سعاد حسني هدرت دمي
كتبتُ مقالاً عن سعاد حسني فأصدر متطرّف إخوانيّ فتوى بقتلي. كان ذلك قبل شهرين من رحيلها، وطلبتُ فيه من تلك الفنّانة النّادرة أن تعود. كنتُ في فرنسا ولم يكن يبعدها عنّي سوى النفَق المائيّ الفاصل بين أنكلترا وفرنسا. القاتل، هو نفسه قاتل الشهيد جار الله عُمر وتلميذ رجل الدين الأصوليّ عبد المجيد الزّنداني في جامعة الإيمان بصنعاء. وسوف يظهر اسمي ضمن قائمة من الأسماء التي تصدّرَها جار الله: أدباء وأكاديميّون ورجال سياسة وكنت أصغر المطلوبين سنّاً، فأين أهربُ من الموت!
مدير المركز الثّقافي الفرنسي التابع لسفارة باريس في صنعاء، وكنت أعمل فيه وقتها، كلّمني عن أبواب السّفارة المفتوحة أمامي في حال احتجت إلى أيّ شيء. كان يتحدث عن إمكانيّة عودتي إلى فرنسا والإقامة هناك. كنت في بداية حياتي ولم يكن هذا الطريق مُفتتَحاً جيّداً بالمطلق فظهر محسوماً لي. كما أنّ هناك أمّي زمزم، التي تركتْ بلادها لتقيم في اليمن من أجلنا فكيف أقابل صنيعها بهروبي.
من الصفْر انطلقتْ لغتي العربيّة، وأنا الآتي من أسمرا الإريتريّة مع ماما زمزم التي تزوّجت يمنيّاً وأنجبتني. كنت أعمى وقتها وأنا المحروم من لغة للتواصل مع العالم. بفضل أبي جبران لازمت المسجد القريب من منزلنا الصنعاني زمناً طويلاً لتهبَني جلسات القرآن اليوميّة هناك معبراً لامتلاك اللغة التي أمتلكها اليوم. لم يحدث هذا دفعة واحدة بطبيعة الحال بل خلال سنوات كان المسجد فيها يخطو في تحوّلاته مثلي تماماً. التحوّلات التي أُعيد النّظر فيها اليوم لأكتشف حجم نعمة الأقدار التي وقفت إلى جانبي وأعاقت بلوغي مرحلةً مناقضةً تماماً للهيئة التي صرتُها اليوم بعيداً عن سلطة «الجماعة»، الناس الذين كانت لهم اليد العليا على المسجد. الجماعة المُحاطة بجدارٍ مادّته الولاء والطّاعة على العكس من نفسيّتي تماماً.
من صغري كنت عنيداً ومغايراً لا أسير إلّا خلف رأسي كما يقولون. لوقت طويل، وإلى اليوم، لا تزال ماما زمزم تناديني «رأسو»، نصيحةً ولا يسمع غير صوته الداخلي. مع ذلك، لقد خدمني رأسي هذا رغم كلّ شيء في كلّ خسارة حصلت معي، وخساراتي كثيرة، ليس آخرها قرار الرئيس السابق علي عبد الله صالح فصلي من وظيفتي الجامعيّة وكنت مدرّساً للأدب الفرنسي. لقد خدمني رأسي وهو يذهب بي في خطٍّ معارضٍ لخطّ السَّير الذي كانوا يرسمونه للصبْية من مرتادي المساجد. كنت وصلت لنقطة لم يكن الرجوع منها ممكناً. أتذكّر مرةً وقوفي صامداً لمدّة تزيد على الساعات الثّلاث حاملاً آلة تصوير فيديو ثقيلة على كتفي وأسجّل محاضرةً لعبد المجيد الزنداني في واحدة من زياراته النادرة لصنعاء من مكان إقامته في المملكة السعوديّة. أتذكّر هذه الواقعة وأبتسم. سأقابل الزنداني نفسه بعد سنوات طويلة، بعد جريمة قتل الشهيد جار الله عُمر. طلب مقابلة مجموعة من الصحافيّين، وكنت منهم، لقول رأيه في قرار واشنطن ضمّه لقائمة الإرهاب ومحاصرة أمواله. قابلناه في جامعة الإيمان التي كان يملكها وتناولنا الغداء معه وكلّ ما كان يهمّني هو سؤاله فقط: هل كان يعلم بلائحة الأسماء التي ظهرت في فتوى القتل قبل اغتيال جار الله عُمر وأعلنها تلميذُه السابق في الجامعة. فأقسمَ بالله نافياً.
