كانت لديّ مُعلّمة أحبّها كثيراً حين كنت في المدرسة الإعداديّة الحكوميّة، منتصف التسعينيّات بدولة الإمارات حيث انتقلنا من مخيّم رفح جنوب قطاع غزّة تبعاً لعمل والدي. أحياناً كانت هذه المعلّمة تحبّ أن تعطينا دروساً في مادّة التربية. قالت لنا خلال أحد هذه الدروس «المسلم لو كانت لديه ذنوب، يحاسبه الله عليهاومن ثمّ يدخل الجنّة، المسيحي يدخل النار حتى لو كانت أعماله جيّدة، فهو ليس مسلماً».
الذنب ورهبة الحرّيّة
لم تكن هذه المُعلّمة تلقّننا تلك المبادئ وما يشبهها بمبادرة فرديّة، بل كانت سياسة تعليميّة. فقد اعتادت إدارة المدرسة على دعوة «شيخة دعوة» لتنصحنا وتفقّهنا بالدين بشكل دوريّ. وأتذكّر أنّ طالبات المدرسة كنّ يجلسن على الأرض في الساحة أمامها، ونستمع إليها وهي تحدّثنا عن عقاب الفنّانين والفنّانات والمطربينوالمطربات في نار جهنّم، وكلّنا آذان صاغية. وكانت تلك المرأة التي تجلس هناك وترتدي السواد تمتلك سلطة كبيرة على مئات الطالبات والمعلّمات: إنّها سلطة «امتلاك» الدين. (هذا ما كنّا نصدّقه وقتها).
وبعد انتهاء الدرس الدينيّ، سرعان ما ندخل الفصول لنتشاجر نحن الطالبات على صوَر المطربين الوسيمين كوائل كفوري وراغب علامة، ونتبادل المجلّات الفنّية والرّوايات الرومانسيّة. وأتذكّر أنّنا كنّا نفعل هذه الأشياء بشعور كبير بالذنب. ذنب ينطلق من تلك الصورة حول المسلم الجيّد الذي لا يستمع إلى الموسيقى، لايرتدي مثل الغرب، لا ينظر إلى الجنس الآخر.
لقد كبرت مع كلّ هذا التناقض داخلي، وأجيال بكاملها واجهت الأمر عينه، إنّه تعمّد فصل الدين الإسلامي تماماً عن الحياة اليوميّة، والسلوكيّات العاديّة، فكلّ ما نفعله خطأ حتى نتبع كلام شيوخ الوهابيّة ونظرتهم إلى الإسلام، فهؤلاء أهل الدين لأنّهم يفهمونه ويجب أن نقلّدهم.
وأتذكّر في تلك الفترة بدأت أسمع عن «الصحوة الإسلاميّة»، وانتشرت موجة «توبة الفنّانات» وملأت كتب التوبة واعترافات الخطيئة للفنّانين والفنّانات المكتبات وتناقلتها أيدي الطالبات. وربّما كانت هذه الصحوة ردّة فعل على الحداثة والعولمة التي كانت بدأت تأخذ مظهرها البرجوازيّ المتحرّر الكثيف في الإمارات.
ولم يكن للخطاب الإسلاميّ ورجال الدين إلّا الانكفاء على ذواتهم وبناء الجدران حول الدين الإسلامي على اعتبار أنّ كلّ ما يجري حوله خارجه، وهكذا أصبح الفقه الإسلاميّ وأحكامه نموذج الدين الذي يدعو إليه هؤلاء من خلال الصحوة الإسلاميّة وليس الإسلام الذي يصبّ في كلّ مناحي الحياة، ولا يتعارض معها.
وفي هذا الصدد يقول أوليفييه روا في كتاب «الجهل المقدّس» «لقد أرغمت العَلمنة والعولمة الأديان على الانفصال عن الثقافة، وعلى أن تعتبر نفسها مستقلّة وتعيد بناء ذاتها في فضاء لم يعد إقليميّاً وبالنتيجة لم يعد خاضعاً للسياسي»١.
