الحزب بقيادة عبد الفتّاح إسماعيل وعلي ناصر محمد وعدد من القيادات المدنيّة والسياسيّة يرى أنّ ذلك مغامرة وأحلام ثوريّة لا أساس واقعيّاً لتطبيقها على الأرض، وكان يستحسن رأي كثير من أنصار النّظام، وخصوصاً الأحزاب الشيوعيّة العالميّة والاشتراكيّة في العالم العربيّ، التي ترفض الكفاح المسلّح، وقد استمرّ هذان الرّأيان حتّى جاءت حرب العام ١٩٧٩.
ويومها كانت زوجتي مريضة، فعولجت في تعزّ عند خالها وعادت إلى القرية. وأرسلت الحكومة قوّاتٍ من الجيش احتلّت قرىً وضربت أخرى، واعتقلوا العديد من أقارب الهاربين في عدن وضغطوا على والد زوجتي ليفسخ عقد زواجي من ابنته! لكنّها رفضت رفضاً باتّاً. وعلى الرغم من أنّ ظروفنا في عدن كانت صعبة، حيث كنّا نعمل لتحصيل قوتنا وحسب، و«لم يكن معانا فلوس لإرسالها لها» فقد رفضت الطلاق وقالت «لا يمكن أن أقبل فسخ عقد زواجي» وظلت في القرية ولم تستطع الوصول إلى عدن، وأنا بدوري لم أستطع الوصول إلى القرية. واستمرّ الصّراع بين مقاتلي جيش الشّعب وقوّات السّلطة في كرّ وفرّ، وتقدّم وتراجع من الجانبين.
وفي ذلك الوقت استولى إبراهيم محمّد الحمدي على السّلطة بانقلاب أبيض في ١٣ حزيران / يونيو عام ١٩٧٤ وغادر القاضي الأرياني السّلطة. وكان الحمدي جزءاً من تركيبة النّظام في صنعاء، وهو كان «معانا» قبلها عضواً في حركة القوميّين العرب، لكن بعد أحداث آب / أغسطس ١٩٦٨ «إحنا دخلنا السجن وهو بقي في الدولة، واستطاع أن يشتغل حتى وصل إلى قمّة السّلطة».
وبعد وصول الحمدي إلى السّلطة في صنعاء غيّر اتجاهه السياسيّ وبدأ يعمل ضدّ القوى التقليديّة، وراح يُصدر قوانين ويسنّ تشريعات جديدة. ثمّ حاول أن يعمل دولة نظام وقانون، ومنَع الحملات العسكريّة على المناطق، وأقام علاقات سرّيّة مع النّظام في عدن فيما كان يتواصل مع المعارضة في الشّمال من المقاومة الشّعبيّة والحزب الديموقراطيّ الثّوري. وتمّ إرسال الأخ عبد الحميد خيبر إلى صنعاء لمقابلة الحمدي سرّاً، ثمّ أخذت السّياسات تتقارب فيما كان هناك وسطاء عديدون للبحث عن حلول للمشاكل الّتي كانت دائرة في تلك المناطق. وعاد الكثير من الذين خاضوا الكفاح المسلّح إلى مناطقهم، وبدأ السّلام يشمل مناطق الصّراع في المناطق الوسطى لتخبو جذوة الصّراع. خفّفنا الكفاح المسلّح لكنّ الحمدي، على الرغم من تحسّن العلاقة مع الجنوب في أيّامه الأخيرة، لم يستطع أن يحوّل ذلك إلى سياسة علنيّة بالسّرعة اللازمة، حيث كانت هناك تداخلات في الأوضاع القائمة في صنعاء، خصوصاً أنّ تأثير السّعودية وبعض دول الخليج كان لا يزال كبيراً وفاعلاً في تحويل مجرى الصراع، فصار الحمدي يختلف مع السعوديّة ومع القوى التقليديّة وجماعة المشايخ الّتي كنّا نعتبرها قوى رجعيّة، كما كان الحمدي يخشى من بعض القوى الموجودة في الجيش والأمن: خصوصاً أنّ محمّد خميس كان لا يزال مهيمناً على الأمن إلى درجة كان الرئيس إبراهيم الحمدي يستقبل المقاومين سرّاً.
الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة
وفي عام ١٩٧٦ شكّلنا الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة حيث تكوّنت من المنظّمات والأحزاب الآتية: الحزب الديمقراطيّ الثّوريّ اليمنيّ منظّمة المقاومين الثّوريّين اليمنيّين وحزب يساريّ اسمه حزب العمل، وحزب البعث الموالي للعراق، كما انضمّ إلى الجبهة الضبّاط الأحرار الّذين قاموا بالثّورة إنّما سرّاً، وكان من ضمنهم وزير الداخليّة محمّد الرحومي، وسفير اليمن الحالي إلى دمشق صالح الأشول. وانطلقت الجبهة الوطنيّة في العمل السياسيّ فيما مقرّها الرئيسيّ في عدن، وكان الهدف هو إسقاط النّظام في صنعاء، وتحقيق الوحدة اليمنيّة. وكان البعثيّون غير مرتاحين إلى الحمدي، لكنّنا هدّأنا الكفاح المسلّح وبدأنا بعمل سياسي. غير أنّ مشكلة جديدة طرأت متمثّلة في خلاف نشب داخل التّنظيم السياسيّ الموحّد للجبهة القوميّة في الجنوب ما بين سالمين الّذي كان يميل إلى الخطّ العيني، وهو رجل دولة مقتدر، وبين عبد الفتّاح الذي كان يميل إلى الخطّ السوفييتيّ ويعارض بعض الإجراءات الاقتصاديّة المتشدّدة مثل تأميم بعض الدّكاكين الصّغيرة وغيرها. وأُصبنا بخسارة شديدة إثر هذا الانقسام. وسرعان ما بدأ الحمدي ينسج علاقةً مع سالم ربيع علي، بين صنعاء وعدن، ولم يكن الحمدي ضدّ عبد الفتّاح لكنّ الانقسام في الجنوب كان كبيراً، ومنشأُ الخلاف وسببُه النّزاعُ على السّلطة. وكان عبد الفتّاح إسماعيل مع الأحزاب التي انضمّت إلى الجبهة القوميّة الماركسيّين والطليعة الّتي انبثقتْ من البعث قد بدأوا يكوّنون مجموعة كبيرة ضدّ سالمين الّذي كان على رأس الدّولة. وهو رجل عمليّ لم يكن يحبّ المثقّفين ويعتقد أنّهم «بتوع كلام كثير» ويتّهمهم بأنّهم غير عمليّين وتابعون إلى الاتّحاد السّوفييتي، وهم يتّهمونه بأنّه رجل منفرد يعمل وحده ولا يريد مؤسّسات.
أنا كنت معجباً بالشخصيّتين، كنت معجباً بسالمين كثيراً كما كانت تلفتني جوانب كثيرة في عبد الفتّاح إسماعيل، لكنّني ضدّ الانقسام. ونحن كنّا لا نزال غير موجودين في الحزب. كان لدينا الشمال، الحزب الديمقراطي والجبهة الوطنية، ولم نكن نرحّب بالخلاف. واستمرّ الخلاف بين سالمين والآخرين وشكّلوا جبهة واسعة ضدّه من المثقّفين وضبّاط الجيش وعلي ناصر وعبد الفتّاح وغيرهم، كلّهم كانوا ضدّ سالمين. وهو كان يمثّل أقلّيّة في الحزب لكن كان له تأييد أكبر لدى الشّعب. وأنا كنت أعيش في عدن وأعرف أنّ له تأييداً شعبيّاً كبيراً. كانت الاتّهامات متبادلة بين الطّرفين.
قصّة اغتيـال إبراهيم الحمدي
سبق أن أشرت إلى أنّ الحمدي بعدما وصل إلى السّلطة في صنعاء غيّر اتّجاهه السّياسيّ وبدأ يعمل ضدّ القوى التقليديّة ويُجري اتّصالات سرّيّة مع المعارضة في الشّمال ومع النّظام في الجنوب. وهنا حصل تطوّر مفاجئ إذ اختلف الحمدي مع السّعودية ومع القوى التقليديّة في الشّمال، وأراد التّفاهم مع الجنوب بصورة صريحة وقرّر زيارة عدن، وفي ليلة سفره إلى عدن دبّر نائبه أحمد حسين الغشمي وعدد من الضبّاط عمليّة انقلابيّة. دعوا الحمدي إلى حفلة غداء في منزل الغشمي وقتلوه مع أخيه عبد الله الحمدي الّذي كان قائد قوّات العمالقة، وصهره علي قناف زهرة، قائد سلاح المدرّعات. وقد أذيع في صنعاء أنّ عمليّة اغتيال قد وقعت وأنّهم وجدوا بناتٍ مقتولات بجانب الحمدي وشقيقه، ولكن كان معروفاً أنّ ضبّاط الجيش هم الذين قاموا بقتله بدعم من الملحق العسكريّ السعوديّ صالح المديان، وأرادوا أن يشوّهوا سمعته عندما أحضروا جثّتَي فتاتيْن إلى جانب جثّته مع أخيه.
هذا غير صحيح لأنّ الأطبّاء عندما شرّحوا الجثث وجدوا أنّ هناك فارقاً سبع ساعات بين وقت إطلاق النّار على البنات وإطلاق النّار على الحمدي وأخيه وصهره. كانوا يعرفون مدى شعبيّة الحمدي ولا يريدون أن يقولوا إنّهم قاموا بانقلاب عليه، لأنّه معروف أنّه دخل لتناول الغداء في منزل أحمد الغشمي. كانوا يريدون تشويه سمعته بأنّه كان مع البنات وأنّه قُتل على عشق وعلى دعارة إلخ.
هذا الحادث أوقع زلزالاً سياسيّاً في اليمن كلّه شمالاً وجنوباً. وخرج سالمين من عدن وشارك في التشييع إلى جانب الغشمي وصحْبه، وخلال مشاركته في دفن الحمدي، شاهد المتظاهرين وهم يرجمون الغشمي بالبيض الفاسد و«الشنابل» ويقولون له: أنت القاتل يا غشمي.