مزّيكا وسيما
لقد خدمني رأسي إذاً كما وميلي باتجاه المزيكا والأغنيات. لم يكن قلبي يجد تعارضاً بينها وبين الدين وأموره. كنت لا أتوقّف عن الحديث عن أمّ كلثوم التي لم أكن أفهمها على نحو كامل. لغتي لم تكن تساعدني ولا ثقافتي. كنت أكتفي بالمقدّمات الموسيقيّة لأغنياتها. ما زلت أحتفظ بشريط كاسيت لا يضمّ سوى تلك المقدّمات. استفدت وقتها من وصول أجهزة التسجيل تلك والتي كانت تحتوي على غرفتين، يمكن نقل موسيقى من كاسيت لكاسيت آخر على الجهاز نفسه.
كان لهذا العشق أن يبعدني عن الجماعة، أو بالأصحّ أن يخرجوني من دائرتهم، فوجودي خطير ومن المحتمل أن أنقل عدوى الموسيقى للصبْية الآخرين.
وإلى الموسيقى كانت السينما سبباً في تعميق حالة الفراق بيننا. وكانت في صنعاء دور مفتوحة للفنّ السابع. لا أقدر على وصف حجم الجمال الداخليّ الذي وهبتني إياه الشاشة الكبيرة ولا تزال. لكنّها في الوقت ذاته كانت توقعني في عقاب والدي. كنت ألقى وجباتٍ ضخمة من الضرب بعد كلّ غياب عن صلاة المغرب حيث كان فيلم الظهيرة يتأخّر ليحل وقت تلك الصلاة. كنت أصل متأخّراً في الغالب، وفي فصول الشتاء تحديداً، حين تغادر الشمس باكراً ويحين وقت الصلاة وأنا ضائع في طريق العودة من السينما.
عدد غير قليل من رفاق المدرسة ذهبوا لجهاد كفّار روسيا في أفغانستان. كانوا فجأة يختفون من مقاعد المدرسة ولا نعرف أين يتمّ تدريبهم. وأنا هنا أقوم بإعادة بصري لما كان يجري وقتها بعقل اليوم.
في الصف السابع الأساسي كتبت بحثاً صغيراً عن «غزوة بدر الكبرى» وشاركت به في مسابقة نصف العام الدراسي. كانوا يقومون بدفعنا للاستفادة من الإجازة النصفيّة. وفزت بأحد المراكز الأولى، وحين تمّ الإعلان عن اسمي في طابور الصباح علتْ وجوهَ الأستاذة والطلاب علامات الاستفهام والاستغراب. كنت غير نافع وضالّاً في نظرهم. الجائزة التي نلتها كانت عبارة عن كاسيت مسجّل لإحدى خُطب الداعية الكويتي أحمد القطّان وكتاب «آيات الرحمان في جهاد الأفغان» لعبد الله عزام. لكنْ للحقّ لم تكن مدرستنا هذه على الرغم من طغيان الهويّة الدينيّة تميل باتجاه التدريب العقائدي. كانت للطلاب حرّيّتهم وما من شيء مفروض. دروس في المسرح وعروض سينمائيّة ومعارض فنّيّة ولدينا فريق موسيقيّ.