حملت معي أثناء دراستي بين قطاع غزّة والإمارات الكثير من الأفكار التي تشبه عبارة المعلّمة في حصّة الدين. وكنت قد بدأت أقرأ في مرحلة الثانويّة التي قضيتها في رفح حيث رجعنا من الإمارات مع نهاية التسعينيات، كثيراً من الكتب الإسلاميّة المنتشرة والتي يأتي أغلبها من السعوديّة وتحذّر من النّار وعذاب القبر،والتغريب، وتأثير الغرب على سلوك النساء، والترهيب من كلمة حرّيّة. كما استمعت لتسجيلات الشيوخ الذين يلومون المرأة على معظم المفاسد كالشيخ كشك وغيره.
وكنت أغلق عقلي تماماً وأتلذّذ بالاستماع إلى نسخة الإسلام التي يُصَدّرها إليّ هؤلاء، إنّها تتناسب مع الكسل الفكريّ الذي لا يجعلك تستخدم عقلك وتتعبه، فما عليك سوى إتّباع هذه الأفكار التي لم تكن تنتشر فقط بالإمارات وغزّة، كما أنّها لم تأت فقط من السعوديّة، ففكرة اللعب على تناقض الحضارات: الشرق والغرب،والإسلام والمسيحيّة هي إرث عقود طويلة من الكتب والتسجيلات والخطب التي جعلت الذاكرة الشعبيّة حول الغرب حافلة بالخوف، والاعتقاد أنّ هناك مؤامرة تحاك ضدّ المسلمين، وأنّ الغرب فاسد.
إذن فإنّ حكم «العنصريّة ضدّ المسلمين» دائماً ما كان جاهزاً في مكوّنات الهويّة الإسلاميّة الشعبيّة، فهناك مئات ألوف من الكتب والكتيّبات تتحدّث عن هذه المؤامرة الكونيّة لإفساد المسلم، والتي إن لم تكن موجودة فهناك المدرّسون والجيران وخطيب المسجد، كلّهم كفيلون بأن ينقلوها إليك.
كذلك لم يسلم خطاب الكُتاب الإسلاميّين المنفتحين من النظرة نفسها نحو الغرب (المتآمر) كالكاتب محمد عمارة الذي يقول في كتابه «الشرق بعيون غربيّة» إنّ «الافتراء على الإسلام وتشويه صورة رسول الإسلام والأمّة الإسلاميّة، قد استخدم قديماً لشحن العامّة والدهماء في الحروب الصليبيّة التي أرادت استعمارالشرق بعد أن حرّره الإسلام من قهر الإغريق والرومان. ثمّ أعادت الإمبرياليّة الغربيّة الحديثة استخدام ذات السلاح ثقافة الافتراء والكراهيّة السوداء لشحن جماهير الشعوب الغربيّة...»٢.
لم أمتلك يوماً قدراً من الثقافة أثناء وجودي في المرحلة الدراسيّة لأواجه أيّاً من هذه الأفكار وهؤلاء المدرّسين على الرغم من النقاشات التي كان والدي يجبرني دوماً على خوضها. فقد كان ضدّ توجّهاتي الإسلاميّة المنسحبة عن استخدام العقل، مؤكّداً أنّ القرآن خاطب العقل ودعا إلى استخدامه، وقد نجح والدي فعلاً بالتأثيرعليّ، إضافة إلى كتب الأديب المصري مصطفى محمود وهو كاتب إسلاميّ غير تقليديّ على الإطلاق، ومن المرجّح أنّ ذلك يعود إلى جذوره الماركسيّة، فقد نظر إلى الدين باستخدام العقل وليس انطلاقاً من أحكام ومسلّمات رجال الدين ومفسّري القرآن.
فصل الدين عن الحياة اليوميّة
وصلت إلى نهاية المرحلة الدراسيّة الثانويّة في العام ١٩٩٩، حين قالت يومها مدرّسة الدين «يجب على المرأة أن تقبل بأن تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، فنحن لسنا أفضل من السيدة عائشة، زوجة الرسول صلى الله عليه وسلّم»، وقد اعترضت يومها، وقبل أن أكمل اعتراضي كان مصيري الطّرد.