عاد سالمين إلى عدن وأقسم على الانتقام للحمدي. و«إحنا عقدْنا عدّة اجتماعات في عدن مع سالمين ومع القيادات الأخرى»، وقرّرت القوى السياسيّة الحاكمة والقوى السياسيّة التي تمثّل الشمال، أنّ القوى السياسيّة والشعب في الشّمال مستعدّون للانتفاضة ضدّ حكم أحمد الغشمي، وقد أدّى هذا الأمر إلى تغيّر المزاج الشّعبي في الشّمال، حيث انتشرت ردود الفعل على قتله في كلّ المناطق وهرب العديد من أنصاره إلى عدن. وانتشرت القوّات التّابعة للجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة ثانيةً، وساد التوتّر بين الشمال والجنوب. وبدأنا نحن مع سالم ربيع علي وعبد الفتّاح إسماعيل نعمل في حزب واحد على مستوى الوطن اليمنيّ كلّه. وفي آذار / مارس عام ١٩٧٩ وقّعت ستة أحزاب يساريّة على تكوين الحزب الجديد الذي هو الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. لكنّ الخلاف استمرّ في عدن بين الجناحين. وفي أواخر ٢٤ حزيران / يونيو ١٩٧٨ أمر سالمين بخطّ يده وبقلمه بأن يرسلوا حقيبة ملغومة إلى الغشمي في صنعاء. واتّصل بأحمد الغشمي وقال له «أنا سأرسل لك رسولاً وأعيد لك الجنود الّذين هربوا إلى الجنوب». وأرسلَ الرّسول إلى صنعاء، واسمه مهدي، وهو يحمل الحقيبة. وأثناء مقابلة الغشمي انفجرت الحقيبة وقُتل الغشمي والرّسول القادم من عدن. وقامت ضجّة في الجامعة العربيّة الّتي أدانت ما حصل وحمّلت الجنوب بل سالمين وعبد الفتّاح المسؤوليّة شخصيّاً. لم يكن سائر أعضاء المكتب السياسيّ يعرفون بالقرار. وقد توتّر الجوّ في عدن. وطلبت اللجنة المركزيّة من سالمين أن يستقيل من منصبه. و«احنا كنّا في عدن». واستقال سالمين وجهّزوه للسّفر إلى إثيوبيا، لكنّ الحرس «حقّه» رفضوا أن يسافر وأطلقوا النّار على الحرس حيث كان بقيّة أعضاء المكتب السياسيّ مجتمعين. ووقعت الحرب في عدن وقُتِل سالمين. وهنا هدأ الخلاف في عدن، ولكن لم ينته التّوتر بين الشّمال والجنوب بل استمر، وبدأوا يحشدون الجيش من الشّمال والجنوب. «وأُرسلتُ أنا إلى الشّمال وقلنا إنّ النّظام خلاص مش حيسقط».
وقبل البدء بالحديث عن الحرب لا بدّ من التّعريف بالعناصر التي استجدت ومهّدت لاندلاعها. إنّ مناخ التّوتّر الذي تلا استشهاد الحمدي ثمّ اغتيال الغشمي وإعدام سالمين، رحمه الله، والذي كان رجل دولةٍ بامتياز، كلّ ذلك وضع اليمن كلّها في حالة صراع متعدّد الأطراف. أضف إلى التّوتر بين الدّولتين أنّ الصّراع كان قائماً في الشّمال ذاته، حيث عادت أجواء الحروب السّابقة بين الجبهة الوطنيّة وقوّات النّظام في صنعاء، وعاد مقاتلو الجبهة إلى الجبال وإلى الظّهور المسلّح في بعض المناطق التي كان للجبهة تواجد فيها، كما شهدت العديد من المدن والمناطق اليمنيّة عدّة مؤتمرات شعبيّة تدين عمليّة اغتيال الحمدي. وكان هناك جوّ شعبيّ معارض للنّظام القائم في صنعاء باعتباره مسؤولاً عن اغتيال الحمدي والانقلاب عليه. ومعروف أنّ الرئيس علي عبد الله صالح قد اختير رئيساً للجمهورية بعد مقتل الغشمي، وقد كان حينها قائداً للواء تعزّ، وهذا لم يغيّر من الأجواء القائمة حيث استمرّت المعارضة في الشّمال ضدّ نظام الرّئيس علي عبد الله صالح مثلما كانت من قبل ضدّ سلَفه.
محاولة انقلاب الناصريّين
وفي هذا المناخ حاول التّنظيم الوحدويّ الشعبيّ الناصريّ الذي كان يعمل تحت اسم «جبهة ١٣ يونيو» - وكان للحمدي عضويّة في التّنظيم الناصريّ غير معلنة - حاول التّنظيم أن يدبّر انقلاباً عسكريّاً في شهر تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩٧٨ ضدّ الرئيس علي عبد الله صالح. وكانت المحاولة الانقلابيّة سلميّة حيث لم يُقتل أو يُعتقل أحد في هذه المحاولة، ورغم مشاركة العديد من وحدات الجيش إلّا أنّ الانقلاب فشل بعد ساعات من إعلانه وتمكّنَ الموالون لعلي عبد الله صالح في تعّز، وما أن سمع الأخير بخبر الانقلاب حتّى عاد ظهر ذلك اليوم إلى صنعاء ورتّبَ على فشل الانقلاب عدّة نتائج:
أولاً: اعتقال معظم قيادات التّنظيم الناصري، تنظيم ١٣ يونيو، بقيادة عيسى محمد سيف الّذي أذاع التنظيم أنّه مُعتقل. كما اعتُقل العديد من المدنيّين والعسكريّين منهم بعض الوزراء، وتمّ إعدام تلك القيادة المدنيّة والعسكريّة من التّنظيم الناصري بعد محاكمة سريعة لم تتوفر لها أبسط إجراءات المحاكمة العادلة محاكمة سريعة وملفّقة.