من رفاق تلك المرحلة بلال فضل، الذي سيصبح كاتباً مصريّاً معروفاً. قيل بأنّه تاه في جغرافية كابول وتمّ منْعه من دخول اليمن (هو من أمّ مصريّة وأب يمنيّ وكان مدير المدرسة) لكنّها بقيت مجرّد كلام في الهواء. ومن رفاقنا رمزي الشيبة.
توكل كرمان وفقْه الضرورة
لا يقبلون أحداً من خارجهم. أستطيع القول بعد كلّ هذه السنوات الكثيرة الذاهبة، بأنّ لا صديق واحداً لديّ بينهم. ولا واحد. كانوا يراقبونهم ويرون من يرافقون. لقد أحدث هذا فجوة عميقة بيننا. كان يحدث، في مرّات نادرة، أن يطلب منّي أحدهم كاسيت فيديو، يأتي في ظلمة الليل إلى منزلنا ويطلب.
تجربتي الأعمق لفهم طريقة تفكير شبابهم في الحياة والصداقات حصلت حين انهيت الثانويّة العامّة والتحقت بخدمة التدريس الإلزاميّة في الأرياف.
كان نظام التجنيد الإلزامي في ذلك الوقت يمنح أصحاب النّسَب الأعلى من سبعين بالمائة حقّ الذهاب للتدريس عوضاً عن التجنيد وحمل السلاح. جاء نصيبي في مكان الإقامة والتدريس مع أحد الإخوان. كنّا معاً ليل نهار ولا أقدر على الفرار منه إلّا نهاية كلّ أسبوع عائداً في يوم استراحة إلى أهلي في صنعاء. ومعه رأيت كيف ينتبه هؤلاء إلى التفاصيل الهامشيّة ولا يضعون قواعد الحياة في بالهم. أنْ يحرص زميلي على حلق عانته كلّما طالت لكنّه لا يحرص على زيارة أبيه العجوز المقيم في صنعاء لوحده، ولو لمرّة في الشهر.
في الجامعة كان شباب الإخوان يطلقون علينا تسمية «أصحاب الرايات الحمراء» وهم يروننا نحمل شارات حمراء احتجاجيّة ضدّ منع الحفلات الموسيقيّة في قاعة الجامعة الكبرى. تسمية قاسية في حقّنا لكنّهم لم يكونوا يشعرون بها وهم يخرجون تلبية لنداء مرشدهم العام. كانوا يربّونهم على مواجهة الجمال والغناء ورفضه ومحاربته، كانوا يقتلون أجمل ما فيهم.
ومع الوقت اكتشفتُ كيف أنّهم يلعبون بأيّ شيء تحت قاعدة «فقه الضرورة». نكْث العهود والمواثيق ولا بأس من مدّ أيديهم لمن كان عدوّ البارحة. دخولهم في تحالف «اللقاء المشترك» الذي أسّس له الشهيد اليساري جار الله عمر ويتحمّلون ثمن حياته إلى اليوم على الرغم من كلّ تنصّلاتهم.
يمكن هنا اتخاذ حالة توكل كرمان نموذجاً شهيراً لأشكال التأقلم التي يعتمدها الإخوان بغية الوصول لما يرغبون. فهي قذفتْ بحجاب الوجه وتسامحت مع حالة مصافحة الغرباء والأجانب تمهيداً لخطوة الدخول لبيئة المجتمع المدني. حضور الأمسيات والحفلات التي تقيمها سفارات وبعثات ديبلوماسيّة في صنعاء ومع ما يرافقها من جنحة الاقتراب من المشروبات الروحيّة التي يمنع الدين مخالطة شاربيها. لكنّ الغاية تبرّر الوسيلة. تبرّر لهم أيّ شيء في سبيل خدمة الدعوة.