اليوم ماذا يحدث في قطاع غزّة ومدارسها بعد مرور كلّ تلك الأعوام، وبعد أن حاصرت الدول الأوروبيّة وأميركا قطاع غزّة بحجّة أنّ حركة حماس «إرهابيّة»، على الرغم من أنّها فازت في الانتخابات التشريعيّة في العام ٢٠٠٦، وكانت انتخابات نزيهة وشفّافة شهدت لها المؤسّسات الأوروبيّة والأميركيّة ذاتها التي تقاطعهااليوم، وتركت هذه الدول أجيالاً كاملة مع الفكر الديني الوهابي، دون أن تتوقّف لحظة واحدة لتفكّر بمغبّة قرارها ذلك.
لنلقِ نظرة على نوعيّة الأنشطة غير المنهجيّة التي قامت بها وزارة التربية والتعليم أثناء حكم حركة حماس بعد أن غاب تماماً الدعم الدوليّ عن هذه الأنشطة. يقول محمّد صيام مدير الأنشطة التربوية في وزارة التربية والتعليم بغزّة، لوسائل إعلام دوليّة سنة ٢٠١٣، إنّ الحصار أثّر بوجه عامّ على أداء الوزارة وعلى الأنشطةبوجه خاصّ، فقد كانت هناك أنشطة متنوّعة ومدعومة طوال العام٣، والآن تكاد تكون متواضعة بسبب قلّة الدعم بعد الحصار الدوليّ. ويقول بشأن الأنشطة الحاليّة إنّ هناك نشاطاً جديداً بدأ منذ شهر أيلول / سبتمبر ٢٠١٢، واسمه «الفتوّة»، موضحاً أنّه عبارة عن تدريبات بدنيّة وتعلّم على أنواع الأسلحة والدفاع عن النفسوالإسعافات الأوّليّة.
أمّا نشاط غذاء الروح الديني، فيوضح صيام أنّ هذا النشاط جرى تطبيقه منذ عامين ويعتمد على الوسطيّة في الدين، ويجري اختيار الموضوعات من قبل وزارة التربية والتعليم، أمّا رجال الدين فتختارهم وزارة الأوقاف، لتنظيم لقاءات دينيّة مع الطالبات والطلّاب ثلاث مّرات شهريّاً في الإذاعة المدرسيّة الصباحيّة لضمانالتوازن النفسي والبدني والروحي للطالب والطالبة، موضحاً أنّ الموضوعات تتركّز حول الصلاة والرسول القدوة وأحكام زينة المرأة واحترام الآخر٤.
إذن إنّه ذات «غذاء الروح الديني» الذي كنت أتلقّاه في الإمارات، والذي يقتضي بفصل الدين عن الحياة اليوميّة بل اعتباره مناقضاً لها، وتقديمه في حصص خاصّة، والخلط بين العقيدة والفقه، إنّها قطيعة رجل الدين مع الحياة لحماية الدين منها، خوفاً من تغوّل حداثتها، ولكن ماذا حدث لهذه الأنشطة بعد ثلاثة أعوام من هذااللقاء مع وزارة التربية والتعليم بغزّة؟
وهّابيّة خليجيّة
لقد انتهت هذه الأنشطة الدعويّة بكارثة علنيّة، حين دعا بعض رجال الدين الذين اختارتهم وزارة الأوقاف طالباً لا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، على الاعتراف بأّنّه مذنب، فيتوب إلى الله أمام طابور الصباح في واحدة من مدارس غزّة، في شكل جديد من صكوك الغفران، وانتشر الفيديو في ربيع العام ٢٠١٦ على نطاق واسع٥.