ثانياً: توسّع نطاق الاعتقالات ضدّ الأحزاب اليساريّة والوطنيّة، وبالذّات الأحزاب التي كانت تُعد للاندماج وتأسيس الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ مثل حزب العمل، الحزب الديمقراطيّ الثوريّ اليمنيّ، حزب الطليعة الشعبيّة المنبثق عن البعث، اتّحاد الشّعب الدّيمقراطيّ وهؤلاء كانوا ماركسيّين. ونُفّذ الإعدام أيضاً ببعض قادة الأحزاب اليساريّة الذين كانوا قيد الاعتقال، و«أُخفي العديد من أولئك القادة الذين لم يُعرف مصير بعضهم حتّى الآن». ومن القادة الذين كانوا في السجون إلى ما قبل الانقلاب بيوم واحد ولم يُعثر لهم على أثر: عبد الوارث عبد الكريم، عضو مكتب سياسيّ في الحزب الدّيمقراطيّ، وسلطان أمين القرشي، عضو المكتب السياسيّ في الطليعة الشعبيّة، ووزير سابق للتّنمية، والمقدّم علي مِنى جبران، قائد سلاح المدفعيّة وبجانبه ضابطان آخران هما طه فوزي وعلي خان، أو عبد العزيز خان، وهو قائد سياسيّ مدنيّ كان ينتمي للطليعة الشعبيّة وغيرهم من الذين «ما حدّ يعرف عنهم شي». كما توسّعت الحملة ضدّ أحزاب اليسار وتعرّض الكثير من المعتقلين منهم للتّعذيب. وكنتُ في تلك الفترة أتنقّل ما بين عدن ومناطق الرّيف في الجمهوريّة العربيّة اليمنية سرّاً وعبر الجبال.
ثالثاً: العديد من الذين شاركوا في الانقلاب من ضبّاط الجيش والمدنيّين من أنصار الحمدي ولم يعتقلوا، فرّوا بأسلحتهم ومعدّاتهم إلى عدن في الجنوب، وكان من أبرزهم المقدّم أنصار علي حسين والعقيد مجاهد القهالي الذي كان يتولّى قيادة بعض وحدات الجيش في عمران وما جاورها. واستطاع مجاهد القهالي أن يجلب معه إلى عدن الآلاف من القبائل بما في ذلك قبائل من شمال صنعاء والجوف وصعدة وغيرها.
حرب فبراير ٧٩ والمعارضة السوفييتيّة
كان وصول القبائل إلى عدن حدثاً تاريخيّاً بارزاً لأنّ قبائل شمال الشّمال قبل أن يحدث هذا التطوّر كان لديها موقف منخفض إزاء النّظام الاشتراكيّ أو النّظام القائم في عدن. وكانت الدعايات ضدّ هذا النّظام تؤثّر كثيراً في رؤية النّاس له، ووصول هؤلاء المواطنين إلى عدن وتغيير وجهة نظرهم نحو النّظام القائم في عدن غيّر موازين القوى في الساحة اليمنيّة. وعلى أثر ذلك أعيد تشكيل الجبهة الوطنيّة الدّيمقراطيّة التي كانت تعارض النّظام القائم في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة من جديد، وانضمّ إليها المعارضون الجدد الذين كان من ضمنهم الناصريّون ومجاهد القهالي. بعد وصولهم إلى عدن، اشتدّت الحرب الإعلاميّة بين النّظام في الشمال والجنوب.
واضطربت الأوضاع من جديد، وتفاقمت لتصل إلى حرب شباط / فبراير ١٩٧٩، التي شارك فيها الجيش في الجنوب وأفراد المقاومة المسلّحة في المناطق الوسطى ومن شمال الشّمال. وطبعاً انتصر الجيش الجنوبيّ مع الجبهة الوطنيّة وفصائل المقاومة وتمكّنوا من الاستيلاء على مناطق واسعة في الشّمال، وهُزم الجيش الشماليّ وتشتّت شمله في الشّمال، وأصبحت الّطرق سالكةً إلى صنعاء. ولكنْ حدَثَ ما يشبه التدخّل الإقليميّ والدوليّ الرّافض لنتائج الحرب في أيّامها الأولى، ووقفت جميع الدّول الإقليميّة والعربيّة والدوليّة إلى جانب حكومة علي عبد الله صالح في صنعاء. واتّخذت جامعة الدّول العربيّة قراراً بوقف إطلاق النّار ولعبت المملكة العربيّة السعوديّة والعراق وسورية دوراً في اتخاذ ذلك القرار. واستعدّ الجيش العراقيّ والسوريّ للتّدخّل حيث كانت الحكومتان العراقيّة والسورية على وئام في تلك المرحلة وفُرض قرار وقف إطلاق النّار والحيلولة دون هزيمة الشّمال، وانتصار الجنوب في المعركة. وعملت الولايات المتّحدة الأميركيّة بطلب وتمويل من السعوديّة على إرسال السّلاح والمعدّات والذّخائر إلى صنعاء على وجه السّرعة، ودفعت السعوديّة ثمن الصّفقة. لكنّ الموقف الأكثر مفاجأةً وتأثيراً في مجرى الأحداث كان الموقف السوفييتيّ، حيثّ أرسلت القيادة السوفييتيّة في موسكو إنذاراً سريعاً إلى حكومة عدن يطالبها بإيقاف إطلاق النّار فوراً، وأبلغت موسكو حكومة عدن أنّ القيادة السوفييتيّة تعارض بقوّة إسقاط حكومة صنعاء.