وبالنسبة إلى أميركا، وتوكل كرمان خصوصاً بوصفها حاملة لنوبل السلام، لم يصدروا بياناً واحداً ضدّ ضرب أميركا مدنيّين يمنيّين بطائرات بدون طيّار. لم يقولوا كلمة واحدة حين قُتل أنور العولقي، بل قام أمينهم العام بتكريم السفير الأميركي وقتها في صنعاء.
وفي هذا السياق لا يمكن نسيان معركتهم في بقاء «المعاهد الدينيّة» التي كانت تحت رعايتهم وبدعم سعوديّ كامل لا تراقب الدولة أموره ولا أشكال صرف الأموال التي تصل إليهم. كانت نقطة توحيد التعليم في اليمن هي المسألة التي مهّدت تقريباً لحرب صيف ١٩٩٤ حين كان الحزب الاشتراكي مع التوحيد والإخوان ضدّه.
لم يكونوا مستعدّين لخسارة ورقة كسب كبيرة على الساحة اليمنيّة. الأموال التي تصلهم من خلف تلك المعاهد وآلاف الشباب الذين ينمون تحت رعايتهم وسيطرتهم. وانتهت تلك الحرب وخرج الاشتراكيّ خاسراً وبقيت المعاهد على حالها. إلى أن أتت لحظة الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001. خشي الإخوان من تركيز الأنظار الأميركيّة على منطقتهم وتخلوا عن تلك المعاهد لتتمّ عمليّة توحيد التعليم في اليمن.
أتت لحظة ثورة شباط / فبراير ٢٠١١ التي عارضوها في البداية ولحقوا بها بعد أن رأوا بعين المُستثمر النبيه أنّ زمن حليفهم الأبدي علي صالح قد ولّى. هذا الرئيس الذي طالما وقف إلى جوارهم بالمال والإعلام والمناصب والحماية. لقد قرّروا التخلّي عنه ورموه خلف ظهرهم لكنّهم في الوقت ذاته كانوا القشّة التي قصمت ظهر تلك الثورة.
لهذا خسرت الثّورة
عبر المرور على نقاط محدّدة يمكن التقاط الأشياء التي أعاقت خطوات «الربيع» اليمني وحوّلته خريفاً: فقد خسرت الثورة حين احتكر الإخوان صوتها و«مايكرفونها» ومنصّتها وقاموا بإقصاء الأطياف الشبابيّة الأخرى. لقد خسرت الثورة حين استضافت في أيّامها الأولى رجل الدّين عبد المجيد الزنداني ليتحدّث من على منصّتها ويكون المفتي الخاصّ بها. لقد خسرت الثورة حين انضمّ اللواء علي محسن الأحمر إليها، وهو الراعي الأبرز للإخوان طوال تاريخهم، رافعاً شعار حماية الثورة وهو في الحقيقة كان يحمي نفسه عبرها. خسرت الثورة حين رفع شباب الإخوان مفردات عنصريّة ضدّ علي عبد الله صالح وقاموا بمعايرته بالمستوى القبلي والاجتماعي المتدنّي الذي ينحدر منه.
حين تسلّموا السلطة في المرحلة الانتقاليّة أو كانوا هم واجهتها فعلوا كلّ شيء من أجل توطين كوادرهم في كلّ مكان. تفوّقوا على علي صالح الذي كان يتيح فرصاً للجميع في مستوى ما تحت كرسيّ الحكم الذي يخصّه، لتصدر التّعيينات الخاصّة بالمقربين منهم على المستويات كافّة من أدنى منصب إلى أرفعه.
لقد شاهد اليمنيّون إعادة لصورة الحكم القديمة ولكن بصورة إخوانيّة صرفة هذه المرّة لتتأكّد تلك الأقوال التي كانت تُشاع عنهم ولم يكن أحد يصدقّه: إنّ كيان الإخوان وحضوره في الوطن أهمّ من صورة الوطن نفسه. ولعلّ هذا هو حال الإخوان في كلّ مكان من البلاد العربيّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.