ويبدو أنّ هذه النسخة الخليجيّة الوهّابيّة نتاج الضرورة إذ تعتبر دولة كقطر الوحيدة التي لم تقاطع قطاع غزّة إضافة إلى إيران وتركيا، فقد كانت تدفع عشرات ملايين الدولارات عقب كلّ حرب لإنعاش غزّة وإعادة الإعمار.
غاب الإسلام الكلاسيكيّ ومفهومه الحضاريّ والروحانيّ الحقيقيّ إذاً، وسادت صورة الفقه الإسلاميّ الذي القول فيه هو فقط من اختصاص رجال الدين الذين يعتبرون أنفسهم وسطاء بين الدين وعامّة النّاس (مع أنّه لا كهنوت في الإسلام) فقدّموا النسخة الدينيّة الشعبويّة التعبويّة ضدّ الغرب والحرّيّات والانفتاح والعلمانيّة،وهنا وجدت الأصوليّة بيئتها في التنامي لتتشكّل كـ«سلفيّة جهاديّة» تعشّش بين ظهرانَي المجتمع.
وماذا كانت النتيجة في مكان كقطاع غزّة، هذه المساحة الصغيرة التي يسكنها مليونا فلسطينيّ في حصار مستمرّ منذ عشر سنوات؟ لقد زادت أعداد المنتمين إلى الجماعات السلفيّة الجهاديّة، وازدادت أنشطتها في الشارع الفلسطينيّ وآخرها كان قتل الشابّ مثقال السالمي الذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين عاماً برصاصتينفي رأسه بمدينة غزّة بتهمة التشيّع في التاسع من تشرين الثاني / نوفمبر ٦٢٠١٦.
إنّ حالة الصحوة الإسلاميّة التي بدأت في التسعينيّات تغيّرت الآن مع فشل الإسلام السياسي بغالبيّة نماذج تجربته في السلطة، كما عجز عن تطبيق شعار «الإسلام هو الحلّ» بعد أن اصطدم بمكوّنات علمنة الدولة، ليسيطر بعدها على الساحة تيّار السلفيّة الجهاديّة، ويعلن عن نفسه كموازٍ لمسار العلمانيّة فهو يحمل بيئتهوثقافته وهويّته داخله، منطلقاً بها إلى العالم.
تواطؤ بين الاستشراق والإسلام المحافظ
يقول أوليفييه روا في كتاب الجهل المقدس «ثمّة رابط وثيق بين العلمنة والإنعاش الدينيّ، فالأخير ليس ردّ فعل ضدّ العلمنة بل هو ثمرتها، والعلمنة تصنع الديني. وما من عودة للديني، بل تحوّل...»٧.
والسؤال المهمّ هنا: هل اختلفت هذه الصورة المشوّهة للدين الإسلامي عن الصورة التي يمتلكها الأوروبيّ عنه، بعد مئات السنين من التعبئة الإعلاميّة والبحثيّة والأدبيّة والسينمائيّة؟ يقول المؤلف محمد أركون في كتابه «الإسلام، أوروبّا، الغرب» إنّ «الإسلام الذي أصبح مجرّد طقوس عبادة واقعة تحت ضغط المراقبةالاجتماعيّة المتشدّدة أكثر فأكثر. هذا هو الإسلام في نظرهم. وأمّا البُعد الفكريّ والبُعد الروحيّ والبُعد الحضاريّ للإسلام فهو شبه غائب، وعلى أيّ حال فهو آخر ما يفكّرون فيه»٨. وللأسف فإن الاستشراق الكلاسيكيّ والأدبيّات السياسويّة المتسرّعة المنتشرة حاليّاً في الغرب عن الإسلام والحركات الإسلاميّة تزيد منانتشار هذه الصورة عن الإسلام المجرّد الذي يقف فوق الزمن والتاريخ، الإسلام الأقنوميّ الذي لا يتأثر بشيء وهنا يكمن التواطؤ الموضوعي بين الاستشراق الكلاسيكيّ والإسلام المحافظ.