لماذا؟ على اعتبار أنّ ذلك يهدّد السّلام العالميّ. ويبدو أنّه كان هناك تفاهم بين الاتّحاد السوفييتيّ وأميركا على ضمان استمرار الأوضاع القائمة في اليمن كما كانت عليه، وأنّ ذلك فرضٌ للتّفاهم لأنّ الشّمال كان منطقة نفوذ غربيّة والجنوب منطقة نفوذ شرقيّة، ولا بدّ من الحفاظ على الوضع القائم وإعادته إلى ما كان عليه. وقد أشفعت القيادة السوفييتيّة موقفها بموقف عمليّ تَمثّل بوقف تزويد جيش الجنوب بصورة فوريّة. ولمّا كان الاتّحاد السوفييتيّ هو المصدر الوحيد لتسليح الجيش الجنوبيّ فقد كان لهذا الضّغط تأثير حاسم في مجرى الحرب، خصوصاً بعدما نفدت الذّخائر، وبالذّات قذائف المدفعيّة والطّيران التي فرغت منها مخازن الجيش في الجنوب، وليس من مصدرٍ لتعويض ما نفد من الاتحاد السوفييتيّ. وكان الموقف السوفييتيّ مؤثّراً في الدّول الأخرى مثل كوبا وألمانيا الشرقيّة والصّين حيث التزموا بالموقف السوفييتيّ. وكان اتفاق الأميركان والرّوس قد أثّر في الصّين وغيرها، وكان للصّين سياسة خاصّة «لا مع السّوفييت ولا مع أميركا». ويبدو أنّ الأميركان أبلغوا السّوفييت أنّه في حال استمرار الحرب وعدم توقّف زحف الجيش الجنوبيّ نحو الشّمال فإنّ هذا سوف يقود إلى صراع بين القوّتين، وأنّ هذا خرق للتّفاهم بينهما.
أمّا لماذا لم تحْكِ القيادة الجنوبيّة مع الاتّحاد السوفييتيّ قبل الحرب؟ فلأنّهم كانوا يخشون بل كانوا يعرفون أنّ السّوفييت سيعارضون الحملة العسكريّة، كلونهم ملتزمين ببقاء نظامين في اليمن. بل كان السوفييت يعارضون حتّى نضال الجبهة الوطنيّة. ولهذا لجأت القيادة في عدن إلى وضع السّوفييت أمام الأمر الواقع ولم تفلح سياسة الأمر الواقع، فقد اتّخذ السّوفييت قراراً حاسماً ولا رجعة عنه. وزاد في الطّين بلّة أنّ فروع الأحزاب المدنيّة في الشّمال كانت تعمل على عقْد مؤتمرات لتوحيد نفسها وتعرّض قياداتها وأعضائها للاعتقالات. وهذا ما أربك فصائل المعارضة وبالذّات أجنحتها المدنيّة.
في ذلك الوقت، اجتمعت القيادة السياسيّة والعسكرية في الجنوب بقيادة الأمين العامّ عبد الفتاح إسماعيل وفي حضور علي ناصر محمد وعلي عنتر وصالح مصلح، أبرز القادة. وحضرتُ أنا أيضاً. أبلغنا عبد الفتاح بالتّطوّرات السياسيّة وبالموقف السوفييتي والعربي، واقترح على المجتمعين أن تقبل الدّولة في الجنوب وقف إطلاق النّار كموقف لا حياد عنه، والتّفاوض على مرحلة ما بعد الحرب. وهنا انقسم المجتمعون بين مـؤيّد ومعارض، وكنت أنا من بين المعارضين لوقف إطلاق النار، وهو الموقف الّذي اتّخذه أيضاً ممثلّو الجبهة الوطنيّة الدّيمقراطيّة والمقاتلون في الشّمال. أمّا القيادات الجنوبيّة فقد اعترض على الاقتراح من بينها كلٌّ من الشهيد علي عنتر الذي كان وزير الدفاع حينها، ووزير الداخليّة صالح مصلح قاسم وبعض القادة العسكريّين. لكنّ عبد الفتّاح حصل على تأييد باقي أعضاء المكتب السياسيّ من المدنيّين في الجنوب، وعندما اضطرب الموقف سُئل مسؤولو التّموين في الجنوب عمّا إذا كان لديهم ذخائر، فكان الجواب أنّ الذّخائر قد نفدت! وتحت إلحاح عبد الفتّاح الّذي كان رئيس مجلس الرئاسة والأمين العامّ للحزب، وافق المجتمعون على مقترح وقف إطلاق النّار. عارضتُ القرار واعتبرته نكسةً خطيرة بل أُصبت بالإحباط. لكنّ الواضح أنّ المنطق وحسابات المعركة المادّية والمنطقيّة كانت تقف إلى جانب عبد الفتاح إسماعيل والقيادة المدنيّة، وأنّ البديل الوحيد لتجنّب هزيمة عسكرية هو القبول بالضّغط الدّوليّ والعربي لوقف إطلاق النّار.
محادثات الكويت
عند ذاك، أعلن الجنوب استعداده لوقف إطلاق النّار. وأرسلت الجامعة العربيّة بعض وزراء الخارجيّة العرب للإشراف على وقف إطلاق النّار والاتّصال بالقيادتين. وتمّ الاتّفاق على عقد محادثات في الكويت بين الطرفين المتحاربين، وفي عدادهم ممثّل الجبهة الوطنيّة والذين كانت حكومة صنعاء لا تعترف بهم. كان هذا جزءاً من التّسوية مع حكومة صنعاء وعدن التي قالت لصنعاء لا بدّ من أن تقبلوا التّفاوض مع المعارضة. وفي شهر شباط / فبراير ١٩٧٩ سافرنا إلى الكويت. عُقدت المحادثات في قصر أمير الكويت. وكان وفد عدن برئاسة عبد الفتّاح إسماعيل، وإلى جانبه وزير الخارجيّة المرحوم محمّد صالح مطيع ووزراء آخرون، كما حضر من جانب الجبهة الوطنيّة سلطان أحمد عمر ويحيى الشامي وجار الله عمر. فيما رأَس وفد الشمال علي عبد الله صالح وبعض المدنيّين والعسكريّين. وكانت تلك أوّل مرة ألتقي بعلي عبد الله صالح. كان الجوّ العامّ متوتّراً ومثيراً للمشاعر، لكن الجميع في الّنهاية رضخوا للضّغط وباشروا بإجراء المحادثات. وكانت حكومة صنعاء تريد الوصول إلى هدنة عسكريّة مؤقّتة. لم يتقبّلوا الهزيمة. أمّا وفد حكومة الجنوب والجبهة الوطنيّة فكانوا يريدون الوصول إلى اتّفاق سياسيّ حول مستقبل اليمن، والدّخول في تحقيق الوحدة اليمنيّة لأنّ قوى الجنوب كانت تشعر أنّها في موقف عسكريّ أقوى. وبعد عدّة أيّام، يومين أو ثلاثة أيّام من المحادثات، كان اتّفاقٌ من ذو شقّين:
الأوّل: اتّفاق بين حكومتَي صنعاء وعدن ينصّ على توحيد اليمن بعد فترة انتقاليّة تستمرّ لمدّة عام وتتمّ الوحدة بناءً على الاتفاقيّات السابقة. وقد وقّع الاتّفاق عبد الفتّاح إسماعيل وعلي عبد الله صالح.
والثّاني: اتّفاق تفاهم بين المعارضة والسّلطة في صنعاء يقضي بإيقاف المعارك بين الجبهة والسلطة، وسحب قوّات الجيش الشّمالي من المناطق والقرى، وإقامة إدارة مدنيّة، وعدم ملاحقة أفراد الجبهة الوطنيّة، وإيقاف الحملات العسكريّة على القرى التي كانت للجبهة سيطرة عليها، وكذلك التّعويض عن الأضرار ولاحقاً انخراط أفراد الجبهة الوطنيّة في مؤسّسات الدّولة.
في ذلك الوقت «ما كانش مسموح للأحزاب ممارسة نشاطها السياسي». لكنْ بعد شهرين من ذلك الاتفاق، تبيّن أنّ حكومة صنعاء لم تلتزم بالاتّفاق ولم تكن جادّة لا مع النّظام في الجنوب ولا مع الجبهة الوطنيّة. كانت تريد كسب الوقت فقط ولم تكن جادّة في الاتّفاق مع الجميع. أخذتْ تنظّم جيشها وتركّز على تصفية الجبهة الوطنيّة بعدما حصلت على الدّعم العسكريّ من أميركا وبعض الدّول الأخرى من ضمنها الاتّحاد السوفييتيّ. أضف أنها حصلت على مئات الملايين من الدّولارات من دول الخليج. طبعاً قوّات الجبهة كانت قادرة على المقاومة وتمكّنت، من إفشال العديد من الحملات العسكريّة. لكنّ الاتّحاد السوفييتي تدخّل من جديد وطلب من الجنوب إيقاف عمل الجبهة الوطنيّة والمقاومة، والخضوع للحكومة الرسميّة في صنعاء والسّماح لها بالسّيطرة على المناطق التي سيطرت عليها الجبهة الوطنيّة. كذلك قابَلَ السّفير السوفييتيّ في عدن قيادة الجبهة، وكان لي معه عدّة لقاءات أبلغني فيها أنّ الاتّحاد السوفييتيّ يعارض أيّ نوع من أنواع الصراع مع الجيش في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة. واستمرّ بالضّغط على حكومة عدن كي توقف دعمها للجبهة الوطنيّة.
بطبيعة الحال كنّا نقول لم نكن نحن البادئين بمحاربة الحكومة، بل هي التي بدأتْ وخرقت الاتّفاق. وكنّا نريد أن نستمرّ في القتال حتّى نصل إلى اتّفاق متوازن لأنّنا كنّا ندرك أنّ الجبهة التي تعتمد عليها، وهي الجنوب، وضْعها الاقتصادي صعب ولا سلاح لديها وهي محاصرة عربيّاً. ولم يكن الموقف داخل القيادة الجنوبيّة غير موحّد تجاه هذا الموضوع حيث كان هناك من يؤيّد الموقف السوفييتيّ، ومنهم مَن كان يرى أنّه مطلوب أن نبني الدّولة في الجنوب، أي أن نبني الاشتراكيّة في الجنوب مثل ألمانيا. وما لبث الخلاف أن انفجر داخل القيادة الجنوبيّة من جديد.