كلّ ذلك خلق نوعاً من العزلة، والعزلة هي الكلمة السرّيّة خلف ما يحدث في أوروبا حاليّاً من هجمات إرهابيّة. هناك عزلة المسلمين عن أوروبا وهم داخلها، ويحملون جنسيّاتها، وهناك عزلة أوروبّا عن المسلمين، على الرغم من أنّهم جزء من نسيجها الاجتماعي، فلا تزال الحكومات الأوروبيّة تتعامل مع الدين الإسلاميّ كأمرحسّاس لا يمكن الاقتراب منه، وطبعاً ليس عدم الاقتراب بسبب مبادئها العلمانيّة، بقدر ما أنّها لا تريد إغضابنا نحن المسلمين، وإنّه لأمر مخجل أنّنا أصبحنا نعتقد أن حماية ديننا الإسلامي تتمّ بالغضب، أو بجعل الآخر خائفاً منّا (ردود الفعل الشهيرة على الرسومات الساخرة في الدنمارك).
لذلك فالإعلان الترويجيّ لشركة أمازون الأميركيّة في تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٦ والذي يظهر فيه إمام مسجد وكاهن مسيحيّ يتبادلان الهدايا، جاء مفاجئاً وتاركاً انطباعاً جديداً عند الجميع. فقد تجاوزت الشركة الخطوط الحمراء للعلمانيّة بعدم التحدّث بالدين، والأهمّ أنّها لم تستأذن المسلمين للتعبير عنهم، ونجحت في النهايةبجذب المتلقّي٩. كذلك فعل الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حين قال «الإسلام والعلمانيّة متوافقان ضمن احترام القانون في فرنسا» في خطاب في أيلول/ سبتمبر ٢٠١٦ عقب سلسلة الهجمات الإرهابيّة التي تعرّضت لها فرنسا، تبعتها موجة الجدل حول لباس البحر الإسلامي «البوركيني»، مضيفاً «لا شيء في فكرة العلمانيّةيتعارض مع ممارسة الشعائر الإسلاميّة في فرنسا ما دامت تلتزم بالقانون»١٠.
لذلك لا يبدو أنّ الإسلام بعمقه الحضاريّ والروحانيّ حكر على المسلمين، كما يحاول المتطرّفون من كلا الطرفين التأكيد١١، لكنّ هذه الملكيّة العامّة للدين الإسلاميّ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) تحتاج إلى اندماج ثقافيّ حقيقيّ، وهذا صعب على كثير من المسلمين في أوروبا، فهم لا يعيشون ضمن نطاق بيئة الدينالثقافيّة، فهذه البيئة جعلت الإسلام عربيّاً وجعلت المسيحيّة غربية١٢.
وقد لاحظت خلال إقامتي بفرنسا في الشهور الستة الأخيرة أنّ العديد من المسلمين والمسلمات هنا يشيرون إلى حياة الفرنسيّين الاجتماعيّة، خصوصاً الليليّة منها، باحتقار باعتبارها «سهر وشرب وعري»، ونسوا أنّ هذه العادات لم تكن مختلفة حين صنع هؤلاء الفرنسيّون نظامهم السياسيّ والتعليميّ والمهنيّ لتصبح هذههي البلاد التي يودّ المهاجرون العيش فيها. بيد أنّهم يأتون وينعزلون ضمن دائرة اجتماعيّة ثقافيّة تشبههم، كأنّ خدمات الدولة حقّ لهم، لكنّ الاندماج خيار، لذلك يصبح من السهل عليهم التعامل مع خطيب مسجد متزمّت قريب منهم على الاندماج مع جارهم أوروبيّ الأصل.