أبناء الشّمال في صراعات الجنوب
هناك الكثير من الكلام عن دَور أبناء الشّمال في الصّراعات الدّامية التي شهِدها النّظام في الجنوب، وأنّهم سببٌ في اندلاع الكثير من المواجهات الدامية في الجنوب. نحن لم نكن طرفاً في أيّ صراع في الجنوب على الإطلاق. بل على العكس، فقد كان الصراع داخل الحزب الاشتراكيّ في عدن يقسمنا حول الإخوة المتصارعين فيه. عندما كنّا في عدن في السبعينيات، نشب الصّراع بين الرّئيس سالم ربيع علي وخصومه، لكنّنا لم نكن طرفاً فيه، لأنّ الحزب حينها لم يكن قد توحّد في إطار الشّمال والجنوب، فقد كنّا نعمل تحت اسم الجبهة الوطنيّة في الشمال كفصيل سياسيّ معارض، وكانت الجبهة مكوّنة من حزب الطّليعة الذي تحوّل من البعث إلى الحزب الدّيمقراطيّ الثوريّ، الذي تحوّل من حركة القوميّين العرب، منظّمة المقاومين الثوريّين اليمنيّين، حزب العمل اليمنيّ، اتّحاد الشّعب الديمقراطيّ. كما دخل في بعض الفترات الناصريّون والسبتمبريّون في هذه الجبهة.
كانت علاقتنا مع الإخوة في الجنوب علاقة تحالف وتفهّم، وعند اندلاع الخلاف بين الرئيس سالمين والآخرين لم نكن مرحّبين به على الإطلاق، كما لم نكن طرفاً فيه. كان البعض منّا يتعاطف مع عبد الفتّاح إسماعيل والبعض الآخر مع سالم ربيع علي، وكنت شخصيّاً معجباً بصفاتٍ في كلٍّ منهما، فقد كنت أرى في سالمين رجل دولة ولديه شيءٌ من الكاريزما، وعلاقتي به كانت أقدمَ من علاقتي بعبد الفتّاح إسماعيل، لأنّ سالمين أتى إلى صنعاء قبل أحداث أغسطس/آب 1968م في صنعاء وعشنا معاً، وعندما حللْت في عدن كان أوّل من استقبلني، وكان سالمين رجلاً نشيطاً ويحسن علاقته بالآخرين، وكنت معجباً بديناميكية الرجل وسرعة بديهته، وقدرته على مجابهة الأحداث. باختصار، كان رجلاً صاحب قرار.
لقد فوجئنا بالصّراع، وعندما تمّ إقصاء سالمين وحدث القتال لم نعد قادرين على أن نؤثّر في الأمر. فبعد انتصار الطرف الذي كان ضدّ سالمين لم يعد في الإمكان السيطرة على الوضع. وأحداث سالمين كانت مرتبطة بما حدث في صنعاء من مقتل الرّئيس الحمدي ثمّ مقتل الرئيس أحمد حسين الغشمي الذي قتَلَه الفدائيّ مهدي المعروف بـ«تفاريش» وتعني بالروسية «الرفيق» بتعليمات من سالمين الذي أعطى أمراً بذلك لصالح مصلح، بناءً على طلب من الأخير نفسه. وكان كلٌّ من المرحومين سالم ربيع وصالح مصلح قد أخذ عهداً على نفسه بألَا يترك حادثة مقتل الحمدي تمرّ دون أن يأخذ بالثّأر له، لأنّهما شعرا بالإهانة، خصوصاً أنّ الرّئيس الحمدي اغتيل عشيّة زيارته إلى عدن.
وبالفعل تحقّق الانتقام بقتْل الرئيس الغشمي. رأى خصوم سالمين أنّ الحادث أضرّ بالدّولة في الجنوب، لأنّه تمّ دون علم المكتب السياسيّ والحزب، ولهذا كان لا بدّ من أنْ يتحمّل الرئيس مسؤوليّة هذا القرار وتبعاته. صحيح أنّ موضوع مقتل الغشمي كان محلّ ترحيب الجميع، على الرغم من عدم إشعارهم بذلك، إلّا أنّ خصوم سالمين اتّخذوا ذلك كذريعة لتصفية الحساب معه، فقد كانت هناك خلافات داخليّة، وحُسم الموضوع من دون أن نكون طرفاً فيه لا من قريب ولا من بعيد. وعلى أيّ حال، ندم الجميع على ذلك، كلّ الأطراف بدون استثناء لأنّ مقتل سالمين كان في الحقيقة خسارة، وأقول بصراحة إن سالمين لو لم يُقتل وأرسل إلى إثيوبيا، كما تم الاتفاق عليه، ومكث هناك، كان لقيادة الحزب أن تعيده بعد مرور عدّة أشهر. أنا على يقين من أنّ سالم ربيع وخصومه لم يكونوا راغبين في الدخول في قتال مسلح، لكنّ ما حدث أنّ أحد أفراد الحرس الخاصّ بالرئيس ظنّ أنّه إذا سافر فسوف يتخلّى عنهم، فأطلق النّار على مقرّ اجتماع المكتب السياسيّ في منزل علي ناصر محمد، وهناك اندلع القتال، وبدأت المعارك واتُّخذ القرار بعدها بإعدام سالمين، وباقي القصّة معروف. بعد ذهاب سالمين اتّضح أنّه ترك فراغاً كبيراً لم يملأه أحد، وكان فعلاً يعدّ الرّكن الثّالث إلى جانب عبد الفتّاح وعلي ناصر. وفي رأيي أن أحداث سالمين عام ١٩٧٨ كانت بداية الانكسار الذي حدث لاحقاً، لأنّ هذا الخلاف كان له الأثر الكبير في مدّ جذور الصّراعات التي تلاحقت فيما بعد.
ولادة الحزب الاشتراكي الموحّد
كما سبق أن أشرت، كنّا قد بدأنا الحوار مع سالم ربيع علي وآخرين لتأسيس الحزب الموحّد لليمن كلّه، وبعد حرب عام ١٩٧٩ بين الشمال والجنوب مباشرة توصّلنا إلى توقيع اتّفاق بين الأحزاب السياسيّة في الشّمال والجنوب حاكمةً وغيرَ حاكمة، من أجل توحيد نفسها تنظيميّاً وسياسيّاً في حزب واحد يسمّى الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، وكنّا نحاول بهذا استلهام التّجربة الفيِتناميّة، يعني إقامة حزب واحد، جزء منه يحكم وجزء آخر يعارض، شرط ألّا يُعلن أنّه حزب موحّد. هكذا أسّسنا حزباً واحداً وبقيادة واحدة، لكنّنا أعلنّا أنّ هناك حزباً في الشمال يسمّى حزب الوحدة الشعبيّة، غير أنّ الحزب كان واحداً والمكتب السياسي واحداً.
وفي ٩ كانون الأوّل / ديسمبر ١٩٧٨ تمّ التّوقيع على تكوين الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ مكوّناً من الأحزاب والمنظمّات الآتية:
- الحزب الدّيمقراطيّ الثوري في الشمال وقّع عنه جار الله عمر وسلطان أحمد عمر.
- التنظيم السياسيّ الموحّد في الجنوب وقّع عنه: عبد الفتّاح إسماعيل وعلي ناصر محمّد.
- حزب الطليعة الشعبيّة الذي جاء من البعث في الشمال وقّع عنه يحيى محمّد الشامي وعبد العزيز محمّد سعيد.
- الاتّحاد الشعبيّ الديمقراطيّ الذي ضمّ الماركسيّين في الشمال والجنوب وقّع عنه عبد الله صالح عبده ومحمّد عبد ربّه السلامي.
- منظّمة المقاومين الثوريّين اليمنيّين، وهي منظّمة مسلّحة كانت في الشمال مدعومة من عدن. وقّع عنها حسين الهُمزة ومحمّد صالح الحدي.
- حزب العمل الذي كان موجوداً في صنعاء وفي عدن. وقّع عنه عبد الواحد غالب «المرادي» وعبد الباري طاهر.
عقدت هذه الأحزاب مؤتمرات منفصلة، كلٌّ على حدة، ثمّ عُقد مؤتمر عامّ واحد للحزب في عدن في مارس/آذار ١٩٧٩، واتّفق الجميع على برنامج سياسيّ واحد ومكتب سياسيّ واحد ولجنة مركزيّة واحدة. وإن كان ضمناً هناك فرعان للحزب، فرع علنيّ في الجنوب يحكم هو الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، وفرع سرّيّ في الشمال يعمل تحت اسم تنظيميّ «حزب الوحدة الشعبيّة اليمنيّ في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة» إلى جانب الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة. وقد تمّ اختياري في هذا المؤتمر عضواً في المكتب السياسيّ، كما اختير مساعد سكرتير حزب الوحدة صالح مصلح قاسم وزير الداخلية في عدن آنذاك. وبعد عدّة أشهر انتخبتني اللجنة المركزيّة سكرتيراً معلَناً لحزب الوحدة الشعبيّة في الشّمال باقتراح من صالح مصلح قاسم الذي تخلّى عن السكرتاريّة. وكان ثمّة الجبهة الوطنيّة التي يرأسها المرحوم سلطان أحمد عمر. ضمّ المكتب السياسيّ ٢٥ عضواً، وكنت أنا ممثّل الحزب في قيادة الجبهة الوطنيّة التي كانت تضمّ آخرين من خارج الحزب. كانت هناك قيادة للحزب أتولّى أنا مسؤوليتها، وكانت هناك أيضاً قيادة للجبهة الوطنية ممثلين من الحزب والأحزاب الأخرى. استمرّ الصّراع في الشّمال، وعاد التوتّر إلى العلاقة بين الشّمال والجنوب. ولم يُنفَّذ اتّفاق الكويت بين الحكومتين. تلك الفترة كانت صعبة إذ انقسمتْ قيادة الحزب في الجنوب. كانت الظروف صعبة بالنسبة إليّ لأنّنا واصلنا القتال ضدّ النّظام في الشّمال والحكومة غير مستعدّة لتقديم أيّ تنازلات، حيث كنّا نقاتل في ظروف صعبة وسط انقسام المكتب السياسيّ في الجنوب بين مؤيّد للاستمرار في خوض العمل المسلّح وداعٍ إلى الانسحاب الكلّيّ والسّريع من القتال. هنا حصل الانقسام داخل القيادة في الجنوب ما بين عبد الفتاح إسماعيل ومعه بعض الشخصيّات من جهة، وعلي ناصر وعلي عنتر مصالح مصلح ومحمد صالح مطيع وعلي سالم البيض وعلي شائع، ومعهم آخرون، من جهة ثانية، كانوا كلّهم ضدّ عبد الفتّاح.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.