ولكن أيضاً يجب التنبيه إلى أنّ الأمر ليس بهذا التصنيف الهويّاتي الجامد، فالفورة الدينيّة اليوم نجدها في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام. ويقول أوليفييه روا في «الجهل المقدّس»: «ظاهرتان تلعبان دوراً رئيساً في طفرة الديني اليوم هما: زوال الصفة الإقليميّة وفقدان الهويّة الثقافيّة. ولا يرتبط زوال الصفة الإقليميّةبانتقال الأشخاص فحسب... بقدر ما يرتبط بانتقال الأفكار والموادّ الثقافيّة والإعلام وأنماط الاستهلاك بعامّة في فضاء غير إقليميّ»١٣. ويتابع «إنّ فقدان الهويّة الثقافيّة هو فقدان البداهة الاجتماعيّة للدّين. ومن الآن فصاعداً يعيش المؤمنون فيما بينهم كأقليّات محاطين بثقافة دنيويّة ملحدة إباحيّة مادية اختارت آلهة مزيّفة:المال والجنس، أو الإنسان نفسه»١٤.
المؤمنون ليسوا الوحيدين الذين يعيشون عزلتهم، فحتى هذا المواطن الأوروبي غير المؤمن يعيش هو الآخر عزلته، فهو لا يريد الاختلاط بجاره المؤمن سواء كان مسيحيّاً أو يهوديّاً وخصوصاً إذا كان مسلماً، ليس فقط بسبب تنامي الإسلاموفوبيا، أي الخوف من الجماعات الإسلاميّة، بل أيضاً لأنّه أصبح يفضل الابتعاد عن أيّثقافة لا تشبهه.
هل إسلام السوق هو الحلّ؟
إنّ الطرفين يعيشان في الخوف، وهذا سببه بالأساس الحكومات الأوروبيّة التي قدّمت نفسها بديلاً حتى عن أديان مواطنيها، فقد سلبت منهم مساحات الدين كلّها، وقدّمت خدماتها المرفّهة المتكاملة كبديل عن الدعاء والحاجة إلى الله، وقوانينها كبديل عن الأخلاق.
وتكفّل البوليس ووزير الداخليّة بأن لا يخرج الدين من حافة باب المنزل فداءً للمواطنة كما يحدث في فرنسا من حياديّة المظهر العام للمواطن في المَرافق الحكوميّة. أليس هذا استلاباً لكينونة المؤمن، وتجاوزاً لمبادئ العلمانيّة التي تنطلق من التعدّدية وليس القطيعة؟ إنّه القمع باسم دولة القانون.
وفي الوقت ذاته نرى هذه الحكومات وقد تركت للمتطرّفين الإنجيليّين حرّيّتهم في نشر مبادئهم، وللوهابيّين حرّيّتهم في نشر نسختهم من الدين تماماً كما في الإمارات وغزّة، إلى درجة أنّ أحد أئمة مساجد سويسرا دعا إلى قتل المسلمين الذين لا يؤدّون صلاة الجماعة في تشرين الأوّل / أكتوبر من العام ٢٠١٦، فكيف ينظر هذاالإمام إلى غير المسلمين إذا كان هذا موقفه من المسلمين الذين لا يصلّون الجماعة في المسجد١٥.
إنّ التوازن في التعبير الديني للمواطنين والمساحات الحرّة هي التي تضمن الاندماج الحقيقيّ وتقضي على العزلة عند الطرفين، وتضمن وسطيّة التديّن والإيمان (كاختبار الأواني المستطرقة).
ونجد هنا أنّ الجيل المسلم الشاب خلق لنفسه تياراً جديداً يستطيع من خلاله التعبير عن إيمانه بعيداً عن حياديّة حكوماته الأوروبيّة، وفي الوقت عينه بعيداً عن الأصوليّة والإسلام السياسي والجهاد السلفيّ، وعبر الاندماج بالنظريّة الليبراليّة. إنّه ما سمّاه باتريك هايني «إسلام السوق» فيقول في كتابه: «خطاب ينبثق عندنقطة التقاء بين نظريات «المانجمانت» الأميركية وأدبيات التحقق الفردي حيث الأولويّة هي للفاعلية، والنجاح الإداريّ، وليس للبديل الحضاري، وقبول سياقات العولمة الليبراليّة والرأسماليّة... البعد عن التسيّس وتقليص المكوّنات الهوياتيّة والاعتماد الصريح أو الضمنيّ على فلسفة السوق»١٦.
وفي هذا التيّار أو الخطاب، لن يعود غريباً أن يصبح الحجاب علامة تجاريّة أكثر منه تديّناً، وأن نجد انفتاحاً على العالم وإعادة هيكلة للهويّة الإسلاميّة ككلّ واعتبارها جزءاً من إنسانويّة عالميّة في أوروبّا، والشيء ذاته مع الإقبال على شركات الإنتاج الموسيقيّة وخطوط الأزياء.١٧
وربّما وصل الأمر إلى حدّه المتطرّف قليلاً حين ظهرت الصحافيّة الأميركية من أصل ليبيّ نور التاجوري بحجابها على غلاف مجلّة بلاي بوي في عدد تشرين الأوّل / أكتوبر من العام ٢٠١٦. لكنّ الأهمّ أنّنا نجد دعاةً للدين مختلفين تماماً عن «شيخة الدعوة» التي كانت تأتينا إلى المدرسة الإعداديّة، فهم لا يعادون المظهر العصريّويستمعون إلى الموسيقى ويعايشون الدين في كلّ تفاصيل حياتهم دون الفصل بينهما، والأهمّ أنّهم يقرّون بالعدالة الإلهيّة مع الجميع.
- ١. روا، أوليفييه، 2012، الجهل المقدّس «زمن دين بلا ثقافة»، دار الساقي، بيروت، لبنان، ٢٠
- ٢. عمارة، محمد، «الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء .. وإنصاف العلماء»، دار الشروق، ٦٣
- ٣. الغول ، أسماء، 2013، «الحصار على قطاع غزة: حصار عقول أم بطون؟»، المونيتور، http://www.al-monitor.com/pulse/ar/originals/2013/02/gaza-blockade-intel...
- ٤. المرجع السابق
- ٥. وكالة سوا الإخبارية، «بكاء وتوبة في إحدى مدارس غزّة»، موقع يوتيوب، منشور بتاريخ ٥/٤/٢٠١٦، https://www.youtube.com/watch?v=kfZ0C6aFkf4
- ٦. شبكة سوا للجميع، ٢٠١٦، «تعرف كيف قتل مثقال السالمي وماذا كتب على صفحة الفيسبوك قبل القتل مباشرة»، http://pssawa.com/p/35134/ تعرف-كيف-قتل-مثقال-السالمي-وماذا-كتب-على-صفحة-الفيس-قبل-القتل-مباشرة
- ٧. روا، أوليفييه، ٢٠١٢، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، دار الساقي، بيروت، لبنان، ٢١
- ٨. اركون، محمد، ٢٠٠١، الإسلام، أوروبا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ط٢ دار الساقي، بيروت، ١٤
- ٩. خبر24، «شاهد رجل دين مسلما في إعلان شركة أمازون»، فيديو منشور بتاريخ ١٧/١١/٢٠١٦ http://5br24.net/e3lam/242148/ شاهد-رجل-دين-مسلم-في-إعلان-شركة-أمازون.html
- ١٠. فرانس 24، هولاند «العلمانيّة والإسلام متوافقان ضمن احترام القانون في فرنسا»، http://www.france24.com/ar/20160908-فرنسا-هولاند-خطاب-علمانية-ندوة-الديمقراطية-مواجهة-الإرها
- ١١. سورة (الأنبياء:١٠٧)
- ١٢. روا، أوليفييه، 2012، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، دار الساقي، بيروت، لبنان، ص 27
- ١٣. روا، أوليفييه، مرجع سابق، ص 28
- ١٤. المرجع السابق، ص 30
- ١٥. ميدل إيست أونلاين، 2016، «سويسرا توقف إماماً حرّض على قتل من لا يصلّون صلاة الجماعة»، http://www.middle-east-online.com/?id=235643
- ١٦. هايني، باتريك، إسلام السوق، مدار للأبحاث والنشر، ص 27
- ١٧. روسيا اليوم, 2016, «صورة صحافية محجّبة على صفحات مجلة «بلاي بوي»!»، http://ar.rt.com/i2bp
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.